الاثنين، مايو 05، 2025

أسفار الرومي/3


"بِعْ ذكائك واشترِ الحَيرة"!

كان شاعر الجيل السابق الذي تجنّبه العطّار هو عمر الخيّام الذي دُفن بجوار سور حديقة على بعد أميال قليلة من نيشابور، حيث تتناثر بتلات أشجار الكمّثرى والخوخ على قبره. وقد اشتهر الخيّام في حياته بأنه عالم رياضيات وفلك، كما كتب رباعيّات موجزة عن الحياة كمثل قوله: سواءً في نيشابور أو بابل، تستمرّ أوراق الحياة في التساقط واحدة تلو الأخرى". ومع ذلك، فإن رياح الشكّ والتشاؤم المنعشة في شعر عمر أزعجت العطّار "الصوفي".
كانت نيشابور تُعرف باسم "بوّابة الشرق". وبعد المرور عبر تلك البوّابة، تنقسم الطريق الى فرعين. كان المسافرون، مثل عائلة جلال الدين، قد اتخذوا طريق القوافل الشمالي بدلاً من طريق البريد الجنوبي. ويمرّ هذا الطريق بالرّي ويستمرّ إلى بغداد. وعلى طول الطريق، أفسحت الألحان الفارسية الطريق تدريجيّا لأغاني الحبّ العربية. وقد كتب الرومي عن حياة قضاها في التنقّل بين هاتين اللغتين قائلا: تحدّث بالفارسية، على الرغم من أن العربية أجمل".
شُيّدت بغداد كمدخل رئيسيّ إلى مكّة، وكانت المدينة مواجهة تقريبا للقبلة. وقد وصلت عائلة الرومي إلى بغداد في يناير عام 1218، وبذا فاتتها فرصة الاستمتاع بالعصر الذهبي للخلفاء العبّاسيين في بغداد. إذ كان بريق المدينة قد بلغ أوجه في عهد هارون الرشيد في القرن التاسع، وتجلّى ازدهار عاصمته ببذخ في "ألف ليلة وليلة".
أنشأ هارون بلاطاً على الطراز الإمبراطوري الفارسي وشجّع المشاريع الفكرية، حيث ترجم الرهبان النسطوريون النصوص العلمية اليونانية. ورُسمت حدائق قصره حول شجرة مصنوعة من الفضّة مع طيور آليّة مغرّدة، وخلفها امتدّت مدينة عالمية تضمّ ثلاثة جسور عائمة، مثبّتة بسلاسل حديدية على ضفّتي نهر دجلة، بالإضافة إلى آلاف من زوارق العبّارات ومنطقة مسيحية بها كنائس وأديرة وحدائق عامّة لسباق الخيل وحديقة للحيوانات البرّية بها طواويس هندية.
كان الخليفة الناصر يحكم منذ ما يقرب من أربعين عاما، ساعياً للحفاظ على أمجاد "بغداد هارون" ولكن دون قوّة عسكرية موحّدة. وظلّ الخليفة مقيّدا بشاه خوارزم من الشرق والأتراك السلاجقة من الغرب. ومع ذلك، كان يزرع حدائقه وينقل القصور من مدينة هارون الدائرية إلى الضفاف الشرقية لنهر دجلة. الشاعر الخاقاني، أثناء مروره ببغداد، أُغمي عليه عند رؤيته تلك الحدائق الرائعة وشبّه دجلة بدموع مريم العذراء.
كانت بغداد في العصور الوسطى متنوّعة ومتسامحة كثيرا، مع بعض القيود. فقد أصدر بعض الخلفاء مرسوما بأن ترتدي النساء غير المسلمات ملابس صفراء أو زرقاء وأحذية حمراء لتمييزهنّ. ومع ذلك، كانت الأحياء المسيحية من بين أكثر المناطق شعبيةً في بغداد، حيث كان الرهبان يُخمِّرون النبيذ ويوزِّعونه من أديرتهم. وقد كتب أحد المؤرّخين يقول: في يوم ممطر، يا لها من متعة أن تشرب الخمر مع كاهن!".
في وقت زيارة جلال الدين وعائلته لبغداد، كان الجغرافيّ ياقوت الحموي مفتونا بكنيسة نسطورية يونانية في حيّ دير الروم، وذكر أن حشودا من المسلمين كانوا يأتون في أيّام الأعياد "للتحديق في الشمامسة والرهبان الشباب بوجوههم الجميلة والاستمتاع بالرقص والشرب وصنع الملذّات". وباعتبارها مركزا للخلافة، ظلّت بغداد بالنسبة للرومي رمزا للعدالة والقوّة: بغدادك مليئة بالعدل وسمرقندك مليئة بالحلاوة".
أُعجب الرومي بـ"شمس العراق الحارقة"، وانضمّ دجلة والفرات منذ ذلك الحين إلى نهر جيحون العظيم على خريطة خياله. في ذلك الوقت، كانت بغداد مليئة بالخانقاه، أو النزُل الصوفية، التي غالبا ما بُنيت بجوار المقابر، وهي مناسبة للتوق إلى العالم الآخر. ومع ذلك، قيل إن والد الرومي اختار بدلاً من "نزُل" الإقامة في إحدى الكليّات.


