الاثنين، يونيو 03، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • بينما رجل يمشي ذات يوم، ظهر أمامه فجأة نمر جائع، وأخذ يطارده إلى أن احتجزه على شفا جرف. فقفز الرجل من الجرف لتجنّب الخطر الوشيك. وأثناء سقوطه إلى أسفل تمكّن من الإمساك بغصن شجرة نمت فوق جرف آخر صغير.
    وبينما هو معلّق هناك، لاحظ وجود نمر ثانٍ أسفل منه ينتظر سقوطه إلى سفح الهاوية ليأكله. وعندما بدأ الرجل يفقد قواه لاحظ وجود ثمرة فراولة برّية نمت بالقرب منه. فقطفها ووضعها في فمه وهو يعلم تماما أنها ستكون آخر شيء يأكله على الإطلاق. واكتشف كم كانت تلك الثمرة حلوة ولذيذة.
    المذاق الحلو والمرّ لآخر حبّة فراولة في حكاية الزِن القديمة هذه هو تعبير عن الجمال الكامن في الفترة التي تفصل بين مجيء الحياة وذهابها وبين الفرح والحزن اللذين يشكّلان أقدارنا كبشر.
    وأحد الدروس المستفادة من هذه الحكاية هو أنه إذا كان عقل الإنسان هادئا فيمكنه أن يُبقي نفسه بعيدا عن صخب العالم، على الرغم من أنه يعيش وسط ذلك الصخب.
    وأيضا نحن لا نعرف في الواقع ما الذي سيحدث في اللحظة التالية من حياتنا، مثلما لم نعرف ما الذي انتهت اليه هذه القصّة. ظللنا مع الرجل معلّقين على حافة الجرف. ولم نعرف هل سقط فعلا؟ هل أكله السبع؟ أم حصل أمر مفاجئ أفزع النمر فهرب، وعاش الرجل بعد ذلك ليروي قصّته الرائعة؟ وسواءً أكانت تلك آخر لحظات الرجل على الأرض أم لا، فإن ما نعرفه على وجه التأكيد انه جرّب شيئا ممتعا وكان طعمه حلوا.
    هذه القصّة يمكنك قراءتها على أكثر من وجه. إذ يمكن أن تكون نصيحة لتقدير اللحظة الراهنة، أو أن تكون تحذيرا لكي تنتبه إلى حواسّك وتمتنع عن التمسّك بالمتع. وأيّا ما كان تفسيرك فهو صحيح.
    لكن فلاسفة الزن الذين ابتكروا هذه القصّة يرون أن الحياة معاناة وأننا يمكن أن نموت في ايّ لحظة. والرجل المتشبّث بغصن الشجرة كان يعيش اللحظة الراهنة، لذا أكل الفاكهة وتجاهل الخطر.
    وهناك تفسير آخر للقصّة. فقد يكون النمر الأوّل رمزا لماضي الإنسان وما فيه من صعوبات وصدمات إن لم يتعامل معها بوعي فإنها قد تورثه القلق والمعاناة. أما النمر الآخر المنتظر أسفل السفح فيرمز إلى المستقبل والتحدّيات التي يمكن أن نواجهها في قادم الأيّام.
    إنّنا عادة نركّز على "نمر" الحياة (أي مخاطرها) ونتجاهل ثمرة الفراولة التي هي حولنا في كلّ مكان، لكنّنا لا نركّز بما فيه الكفاية لنراها. هناك ثمار ممتعة كثيرة حولنا: عائلاتنا، حواسّنا، الأزهار، الهواء، المطر، الشمس، الماء الخ.
    وأنت تقرأ هذه القصّة، ربّما فوجئت بتصرّف الرجل وكيف أنه في مثل ذلك الموقف العصيب والمهدّد لحياته خطر بباله أن يأكل ثمرة فاكهة ويستمتع بها. لكن موقفه ليس مستغربا كثيرا.
    فبعض المرضى الذين أُبلغوا بأنهم يعانون من أمراض خطيرة ولا شفاء منها، أصبحت اصوات العصافير عندهم أجمل ومنظر الخضرة والأشجار أروع وصحبة أصدقائهم أفضل وأكثر إمتاعا، خاصّة بعد أن عرفوا أن "النمر"، أي الموت، سيأكلهم في النهاية، وهو "آكلهم" على كلّ حال سواءً بالمرض أو بدونه.
