الخميس، أكتوبر 31، 2024

لقاء المعلّم والخان/1


بطلا هذه القصّة شخصيّتان مهمّتان من التاريخ، الأوّل جنكيز خان القائد العسكري الذي أسّس أكبر إمبراطورية في التاريخ. والثاني تشانغ تشون الذي اعتُبر أشهر معلّم طاوي في زمانه. كان الخان العظيم قائدا لا يُقهر في ساحات المعارك. وقد نذر نفسه للقتال والغزو طوال حياته. وأيّ مكان يمكن أن ينمو فيه العشب، ولو كان على بعد آلاف الأميال، يمكن أن يصبح هدفا لهجوم فرسانه المنغوليين. وكانت حملاته وغزواته تهزّ العالم بأسره في ذلك الوقت.
لكن، بعيدا عن ساحات المعارك، كان الخان دائما يتطلّع لإجابات عن الأسئلة الكبرى في الحياة كالسعادة والحبّ والموت وأحوال وطباع البشر وأسباب صعود وسقوط الأمم. وفي أخريات حياته، كان يشعر بالقلق من احتمال موته الوشيك. وكان بحاجة إلى رجل حكيم ومجرّب لكي يجيب عن تساؤلاته الحائرة. وقد نصحه بعض أفراد حاشيته بأن يسترشد بحكمة المعلّم الطاوي تشانغ تشون "الذي لديه وحده الإجابات".
وفي عام 1219 كتب جنكيز خان رسالة الى المعلّم تشون قال فيها: لقد هجرَت السماءُ الصين بسبب غطرستها ورفاهيتها الباذخة. ولكنّني، وأنا أعيش في البرّية الشمالية، لا أمتلك عواطف متطرّفة. فأنا أكره الرفاهية وأمارس الاعتدال. ولديّ معطف واحد وآكل نفس الطعام وأرتدي نفس الملابس الممزّقة التي يرتديها رعاة الماشية المتواضعون.
ويبدو لي أنه منذ العصور البعيدة لم يرَ العالم إمبراطورية شاسعة كهذه. لذا فإن الالتزامات الملقاة على عاتقي ثقيلة وأخشى أن يكون هناك شيء ناقص في حكمي. وتعرف أننا لكي نعبر النهر فإننا نصنع القوارب والدفّات، وبالمثل ندعو الرجال الحكماء ونختار مساعدين للحفاظ على الإمبراطورية في حالة جيّدة.
وأضاف: لقد استفسرت عنك وسمعت أنك يا سيّدي قد اخترقت الحقيقة، وأنك تسير في طريق الصواب. وقد استكشفتَ القوانين لأنك متعلّم بعمق وذو خبرة كبيرة وصارت قداستك واضحة. فقد حافظت على القواعد الصارمة للحكماء القدماء وأعطيت مواهب بارزة للرجال المشهورين وعشتَ لفترة طويلة في كهوف الجبال معتزلا العالم.
وأضاف: إننا منفصلان عن بعضنا البعض بسبب الجبال والسهول الشاسعة، ولا أستطيع أن أقابلك إلا بالنزول عن العرش والوقوف الى جوارك. لقد ألهمتني أفكارك، وسأدرس وأنفّذ تعاليمك. وقد أمرت وزرائي بتجميع دليل لدروسك وسأقرؤه شخصيّا. لقد صُمتُ واغتسلت وأمرت مساعدي بإعداد عربة وحراسة لك. وأطلب منك أن تأتي لتخبرني عن طرق الحفاظ على الحياة. سأخدمك بنفسي وآمل أن تترك لي على الأقل القليل من حكمتك. قل لي كلمة واحدة فقط وسأكون سعيدا. لقد عبّرت في هذه الرسالة بإيجاز عن أفكاري وآمل أن تفهمها.
وردّ المعلّم تشانغ تشون على الخان برسالة قال فيها:
تلقّيت مؤخّرا أمركم السامي. وأعترف أنني جاهل بالأمور الدنيوية، ولم أنجح في التحقّق من الطريق على الرغم من أنني حاولت جاهدا بكلّ الطرق الممكنة. لقد تقدّمتُ في السن ولستُ أفضل من الناس العاديّين. وعندما أنظر إلى داخلي، أشعر بالخجل الشديد من نفسي، إذ من يعرف أفكاري الخفيّة؟!
وأضاف: لقد سبق أن تلقّيت عدّة دعوات من العاصمة الجنوبية ومن سلالة سونغ، ولم أذهب. ولكن الآن، مع أوّل دعوة لي من بلاط التنّين (أي بلاط المغول)، أنا مستعدّ للذهاب. فقد سمعت أن الخان قد وهبته السماء شجاعة وحكمة لم يسبق لأحد أن نالها لا في العصور القديمة ولا في أيّامنا هذه. في البداية كنت متردّدا فيما إذا كنت سأختبئ في الجبال أو أهرب إلى جزيرة في البحر، لكنني لن أجرؤ الآن على معارضة أمرك.
وقرّرت أن أتحدّى الصقيع والثلج لأقدّم نفسي للإمبراطور رغم أنني عجوز ومريض وأخشى ألا أتمكّن من تحمّل آلام هذه الرحلة الطويلة، وقد لا أتمكّن من الوصول إلى جلالتك. وحتى لو وصلت، فربّما لن أكون صالحا لشيء. إن مظهري جافّ وجسدي واهن، ومع ذلك فأنا حريص على إرضاء رغبة جلالتك".

