الجمعة، نوفمبر 01، 2024

لقاء المعلّم والخان/2


في هذا الجزء "الثاني"، يواصل "لي تشي تشانغ" رواية المزيد من المشاهدات والتفاصيل التي دوّنها في كتابه "رحلات تشانغ تشون إلى الغرب" عن رحلة معلّمه الطاوي إلى بلاط جنكيز خان امبراطور المغول.

❉ ❉ ❉

تابعنا سيرنا إلى أن وصلنا إلى مدينة وجدنا فيها عشبا وماءً. وجاء رئيسها، وهو مسلم أيضا، لاستقبالنا واستضافنا وقدّم لنا العشاء والنبيذ. وبأمره، قام بعض الفتيان بأداء المسرحيات والرقص بالسيوف وتسلّق الأعمدة. وبعد ذلك مررنا بمدينتين أخريين، وسافرنا نصف يوم بين الجبال ثم خرجنا إلى وادٍ يمتدّ من الجنوب إلى الشمال. وهناك قضينا الليل تحت شجرة توت رائعة يمكن أن تغطّي بظلّها مائة رجل.
وبعد مغادرتنا المدينة، رأينا على الطريق بئرا يزيد عمقها على مائة قدم، حيث كان رجل عجوز من المسلمين يمتلك ثورا يدير السانية ويرفع الماء للناس العطشى. وكان جنكيز خان قد رأى هذا الرجل عندما مرّ من هنا ذات سنة، وأمر بإعفائه من الضرائب والرسوم مكافأة له على خدمته المسافرين.
ثم قال المرافق للمعلّم: لقد وصلنا الآن إلى أصعب جزء من الطريق، فما رأيك؟ فأجاب المعلّم: أعرف هذه الأماكن جيّداً منذ زمن طويل". فردّ المرافق: أمامنا حقل العظام البيضاء. وهي متناثرة بكثافة في كلّ مكان. وعلينا أن نسافر مسافة أكبر للوصول إلى الحدود الشمالية لصحراء شاتو الرملية، حيث سنجد الكثير من الماء والعشب هناك.
سأل المعلّم: ماذا تقصد بحقل العظام البيضاء؟" أجاب المرافق: هذه ساحة معركة قديمة، ساحة موت. ذات مرّة هلك جيش كامل هناك من التعب، لم ينجُ منهم أحد. ومنذ فترة قصيرة، في نفس المكان، دُمّر جيش آخر. وأضاف: إن من يعبر الصحراء في النهار يموت من التعب، وكذلك الخيول. فقط في بداية المساء، يمكننا السفر للوصول إلى الماء والعشب بحلول ظهر اليوم التالي".
وفي اليوم الثامن عشر من الشهر الحادي عشر وبعد عبور نهر كبير، وصلنا إلى الجانب الشمالي من مدينة عظيمة البناء. وقد استقبلَنا في الضاحية أرفع وزير صيني ومستشار الخان وكبار جنود الجيش المغولي وزعماء المسلمين. وبعد أن نصبنا عددا كبيرا من الخيام، استرحنا هناك.
وبعد أن غادرنا، عبرنا في طريقنا جبلا عاليا فيه بوّابة حجرية، وعلى مسافة بعيدة بدت الصخور وكأنها شموع. وفوق هذه الصخور كانت هناك صخرة ضخمة كأنها جسر، وتحتها سيل متدفّق. وقد سمعنا أن العديد من حمير الجنود غرقت أثناء عبور السيل ورأينا على جانبيه العديد من الجثث ملقاة. كان الجيش قد استولى على هذا الوادي قبل وقت قصير من مرورنا.
