فيرمير والبيوت الهولندية
صور البيوت الجميلة والنظيفة والمرتّبة في الرسم الهولندي كانت تأكيدا على ولادة أمّة جديدة ومبتهجة يديرها التجّار الموسرون وليس الملوك.
البيت الهولندي نفسه كان يمثّل بلدا منظّما مرّ بحروب طويلة. وقد رافق موضة رسم منازل الطبقة الوسطى في هولندا عهد من السلام والرخاء بعد توقيع معاهدة مونستار عام 1648 والتي نالت هولندا بموجبها استقلالها عن الحكم الاسباني بعد حرب الثلاثين عاما.
وطبعا كان من عادة الرسّامين الهولنديين أن يُظهروا براعتهم في التقاط الأضواء الرائعة على الأسطح والنسيج. وأيضا كان من عادتهم أن يتلاعبوا بمخطّطات وديكورات المنازل التي يرسمونها كي تناسب أهواءهم وتفضيلاتهم الخاصّة.
وبمعنى ما فإن هذه اللوحات هي المعادل النقيض للصخب والضجيج الذي نشعر به في الحياة الحديثة، وهذا احد أسباب جاذبيّتها الساحرة والمستمرّة.
وفي الواقع لا احد ينافس يوهانس فيرمير في براعته في استدعاء نوعية الصمت والوقت البطيء في مناظره. ولوحاته تستكشف العلاقة بين الداخل والخارج، وبين العامّ والخاصّ.
في لوحته صانعة الدانتيل ، يُدخل فيرمير إحساسا بالرواية والسرد ويبتعد عن الاستعراض. هذه اللوحة تتميّز بسكونها وجمالها العميق. وهي تصوّر امرأة مستغرقة مع نفسها.
وبعض تفاصيل اللوحة يمكن اعتبارها تجريدية، مثل البقع المتطايرة من الأبيض والأحمر التي تمثّل الخيوط الملوّنة والتي تنهمر من الأريكة الزرقاء مثل شلالات صغيرة.
بعض نساء فيرمير اللاتي كان يرسمهن في لوحاته يُخيّل إليك أنهن يدعين المتلقّي لإلقاء نظرة. ومن الغريب أن مثل هذه المناظر ما تزال تفتننا إلى اليوم. وبطبيعة الحال نفترض أنها كانت مرغوبة في ذلك الزمان.
لكن الكثيرين اليوم قد لا يرتاحون أو لا ينجذبون كثيرا لهذه الصور، باعتبار أنها لم تكن أكثر من تهويمات مبتذلة لطبقة بورجوازية متأنّقة وفخورة ببيوتها وكلّ همّها أن تستعرض مقتنياتها لإظهار كم أنها قويّة ومتنفّذة.
البيت الهولندي نفسه كان يمثّل بلدا منظّما مرّ بحروب طويلة. وقد رافق موضة رسم منازل الطبقة الوسطى في هولندا عهد من السلام والرخاء بعد توقيع معاهدة مونستار عام 1648 والتي نالت هولندا بموجبها استقلالها عن الحكم الاسباني بعد حرب الثلاثين عاما.
وطبعا كان من عادة الرسّامين الهولنديين أن يُظهروا براعتهم في التقاط الأضواء الرائعة على الأسطح والنسيج. وأيضا كان من عادتهم أن يتلاعبوا بمخطّطات وديكورات المنازل التي يرسمونها كي تناسب أهواءهم وتفضيلاتهم الخاصّة.
وبمعنى ما فإن هذه اللوحات هي المعادل النقيض للصخب والضجيج الذي نشعر به في الحياة الحديثة، وهذا احد أسباب جاذبيّتها الساحرة والمستمرّة.
وفي الواقع لا احد ينافس يوهانس فيرمير في براعته في استدعاء نوعية الصمت والوقت البطيء في مناظره. ولوحاته تستكشف العلاقة بين الداخل والخارج، وبين العامّ والخاصّ.
في لوحته صانعة الدانتيل ، يُدخل فيرمير إحساسا بالرواية والسرد ويبتعد عن الاستعراض. هذه اللوحة تتميّز بسكونها وجمالها العميق. وهي تصوّر امرأة مستغرقة مع نفسها.
وبعض تفاصيل اللوحة يمكن اعتبارها تجريدية، مثل البقع المتطايرة من الأبيض والأحمر التي تمثّل الخيوط الملوّنة والتي تنهمر من الأريكة الزرقاء مثل شلالات صغيرة.
