الجمعة، يونيو 07، 2024

ملك الطيور


أوّل مرّة رأيت فيها الطاووس كانت في الهند، في قصر قديم كان مملوكا لأحد المهراجات. كان هناك عدّة طواويس وكانت تتجوّل في أروقة البناء المهجور بكلّ جلال وبهاء. والهند هي موطن الطاووس الأصلي، ولكثرته هناك يمكن أن تراه يمشي بأمان في الحدائق والغابات والمتنزّهات.
ولطالما اعتبره الهنود رمزا للملوكية والسلطة ووصفوه بأن "له ريش ملاك وصوت شيطان ومشية لصّ". وهناك قصّة شعبية هندية قديمة تتحدّث عن ثعلب صبغ نفسه بالألوان كي يتفاخر بأن له جمال الطاووس، لكن حيلته انكشفت عندما طلبت منه الحيوانات أن يطير.
الطاووس الهندي يُعتبر أقدم طائر زينة في التاريخ، حيث يعود زمنه إلى القرن العاشر قبل الميلاد. وكثيرا ما يثور جدل حول من جَلَب الطاووس لأوّل مرّة من أراضيه الأصلية في آسيا. ويقال إن الملك سليمان الذي حكم قبل الميلاد بألف عام من أوائل من امتلكوا هذه الطيور الغريبة.
والطاووس، الذي يُوصف عادةً بـ "ملك الطيور"، واحد من أكثر الطيور شهرةً في العالم بفضل سلسلة ريشه الدائريّ المثير. وعلى مرّ التاريخ، اكتسب معاني رمزية امتدّت لثقافات مثل الهندوس والفلاسفة اليونانيين والرومان وأوروبّا المسيحية.
وفي الفنّ والأدب، تغيّرت صورة الطاووس عبر القرون من كونه طائرا راعيا للآلهة والإلهات وعنصرا ثابتا في الأيقونات الغريبة للملوك والحكّام، إلى أن أصبح طائرا أليفا يحتفي به محبّو الطيور في العصر الحديث.
في الأدبيّات الإسلامية يرتبط الطاووس بالجنّة، ربّما لجماله الأخّاذ وهدوء طبيعته. وبعض الشعراء المسلمين، مثل شمس التبريزي، تحدّثوا عن طاووس قيل انه يحرس سدرة المنتهى. وفريد الدين العطّار ذكر الطائر في كتابه "منطق الطير" كرمز للجمال والحكمة.
القدماء كانوا يقرنون ظهور الطاووس بنزول المطر. وشاع اعتقاد بأن لحمه لا يتحلّل بعد موته، لذا أصبح رمزا للخلود. وفي الموزاييك الروماني يُصوّر الطائر كرمز للكبرياء والتباهي بسبب ذيله الملوّن الجميل.
وقد نُقل الطاووس إلى المعابد والقصور عبر البحر المتوسّط من قبل التجّار الفينيقيين. وعندما وصل الطائر إلى اليونان، أثار الفضول وأُودع في البداية في حديقة حيوانات خاصّة في جزيرة ساموس. وبحلول القرن الرابع قبل الميلاد، أصبح امتلاك الطاووس رفاهية شائعة في اليونان وروما. وكثيرا ما استُخدم للزينة ولأكل لحمه بين أوساط الطبقة الحاكمة في أوربّا.
المسيحيون الأوائل في أوربّا كانوا يعتبرون الطاووس رمزا للتجدّد والبعث، لذا رسموه على قبور موتاهم. وكانوا يعتقدون انه طائر الجنّة، لكنّه طُرد منها ومعه الشيطان والحيّة، ثم فقد صوته الذي كان جميلا مثل ريشه.