واصلنا ترحالنا في النهار وفي الليالي ذات الهواء المعتدل. وبعد ستّة أيّام وصلنا إلى مدينة سمرقند. وجاء جنود للقاء المعلّم وأرشدوه إلى مسكنه في القصر الذي يقع على الجانب الشمالي من نهر زرفشان. وهذا النهر ينبع من الجبال الثلجية شرقي المدينة، لذلك فإن مياهه باردة جدّا. كان القصر الذي سيعيش فيه المعلّم يقع على تلّة يبلغ ارتفاعها حوالي مائة قدم. وفي تلك الفترة اعتاد المعلّم الجلوس عند النافذة الشمالية والاستمتاع بالنسائم، بينما كان ينام في الليل على الشرفة. وهكذا قضى كلّ أيّامه.
في سمرقند يقوم الرجال والنساء بضفر شعورهم. ويلفّ رجال الطبقات الدنيا رؤوسهم بقطعة من القماش الأبيض يبلغ طولها نحو ستّة أقدام. وتغطّي نساء الزعماء والأثرياء رؤوسهن بقطعة من الشاش يبلغ طولها ستّة أقدام وتكون سوداء أو حمراء. وفي بعض الأحيان تُطرّز عليها الزهور والنباتات أو أشكال أخرى. وتترك النساء شعورهنّ منسدلة. وإذا افتقر الرجل يحقّ لزوجته أن تتخذ زوجا آخر. وفي حال ذهاب الزوج في رحلة وعدم عودته إلى المنزل خلال ثلاثة أشهر، يُسمح لزوجته بالزواج من رجل آخر. لكننا لاحظنا شيئا غريبا جدّا على هؤلاء الناس، فبعض نسائهم لديهنّ لحى وشوارب.
في اليوم الثامن من سبتمبر عبرنا نهرا مياهه حمراء، وواصلنا السير عبر ممرّ إلى الجنوب الشرقي تحفّه صخور مرتفعة. وعند سفح الجبل يوجد نبع تترسّب مياهه بالملح الأبيض بعد التبخّر. وقد أخذنا كمية كبيرة منه معنا. ثم صعدنا جبلا يشكّل مستودعا للمياه. وإلى الغرب رأينا واديا مرتفعا بدا وكأنه ممتلئ بالجليد، لكنه كان مالحا. وعلى قمّة الجبل كان هناك ملح أحمر اللون يبدو وكأنه حجر، وقد تذوّقه المعلّم بنفسه. في الصين ومنغوليا لا يوجد الملح عادةً إلا في الأراضي المنخفضة. ولكن هنا يوجد الملح أيضا في الجبال. والمسلمون يأكلون الكعك مملّحاً وعندما يشعرون بالعطش يشربون الماء حتى في الشتاء.
في أحد الأيّام وصل موفد من لدن الخان يُدعى علي شيان وسلّم المعلّم رسالة من الخان يقول فيها: أيّها الرجل المقدّس! لقد وصلتَ من البلد الذي تشرق منه الشمس وواجهتَ ولا شك صعوبة كبيرة في عبور الجبال والسهول وبذلتَ جهداً كبيراً. وأنا أنتظر لقاءك بفارغ الصبر لكي تفسّر لي العقيدة الطاوية. فلا تتأخّر في مقابلتي".
وبعد ستّة أيام، وصلنا إلى معسكر الخان، الذي أرسل أحد كبار حرّاسه لمقابلة المعلّم. وأبلغَنا الحارس بألا نجثو على رُكَبنا تحيةً للخان كما جرت العادة. وعندما قدّم المعلّم نفسه للخان، رحّب به وقال: لقد دعاك غيري لزيارته ولكنك رفضت. والآن أتيت لرؤيتي بعد أن عبرت كلّ هذه المسافة. وأنا مسرور للغاية". فأجاب المعلّم: جاء الرجل المتوحّش من الجبال لمقابلة الإمبراطور، تلك إرادة السماء". ثم دعاه جنكيز خان للجلوس وأمر بوضع الطعام أمامنا.