ولو لم يكن بهاء الدين قد أقام في الكليّة النظامية، لكان على الأقل قد جال في هذه الجامعة الأعظم في العالم الإسلامي، التي أسّسها الوزير نظام الملك عام ١٠٦٥، قبل أكثر من قرن من تأسيس أكسفورد أو السوربون. كان هذا المعهد، المعروف أيضا باسم "أمّ المدارس"، يقع بالقرب من رصيف على ضفاف نهر دجلة بمحاذاة شارع سوق الثلاثاء الكبير شرق بغداد.
في النظامية، قبل ذلك الوقت بحوالي مائتي عام، أي في القرن الحادي عشر، ألقى العالم الشهير الغزالي محاضرات في قاعات كانت مكتظّة بمئات الطلاب لمدّة أربع سنوات، ثم عانى على ما يبدو من انهيار عصبي وغادر بغداد للتجوّل في صحاري الحجاز. وبدافع الشكّ، دخل في النهاية إلى محفل صوفيّ، حيث كتب أطروحته المؤثّرة عن "العلم الباطني". وفي حياته، وحياة الرومي أيضاً، كان كتابه "إحياء علوم الدين" من أكثر الكتب مبيعاً.
رغم أن بغداد كانت قد فقدت شيئا من رونق الخلافة عندما زارتها عائلة الرومي، إلا أنها كانت لا تزال مختبرا عظيما لتطوّر الصوفية، وهو ما كانته طوال القرون الأربعة السابقة.
كان العطّار قد جمع "سيَر الأولياء" وذكر مجموعة من القصص الشعبية عن الشخصيات المقدّسة، مثل قصّة رابعة، المرأة الصوفية من البصرة، التي قيل إنها عبرت الشوارع بمصباح في يد وإبريق ماء في اليد الأخرى "لإحراق الجنّة وإطفاء نيران جهنم"، حتى لا يُحبّ أحد الله لمجرّد الثواب أو العقاب. ورسَم العطّار أيضا صورة للجنيد، بائع الزجاج، الذي روّج لمدرسة رصينة في بغداد ونصح بالتحدّث بالرموز، ولنظيره بايزيد البسطامي الذي ألهم مدرسة للصوفية.
بالسفر إلى مكّة عام 1218، كان على عائلة الرومي مغادرة بغداد بحلول شهر فبراير على أبعد تقدير. كانت المرحلة الأولى من رحلتهم هي رحلة المائة ميل للانضمام إلى قوافل الحجّاج المغادرة من مدينة الكوفة المبنية من الطوب. واستغرقت القوافل المغادرة من الكوفة ما يقرب من شهر للوصول إلى مكّة. وكتب جلال الدين لاحقاً: الرجل الذي يسافر مع قافلة في ليلة مظلمة ملبّدة بالغيوم لا يعرف أين هو، أو إلى أيّ مدى سافر، أو ما مرّ به. وعند الفجر، يرى نتائج الرحلة، أي أنه سيصل إلى مكان ما. كذلك، من يعمل لمجد الله لا يهلك أبدا وإن أغمض عينيه".
ذكريات جلال الدين الأكثر قسوةً كانت عن المخاوف التي واجهها أثناء السفر الى مكّة. فقد تحدّث عن مسافرين تعرّضوا للهجوم في مكان ما، "فقاموا بتكديس بعض الحجارة فوق بعضها كعلامة، وكأنهم يقولون: هذا المكان خطير".
كان التهديد الأكبر يأتي من قبائل البدو التي كانت تهاجم القوافل. وقد شهد الجغرافي الاندلسي ابن جبير، الذي سافر إلى مكّة قبل عائلة الرومي بثلاثين عاما، حادثة دُهس فيها سبعة حجّاج حتى الموت أثناء تدافعهم على خزّان مياه يستخدمه الناس والإبل. وشبّه الرومي هذه المشاقّ بالجهود الروحية: تتجلّى عظمة الكعبة عندما يتحدّى الحجّاج قاطعي الطريق ويجوبون الصحراء الشاسعة".
وذكر ابن جبير أيضا أنه بين قمّتي الصفا والمروة، يوجد "سوق مليء بالفواكه" بحيث كان من الصعب أن يحرّر الحاجّ أو الزائر نفسه من الزحام الشديد". كما وصف سوقا آخر كبيرا بالقرب من الكعبة تُباع فيه سلع مثل الدقيق والعقيق والقمح واللؤلؤ".
كانت زيارة الكعبة فرضا يجمع الناس من مدن ومناخات عديدة في العالم. وكثيرا ما كان جلال الدين ينقل مكّة إلى المستوى الروحي دون أن يعلّق أبدا على تجربته الشخصية في الحجّ، حتى أنه أشفق على حاجّ فقير تائه في الصحراء المحيطة بقوله: يا من ذهبت للحجّ، أين أنت؟ ها هو الحبيب! ها هو ذا. أنت تائه في الصحراء". وتعكس بعض مشاعره المواقف التي ربّما تعلّمها من العطّار ومتصوّفة بغداد.