بعض نساء فيرمير اللاتي كان يرسمهن في لوحاته يُخيّل إليك أنهن يدعين المتلقّي لإلقاء نظرة. ومن الغريب أن مثل هذه المناظر ما تزال تفتننا إلى اليوم. وبطبيعة الحال نفترض أنها كانت مرغوبة في ذلك الزمان.
لكن الكثيرين اليوم قد لا يرتاحون أو لا ينجذبون كثيرا لهذه الصور، باعتبار أنها لم تكن أكثر من تهويمات مبتذلة لطبقة بورجوازية متأنّقة وفخورة ببيوتها وكلّ همّها أن تستعرض مقتنياتها لإظهار كم أنها قويّة ومتنفّذة.
❉ ❉ ❉
طبيعة قطبية
هناك احتمال أنه سبق لك من قبل وأن شاهدت فيلما وثائقيا واحدا على الأقلّ يتناول طبيعة المناطق القطبية ونوعية الحياة السائدة هناك. وأنتاركتيكا هي أكثر القارّات صمتا على هذا الكوكب، وهذا يعني "أن بإمكانك أن تسمع صوت الله هناك بشكل أفضل"، على حدّ وصف احد الكتّاب.
الجمال الغريب للمناطق القطبية ظلّ ولوقت طويل يثير مخيّلة المستكشفين والكتّاب والفنّانين وحتى الناس العاديين.
في عام 1818، أنهت الكاتبة البريطانية ميري شيللي روايتها المشهورة "فرانكنشتاين" بمشهد للطبيب وهو يطارد المخلوق الغريب في أراضي القطب الشمالي. كما ضمّن ادغار آلان بو القارّة القطبية في سرده لقصّة "آرثر غوردون بيم" عام 1838م.
المغامرات الاستكشافية في أراضي القطب هي مزيج من الفضول العلمي والمشاعر القومية وروح المغامرة. وكلّ هذه الأشياء نقلها الفيلم الوثائقي ساوث "أو الجنوب" المنتج عام 1919. والفيلم عبارة عن تسجيل لرحلة آرنست شاكلتون عام 1915، مع لقطات تحبس الأنفاس لسفينته التي سحقها الثلج ببطء.
وفي فيلمه الوثائقي الرائع لقاءات عند نهاية العالم ، واصل فيرنر هيرتزوغ هذا التقليد وأضاف لهذه الملحمة عنصرا جديدا، عندما صوّر النظام البيئيّ الهشّ للقطب وهو يتعرّض للتهديد بسبب الاحتباس الحراري.
على جبهة الرسم، ثمّة رسّامون كثر صوّروا المناظر الطبيعية في القطب، بدءا من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ومثال هذا لوحة الشفق القطبي في استراليا لجورج مارستون الذي رافق شاكلتون في رحلته المشئومة، وكذلك لوحة الرسّام البريطاني جورج تشيمبرز بعنوان مياه القارّة القطبية من عام 1834.
لكن وليام برادفورد كان أفضل رسّام رسم تلك النواحي. ولأنه كان يزور المناطق القطبية بانتظام محاولا ترجمة تضاريسها غير العاديّة، فقد صوّر بطريقة درامية الأخطار التي يتعرّض لها البشر الذين يغامرون بالدخول إلى ذلك العالم المرعب.
ومن أهمّ اللوحات الأخرى ذات الصلة بطبيعة القطب لوحة الشفق القطبي لفريدريك تشيرش. وقد أخذ هذا الرسّام التسامي الرومانتيكي بعيدا عن أرضه المألوفة، أي جبال الألب الأوربّية وغرب الولايات المتحدة التي كان يحتفي بها الرسّام البيرت بيرستادت.
تشيرش سافر إلى أدغال وبراكين أمريكا الجنوبية. وفي عام 1861، انتقل إلى لبرادور ونيوفاوندلاند كي يرسم جبال الجليد ، وكرّر رسم تلك الفكرة مرارا.
وهناك رسّامون كثيرون ضمّنوا مثل تلك المناظر بشرا يناضلون بطريقة بطولية للتأكيد على عنصري الخطر والشجاعة، بينما كان تشيرش يعبّر عن الرهبة من منظر الطبيعة، وهي القوّة التي تقزّم طموحات البشر.
ومثل تلك اللوحة مفهومة في سياق ظروف القرن التاسع عشر. لكنها أيضا يمكن أن تعبّر اليوم عن المخاوف البيئية لإنسان العصر الحديث.