❉ ❉ ❉

في عام 1220، اختار المعلّم تشانغ تشون البالغ من العمر 73 عاما 18 من تلاميذه وانطلقوا من تشان دونغ. وقتها كانت الحروب مستعرة في العديد من الأماكن، وطريق الحرير القديم غير آمن. لذلك كان عليهم السفر شمالا ثم غربا متّبعين طريق الجبال الكبرى إلى منغوليا الداخلية الحديثة. ثم عبروا هضبة منغوليا إلى شرق إيران، وفي النهاية التقوا بالخان الأعظم على الضفّة الجنوبية لنهر آمو داريا في عام 1222 قريبا من المنطقة المعروفة اليوم باسم هندوكوش.
كان المعلّم يعرف أن الخان لم يكن مجرّد رجل قاسٍ لا يعرف سوى كيفية ثني القوس وإطلاق النار على النسور. وكان الخان يعرف أن الكاهن الطاويّ كانت لديه رؤية ومعرفة غير عادية.
ويقول بعض المؤرّخين إنه كان لنصائح تشانغ تشون للخان أثر مهمّ في تسريع عملية تكامل القوميات في الصين وتبادل الأفكار بين أعراقها المختلفة وفي مجيء العصر الأكثر سلاما وازدهارا بعد ذلك بـ 33 عاما أثناء حكم قوبلاي خان. وعندما غزا أحفاد جنكيز السهول الوسطى وأسقطوا أسرة سونغ فيما بعد، نادرا ما ذبحوا الناس أو دمّروا المدن.


أحداث رحلة المعلّم تشانغ تشون الى بلاط جنكيز خان سجّلها أحد تلاميذه ويُدعى "لي تشي تشانغ" في كتاب بعنوان "رحلات تشانغ تشون إلى الغرب". ويتضمّن الكتاب وصفا للطبيعة والإنسان في المنطقة الممتدّة بين سور الصين العظيم وكابول، وبين بحر الآرال والبحر الأصفر. كما يتحدّث عن العادات والتقاليد المحلية وأعراف القبائل المنغولية والأويغورية وغيرها.
السطور التالية عبارة عن فقرات مترجمة بتصرّف من الكتاب..

