الثلاثاء، أكتوبر 01، 2024

غابة الصَّنوبر


رسم هاسيغاوا توهاكو لوحته "أشجار الصنوبر" في أواخر القرن السادس عشر في اليابان باستخدام تقنية الرسم بالحبر الصيني، كي يعبّر من خلالها عن ثراء سمات الطبيعة في اليابان. واللوحة تُصنّف منذ عام 1952 ككنزٍ وطني ياباني. كما تُعتبر واحدة من أشهر الأعمال الفنّية في اليابان. وهي الآن من مقتنيات متحف طوكيو الوطني.
هذا العمل عبارة عن لوحة جانبية كبيرة مكوّنة من ستّة ألواح يبلغ ارتفاعها خمسة أقدام وعرضها أحد عشر قدما. وهي تصوّر غابة من أشجار الصنوبر يكتنفها الضباب، مع جبال ثلجية خافتة تلوح من مسافة. وعند رؤية اللوحة عن بعد، تبدو جذوع الأشجار كما لو أنها تتأرجح أو تؤدّي رقصة في الرياح بفعل الطبقة الثقيلة من الهواء الرطب البارد. التأرجح الإيقاعي للأشجار يقال أنه صدى لرقصة يابانية كلاسيكية كانت شائعة خلال فترة حياة الرسّام.
كان هاسيغاوا توهاكو تلميذا لسين ريكيو، أشهر معلّم شاي وممارس للزِن في اليابان وقتها. لذا فإن جماليات وتقنيات الزِن واضحة وملحوظة في تفاصيل اللوحة. كما أن حجمها الضخم وعناصرها البسيطة والحبر ذا اللون الواحد، كلّها عوامل تتضافر لخلق تأثير بصريّ درامي هادئ وتأمّلي. ومثل حفل الشاي الياباني، تُعزّز أشجار الصنوبر والزِن نموّ العقل والروح.
ويقال إن الرسّام توهاكو صوّر في "غابة الصنوبر" جزءا من مشهد كان قد رآه في مسقط رأسه في جزيرة نوتو، حيث يستخدم السكّان المحليّون أشجار الصنوبر لحماية أنفسهم من رياح البحر. ومع ذلك، فإن لفحات البرودة التي تنقلها اللوحة ليست تصويرا لمنظر من بلد بعيد، بل هي صورة تعبّر عن المشاعر الداخلية.
وهناك احتمال بأن يكون الفنّان استلهم في عمله لوحات سابقة، خاصّة تلك التي أبدعها الفنّان الصيني موكي في نهاية عهد أسرة سونغ الجنوبية. كان موكي راهبا بوذيّا عاش في القرن الثالث عشر ورسم مناظر طبيعية بمهارة لا تُضاهى. وكان يعرف فكرة الضباب المعتم الذي يلفّ الأشكال المحجوبة. لكن توهاكو طوّر الفكرة بأسلوب أكثر تحفّظا ودقّة.
وأشكال أشجار الصنوبر تعدّ عنصرا واحدا من المناظر الطبيعية الجبلية لموكي. لكن عبقرية توهاكو تكمن في انه أخذ نمطا فنّيا واحدا وحوّله الى موضوع رئيسي في لوحة كبيرة. وكان فنّانا ثوريّا بهذا المفهوم.
على الرغم من انطباعاتها الأوّلية البسيطة، تبدو "أشجار الصنوبر" معقّدة. كما أنها متقشّفة مقارنة بمعظم لوحات تلك الفترة عندما كانت خلفيات الصور تُصنع من رقائق الذهب. وعدم وجود الذهب فيها دفع بعض مؤرّخي الفن إلى التساؤل عمّا إذا كانت اللوحة رسما تمهيديا لنسخة نهائية مفقودة أو غير مكتشَفة. ومع ذلك، فإن افتقارها إلى الذهب قد يكون سبب تفرّدها وجاذبيّتها.
ومن الملاحظ أن الفنّان رسم مشهد الرياح والضوء باستخدام تدرّجات الحبر على ورق أبيض. وعند رؤية الصورة عن قرب، تتّضح أكثر ضربات الفرشاة القويّة المستخدمة لتجسيد إبر الصنوبر. وربّما استخدم الرسّام لتصوير الأشجار عدّة فُرَش متّصلة ببعضها البعض أو عصا خيزران ذات نهاية مشقوقة أو حزمة من قشّ الأرز. كما استخدم ألوانا بسيطة من الأبيض والأسود وتدرّجاتهما لتصوير غابة الصنوبر التي تلوح في الأفق وسط الضباب والندى.
قوّة الضوء المتباينة عبّر الرسّام عنها من خلال تدرّجات الحبر، ما أعطى لبستان الصنوبر الضبابيّ حياة. أيضا استخدم تقنيات وأجهزة بصرية مختلفة لتصوير المنظر، حيث يتسرّب ضوء خفيف من خلال الفجوات في الضباب، وتظهر الجبال المثلجة عن بعد، وينتشر الهواء البارد الرطب في عموم المشهد. أشجار الصنوبر المختفية في الضباب تبدو قويّة ومورقة، مع بقع حبر سميكة تخدش تيجان الأشجار. وبينما تتعرّج الأشجار إلى أسفل، يتغيّر لون الحبر تدريجيا طبقة بعد طبقة.