التفاوت في الحجم بين حضور الإنسان وروعة الطبيعة أكثر دراماتيكية في لوحة الشفق القطبي. في هذه اللوحة المدهشة تبدو السفينة مثل خيط باهت في بحر من الألوان الفيروزية والذهبية والحمراء. المروحة الناريّة من الأضواء الملوّنة في السماء والمرتفعة من كتلة مركزية في الظلّ.. مذهلة.
الجمال الغريب للمناطق القطبية ظلّ ولوقت طويل يثير مخيّلة المستكشفين والكتّاب والفنّانين وحتى الناس العاديين.
في عام 1818، أنهت الكاتبة البريطانية ميري شيللي روايتها المشهورة "فرانكنشتاين" بمشهد للطبيب وهو يطارد المخلوق الغريب في أراضي القطب الشمالي. كما ضمّن ادغار آلان بو القارّة القطبية في سرده لقصّة "آرثر غوردون بيم" عام 1838م.
المغامرات الاستكشافية في أراضي القطب هي مزيج من الفضول العلمي والمشاعر القومية وروح المغامرة. وكلّ هذه الأشياء نقلها الفيلم الوثائقي ساوث "أو الجنوب" المنتج عام 1919. والفيلم عبارة عن تسجيل لرحلة آرنست شاكلتون عام 1915، مع لقطات تحبس الأنفاس لسفينته التي سحقها الثلج ببطء.
وفي فيلمه الوثائقي الرائع لقاءات عند نهاية العالم ، واصل فيرنر هيرتزوغ هذا التقليد وأضاف لهذه الملحمة عنصرا جديدا، عندما صوّر النظام البيئيّ الهشّ للقطب وهو يتعرّض للتهديد بسبب الاحتباس الحراري.
على جبهة الرسم، ثمّة رسّامون كثر صوّروا المناظر الطبيعية في القطب، بدءا من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ومثال هذا لوحة الشفق القطبي في استراليا لجورج مارستون الذي رافق شاكلتون في رحلته المشئومة، وكذلك لوحة الرسّام البريطاني جورج تشيمبرز بعنوان مياه القارّة القطبية من عام 1834.
لكن وليام برادفورد كان أفضل رسّام رسم تلك النواحي. ولأنه كان يزور المناطق القطبية بانتظام محاولا ترجمة تضاريسها غير العاديّة، فقد صوّر بطريقة درامية الأخطار التي يتعرّض لها البشر الذين يغامرون بالدخول إلى ذلك العالم المرعب.
ومن أهمّ اللوحات الأخرى ذات الصلة بطبيعة القطب لوحة الشفق القطبي لفريدريك تشيرش. وقد أخذ هذا الرسّام التسامي الرومانتيكي بعيدا عن أرضه المألوفة، أي جبال الألب الأوربّية وغرب الولايات المتحدة التي كان يحتفي بها الرسّام البيرت بيرستادت.
تشيرش سافر إلى أدغال وبراكين أمريكا الجنوبية. وفي عام 1861، انتقل إلى لبرادور ونيوفاوندلاند كي يرسم جبال الجليد ، وكرّر رسم تلك الفكرة مرارا.
وهناك رسّامون كثيرون ضمّنوا مثل تلك المناظر بشرا يناضلون بطريقة بطولية للتأكيد على عنصري الخطر والشجاعة، بينما كان تشيرش يعبّر عن الرهبة من منظر الطبيعة، وهي القوّة التي تقزّم طموحات البشر.
ومثل تلك اللوحة مفهومة في سياق ظروف القرن التاسع عشر. لكنها أيضا يمكن أن تعبّر اليوم عن المخاوف البيئية لإنسان العصر الحديث.
التفاوت في الحجم بين حضور الإنسان وروعة الطبيعة أكثر دراماتيكية في لوحة الشفق القطبي. في هذه اللوحة المدهشة تبدو السفينة مثل خيط باهت في بحر من الألوان الفيروزية والذهبية والحمراء. المروحة الناريّة من الأضواء الملوّنة في السماء والمرتفعة من كتلة مركزية في الظلّ.. مذهلة.
❉ ❉ ❉
شتراوس: ملك الفالس
في بدايات سماعي للموسيقى الكلاسيكية، أذكر أن أوّل مقطوعتين سمعتهما للموسيقيّ النمساوي يوهان شتراوس الابن كانتا معزوفتيه الجميلتين حكايات من غابات فيينا
والدانوب الأزرق "فوق". والحقيقة أن المعزوفات الراقصة لهذا الموسيقيّ مألوفة كثيرا ومعروفة في كلّ مكان من العالم تقريبا.
