الأحد، سبتمبر 17، 2023

محطّات


  • بينما كانت أحزانه تتعمّق وأفكاره الانتحارية تزداد سوءاً، رسم فنسنت فان غوخ شجرة السرو هذه قبل أشهر من انتحاره. وفي ما بين عامي 1888 و 1890، أي خلال الفترة الأخيرة من حياته، ركّز على رسم هذه الأشجار التي يُنظر اليها كرمز للموت، ولطالما ارتبطت منذ القدم بالمقابر وبرهبة ما بعد الحياة ووفّرت موضوعا خصبا للفنّانين والشعراء.
    واعترافا بأشجار السرو التي رسمها فان جوخ واعتبارها رموزا مهمّة في الأعمال الفنّية، قام شاعر القرن التاسع عشر الفرنسي غابرييل أورييه بوضعها في سياق الدافع المجازيّ للرسم الرمزيّ. وصاغ أورييه ردّا وصفيّا بديعا على صور فان غوخ يقول فيه: هذه الأشجار ملتوية مثل عمالقة في معركة، كما أن ارتفاعها مأساوي وقوّتها لا تُقهر وتتحدّى الأعاصير والبرق والطبيعة الخبيثة الى الأبد."
    كان أورييه قريبا من فان غوخ، وقد ساعده على إدراك الرمزية المحتجبة والمروّعة لهذه الأشجار.
    والعديد من اللوحات التي تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر تقدّم شجر السرو كرمز للمرض والموت. الأشجار التي رسمها أرنولد بوكلين في لوحته المشهورة "جزيرة الموتى"، على سبيل المثال، لا تترك سوى القليل للخيال.
    وإلى أن رسم فان غوخ لوحته "ليلة مرصّعة بالنجوم"، كانت أشجار السرو تؤدّي أدوارا صغيرة. وعندما رسمها، وضعها في الخلفية وبعيدا عن الجوانب. وهذه هي الطريقة التي تُزرع بها. كانت هذه الأشجار تقف سدّاً منيعاً يحمي الحقول والحدائق ويحرس الأرياف من خطر رياح الشمال العاتية.
    رسم فان غوخ أشجار السرو في لوحته الآنفة الذكر في يونيو من عام 1889، وتظهر ثابتة وواقية وتلامس السماء. وكأعمدة رأسية، كانت ندّاً رائعا للسحب الرشيقة. في رسالة إلى شقيقه ثيو، قال الفنّان إن أشجار السرو جميلة من حيث الخطوط والنسَب، مثل المسلّة المصرية".
    لكن فان غوخ أصرّ على جعل أشجار السرو وسيلة للتفرّد الفنّي. لوحته أشجار السرو (يونيو 1889) تجسّد نهجه الفريد هذا، إذ رسم الشجرة كما لو انها عامود دخان متجمّد يلتفّ لأعلى بضربات ملتوية من فرشاة الرسم، وباستخدام نفس الأسلوب الذي رسم به تدفّق وميض السحب والحقول المحيطة. كان الأسلوب نتاج مشاعر فان غوخ العميقة تجاه الطبيعة، حيث الطاقات الكامنة في هذه الأشجار تتفاعل مع بعضها البعض وتتّحد في نشوة مع ديناميكية الرياح والتلال والقمر.
    كتب فان غوخ لأخيه ثيو عن الانطباع الذي يثيره فيه مرأى أشجار السرو التي كانت تحيط به، فقال إنها البقعة المظلمة في منظر طبيعيّ مشمس". والظلام الذي أدركه فان غوخ يعكس الروابط التقليدية لأشجار السرو بالموت والخلود، وهي مفاهيم مهمّة لفنّان يبحث عن اليقين وسط تقلّبات الحياة.
    وغالباً ما كانت هذه الأشجار تُزرع في المقابر وتُستخدم أخشابها في صنع التوابيت. وفي الكتابات الكلاسيكية لمؤلّفين مثل أوفيد وهوراس، يرد ذكر هذه الأشجار في سياق الثكل والفجيعة. واستمرّت هذه الارتباطات على مرّ القرون، وعادت إلى الظهور في مسرحيات شكسبير وروايات فيكتور هوغو، وهما المؤلّفان اللذان عرفهما فان غوخ وأعجب بكتاباتهما.
    وكان يقدّر أن هذه الأشجار عمرها قرن وأكثر، وبالتأكيد كان يعرف ارتباطها بالولادة الجديدة والخلود والموت. ومنذ البداية، ربطها بالنجوم والقمح، وهذان كانا من بين استعاراته المجرّبة والصحيحة عن الخلود ودورات الحياة الأبدية.

