الأربعاء، أغسطس 27، 2014

عشرة أيّام في التلال

"في عام 1348، ضرب فلورنسا، أجمل وأنبل مدن ايطاليا، وباء الطاعون القاتل. البعض يقولون إن المرض أرسل للبشر بتأثير من الأجرام السماوية. والبعض الآخر يعزونه إلى غضب الربّ على الإنسان بسبب جوره وشرّه".
هكذا يبدأ جيوفاني بوكاتشيو (1313-1375) روايته الشهيرة ديكاميرون، واصفا الطاعون، أو الموت الأسود، الذي اكتسح أوربّا ابتداءً من العام 1340 وقتل عشرات الملايين من البشر أو حوالي ستّين بالمائة من سكّان القارّة.
ثم يصف الكاتب آثار الوباء على مدينته فلورنسا فيقول: الكثير من الناس سقطوا موتى في الشوارع، بينما توفّي آخرون في منازلهم دون أن يجدوا من يرعاهم أو يهتمّ بهم من أسرهم. الأزواج والزوجات، خوفا من العدوى، كانوا يجلسون ويصلّون في غرف منفصلة، بينما تخلّت الأمّهات عن أطفالهنّ وأغلقن الأبواب.
ويضيف: حمل أهالي فلورنسا جثث المتوفّين حديثا خارج منازلهم ووضعوها بجوار الأبواب الأمامية، حيث يمكن لأيّ شخص مارّ، وخصوصا في الصباح، أن يراهم هناك بالآلاف. وعندما امتلأت المقابر عن آخرها، حُفرت خنادق هائلة في مقابر الكنائس، وُضع فيها القادمون الجدد بالمئات، وطبقة فوق طبقة مثل البضائع في السفن. المحلات التجارية فرغت، هي الأخرى، من البضائع كما أغلقت الكنائس أبوابها. وتوفّي حوالي ستّين في المائة من سكّان فلورنسا والمناطق الريفية المجاورة لها".
على هذه الخلفية تبدأ رواية ديكاميرون. سبع نساء شابّات وصديقات، هنّ بامبينيا وفيلومينا ونيفيلا وفياميتا وأليسا ولوريتا وإميليا، يجتمعن بعد قدّاس. أعمارهنّ تتراوح ما بين الثامنة عشرة والثامنة والعشرين، كما أنهنّ جميعا ينتمين لعائلات مرموقة. بامبينيا، أكبرهنّ، تقول للبقيّة: دعونا نخرج من هنا ونذهب إلى ضيعاتنا الريفية". وتوافق النساء الأخريات على الفكرة. لكنهنّ يعتقدن أن من الضروري أن يصطحبن معهنّ بعض الرجال.
وسرعان ما ينضمّ إليهنّ ثلاثة شبّان تربطهم بهنّ أواصر قربى أو مودّة. والرجال الثلاثة هم فيلوستراتو وديونيو وبانفيلو. ثمّ يشدّ الرجال والنساء العشرة رحالهم فجرا باتجاه الريف.
الرجال والنساء العشرة كانوا من بين مواطني المدينة الكثر الذين هجروها وغادروا بيوتهم إمّا إلى الريف أو إلى خارج البلاد. وبوكاتشيو يذكر في المقدّمة انه أبقى على أسماء الرجال والنساء سرّا لكي لا يتسبّب في إحراجهم أو أذاهم مستقبلا بسبب الحكايات التي ترد على ألسنتهم في الرواية.
وعندما يصلون إلى وجهتهم، يتّفقون على نظام محدّد للعيش. في الصباح وفي المساء، سيزاولون المشي ويؤدّون الأغنيات ويتناولون وجبات شهيّة مع نبيذ فاخر ذهبيّ وأحمر. وفي ما بين هذه الأنشطة، سيجلسون معا ويحكي كلّ منهم قصّة تتناول فكرة تُخصّص لذلك اليوم. وستتناول القصص مواضيع مثل الحبّ والكرم والتضحية والشهامة والذكاء والموت وما إلى ذلك.