اسم شتراوس ارتبط بروسيا، حيث قابل هناك في العام 1868 فتاة ثريّة، وغيّر ذلك اللقاء حياته إلى الأبد. لكن تلك قصّة سنأتي على تفاصيلها بعد قليل.
شتراوس الثاني، كما يُسمّى في أوساط الموسيقى الكلاسيكية، كان يحاول أن يُثبت للعالم انه ملك موسيقى الفالس وأنه أحقّ بهذا اللقب من والده الذي يحمل أيضا نفس الاسم والمعروف في النمسا كواحد من أشهر مؤلّفي الموسيقى الكلاسيكية الموهوبين.
شتراوس الأب فعل الكثير لموسيقى الفالس واستطاع أن يحصل على شهرة واسعة، ليس فقط في فيينا، وإنّما أيضا في كافّة أنحاء أوربّا.
أطفاله الذين ولدوا في العائلة لم يكونوا غالبا يرون والدهم. وبالإضافة إلى ذلك، كانت له خليلة أنجبت له عددا من الأطفال، لكن شتراوس الأب لم يكن يخجل من ذلك أو يشعر بالذنب.
وقد اقسم الصغير يوهان ذات مرّة أن يتفوّق على والده. كان جريئا ويعمل بجدّ، وقد ثابر على دراسة الموسيقى مخفيا طموحاته عن والده.
وسرعان ما أصبح الصبيّ عازفا مشهورا. وقد دعاه السفير الروسيّ في فيينا لزيارة سانت بطرسبورغ ليحيي حفلات موسيقية فيها. وسُرّ لعزفه الجمهور هناك، كما دعته العائلات الموسرة في المدينة ليحيي حفلاتها الخاصّة.
كان الاستماع إلى شتراوس نوعا من التميّز. وهو كان عاشقا حقيقيا للنساء. وقد أعجب بنساء روسيا ومنحهنّ الكثير من وقته. وذات يوم، قابل امرأة ارستقراطية اسمها اولغا سمارنيتسكايا. وقد طلبت منه أن يؤلّف موسيقى تحكي قصصها الغرامية التي تستند فيها إلى قصائد لشعراء روسيا المشهورين. وبسبب ذلك اللقاء ولدت سيمفونيّته المسمّاة "حبّ روسيّ".
وقد تبادل كلّ من شتراوس وسمارنيتسكايا الرسائل الغرامية، وما تزال حوالي مائة من هذه الرسائل محفوظة إلى اليوم. وبعض مؤلّفاته الموسيقية استوحاها من قصّة الحبّ التي جمعته مع تلك المرأة، مثل وداعاً سانت بطرسبورغ وغيرها.
كان شتراوس يتوق للزواج من أولغا. لكن عائلتها ظلّت ترفض الفكرة على أساس أن شتراوس لم يكن نبيلا وإنّما أتى من عائلة فقيرة. أما موهبته الموسيقية فعلى ما يبدو لم تكن ذات أهمّية بالنسبة لوالدي الفتاة.
اولغا الحائرة لم تستطع أن تتصرّف خلافا لرغبة والديها. ومع ذلك طلب منها شتراوس أن تهرب معه إلى فيينا، لكنها رفضت ذلك بإصرار. وعاد هو إلى النمسا بمفرده. لكنه لم يستطع نسيانها أبدا. كان يعاني كثيرا بسبب ولعه بها، وفي نفس الوقت كان يحلم برحلة أخرى إلى روسيا.
وقد كتب إليها في الأيّام الأولى لفراقهما رسالة يقول فيها: احبّك بجنون. ومن المستحيل أن أعيش بدونك. لا توجد متعة لي في هذه الدنيا ولا أمل اكبر من اللقاء بك".
وبعد ذلك بعام، عاد إلى روسيا ليرى اولغا، وطلب منها الزواج مجدّدا. لكنها رفضت لأنها لا تريد إغضاب والديها. وغادر هو عائدا إلى النمسا. وبعد أشهر علم أنها تزوّجت من شخص آخر ثريّ يعمل بالمحاماة. ولكي ينسى القصّة، بدأ يواعد النساء، وبعد سنوات بدأت فيينا تتحدّث عن مغامراته.
