الجمعة، أغسطس 29، 2014

عشرة أيّام في التلال/2

انتهى الحديث أمس بانتقال بوكاتشيو مع والده من فلورنسا إلى نابولي. وفي نابولي حاول والده أن يعلّمه بعض الأنشطة التجارية. غير أن بوكاتشيو لم يجد تلك الأعمال ممتعة. ولهذا أوصاه والده المتسامح بالذهاب إلى الجامعة لدراسة القانون الكنسيّ. ولم يحبّ بوكاتشيو ذلك التخصّص أيضا.
لكن خلال تلك الفترة، كان الصبيّ يقرأ على نطاق واسع. ثم بدأ كتابة الحكايات الرومانسية شعرا ونثرا. وبفضل هذه المزايا الأدبية، بالإضافة إلى اتصالات وعلاقات والده، تمكّن بوكاتشيو من الدخول إلى بلاط نابولي. وقد قال لاحقا انه لم يكن يريد أن يكون أيّ شيء غير أن يصبح شاعرا. السنوات التي قضاها في نابولي كانت، ولا شكّ، أسعد سنوات حياته.
لكن في أواخر العشرينات من عمره، وصلت سعادة بوكاتشيو إلى نهايتها، عندما تعرّضت تجارة والده إلى نكسة. ونتيجة لذلك، عاد الأب وجيوفاني إلى فلورنسا، التي كانت في ذلك الوقت عاصمة للنزعة التجارية الإيطالية. ووجد بوكاتشيو نفسه فجأة يهبط من العالم الرفيع لآداب البلاط إلى طموح وواقعية طبقة التجّار. وغالبية حكايات الرواية هي عن أفراد هذه الطبقة والمهارات التي يتميّزون بها، كالذكاء والفطنة وحسن التدبير.
لكن الكتاب يتضمّن أيضا العديد من قصص الجنس، مثل قصّة بيرونيللا وجيانيللو التي يرويها فيلوستراتو. والقارئ الحديث قد لا يملك إلا أن يتعاطف مع الشباب في ديكاميرون. ففي ذلك الوقت، كانت معظم الزيجات مرتّبا لها من قبل العائلات. ويمكن أن يكون هذا احد أسباب كثرة قصص الزنا في هذا الكتاب. ورغم أنه يتضمّن قصصا غير لائقة، إلا أن اللغة المستخدمة فيه لا يمكن وصفها بالقذرة بأيّ حال.
وفي بعض هذه القصص، نجد أن ثمّة عقابا من نوع ما ينتظر الإنسان الخاطئ أو غير المتعفّف. أمير ساليرنو، مثلا، واسمه تانكريدي، يكتشف أن ابنته على علاقة غرامية مع احد خدمه، فيأمر بأن يُخنق الرجل وأن يُستلّ قلبه من جسده. ثم يضع القلب في كأس ذهبية ويرسله إلى ابنته. وعندما تصلها الرسالة الرهيبة، ترفع العضو الدامي بلا تردّد إلى فمها فتقبّله ثم تعيده مرّة أخرى في الكأس، ثم تصبّ فوقه سُمّا وتشربه وتموت.
وهناك في الكتاب نهايات رهيبة أخرى كالرمي من النافذة وقطع الرأس وبتر الأطراف. وفي الغالب لا يحسّ المذنبون الأوغاد بأيّ ذنب أو بتأنيب الضمير.
وبين حكاية وأخرى، يُلقي الأبطال العشرة خطبا فخمة ومليئة بالمحسّنات البديعية من القرون الوسطى. وقد تحسّ بالضجر من هذه البلاغيات وتتوق للعودة إلى الحكايات الجميلة والوقحة. لكن التوتّر بين هذين الوضعين سمة أساسيّة في ديكاميرون.
وفي الرواية صراع آخر له علاقة بالدين. فالشباب في بعض الأحيان يطلقون اعترافات حماسيّة تمسّ الإيمان. ومع ذلك لا يبدو بوكاتشيو خائفا من الاتهام بالتجديف. ورجال الدين عنده كسالى وأغبياء ولهم رائحة التيوس، وأحيانا يعيشون حياة تخلّع وفجور.

