الثلاثاء، مايو 06، 2025

أسفار الرومي/4


"حيثما يوجد خراب، هناك أمل بالعثور على كنز".

باعتبارها ملتقى للحجّاج من جميع أنحاء العالم الإسلامي، كانت مكّة أيضا مركزا للأخبار والمعلومات، حيث كان الرومي وعائلته يتابعون آخر الاخبار من شهود العيان. وفي تلك السنة، أي 1218، كان الخبر العاجل في أوساط المسافرين من آسيا الوسطى يتعلّق بتهديد المغول. فمنذ رحيل عائلة الرومي من خراسان، ازدادت التوتّرات والهجمات بين جنكيز خان وشاه خوارزم. وكان مصير الحجّاج غير واضح وقرار العودة إلى المدن المهدّدة مثل بلخ أو سمرقند غير مؤكّد.
بعد مكّة، رحلت عائلة الرومي إلى دمشق واستغرقت الرحلة بأكملها حوالي شهرين. كانت دمشق وقتها غير مستقرّة أيضا وسوريا لا تزال متأرجحة بسبب الحروب الصليبية. وكان حاكم دمشق هو "المعظّم" الذي كان والده يقاتل في الحملة الصليبية الخامسة.
لم تدُم إقامة جلال الدين ووالده وعائلته طويلا في دمشق. وانتقلوا هذه المرّة من سوريا إلى الأناضول خلال صيف ذلك العام. كانت الأناضول في خيال المسلمين تمثّل الحدود الخارجية لحضارتهم وحدود روما المسيحية أو الروم. وكان مصطلح "رومي" يُستخدم أحيانا كمرادف للمسيحي.
وكان عدد المسلمين في الأناضول يُقدّر بنحو عشرة بالمائة فقط من السكّان. وكانت مالاطية، المدينة الواقعة قرب ملتقى نهر الفرات والتي نزلوا فيها في البداية حامية عسكرية ملحقة بحصن من القرن الثامن الميلادي، وتُمثّل أوّل ساحة دفاع ضدّ البيزنطيين تمتدّ حتى البحر المتوسّط.
وقد وصف ياقوت الحموي المدينة عندما حلّ فيها بأنها جزء من الأراضي اليونانية، إلا أن الأتراك السلاجقة كانوا على ما يبدو مسئولين عنها عندما أقامت عائلة جلال الدين فيها لفترة وجيزة. وأثناء وجوده في مالاطية، أجرى جلال الدين ثاني لقاءاته المشهورة مع رجال بارزين. كان يعيش في المدينة في ذلك الوقت الصوفيّ العربي المولود في إسبانيا ابن عربي، أعظم مفكّري عصره، وقد اتُّهمت آراؤه حول وحدة الوجود بأنها تحريف وثنيّ لعقيدة الإله المتعالي في الإسلام.
وعلى الرغم من أنه كان يُدرّس في دمشق، إلا أن إقامته في سوريا لم تكن مريحة له، فقضى الأعوام من ١٢١٦ إلى ١٢٢٠ في مالاطية. ويقال أنه رُتّب حوار بين والد جلال الدين وابن عربي. وقد أحضر الأبُ جلالَ الدين معه، وعندما غادرا، كان الصبيّ هو من لفت انتباه الصوفيّ العظيم. وعندما رأى ابن عربي الرومي الصغير يقتفي أثر والده في الشارع، علّق قائلا: سبحان الله! محيط يتبع بحيرة!".
كان بهرام شاه، أمير إرزينجان، وزوجته الأميرة عصمتي، أوّل راعيين لوالد جلال الدين في الأناضول. وكانت عاصمتهم تقع في الطرف الأعلى من وادي الفرات. كانت إرزينجان مدينة كبيرة يغلب عليها المسيحيون الأرمن. وغالبا ما أثارت مثل هذه المدن غضب المسلمين الزائرين الذين كانوا يعبّرون عن امتعاضهم من وفرة النبيذ ولحم الخنزير والمواكب الدينية فيها.
وعلى ما يبدو، استقرّ والد جلال الدين في شتاء عام ١٢١٨ في "العصمتيّة"؛ المدرسة التي سُمّيت تيمنّا براعيته الملكية، حيث كان يعطي دروسا عامّة مع لمسة من التصوّف. كان هذا الشاه الصغير، أي أمير إرزينجان، معتادا على رعاية الشخصيات الثقافية البارزة. وكان قد دعمَ في وقت سابق إنتاج قصيدة تعليمية طويلة بعنوان "كنز الأسرار" ألّفها الشاعر نظامي وكُتبت بأسلوب سنائي.
وكان شاعر البلاط الآذاري، أي نظامي، قد كتب أشهر قصّة رومانسية بعنوان "ليلى والمجنون"، وهي تنويع على حكاية عربية كلاسيكية ومشهورة عن الحبّ العذري. وقد ظلّ هذان الحبيبان، أي ليلى والمجنون، في خيال الرومي بمثابة عاشقيه المفضّلين، وقَدّس فيما بعد المجنون المتألّم باعتباره "شهيد الحبّ" الصوفيّ المثاليّ.