  • يقول الرسّام الهولندي موريتز ايشر معلّقا على لوحته "فوق":
    من المستحيل أن يسير سكّان عوالم مختلفة أو يجلسوا أو يقفوا على نفس الطابق، لأن لديهم مفاهيم مختلفة حول ما هو أفقي وما هو عمودي. لكن من الممكن أن يتشاركوا في استخدام نفس الدرج. على الدرج العلوي، يتحرّك شخصان جنبا إلى جنب وفي نفس الاتجاه.
    ومع ذلك ينزل أحدهما إلى الطابق السفلي والآخر يصعد إلى الطابق العلوي. الاتصال بينهما غير وارد، لأنهما يعيشان في عالمين مختلفين، وبالتالي لا يمكن أن يكون لديهما معرفة عن وجود بعضهما البعض.


  • غالبا ما يجد الأفراد الحكماء أنفسهم وحيدين، ليس لأنهم يفتقرون إلى القدرة على تكوين علاقات، ولكن بسبب عمقهم وفهمهم الجوهريّ للعالم وللطبيعة البشرية. قال ألبيرت أينشتاين ذات مرّة: من الغريب أن أكون شخصا معروفا عالميّا، ومع ذلك أعيش مثل هذه الحياة الانفرادية!"
    والعزلة لا تأتي لكونها قسرية بالضرورة، ولكن لأنها مدفوعة برؤية أوضح للعالم وإدراك أعظم لحقائقه الداخلية. ومن المناسب أن نفكّر هنا في المثل الصيني الذي يقول: ان الحكيم يفهم دون سفر ويرى دون نظر وينجز دون عمل".
    وهذا المثل يدلّ على أن الحكماء يجدون الرضا الذي يحتويه عالمهم الداخلي، وهذا لا يتطلّب بالضرورة تزكية من الخارج أو رفقة ما. وحكمتهم تسمح لهم بالبحث عن إجابات داخل أنفسهم ويقبلون الواقع كما هو.
    ويمكن أن يُنظر الى الأفراد الحكماء في بعض الأحيان على أنهم أشخاص معزولون بسبب حاجز الفهم الذي يمكن أن ينشأ بينهم وبين الآخرين. وكما قال فريدريك نيتشه: الذين لا يستطيعون سماع الموسيقى يظنّون أن الذين يرقصون مجانين". وبعبارة أخرى فإن الحكيم يرقص على إيقاع الموسيقى الخاصّة به لأولئك الذين لا يستطيعون سماع تلك الموسيقى، مع أن رقص الحكيم قد يبدو غريبا أو غير مفهوم.
    ويمكن أن تكون العزلة رفيقا حلوا ومرّا بنفس الوقت لأنها توفّر لصاحبها، برغم ثقلها أحيانا، مساحة للتفكير والنموّ. وكما قال جلال الدين الرومي: العزلة هي الحديقة التي تُزهر فيها النفوس". وهذا المفهوم ينعكس أيضا في المثل الاسباني الذي يقول: الحكماء يحيَون بقدر ما يتعلّمون وليس بقدر ما يعيشون".
    والحكماء يفهمون أيضا أن الصداقات يمكن ان تكون سريعة الزوال وعابرة أحيانا، ما يحيل إلى كلمات ابيكورس: لا تهجر أصدقائك لما ليس لديهم، بل قدّرهم لما لديهم". والحكمة ليست مرادفة لرفض الصداقة، ولكنها تميل الى فهم أعمق لقيمتها الحقيقية.
    والذين ليس لديهم أصدقاء بالمعنى التقليدي ليسوا بالضرورة غير اجتماعيين، ولكن نظرتهم للعالم وعلاقتهم مع أنفسهم والآخرين هي على مستوى أعمق غالبا، على الرغم من أن هذا قد يكون صعبا فهمه بالنسبة للكثيرين، ولكنه مجرّد جزء فطريّ من الحكمة وانعكاس للفهم العميق الذي يمتلكه الحكماء عن العالم.

  • Credits
    mcescher.com
    wisdomtalespress.com