استخدام الطاووس كرمز في الأدب يعود لعدّة قرون، وغالبا ما يمثّل مجموعة من المعاني اعتمادا على السياق ونيّة المؤلّف. وفي العديد من الثقافات، يرتبط الطاووس بالجمال والغرور. ريشه الجميل واستعراضاته الفخمة جعلته رمزا للفخر والتباهي. وغالبا ما تُستخدم هذه الرمزية في الأدب لاستكشاف مواضيع الغرور والغطرسة والسعي وراء المظاهر الخارجية الخادعة على حساب الصفات الداخلية.
وفي الأساطير اليونانية والرومانية القديمة، ارتبط الطاووس بالخلود والحياة الآخرة. ويُعتقد أن ريشه لا يتغيّر ولا يبلى، وكثيرا ما استُخدم كرمز للقيامة والحياة الأبدية والولادة الجديدة في العديد من الأعمال الأدبية، خاصّة تلك التي تحتوي على مواضيع أسطورية أو دينية.
ويقال أن الطاووس لم يكن له ريش جميل في البداية. وكان هو الطائر المفضّل عند الإله الروماني جونو الذي حقّق له رغبته في الحصول على ريش جميل لكي يميّز به نفسه عن سائر الطيور. وعندما لبّى الإله رغبته، أظهر الطاووس ريشه الناعم ذا اللون الزمرّدي والأرجواني الذهبي.
وأصبحت الطيور الأخرى تغار منه. وفي أحد الأيّام، رأى الطاووس نسراً يحلّق عالياً في السماء الزرقاء الواسعة، فرغب هو في الطيران كما اعتاد أن يفعل. وحاول أن يرتفع عن الأرض برفع جناحيه، لكن ثقل ذيله الريشي أعاقه. وكلّ ما استطاع فعله هو المشي على الأرض مثل أيّ طير عادي من طيور الأفنية. والمغزى من هذه القصّة واضح وهو: لا تُضحِّ بحرّيتك من أجل الأبّهة والاستعراض.
ريش الطاووس المبهر وعروضه وجماله ورشاقته غالبا ما تُستخدم في الأدب لتصوير الشخصيات التي تمتلك سحرا آسرا وجاذبية وإغواءً أو تستخدم جاذبيّتها للتلاعب بالآخرين.
وفي بعض الثقافات، يُنظر إلى الطاووس على أنه مخلوق حكيم ويقظ بسبب قدرته على إدراك الخطر وبصره الثاقب. وتُستخدم هذه الرمزية أحيانا في الأدب لتصوير الشخصيات التي تمتلك مهارات مراقبة حادّة أو تمتلك حكمة تتجاوز سنوات عمرها.
ويمكن أيضا ربط اتصاف الطاووس بالجمال والغرور بموضوع الغطرسة وما ينتج عنها عادةً من سقوط للشخصيات في الأدب بسبب النرجسية والثقة المفرطة.
في رواية "غاتسبي العظيم" لسكوت فيتزجيرالد لا يُذكر الطاووس صراحة، إلا أن الحفلات الفخمة التي كان يقيمها جاي غاتسبي في الرواية تذكّرنا باستعراضات الطاووس، إذ تتميّز بالبذخ والتباهي، ما يعكس رغبة البطل في التفاخر بثروته ومكانته الاجتماعية لكسب عاطفة ديزي بيوكانان.
وفي رواية "الفردوس المفقود" لجون ميلتون، يُذكر الطاووس في وصف الشيطان عندما يتحوّل إلى مخلوقات مختلفة. وعندما يتّخذ الشيطان شكل طاووس، يُنظر إليه على أنه تجسيد للكبرياء والغطرسة التي تؤدّي إلى سقوطه من عليائه.
ومن أشهر الأعمال الأدبية الأخرى التي استُخدم فيها الطاووس كرمز رواية "صورة دوريان غراي" لأوسكار وايلد. في هذه الرواية يُوظّف الطاووس بشكل رمزي ليمثّل شخصية اللورد هنري ووتون وانبهاره بالمظاهر الخارجية وإيمانه بقيمة الجمال قبل كلّ شيء. واللورد يصوّر على أنه طاووس يتباهى بذكائه وسحره، بينما يتجاهل العواقب الأخلاقية لأفعاله.

Credits
assortedregards.com