وعلى كلّ حال، تزوّج شتراوس في النهاية. كانت زوجته امرأة تكبره بسبع سنوات، ممثّلة وأمّ لعدد من الأطفال. وقد عاشت معه ستّة عشر عاما كانت خلالها الزوجة الوفيّة والمخلصة. وعندما ماتت صُدم، لكنه لم يلبث أن تزوّج من امرأة أخرى. وزوجته الثانية كانت هي أيضا ممثّلة شابّة. واستمرّ زواجه منها حتى وفاته بالالتهاب الرئوي عام 1899.
اسم شتراوس ارتبط بروسيا، حيث قابل هناك في العام 1868 فتاة ثريّة، وغيّر ذلك اللقاء حياته إلى الأبد. لكن تلك قصّة سنأتي على تفاصيلها بعد قليل.
شتراوس الثاني، كما يُسمّى في أوساط الموسيقى الكلاسيكية، كان يحاول أن يُثبت للعالم انه ملك موسيقى الفالس وأنه أحقّ بهذا اللقب من والده الذي يحمل أيضا نفس الاسم والمعروف في النمسا كواحد من أشهر مؤلّفي الموسيقى الكلاسيكية الموهوبين.
شتراوس الأب فعل الكثير لموسيقى الفالس واستطاع أن يحصل على شهرة واسعة، ليس فقط في فيينا، وإنّما أيضا في كافّة أنحاء أوربّا.
أطفاله الذين ولدوا في العائلة لم يكونوا غالبا يرون والدهم. وبالإضافة إلى ذلك، كانت له خليلة أنجبت له عددا من الأطفال، لكن شتراوس الأب لم يكن يخجل من ذلك أو يشعر بالذنب.
وقد اقسم الصغير يوهان ذات مرّة أن يتفوّق على والده. كان جريئا ويعمل بجدّ، وقد ثابر على دراسة الموسيقى مخفيا طموحاته عن والده.
وسرعان ما أصبح الصبيّ عازفا مشهورا. وقد دعاه السفير الروسيّ في فيينا لزيارة سانت بطرسبورغ ليحيي حفلات موسيقية فيها. وسُرّ لعزفه الجمهور هناك، كما دعته العائلات الموسرة في المدينة ليحيي حفلاتها الخاصّة.
كان الاستماع إلى شتراوس نوعا من التميّز. وهو كان عاشقا حقيقيا للنساء. وقد أعجب بنساء روسيا ومنحهنّ الكثير من وقته. وذات يوم، قابل امرأة ارستقراطية اسمها اولغا سمارنيتسكايا. وقد طلبت منه أن يؤلّف موسيقى تحكي قصصها الغرامية التي تستند فيها إلى قصائد لشعراء روسيا المشهورين. وبسبب ذلك اللقاء ولدت سيمفونيّته المسمّاة "حبّ روسيّ".
وقد تبادل كلّ من شتراوس وسمارنيتسكايا الرسائل الغرامية، وما تزال حوالي مائة من هذه الرسائل محفوظة إلى اليوم. وبعض مؤلّفاته الموسيقية استوحاها من قصّة الحبّ التي جمعته مع تلك المرأة، مثل وداعاً سانت بطرسبورغ وغيرها.
كان شتراوس يتوق للزواج من أولغا. لكن عائلتها ظلّت ترفض الفكرة على أساس أن شتراوس لم يكن نبيلا وإنّما أتى من عائلة فقيرة. أما موهبته الموسيقية فعلى ما يبدو لم تكن ذات أهمّية بالنسبة لوالدي الفتاة.
اولغا الحائرة لم تستطع أن تتصرّف خلافا لرغبة والديها. ومع ذلك طلب منها شتراوس أن تهرب معه إلى فيينا، لكنها رفضت ذلك بإصرار. وعاد هو إلى النمسا بمفرده. لكنه لم يستطع نسيانها أبدا. كان يعاني كثيرا بسبب ولعه بها، وفي نفس الوقت كان يحلم برحلة أخرى إلى روسيا.
وقد كتب إليها في الأيّام الأولى لفراقهما رسالة يقول فيها: احبّك بجنون. ومن المستحيل أن أعيش بدونك. لا توجد متعة لي في هذه الدنيا ولا أمل اكبر من اللقاء بك".
وبعد ذلك بعام، عاد إلى روسيا ليرى اولغا، وطلب منها الزواج مجدّدا. لكنها رفضت لأنها لا تريد إغضاب والديها. وغادر هو عائدا إلى النمسا. وبعد أشهر علم أنها تزوّجت من شخص آخر ثريّ يعمل بالمحاماة. ولكي ينسى القصّة، بدأ يواعد النساء، وبعد سنوات بدأت فيينا تتحدّث عن مغامراته.