وسوف يبقون معا لمدّة أسبوعين. ويجب أن يُخصّص يومان للالتزامات الشخصية، ويومان آخران للواجبات الدينية. والباقي سيكون عشرة أيّام، وفي كلّ يوم ستُروى عشر حكايات، أي انه ستكون لديهم في النهاية مائة حكاية. ومجموع هذه الحكايات، مع المقدّمات والهوامش، هي التي تشكّل رواية ديكاميرون.
العنوان نفسه، أي ديكاميرون، مستمدّ من اليونانية ويعني الأيّام العشرة "ديكا تعني عشرة وايميرا تعني يوم". وقد كان هذا الكتاب مصدر إلهام للكثيرين. شكسبير وتشوسر ومارتن لوثر وكيتس والعديد من الكتّاب الآخرين استعاروا بعض حكاياتهم منه.
ألّف بوكاتشيو روايته ما بين عامي 1348 و1352، عندما كانت قيم العصور الوسطى (البسالة والإيمان والنبل والسموّ) تتلاشى لتفسح المجال لقيم عصر النهضة (المتعة والتجارة والحقيقة). لم تكن العصور الوسطى بأيّ حال من الأحوال قد انتهت. فسيّدات بوكاتشيو الشابّات لا يجتمعن في مروج حقيقية، حيث يمكن للحشرات أن تزحف على ملابسهنّ.
إنهنّ يجتمعن في حقول مثالية، حيث الطيور تغنّي والياسمين يعطّر الأجواء. والحيوانات في هذه الأمكنة لا تعرف الخوف من البشر. الأرانب الصغيرة تأتي وتجلس وسط هذه المجموعة من الشباب. هذا هو المكان الجميل في الشعر الرعويّ القديم والذي يشبه جنّات عدن.
العلاقات الاجتماعية، أيضا، مثالية ومشبعة بأعراف الحبّ في القرون الوسطى. ورواية ديكاميرون ليس لها إطار واحد فقط، أي الشباب في الريف، وإنما لها إطاران. في الإطار الخارجيّ، يتحدّث بوكاتشيو إلى القارئ مباشرة. وهو يكتب هذا الكتاب، كما يقول، للسيّدات اللاتي أضناهنّ الحبّ. وفي العديد من القصص يقدّم لهنّ نصائح تساعدهنّ وتدلّهنّ على ما يجب فعله وما لا يجب لتجنّب آلام الحبّ. وموضوع الحبّ تتناوله العديد من حكايات الكتاب.
وكما في أغاني التروبادور، أو الشعراء المتجوّلين في القرون الوسطى، فإن الحبّ في هذه القصص يجعل الإنسان نبيلا. في إحداها، يقع شابّ يعرفه الأهالي باسم "الحمار الغبيّ" في الحبّ. وما أن يعيش التجربة حتى يبدأ في ارتداء الملابس الأنيقة ويدرس الفلسفة.
بوكاتشيو نفسه لم يكن نبيلا. كان واحدا من فئة الناس الجدد، أي من الطبقة الوسطى التجارية التي أدّى صعود أفرادها باطّراد منذ القرن الثاني عشر إلى إثارة خوف النبلاء واستنكارهم. والد بوكاتشيو، واسمه بوكاتشينو دي تشيللينو، كان تاجرا. وكان يتوقّع أن يترسّم جيوفاني خطاه فيلتحق بالتجارة.
كان جيوفاني بوكاتشيو ثمرة علاقة غير شرعية. لكن والده اعترف به وتعهّده بالرعاية. وعندما بلغ الصبيّ سنّ الثالثة عشرة، انتقلت تجارة الوالد من فلورنسا إلى نابولي، وأخذ ابنه معه ليتعلّم الأعمال التجارية، من قبيل استقبال الزبائن والإشراف على المخزون وما إلى ذلك.
في الغد يتواصل الحديث..