مرّ عام تقريبا منذ أن ذهب الرومي وعائلته إلى الحجّ في مكّة. وخلال هذا الوقت، كانوا يتطلّعون ويستمعون بقلق لآخر الأخبار عن الوضع في بلادهم. لم يكن أحد ينعم بالاستقرار حقّا في أيّ مكان. وكانت التقارير التي جلبها المسافرون قاتمة، وسرعان ما صرفت العائلة النظر عن أيّ خطط للعودة في نهاية المطاف، وبدا أن إقامتهم في الأناضول ستطول.
كانت منطقة خراسان، حيث ترك بهاء الدين وراءه والدته المسنّة وابنه وابنته الكبيرين، تسجّل نشاطا خطيرا أشعله حادث حدوديّ صغير. كان بعض من يأتون إلى أراضي شاه خوارزم يشترون الأقمشة ليكسوا أنفسهم. وقد منعهم الشاه وأمر بقتل تجّارهم. كما فرض عليهم الضرائب ومنع تجّاره من السفر إلى أراضيهم. وذهب التتار بتواضع الى ملكهم ليشتكوا له. فطلب الملك عشرة أيّام للنظر في الأمر، ودخل كهفا عميقا في الجبال، حيث صام لأيّام عشرة وتضرّع وصلّى. وجاءته صرخة من الله: لقد سمعت دعاءكم! ستُنصرون أينما ذهبتم!".
كان جنكيز خان ينظر إلى خوارزم باعتبارها شريكا تجاريّا مربحا، وقد أرسل سفراءه للتفاوض على اتفاقية تجارية وتبعتهم قافلة من 450 تاجرا تحمل سلعا فاخرة. وبينما كانت القافلة تعبر إلى كازاخستان، شمال المنزل الذي شهد طفولة جلال الدين، استولى حاكمها، وهو قريب لشاه خوارزم، على البضائع وقتل التجّار باعتبارهم جواسيس.
أرسل جنكيز خان مبعوثين للمطالبة بالاقتصاص من القتلة. لكن بدلا من ذلك، قطع شاه خوارزم رأس أحد المبعوثين وأعاد الآخرين وقد حلق لحاهم بشكل مهين. وتأكيدا لرواية جلال الدين، ذكر المؤرّخ الفارسي عطاء الله الجويني الذي عاصر تلك الأحداث أن جنكيز خان صعد قمّة جبل للصلاة ونزل "مستعدّا للحرب". واستمرّ الغزو العقابي الذي تلا ذلك أربع سنوات، حتى عاد جنكيز خان إلى وطنه منغوليا، تاركا وراءه المدن الكبرى التي عرفها جلال الدين في صباه، بخارى وسمرقند وبلخ وهيرات ومرو ونيشابور، وقد تحوّلت الى أنقاض.
ويصف الجويني نزول القوات المغولية في بخارى بقوله: أُخذ جميع الناس، رجالا ونساء، وطُردوا إلى السهل ثم قُتلوا جميعا ولم يُستثنَ منهم أحد". وفي بلخ، حيث كان بعض أفراد من عائلة بهاء الدين ما يزالون يعيشون، هُدمت جميع التحصينات والجدران، وكذلك القصور. وتكرّرت حقول القتل في تِرمذ. كانت الوحوش البرّية تتغذّى على الجثث، والأسود تتزاوج مع الذئاب دون صراع، والنسور تأكل دون شجار مع الجوارح الأخرى".
يمكننا أن نتخيّل الرومي وهو يسافر عبر مناظر طبيعية مهيبة من صحاري وجبال ومروج وغابات، مستنشقا عبير الزهور البريّة، ومتأمّلا السماء المرصّعة بالنجوم، ومستيقظا على أصوات الطيور، ومتجوّلا في حدائق الورود وبساتين السرو والخوخ وأسواق التوابل العطرية، وكلّ هذه العناصر وجدت طريقها إلى شعره.
بأذن، كان يسمع حكايات شعبية وقصائد ونصوصا مقدّسة وأحاديث قافلة مفعمة بالحيوية. وبالأخرى، يسمع أخبار الفظائع والرعب الذي اجتاح البلاد مع غزو جيوش جنكيز خان للمدن وذبْح سكّانها وتركها أطلالا مشتعلة.
وكانت معاناة نيشابور أشدّ من جميع المدن الأخرى في ذلك الانتقام الدموي. فقد انطلق سهم من وراء أسوار المدينة المحاصرة متسبّبا في مقتل توكوشار صهر جنكيز خان. وسمح الفاتح لابنته الأرملة والحامل بالانتقام. وفي أبريل 1221، قضت بالموت على الجميع، بمن فيهم الكلاب والقطط وأيّ حيوان حيّ، وأمرت بتكديس الجماجم على شكل ثلاثة أهرامات، للرجال والنساء والأطفال.
وذكرت بعض الروايات أن العطّار كان من بين القتلى، وهو مصير محزن لشاعر اتّسم بالرقّة ووُصف بأنه "صوت الألم". وطوال السنوات الثلاث التي سبقت الغزو المغولي، كان الجغرافي ياقوت الحموي يقيم سعيدا في مرو متنقّلا بين مكتباتها العديدة. وقد كتب: لولا المغول لبقيتُ ولعشتُ ومتُّ هناك، لكن بالكاد استطعت الفرار".