الأربعاء، مايو 07، 2025

أسفار الرومي/5


"لم تُخلق لتزحف في هذه الحياة. لديك أجنحة، تعلّم استخدامها وحلّق."

في رسالة كتبها بعد هروبه بفترة وجيزة، رثى ياقوت بأسلوب مفعم بالعاطفة القصورَ والبيوت التي رآها وهي تُمحى من على وجه الأرض "كما تُمحى أسطر الكتابة من الورق، وتصبح مسكنا للبوم والغربان".
لكن بينما كان جنكيز خان يؤسّس دولته الوحشية في آسيا الوسطى، كانت الممارسات الصوفية التي أحياها المهاجرون الخراسانيون، بمن فيهم بهاء الدين وعائلته، تقوى وتتجذّر. وأصبحت المحافل الصوفية مراكز ثقافية للتهذيب، حيث قدّم الشيوخ رسائل الأمل والتعالي والصداقة والحبّ، بالإضافة إلى الحفلات الموسيقية والشعر والرقص. الباحثة الألمانية آن ماري شيمل لخّصت ذلك التباين بقولها: شهدت تلك الفترة أفظع كارثة سياسية، وفي الوقت نفسه أعلى مستويات النشاط الديني والصوفي".
وقد تعاملَ الرومي الأب مع الاضطرابات الناجمة عن غزو المغول، إمّا متجاهلا، أو متألّما بسبب المعاناة التي جلبها لعائلته ومجتمعه. وصاغ القضية بشكل أكثر وضوحا لدائرته من المهاجرين من خراسان بقوله: إذا كنتم خائفين من التتار فأنتم لا تؤمنون بالله".
ولعلّه أدرك العناية والحكمة الإلهية فيما حدث، ونقل إلى ابنه هذا الفهم للأحداث المأساوية. ولم يكن اختياره لمكانه في آسيا الصغرى صدفة، فقد تنقّل واعظا متجوّلا من مدينة إلى أخرى، ومن راع إلى راع، مقتربا دائما من قونية؛ عاصمة سلطنة الروم السلجوقية التي كان يحكمها السلطان علاء الدين كيقباد الأوّل، والتي ربّما زارها لأوّل مرّة في وقت مبكّر من عام 1221. وبالطبع، سمح توقيت هذه الهجرة في أواخر حياته لعائلته بالنجاة من الإعدام المحتمل على يد فاتح العالم المعروف آنذاك. وقد أمضى جلال الدين وعائلته السنوات السبع التالية في وسط الأناضول قبل أن يصلوا أخيرا إلى قونية.
وبحلول ذلك الوقت، لم يكن جلال الدين قد شهد فقط عددا كثيرا من الأسفار، بل عايشَ أيضا مراحل الحياة، مع وفاة والدته وشقيقه الأكبر وزواجه من صديقة طفولته ثم ولادة ابنيه. وسيكتشف في الولادة والتحوّلات المستمرّة لدورة الحياة استعارته المفضّلة عن الحياة الداخلية: مثل طفل في الرحم يتغذّى بالدم، يولد الجميع مرّة واحدة، ولقد ولدت مرّات عديدة".
كانت قونية، حتى في هندستها، أقرب إلى مدن آسيا الوسطى منها إلى مدن آسيا الصغرى. كانت المنازل تمتدّ بين الأسواق وحدائق الزهور، بينما اصطفّت على جانبي الشوارع والأزقّة جداول من الطين المحروق تتدفّق منها المياه، وحُفرت نوافير في جدران المباني العامّة في أحواض مقوّسة الشكل. وكانت الحمّامات العامّة تقع في الوسط، مع أقسام للرجال والنساء.
بعد أن استعان السلطان كيقباد بالأساطير الفارسية لتعزيز مكانته في قونية، ابتكر لنفسه نسَباً مميّزا يختلف عن أسلافه الأتراك الرحّل. ومثل أخيه ووالده، أخذ السلطان اسمه الملكي من الملوك الخياليين العظماء في الملحمة المسمّاة بـ الشاهنامه أو كتاب الملوك. وبالمثل، نقشَ السلطان على أبراج المدخلين الرئيسيين لقلعة قونية رسوما لشخصيات واقتباسات من الملحمة كُتبت بأحرف من ذهب. وفي جميع أنحاء القصور، وُضعت تماثيل لتنّين يرمز لمحارب تركي وصفه الفردوسي في قصيدته بأنه "تنّين خطير أنفاسه من نار!".
كما بنى السلطان خاناً أسماه "خان السلطان" عام 1229. كان الخان مخصّصا للمسافرين على الطريق من قيصري إلى قونية، في منطقة من أراضي الأناضول المُعشبة والمسطّحة التي لا تتخلّلها سوى كتل من الجبال تشبه إلى حدّ كبير سهوب آسيا الوسطى.


