الاثنين، أغسطس 18، 2014

ديغا والحياة الحديثة

ما أن يُذكر اسم إدغار ديغا حتى تخطر في الذهن تابلوهاته الفخمة التي تصوّر فتيات صغيرات يتحرّكن كالفراشات وهنّ يتعلّمن فنّ رقص الباليه.
كان ديغا محبّا لمظاهر الحياة الحديثة. وقد رسم النساء كثيرا في لوحاته، وخاصّة نساء الطبقة العاملة وهنّ يمارسن الأعمال المنزلية اليومية من غسيل وتنظيف وكوي وخلافه. وهؤلاء النساء لم يكنّ من طبقته هو. كان هو محسوبا على الطبقة البورجوازية الباريسية آنذاك.
ورسوماته عن الطبقات الاجتماعية والمهن والسلوكيات المرتبطة بها تُعتبر من بين أفضل الأعمال التشكيلية التي تؤرّخ لتلك الفترة، أي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
على المستوى الشخصي، كان ديغا شخصا عصبيّا بطبيعته. وكان نظره قصيرا جدّا لدرجة أنه كان يخاف من فقدان البصر. لكن، وربّما لهذا السبب بالذات، كان مخلوقا متقبّلا للآخرين وذا حساسية عالية، بحسب ما كتبه عنه الكاتب والناقد الفنّي الفرنسي إدمون دو غونكور.
كان ديغا يعرف طبيعته الصعبة. وقد اعترف ذات مرّة لزميله الرسّام بيير أوغست رينوار بقوله: لديّ عدوّ واحد رهيب لا يمكنني التوافق معه. هذا العدوّ، بطبيعة الحال، هو نفسي".
وقد عَرف ديغا من خلال أولئك الذين ارتبطوا به كيف يضبط مشاعره الانفعالية. "على العشاء، سيكون هناك طبق مطبوخ لي من دون زبدة. لا زهور على الطاولة، ومع القليل جدّا من الضوء. عليك أن تُخرس القط، وليس لأحد أن يجلب معه كلبا. وإذا كان هناك نساء بين الحاضرين، فاطلب منهنّ أن لا يضعن على أنفسهنّ روائح. لا لزوم للعطور عندما تكون هناك أشياء لها رائحة طيّبة كالخبز المحمّص مثلا. ويجب أن نجلس إلى المائدة في تمام الساعة السابعة والنصف".
صرامة ديغا وانضباطيّته العالية دفعت كلّ أصدقائه تقريبا لأن يهجروه، بحسب رينوار. "كنت واحدا من آخر الذين كانوا يزورونه، ومع ذلك حتى أنا لم أستطع البقاء حتى النهاية".
كان البعض يعتبر ديغا شخصا كارها للنساء، رغم أن قائمة أصدقائه كانت تضمّ الرسّامتين ميري كاسات وبيرتا موريسو، بالإضافة إلى كبار مغنيّات الأوبرا وراقصات الباليه في زمانه. وعندما اتّهم بأنه شخص منعزل نفى ذلك. "لست كارها للبشر، بل أنا ابعد ما أكون عن هذه الصفة، ولكن من المحزن أن تعيش محاطا بالأوغاد".
وعلى الرغم من شخصيّته غير المهادنة، إلا أن ديغا كان يحظى بالاحترام من أقرانه الذين كانوا يخشونه. وكانت شعبيّته عالية لدى نقّاد الفنّ ومشتري الأعمال الفنّية. "كنت، أو هذا ما بدا لي، صارما مع الجميع وذلك بسبب ميلي لنوع من الخشونة التي تداخلت مع شكوكي ومزاجي السيّئ".
ولد إدغار ديغا في باريس خلال نفس العقد الذي ولد فيه إدوار مانيه وبول سيزان وكلود مونيه. وكانت لديه العديد من الفرص. كانت سنواته الأولى متميّزة على الرغم من الحزن الذي شابها ورافقه طوال حياته. "كنت عابسا مع العالم كلّه ومع نفسي". وتحت ضغط والده وافق على دراسة القانون. ولكن سرعان ما تخلّى عن ذلك وقرّر أن يدرس الفنّ بحماس أقنع والده بدعمه.
كانت أعمال ديغا المبكّرة عبارة عن لوحات تاريخية رسمها بالأسلوب الكلاسيكي. وفي بدايات تدريبه استوعب أساليب أوغست دومينيك آنغر وأوجين ديلاكروا وغوستاف كوربيه. وكان يطمح لأن يرسم مثل ميكيل أنجيلو ورافائيل.
ولكن بدءا من 1861، تخلّى عن رسم المواضيع التاريخية وبدأ يرسم مشاهد من الحياة اليومية. وبينما كان يستنسخ أعمال فيلاسكيز في متحف اللوفر، التقى مانيه الذي أصبح صديقه والذي أدخله إلى دائرة الرسّامين الانطباعيين. وعلى الرغم من أن ديغا عرض معهم بعض أعماله، إلا انه لم يقدّم نفسه كفرد من أفراد الحركة. "ما أفعله هو نتيجة دراسة أعمال الرسّامين العظام، وأنا لا اعرف شيئا عن الإلهام والعفوية والمزاج".
وعلى عكس أصدقائه الانطباعيين، كان إدغار ديغا رسّام مناظر حضرية وكان يحبّ رسم الأماكن المغلقة مثل العروض المسرحية والأنشطة الترفيهية وأماكن المتعة. ولم يكن مهتمّا بآثار الضوء في المناظر الطبيعية، بل كان يفضّل رسم الأشخاص ويمقت الرسم في الهواء الطلق. "يجب على رجال الدرك أن يطلقوا النار على حوامل اللوحات التي يراها الناس مبعثرة في أنحاء الريف".
كان ديغا يسعى دائما إلى الكمال. كان يعيد رسم كلّ صورة ويدرس ويكرّر التفاصيل حتى يتقنها ويحفظها. وقد جرّب العديد من الوسائط، من بينها الباستيل الذي كان يخفّفه على البخار إلى أن يصبح عجينة. وكان يكره تألّق ولمعان الألوان الزيتية. ولهذا السبب كان يزيل الزيت ويستخدم بديلا عنه التربنتين المستخرج من أشجار الصنوبر. وغالبا ما كان يرسم على الورق بدلا من القماش.
للحديث تتمّة غدا..