وبالإضافة الى تأثير الحبر اللامع، يبدو كما لو أن الناظر يشعر بالنسيم ويشمّ رائحة المطر في الهواء ويستشعر الشذى المنعش لأشجار الصنوبر. ويلاحَظ أن هناك كميّة كبيرة من المساحات البيضاء في الغابة. وبدلاً من رسم الأشجار، من الأفضل أن نقول إن ما رسمه الفنّان كان عبارة عن مساحة بيضاء وأنه ركّز على المساحات الفارغة بين الأشجار أكثر من تصويره الغابة نفسها. لذا يمكن القول إن موضوع اللوحة هو الضباب والمساحات الفارغة التي أبدع الفنّان خلقها بجهد كبير.
ومن خلال المساحات الفارغة الكبيرة وتصوير عمق المكان، أضاف الفنّان نكهة فلسفية للصورة ونقل عقل المشاهد إلى جانب آخر غامض منها. وتحوّلت اللوحة الى "مساحة إلهية يمكن لروح المشاهد أن تتجوّل فيها دون قيود"، بحسب كلام ناقدة يابانية.
الهواء الكثيف الذي ابتكره الرسّام بعناية في اللوحة يجعل الناظر يشعر كما لو أنه يطفو في الفضاء ويخطو وسط الضباب البارد. وهو يستخدم الضباب لاستحضار لحظة مستدامة من عالم وهمي صامت وخيالي ولجعل المتلقّي يستشعر الوحدة في هذا العالم. ويقول بعض النقّاد إن الطريقة التي ابتدعها الفنّان في رسم اللوحة وضعت الأساس لبناء إطار لوحات الحبر اليابانية اللاحقة، كما أسّست جوهر الجماليات اليابانية في الرسم.
ولد هاسيغاوا توهاكو في شبه جزيرة نوتو اليابانية عام 1539. وفي الثلاثينات من عمره، انتقل إلى العاصمة كيوتو وعمل على مجموعة واسعة من الموضوعات، من اللوحات الدينية إلى البورتريه إلى صور الطيور والأزهار.
الأعمال التي رسمها توهاكو حتى وفاته عن عمر يناهز 72 عاماً ما تزال تحتفظ بلونها وقوّتها وسحرها حتى اليوم. وقبل سنوات، وتخليدا للذكرى الـ 400 للرسّام، نُظّم في مسقط رأسه معرض استعاديّ كبير لأعماله التي تنقل نبض عصره والدراما الإنسانية التي رافقت إبداعه لتلك الأعمال.
في الثقافة اليابانية، غالبا ما ترمز أشجار الصنوبر إلى المرونة وطول العمر والهدوء والقدرة على التحمّل. كما أنها ترتبط بمعتقدات الشنتو وتمثّل الحياة الأبدية. وخلال فترة حكم الإيدو التي شهدت زيادة في شعبية لوحات المناظر الطبيعية، ظهرت أشجار الصنوبر بشكل متكرّر في المطبوعات الخشبية وفي أشكال أخرى من الفن.
ومن أشهر الفنّانين اليابانيين الذين رسموا الصنوبر هوكوساي الذي كثيرا ما كان يضمّن هذه الأشجار في مناظره الطبيعية ليرمز إلى جمال الطبيعة. وأيضا هناك هيروشيغي الذي صوّر أشجار الصنوبر في مواسم مختلفة، ملتقطاً جمالها والبيئة المتغيّرة المحيطة بها.
أما في ثقافات العالم الأخرى فقد ارتبطت أشجار الصنوبر بمعاني معيّنة كالخلود والرخاء. وكانت هذه الأشجار موضوعا مفضّلا في الرسم لعدّة قرون بسبب أشكالها المميّزة والعواطف التي تثيرها. وكثيرا ما تمثّل في الرسم لكونها رمزا للتحمّل والقوّة بالنظر الى نموّها في ظروف قاسية.
كما أن أشجار الصنوبر تثير مشاعر السلام والهدوء، ما يجعلها خيارا شائعا للوحات التي تصوّر المناظر الطبيعية. وقد رسمها فنّانون مثل كاسبار دافيد فريدريش وكلود مونيه وأندرو وايت وفنسنت فان غوخ وديفيد هوكني لنقل جمالها وسموّها في الطبيعة ولاستثارة الاستجابات العاطفية.

Credits
nhk.or.jp