❉ ❉ ❉

كان المعلّم تشانغ تشون رجلاً ذا حكمة وكمال. ففي الوقت الذي بلغتُ فيه سنّ الرجولة، تصوّرت أن هذا الرجل الجليل لا بدّ وأنه قد صعد إلى السماء منذ زمن بعيد وأنه صار في صحبة السحب في المجالات العليا للكون، وحزنت لعدم رؤيته. ولكن في شتاء عام 1219، انتشرت فجأة شائعة مفادها أن المعلّم كان ما يزال حيّا ويعيش قريبا من البحر، وأنه يتأهّب للانطلاق في رحلة الى بلاط المغول تلبيةً لدعوة من الخان نفسه.
وبعد حوالي شهر أبلغت من بعض تلاميذ المعلّم أنه راغب في مقابلتي ليعرض عليّ مرافقته مع آخرين في رحلته. وقد شعرت بالرضا لرؤيته. وعندما وقف لتحيّتي كان يشبه شجرة، وعندما جلس كان وضعه ساكنا مثل جثّة. ومن خلال حديثي معه عرفت أنه رجل رأى وسمع الكثير عن هذا العالم. ولم يكن هناك كتاب لم يقرأه. ويوما بعد يوم، كنت أشعر بتبجيل متزايد له. وكان عدد الرجال الذين اجتذبهم مجده وطلبوا نعمة أن يكونوا من تلاميذه يزداد كلّ يوم.
وعندما وصل مبعوث جنكيز خان، انطلقنا مع المعلّم باتجاه الغرب. وكان تلاميذه قد سألوه قبيل رحيله متى سيعود. فقال: بعد ثلاث سنوات". حدث هذا في الشهر الأوّل من عام 1221. وفي الرحلة إلى الغرب، سافرنا بصحبة المعلّم ومرافقه مئات الاميال، ورأينا أماكن لا تظهر على خرائطنا ولا تبلّلها الأمطار أو الندى. ورغم أنه كان يُستقبل في كلّ مكان بتكريم كبير، إلا أن الرحلة كانت متعبة بالنسبة له. ومع ذلك كان دائما مرحاً ويحبّ الحديث ويكتب الشعر. وكان محبّا للطبيعة في حالاتها المختلفة، وفي كلّ مكان توقّفنا عنده زار كلّ ما هو لافت ومميّز.
بعد أن عبرنا نهراً، اتجهنا جنوبا ومررنا فوق جبل منخفض حجارته مختلفة الألوان. ولم نجد على جانبي هذا الجبل أيّ شجرة أو عشبة. ثم رأينا زوجا من التلال الحمراء وتوقّفنا عند بئر ماء عذب وسط صحراء مالحة، حيث أعددنا طعامنا. كان العشب المحيط بالبئر قد داسته الأغنام والخيول كثيرا.
وبعد استراحة قصيرة، بدأنا رحلتنا في فترة ما بعد الظهر. وفي طريقنا رأينا أكثر من مائة تلّة رملية كبيرة، بدت وكأنها تتهادى كالسفن الضخمة وسط أمواج المحيط. وفي اليوم التالي، بين الثامنة والعاشرة صباحا، وصلنا إلى إحدى البلدات. ولم نتعب من السفر في الليل، ولكننا كنّا خائفين من أن يسحرنا عفاريت الظلام. ولمنع السحر، قمنا بفرك رؤوس خيولنا بالدم. وعندما رأى المعلّم ما فعلنا ابتسم وقال: العفاريت تهرب عندما تقابل رجلاً صالحا، كما تذكر الكتب. ولا يليق بالطاويّ أن يؤمن بمثل هذه الأفكار".
بعد أن سافرنا غربا، وصلنا إلى مدينة كبيرة. وقد قطع حاكمها والجند والشعب والكهنة البوذيون والطاويون مسافات طويلة خارج المدينة للقاء المعلّم. وأقمنا في بستان عنب. وكان أقارب المرافق هم الذين يجلبون لنا النبيذ المصنوع من العنب والفواكه المتنوّعة.
وبعد أن مررنا بمدينتين أخريين، وصلنا في اليوم التاسع من الشهر التاسع إلى مدينة تابعة لقبيلة هوي. كان الحاكم صديقا قديما لمرافق المعلّم وقد جاء مع أقاربه وكهنة القبيلة لمقابلتنا خارجها. وبعد وصولنا إلى هناك، قُدّم لنا عشاء على الشرفة وجاءتنا زوجة الحاكم بالنبيذ. كما أحضروا بطّيخا ثقيلا وحلوا.
وبعد أن غادرنا الصحراء الرملية، سافرنا خمسة أيّام، وتوقّفنا على الجانب الشمالي من نهر "يين". وفي اليوم التالي، في الصباح الباكر، اتجهنا جنوبا ومشينا على منحدر طويل الى أن حلّ المساء فتوقّفنا للراحة. كان الهواء باردا، لكن لم نجد ماءً. وفي صباح الغد، واصلنا سفرنا باتجاه الجنوب الغربي، ثم رأينا فجأة بحيرة رائعة محاطة من جميع الجوانب بقمم مغطّاة بالثلوج المنعكسة في الماء. وقد أطلق عليها المعلّم "بحيرة السماء".
بعد أن سلكنا الطريق الساحلي، نزلنا باتجاه الجنوب ولم نرَ على جانبي الطريق سوى المنحدرات العمودية والقمم الوعرة. وكانت الجبال مغطّاة حتى قممها بغابات كثيفة تتألّف من أشجار البتولا والصنوبر التي يزيد ارتفاعها عن مائة قدم. وكان النهر يتعرّج عبر الوادي لمسافة والتيّار سريعاً ومنحدرا أحياناً على هيئة شلالات.
وكان حاكم تلك الناحية أوّل من شقّ طريقا عبر هذه الجبال وقطع الصخور وبنى 48 جسراً باستخدام الأخشاب المقطوعة من الجبال. وكانت الجسور عريضة للغاية بحيث يمكن لعربتين أن تمرّا جنباً إلى جنب. أمضينا الليل هناك وغادرنا في الصباح التالي، ثم دخلنا واديا واسعا يمتدّ من الشرق إلى الغرب، سقيُه جيّد وفيه عشب وفير بينما تتناثر هنا وهناك بعض أشجار التوت والعنّاب.
وفي اليوم التالي تساقطت ثلوج كثيفة، ووصلنا إلى بلدة صغيرة يقطنها مسلمون. كان ارتفاع الثلوج حوالي قدم، لكنها ذابت بسرعة بفعل حرارة الشمس.
وبعد رحلة دامت ثمانية أيّام، تحوّلت الجبال فجأة نحو الجنوب. ورأينا مدينة مبنية من الحجارة الحمراء، وكانت هناك آثار معسكر قديم. وإلى الغرب رأينا تلال قبور كبيرة تشبه كوكبة الدبّ الأكبر. وبعد أن عبرنا جسرا حجريّا وسافرنا خمسة أيّام على طول الجبال الجنوبية الغربية، وصلنا إلى مدينة "ساي لان". وقد جاء حاكمها المسلم لاستقبالنا ووجّهنا إلى مسكننا. وخلال الأيّام الأولى من الشهر الحادي عشر هطلت على البلدة أمطار غزيرة.