وفي بعض الممرّات الأخرى التي تؤدّي الى المدينة، تُفسح حقول القطن والذرة الطريق لحدائق البرقوق الأصفر، أو مشمش قونية الشهير. وفي الصباحات التي تعقب العواصف الرعدية، تتفتّح المزيد من الورود وتتناثر الخضرة وينتشر عطر أشجار التوت في كلّ مكان. كان الربيع هو الفصل المفضّل في قصائد الرومي، وغالبا ما تكون صوره الربيعية الأناضولية واضحة: حديقة الورود والريحان الشذيّ وظلال الفاوانيا التي تشبه سريرا بنفسجيّا بين التراب".
كانت آسيا الصغرى منفصلة عن البرّ الرئيسي العربي ومعظم سكّانها من المسيحيين اليونانيين والأرمن، لذا سُمح للإسلام بالتطوّر في ظلّ هؤلاء السلاجقة بطريقة أكثر انسجاما مع عالمية ابن عربي. وكان سلاطين السلاجقة يؤمنون بأن أدعية الشيوخ الكبار، من أمثال بهاء الدين، تجلب الرخاء والاستقرار للبلاد.
في صباح أحد أيّام فبراير عام 1231، وعن عمر يناهز الثمانين، توفّي بهاء الدين، بعد أن قاد عائلته آلاف الأميال ونجا معهم من الفناء المحتمل. وقد تبرّع كيقباد الأوّل بأرض في حدائق الورود الخاصّة به كي يُدفن فيها. كانت صحّة بهاء الدين قد بدأت بالتدهور وفقدَ معظم أسنانه وصار صوته مرتجفا. وكان يستقبل أتباعه في منزله ويقول لهم: انتظروا حتى أموت وسترون كيف سيحلّ ابني جلال الدين مكاني ويصبح أعلى شأنا منّي".
ذات يوم، انتهى الى علم جلال الدين أن معلّمه برهان الذي لم يرَه منذ 15 عاما، قد وصل الى قونيه. كان توقيت ظهوره غريبا. وقد عزا برهان سبب مجيئه إلى حثّ بهاء الدين له في المنام. وبلكنته وسلوكه الخراساني، كان يحمل معه أصداء عوالم سمرقند وبلخ المنقرضة. كان برهان يسعى دائما إلى نقل أفكار باطنية يصفها بـ"الأسرار"، وتحْمِل في جوهرها فهما للألوهية كوجود في كلّ شخص. لكن تلك الأفكار لم يكن سهلا التعبير عنها، وكان التصريح بها ينطوي على مخاطر، إذ بدا أنها تتجاوز الخطّ الفاصل بين الإنسان والإله.
كان برهان يستخدم صورا صوفية مألوفة في أحاديثه، مثل اكتشاف لؤلؤة أو انعكاس الضوء في المرآة أو الاحتراق مثل فراشة في اللهب. وكان يقول لطلّابه ومنهم جلال الدين: إن كنت لا تعرف نفسك، فإن كلّ العلوم والمعرفة التي تمتلكها لا طائل من ورائها".
ولم تكن مثل هذه الرسائل عن معرفة الذات غريبة على سكّان الأناضول من اليونانيين. ومنذ شعار "إعرف نفسك" المنقوش على معبد أبوللو في دلفي، ارتبطت المعرفة عند الإغريق القدماء بالدين. وكان الفكر الأفلاطوني المحدث، الذي يؤكّد على المعرفة كمسار صوفيّ، حيّاً في منطقة الأناضول. كان أفلاطون شخصية ساحرة يعامله كلّ من الإغريق والأتراك كقدّيس. وقريباً من قونية، يتدفّق "نبع أفلاطون" حيث يُعتقد أنه عاش. ويزعم البعض أنه مدفون في كنيسة القلعة.
في أحد الأيّام، انتشر الخبر عن وفاة برهان. وفي وقت وفاته تقريبا، توفّيت "جوهر"، زوجة الرومي، في ظروف غامضة ودون أيّ سبب معروف. ومرّة أخرى، عانى الرومي من فقدان رابط وثيق بطفولته في آسيا الوسطى، والأهم من ذلك أن جوهر كانت والدة ابنيه. وقد تزوّج الرومي بعد ذلك بوقت قصير من أرملة تُدعى "كيرا" وتنتمي الى عائلة رومانية تركية في قونية. وكان زوجها السابق متحدّثا أرستقراطيا من إيران. وعلى مدى السنوات القليلة التالية، رُزق الرومي وكيرا بابنهما مظفّر الدين وابنتهما ملكة.
كانت كيرا أكثر وضوحا في الذاكرة من جوهر، حيث لم يكن زواجهما مرتّبا، وعاشت مع الرومي خلال فترة شهرته المتزايدة. وعلى الرغم من أنه لم يكتب عنها أبدا، فقد تذكّرها أولئك الموجودون في دائرته الداخلية، وكانت المرأة فيما بعد مصدرا لبعض الحكايات الأكثر سحرا وخيالا عن زوجها. كان اختيارها مغادرة الأسرة الأرستقراطية لزوجها المتوفّى والزواج من رجل دين يشير إلى ميول روحية. وكانت بالتأكيد تؤمن بالخرافات والجنّ والأرواح الشرّيرة غير المرئية.
كثيرا ما كان الرومي يقع في فخّ التصنيف التقليدي للرجال على أنهم أقوياء وعقلانيون، بينما النساء متقلّبات وعاطفيات. وقد صوّر الزوجات ذات مرّة على أنهنّ اختبارات تطهيرية لفظاظة أزواجهن، فقد "أرانا الله طريقا ضيّقا وخفيّا لتهذيب أنفسنا، وهو طريق الزواج من النساء وتحمّل ظلمهن والاستماع إلى شكاواهن وتركهن يُصدرن الأوامر لنا".
لكن في حالات أخرى، كان الرومي أكثر تعاطفاً، كما في قصيدته في المثنوي الموجّهة للنساء: المرأة شعاع من الله، سماويّ ومحبوب. إنها خالقة ومخلوقة". وكان أيضا ضدّ فرض الحجاب وكان العديد من تلاميذه من النساء، وقد انتُقد لحضوره اجتماعاتهنّ المسائية في إحدى الحدائق.