  • يروي شمس التبريزي القصّة التالية عن نفسه:
    اعتُبرتُ دائما شخصا غير كفؤ منذ طفولتي. ويبدو أن لا أحد كان يفهمني. قال لي والدي ذات مرّة: لستَ مجنونا بما يكفي لنضعك في مستشفى المجانين، ولست منعزلا بما يكفي لنضعك في صومعة. ولا أعرف ماذا أفعل معك."
    فحكيت له قصّة، قلت: ذات يوم وُضِعت بيضة بطّ تحت دجاجة. وبعد أن فقست البيضة، خرج فرخ البطّ يتجوّل مع الدجاجة الأمّ حتى وصلا إلى البركة. ذهب فرخ البطّ مباشرة إلى الماء وغمر نفسه فيه. وبقيت الدجاجة تنقر بفارغ الصبر على الأرض. والآن يا أبي العزيز، لقد مشيتُ إلى المحيط ووجدت فيه منزلي، ولا يمكنك إلقاء اللوم عليّ إذا اخترتَ أنت البقاء على الشاطئ".
    الدرس المستفاد من هذه القصّة: هل ترقى إلى مستوى إمكاناتك، أم تعيش حياة متواضعة بلا أحلام ولا طموحات؟ هل ترضى بمجرّد البقاء على الشاطئ، أم أنك جريء بما يكفي للمخاطرة بدخول الماء وخوض تحدّيات الحياة الكثيرة؟


  • على مدى قرون، استمرّ الفنّانون في تجاوز حدود الواقع ليقدّموا للمتلقّي أعمالاً فنّية مذهلة. وكانت تقنيات مثل الخداع البصري trompe l’oeil مفتاحاً لهذه الجهود، من الحيوانات العملاقة المرسومة على الأرصفة أو الجدران باستخدام المنظور، إلى الرسومات المثبّتة على ألواح وما إلى ذلك.
    وكلّما أتقن الفنّانون الاساليب القديمة وطوّروها، فإن فكرة الخداع البصري ستستمرّ في إثارة إعجاب الجماهير وتجعلنا جميعا نتساءل عمّا هو حقيقي وعن ماهيّة الصورة المرسومة على سطح مستوٍ.
    رسّام فنّ الشوارع الهولندي يان دي مان ومواطنه فنّان الغرافيتي دير فيد أخذا جدارا عاديّا في أوتريخت، وقاما بتحويله إلى ثلاثة أرفف من الكتب التي تبدو أكبر مما هي عليه في الواقع.
    من مسافة جيّدة، يبدو المنظر حقيقيّا. ومع ذلك، فما نراه ليس سوى مثال على الخداع البصري. وما نظنّ أنه كتب وأرفف ما هي الا جدار مسطّح ومحكم الإغلاق. أي اننا ننظر إلى ملصق، صورة، تحاكي جدارا به فجوات وكتب غير حقيقية.
    لو رأى أفلاطون هذا المنظر لانتقده لمحاولته خداعنا بدفعنا للاعتقاد بأن في الجدار كتبا حقيقية، ولربّما اتهم المصمّم بمحاولة إعطائنا معرفة زائفة تختلف عن الوجود الحقيقي للشيء.

  • بدأ المعلّم الحكيم الذي لم يبقَ على تقاعده سوى أشهر يومه بطرح سؤال على طلاب صفّه. قال: هذا اختبار لكلّ منكم. بينما انت نائم، حلمت بنمر ضخم يطاردك. وإذ تحاول الهرب، ترى نمرا آخر قادما إليك من الأمام. تلتفت إلى هذا الجانب وذاك، لكن أينما نظرت ترى حيوانا شرسا يتبعك. كيف يمكنك الهروب والنجاة بنفسك من هذا الخطر؟"
    وصمت جميع الطلبة ولم يجد أيّ منهم ردّاً مناسبا.
    وأخيراً قال المعلّم: هناك إجابة واحدة فقط: إستيقظ!"
    هذه القصّة تتعلّق كلّها بالاستيقاظ. عندما يستيقظ المرء، يدخل إلى عالم من الواقع جديد تماما، ومختلف عن عالم الأحلام. وما كان يمثّل مشكلة كبيرة في حالة الحلم، غالبا ما يصبح أمرا عاديّا في حالة اليقظة.
    ومعظم الناس، رغم أنهم لا يعرفون ذلك، نائمون. يولدون نياماً، ويعيشون نياماً، ويتزوّجون أثناء نومهم، وينجبون أطفالا أثناء نومهم، ويموتون أثناء نومهم دون أن يستيقظوا أبدا. إنهم لا يفهمون مطلقا روعة وجمال هذا الشيء المسمّى بالوجود الإنساني.
    المفارقة الغريبة أنه رغم أن كلّ شيء في هذا العالم في حال من الفوضى والتشوّش الذي يفضي الى الخوف من المستقبل، إلا أن كلّ شيء مقدّر بحساب، وما يبدو سيّئا للإنسان قد يكون له جانبه الحسن في سياق خطّة الله الشاملة للكون. لكن من المؤسف أن معظم الناس لا يتمكّنون من رؤية هذه الحقيقة لأنهم نائمون.

  • Credits
    vangoghmuseum.nl