ذات يوم، كان پيكاسو يرسم على منديل في مقهى في پاريس. وكان من عادته أن يرسم أيّ شيء كي يسلّي نفسه في مثل تلك اللحظات. وكانت هناك امرأة تجلس بالقرب منه وتنظر الى ما يفعله بترقّب بعد أن عرفته. وبعد لحظات قليلة، أنهى بيكاسو قهوته ثم طوى المنديل الذي كان يرسم عليه بينما كان يهمّ بمغادرة المكان.
لكن المرأة استوقفته وقالت له: هل يمكنني الحصول على هذا المنديل الذي كنت ترسم عليه للتوّ؟ سأدفع لك ثمنه". وطلب پيكاسو من المرأة مليون فرنك مقابل المنديل المرسوم. غير أنها صُدمت من هذا المبلغ الباهظ لأنه لم يَلزمه أكثر من بضع دقائق من الرسم. وبدا لها أن قيمة تلك الصورة مبالغ فيها ولا تتناسب مع الوقت الذي استغرقته.
لكن پيكاسو ردّ بعبارة أصبحت شهادة دائمة على رحلته الفنّية وعلى إتقانه، عندما قال للمرأة: يا عزيزتي! لقد استغرق الأمر منّي عمرا كاملا حتى أتمكّن من رسم هذا الاسكتش البسيط". ثم وضع المنديل في جيبه وغادر المقهى.
وبتلك العبارة البسيطة والعميقة، جسّد بيكاسو جوهر تطوّره الفنّي. فهو لم يكن يطلب مجرّد مكافأة على الرسم على منديل، بل كان يطلب تقديرا لسنواته وممارسته ومنظوره ومسيرته الإبداعية وتجاربه وآلاف الإخفاقات الصغيرة ومثابرته التي مكّنته من امتلاك المهارة اللازمة لإبداع تلك التحفة الفنّية الصغيرة في دقائق معدودة.
طبعا لا يُعرف إن كانت هذه القصّة حقيقية أم لا. لكنها ليست بعيدة تماما عن الروايات التي قدّمها أولئك الذين عرفوا هذا الفنّان عن قرب. فقد كان شخصا استعراضيا وكوميديّا راقيا. وكان يستمتع بردود الفعل التي كان يثيرها حضوره في أيّ مكان. كما كان معروفا أيضا بتوزيع بعض رسوماته البسيطة على عمّال وعاملات المقاهي ممّن يستحقّونها.
هذه القصّة توفّر أكثر من مجرّد حكاية ساحرة، فهي تقدّم درسا قيّما في إدراك القيمة الفنّية للعمل والفنّان. وردُّ پيكاسو يوضح أن الإتقان الحقيقي لا يكمن في الوقت اللازم لإبداع شيء ما أو الجهد المبذول لإنجازه، بل في محصّلة حياة كاملة من التعلّم والنموّ والخبرة والتجربة والشغف والسعي الدؤوب نحو التميّز والتجاوز.
ولم يكن طلب پيكاسو لذلك المبلغ الكبير تعبيرا عن الغطرسة أو الجشع، بل كان بمثابة تذكير بأن الخبرة تُبنى على ساعات وأشهر وسنوات لا حصر لها من الممارسة والدراسة والتحسين المستمرّ لمهارات الفرد.
ظلّ پيكاسو ينتج فنّا طوال حياته وعاش حتى التسعينات من عمره، واستمرّ في الإنتاج حتى أيّامه الأخيرة. ولو كان هدفه الشهرة أو جني ثروة طائلة في عالم الفن، لكان قد تجمّد في مرحلة ما من رحلته ولسيطرَ عليه القلق أو شكّ في نفسه. وسبب نجاحه الكبير هو نفس السبب الذي جعله يكتفي في شيخوخته برسم صور بسيطة على المناديل أثناء احتسائه القهوة بمفرده.
إننا كثيرا ما نقلّل من قيمة ما نقدّمه لأننا نعتقد أنه أمر مألوف أو أنه بسيط أو سهل. لكن الحقيقة هي أننا اكتسبنا، على مدى زمن طويل، المهارات والمعرفة والخبرة اللازمة لجعله بسيطا أو سهلا. لذا تذكّر ألا تستهين بتجاربك ومعرفتك التي راكمتها على مرّ السنين وألا تقلّل أبدا من قيمة ما تفعله.