وعلى كلّ حال، تزوّج شتراوس في النهاية. كانت زوجته امرأة تكبره بسبع سنوات، ممثّلة وأمّ لعدد من الأطفال. وقد عاشت معه ستّة عشر عاما كانت خلالها الزوجة الوفيّة والمخلصة. وعندما ماتت صُدم، لكنه لم يلبث أن تزوّج من امرأة أخرى. وزوجته الثانية كانت هي أيضا ممثّلة شابّة. واستمرّ زواجه منها حتى وفاته بالالتهاب الرئوي عام 1899.
❉ ❉ ❉
عالم صغير وملل كثيرة
هذا العالم صغير جدّا، اصغر من أن نتجاهل نحن البشر بعضنا البعض. ومع ذلك فمعظمنا لا يعرف أيّ شيء سوى دينه أو مذهبه الضيّق، ولا يعرف شيئا عن أديان ومعتقدات الآخرين أو عن الدين السائد في المكان الذي يقيم فيه.
وعندما نروّج للصور النمطية عن البشر الذين يختلفون عنّا (كالقول هؤلاء كفرة عبدة صليب وأولئك مجوس مشركون وهؤلاء مارقون أو أهل بدع وضلالات.. إلى آخر تلك الأوصاف الفجّة والغريبة) بسبب أننا لا نعرف عن معتقداتهم وعنهم الكثير ولا نعي أن الله وحده هو من يحكم على العباد، فإن تلك الصور النمطية تُبقينا محبوسين داخل أقفاصنا وسجوننا.
وعندما تعمد إلى تصنيف الآخر وإقصائه لأنه مختلف عنك، وليس بالضرورة لأنك أفضل منه أو لأن دينك أو مذهبك اصحّ من دينه أو مذهبه، فإنك بنفس الوقت تحكم على نفسك بالإقصاء والنبذ وتصبح بنظر الأسوياء والعقلاء شخصا متحجّرا ومنغلق العقل.
كيف يمكن أن تحبّ جيرانك دون أن تعرف وتحترم وتقدّر ما يعتبرونه مقدّسا وعزيزا على أنفسهم؟
عندما نقترب من الآخرين ونراعيهم ونحترمهم، فإننا نسهم في تعزيز روح السلام والتسامح بين بني الإنسان وفي جعل الأرض مكانا أفضل للعيش.
وأختم بعبارة قرأتها مؤخّرا وأعجبتني تقول: التسامح ليس معناه ألا يكون لك دين أو معتقد، بل كيف يوجّهك دينك عندما تتعامل مع الناس المخالفين لك".
Credits
essentialvermeer.com
johann-strauss.org.uk
وعندما نروّج للصور النمطية عن البشر الذين يختلفون عنّا (كالقول هؤلاء كفرة عبدة صليب وأولئك مجوس مشركون وهؤلاء مارقون أو أهل بدع وضلالات.. إلى آخر تلك الأوصاف الفجّة والغريبة) بسبب أننا لا نعرف عن معتقداتهم وعنهم الكثير ولا نعي أن الله وحده هو من يحكم على العباد، فإن تلك الصور النمطية تُبقينا محبوسين داخل أقفاصنا وسجوننا.
وعندما تعمد إلى تصنيف الآخر وإقصائه لأنه مختلف عنك، وليس بالضرورة لأنك أفضل منه أو لأن دينك أو مذهبك اصحّ من دينه أو مذهبه، فإنك بنفس الوقت تحكم على نفسك بالإقصاء والنبذ وتصبح بنظر الأسوياء والعقلاء شخصا متحجّرا ومنغلق العقل.
كيف يمكن أن تحبّ جيرانك دون أن تعرف وتحترم وتقدّر ما يعتبرونه مقدّسا وعزيزا على أنفسهم؟
عندما نقترب من الآخرين ونراعيهم ونحترمهم، فإننا نسهم في تعزيز روح السلام والتسامح بين بني الإنسان وفي جعل الأرض مكانا أفضل للعيش.
وأختم بعبارة قرأتها مؤخّرا وأعجبتني تقول: التسامح ليس معناه ألا يكون لك دين أو معتقد، بل كيف يوجّهك دينك عندما تتعامل مع الناس المخالفين لك".
Credits
essentialvermeer.com
johann-strauss.org.uk