وبعد أن تناولنا طعامنا سأل الخان المعلّم: أيها الرجل المقدّس! لقد أتيتَنا من مسافة بعيدة. فهل جلبت معك دواءً للخلود؟" فأجاب المعلّم: هناك وسائل للحفاظ على الحياة، ولكن لا يوجد دواء أكيد للخلود". فشكره الخان على صراحته. وأمر بأن تُنصب له ولمرافقيه خيمتان بجوار خيمته كما أنعم عليه بلقب "الخالد".
وفي اليوم التالي، أرسل الخان رجلاً يقترح على المعلّم تناول العشاء مع جلالته كلّ يوم. فأجابه المعلّم: أنا رجل برّي من الجبال ومنشغل بأمور العقيدة، وبالتالي أحبّ العزلة". فسمح له الخان بالعيش كما يحلو له. وفي الأيّام التالية كان الخان يرسل إلى المعلّم النبيذ المصنوع من العنب والبطّيخ وغير ذلك من الأطعمة. وحُدّد اللقاء التالي بين الرجلين بعد ثلاثة أيّام.
لكن فجأة جاءت أنباء بأن متمرّدين مسلمين في الجبال على وشك تجديد اعتداءاتهم. فقرّر الخان مهاجمة العدوّ بنفسه. ولذلك أُجّل اللقاء مع المعلّم إلى يوم آخر. وبعد أيّام ظهر المعلّم مرّة أخرى أمام الخان برفقة مترجم. وسأله جنكيز: هل يجب على الحاضرين الانسحاب؟" فأجاب بالنفي.
كان جنكيز خان مهتمّا في الأساس بإطالة عمره، لأنه سمع حديثا عن قدرات تشانغ تشون السحرية في هذا المجال. وقد وجّه سؤالا الى المعلّم عمّا إذا كان حجر الفلاسفة، أي المادّة الأسطورية التي يمكنها تحويل المعادن الأساسية إلى ذهب، موجودا. ومرّة ثانية، ردّ عليه المعلّم بالنفي.
ثم سأله إن كانت جرعة الخلود، أي الدواء الذي يساعد الانسان على أن يعيش إلى الأبد، موجودا. فردّ أيضا بألا وجود له. وعندما أدرك المعلّم خيبة أمل الخان ممّا قاله استدرك قائلا: إن كنت تريد أن تعيش إلى الأبد، فيجب أن تكون نقيّ القلب ولديك القليل من الرغبات. وإذا كنت تريد أن تحكم العالم، فيجب عليك احترام السماء وحبّ الناس".
ثم سأله: هل لديك حلّ لإطالة العمر؟ "فردّ المعلّم: نعم، احترام وحبّ شعبك". فقال الخان: أنا أعيش وأتناول الطعام مع شعبي في السهوب وأقود المعارك وأعامل جنودي كإخوتي. ألا يكفي هذا؟". فردّ المعلّم: لا ليس كافيا، يجب أن تكفّ عن ذبح الناس وألا تكون متعطّشا للدماء أبدا يا سيّدي، فالله يحبّ الحياة ويكره القتل! وأضاف: القتل والقوّة لا يجلبان إلا خوفاً وخضوعاً مؤقّتاً، يتبعهما كراهية ومقاومة لا نهاية لها".
كان المعلّم شجاعا وصريحا عندما قال هذا الكلام. لكن جنكيز خان لم يغضب، بل بدا في الواقع مسرورا بالحديث. ثم سأل المعلّم: الآن وقد قطعت كلّ هذه المسافة حتى وصلتنا، ما الإكسير السرّي للحياة الطويلة الذي يمكنك أن تقدّمه لي؟" فقال: لديّ وسائل لحماية الحياة، وليس إكسيرا لإطالة أمدها."
واستمرّ المعلّم يجيب على أسئلة الخان دون أن يجامله أو يكذب عليه. وفي نهاية الحديث عُرض على المعلّم حليب الخيل، فاعتذر عن شربه واستبدله بعصير العنب والبطّيخ. وأقنع المعلّم الخان بالامتناع عن الصيد وتقليل اللحوم في الطعام. وتوقّف الخان فعلا عن الصيد لشهرين كاملين. ودارت بين الاثنين حوارات أخرى بحضور مترجمين وبعض قادة المغول. وكان جنكيز خان مسرورا كثيرا بأفكار ونصائح تشانغ تشون لدرجة أنه أمر بتدوينها في كتاب باللغة الصينية.
وفي نهاية ذلك اللقاء قال المعلّم للخان: عندما غادر الرجل الجبليّ المتوحّش "يقصد نفسه" شاطئ البحر، أعطى وعده "لزملائه" بالعودة مرّة أخرى في غضون ثلاث سنوات. وإنّي ارغب بشدّة في رؤية جبال موطني ثانيةً في هذا العام الثالث. لقد أوضحت كلّ ما أراد جلالتك سماعه، وليس لديّ ما أقوله أكثر من ذلك. وسيكون من الأفضل لي أن أذهب الآن".
ولكن الخان قال له: انتظر قليلاً. يجب أن أفكّر في الهدايا التي سأقدّمها لك عند رحيلك". ثم قدّم له هديّة عبارة عن ثيران وخيول ونبيذ وفواكه نادرة، وأمر مستشاره علي شيان بمرافقة المعلّم في رحلة عودته إلى الشرق.
وأثناء سفرنا، بعث الأمراء وكبار الشخصيات والقادة وغيرهم في شمال الصين برسائل إلى المعلّم يدعونه فيها إلى زيارتهم. لكن المعلّم عبّر عن أسفه لعدم تمكّنه من إرضاء رغبات الجميع. ومرارا جاء مبعوث من جنكيز خان للاستفسار عن رحلة المعلّم وعن صحّته وما إلى ذلك.
وفي الشهر الأوّل من عام 1224، عاد المعلّم من رحلته الطويلة الى الغرب بعد غياب دام ثلاث سنوات، كما تنبّأ. وعند وصوله، أمر جنكيز بمنحه أرض حدائق القصر الشمالي لغرض إنشاء دير طاويّ هناك. وبُني هذا الدير على جزيرة ومُنع الناس من جمع الحطب من حديقة الجزيرة أو صيد الأسماك في البحيرة. كان المعلّم، الذي عاش هناك، يتجوّل أحيانا إلى قمّة التلّ ويستمتع بالمنظر الرائع للحدائق المحيطة.
وفي سنة 1227، أُبلغ المعلّم أن السدّ الجنوبي للبحيرة قد انهار بسبب الأمطار الغزيرة وأن السيل اندفع إلى البحيرة الشرقية وسُمع هديره من مسافة بعيدة. وبعد ذلك اختفت جميع الأسماك والسلاحف وجفّت البحيرة. واعتبر المعلّم ذلك إشارة لوفاته الوشيكة. وبالفعل توفّي في اليوم التاسع من الشهر السابع من ذلك العام.
وبعده بشهر واحد توفّي جنكيز خان. وفي وقت وفاة الخان، كانت الأراضي التي اجتاحها جيش المغول أكبر بأربع مرّات من الأراضي التي غزاها الإسكندر الأكبر وأكثر بمرّتين من مساحة الإمبراطورية الرومانية.

Credits
historyextra.com
kingsandgenerals.libsyn.com