رسالة بوكاتشيو حول رجال الدين قد لا تكون مزدوجة حقّا. فالإيمان عنده، أو الدين، لا يؤخذ بجريرة من يمثّلونه.
لكن موقفه تجاه النساء محيّر بالفعل. والمرأة تحتلّ مكانة مركزية للغاية في ديكاميرون. هي سخيّة ومعطاءة وعفوية، وبذيئة في كثير من الأحيان. وهي ليست ضحيّة لشهوة الرجل، وليست عرضة لأن يخونها أو يستغلّها أو يتخلّى عنها. هذه الصفات غير موجودة في الرواية. والسيّدات فيها يعشن طويلا بعد موتهنّ، أي انه لولا بيرونيللا وأخواتها من شخصيات الرواية لما ظهرت في ما بعد شخصيات أدبية مثل روزاليند في مسرحية "كما تشاء" أو بياتريس في "جعجعة بلا طحن".
غير أن في الرواية أيضا إشارات كثيرة تتضمّن تشهيرا وتعريضا صريحا بالنساء. فهنّ "متقلّبات، مشاكسات، مشبوهات، ضعيفات وخائفات". والذي يقول هذا الكلام امرأة، هي فيلومينا. كما أنهنّ دائما شهوانيات بلا كلل. الرجال الأقوياء قد تتهدّد صحّتهم بسبب محاولتهم إشباع مطالبهنّ الجنسية. لذلك، من أجل أن تستمرّ الحياة بهدوء، يجب أن تخضع النساء للرجال. كما يجب عليهنّ، وقبل كلّ شيء، أن يكنّ عفيفات، وهو شيء تفتقده بطلات بوكاتشيو إلا في ما ندر. "النساء اللاتي لا يُطِعن أزواجهنّ ينبغي أن يُضربن". ومرّة أخرى، قائل هذا الكلام امرأة.
بعض التناقضات في هذه الرواية دفعت عددا من النقّاد لوصفها بأنها عمل لا أخلاقي. يقول إريك أورباخ، وهو مؤرّخ أدبيّ مرموق، انه بمجرّد أن يلامس بوكاتشيو أيّ شيء مأساويّ أو إشكاليّ، حتى يصبح الكتاب "ضعيفا وسطحيّا". وفي هذا الكلام بعض الحقيقة. فالعديد من القصص التي تتحدّث عن صفة الشهامة، مثلا، مملّة، بل وحتى سخيفة.
ومثال هذا قصّة صديقين في روما القديمة، هما تيتوس وغيسيبوس، وكلّ واحد منهما يحاول باستماتة أن يُصلب بدلا من الآخر، مع أن أيّا منهما لم يرتكب جريمة. هذا المشهد من الإيثار يتأثّر به المجرم الحقيقيّ، فيعترف بالجريمة. وعندها يأخذ تيتوس بيت غيسيبوس ويعطيه نصف ما يملكه بالإضافة إلى إحدى شقيقاته.
هل يمكن القول أن بوكاتشيو أخطأ عندما تنكّب الواقعية؟ هذا هو رأي ألبيرتو مورافيا الذي قال إن قيم بوكاتشيو كانت قيم فنّان ولم تكن قيم فيلسوف أخلاقي. ويضيف أن سرّ لمعان ديكاميرون يعود إلى عدم اكتراث الكتاب بالأخلاق وتركيزه حصريّا على الحقائق.
في حكايات بوكاتشيو، العالم يشبه مناظر الطبيعة الصامتة لبعض رسّامي القرنين الرابع عشر والخامس عشر. الفعل الخالص هو الذي يكتسب عمقا ووضوحا أكثر من الدرس الأخلاقي أو المعنى المقصود.
تخيّل، مثلا، تلك الرسومات من عصر النهضة التي تصوّر مدنا مرتفعة، مع رعاة وأغنام يظهرون من بعيد خلف شخص مريم العذراء أو القدّيسين، في إشارة إلى حبّ الدنيا. هؤلاء الرسّامون كانوا يحبّون الدنيا، هكذا يقول مورافيا، وكذلك أيضا أحبّها بوكاتشيو.
الجزء الثالث والأخير غدا..