وفي أحلام الإنسان الغربيّ المحبّة للخراب، فإن اليونان وإيطاليا هما اللتان مجّدتا دائما تلك الأحلام الحزينة التي تنظر إلى الوراء، ربّما لأن حضارة الغرب نشأت ونمت هناك حيث مجدُ العالم. هناك وُجد سقراط وأفلاطون وطروادة وأثينا والجزر واليونان العظيمة.
كلّنا نحبّ الآثار، تقول ماكولي، رغم أننا لا نعرف السبب بالتحديد، لكن ربّما لأننا نحبّ أن نتخيّل كفاح الناس الذين ماتوا منذ زمن طويل والذين قاتلوا مثلنا أيضا وفازوا وخسروا وأحبّوا وكرهوا وكانوا يتوقون إلى السلام أو المعنى، تماما كما نفعل نحن.
اللامعنى هو الخوف الأكبر بالنسبة لمن يحبّون الآثار. فنحن لا نخشى الموت، فهو سيأتي إلينا جميعاً. ولا نخشى القتال، بل في الواقع نتصالح معه إن فُرض علينا. ما نخشاه حقّا هو أنه لن يتمكّن أحد من السير على أنقاض حياتنا التي قضيناها هنا على الأرض، أن لا يكون هناك شيء، أن لا يوجد شاهد يقول "كنت هنا".
وتتساءل الكاتبة: ما الذي يجذب آلاف السيّاح كلّ عام إلى المكسيك ومصر واليونان وأماكن أخرى من العالم، ممّن يتجشّمون عناء السفر لمسافات بعيدة، فقط ليلقوا نظرة على أكوام من الحجارة المدمّرة لبقايا حضارات كانت ساحرة في الماضي ولكنها اندثرت وتلاشت اليوم؟
ثم تأخذ القارئ في رحلة ماراثونية عبر القارّات وعلى مرّ القرون من خلال الآثار الرائعة للمدن والقصور في أوروبّا وفي الشرق وفي شمال أفريقيا المغمورة بالرمال وفي المكسيك وغابات بيرو. كما تتأمّل كيف كانت الحياة قبل سقوط المدن وتعيد خلق الأشخاص الذين بنوا ودمّروا هذه الحضارات المجيدة وما الذي تعنيه آثارها للآخرين.
وتتناول الكاتبة الجوانب الأثرية والمعمارية للمواقع، بالإضافة إلى ارتباطاتها الأدبية. وتتساءل: ما هذا الإغراء الغامض الذي يستثيره الخراب في نفس الانسان؟ وتجيب: لعلّ شهوة الهدم هي السائدة في كلّ البشر، إنه ليس مجرّد حنين إلى الماضي، ولكنّه أيضا تذكير صارخ بمرور الزمن والنهاية الحتمية لكلّ الأشياء.
الآثار دائما في حالة حركة وتخضع للتغيير، وهي ممزّقة إلى الأبد بين البقاء والاندثار. كما أنها كيانات محافظة للغاية، ونحن نحبّها لأنها كذلك. لذا لا نريد أن يُعاد بناء قلاعنا القديمة لتصبح أوكارا للظلم الحديث. ولا نريد إعادة تسقيف معابد العصور الوسطى القديمة وتحويلها إلى حانات أو مطاعم أنيقة لإنسان العصر الحديث. نريد لتلك الاثار أن تظلّ قديمة وصدئة تحت الشمس، ونريد لأشباحها أن تبقى كي تحكي لنا عن القرون الخوالي عندما كان الناس يناضلون كما نناضل اليوم، وعندما كانوا يؤدّون أعمالهم بأيديهم وظهورهم وعقولهم قبل أن تجرف الثلوج والأمطار أسماءهم.
الآثار تذكّرنا بالمعارك الهائلة التي جرت في الماضي. لكننا لا نريد تلك الآثار التي لا تزال تفوح منها رائحة الدم والشعر. نريدها عندما يمنحها الزمن إحساسا بالحنين والحتمية وتصبح نظيفة ومعقّمة. كما لا نريد إعادة بنائها، أي تجريدها من الفوضى الخلابة التي تُفقدها قوّتها الشعرية وقدرتها على الاستفزاز.
و"ما" مليء باللاشيء، عدا الإمكانية. إنه يتحدّث عن الصمت مقابل الصوت، وعن السكون كضدّ للحركة. وهو التوقّف اللحظيّ في الكلام اللازم لنقل كلمات ذات معنى والصمت بين النوتات التي تصنع الموسيقى.
الفراغ هو الجوهر. وقد رسم سيزان الفراغ وشكّله. وصنع جياكوميتي منحوتاته عن طريق "إزالة الدهون من الفراغ". وتَصوّرَ مالارميه القصائد بالغياب كما بالكلمات. وأكّد رالف ريتشاردسون أن التمثيل يكمن في فترات توقّف. ووصف إيساك ستيرن الموسيقى بأنها "ذلك الجزء الصغير بين كلّ نوتة، ذلك الصمت الذي يعطي الشكل".
ولا يوجد مكان يتجلّى فيه مفهوم "ما" أكثر ممّا هو عليه في اليابان. القيم الجمالية متجذّرة بعمق في عقلية الناس كثقافة ومتشابكة في جميع مناحي الحياة اليومية. والتفكير في القرارات يتمّ بعناية، وبلا تعجّل أبدا. ويؤخذ بالاعتبار دائما الزمان والمكان التأمّلي. وغالبا ما يحدّد الحدس والشعور نتيجة الأفعال أكثر من المنطق والتفكير الخالص.
وأحد الأمثلة على هذا هو التوقّف الصامت أثناء المحادثة. فطريقة التواصل اليابانية مليئة بالفراغ، وغالباً ما تُترك موضوعات الجمل دون أن تُقال. والوضوح في الكلمات ليس ضروريا دائما، فالوصول إلى فهم بديهيّ في وقفة صامتة يُعتبر ذكاءً شديدا. وهذا يتناقض مع معايير الاتصال الغربية الأكثر مباشرة، خاصّة في الولايات المتحدة حيث لا ينبغي ترك أيّ شيء للتكهّن وتتجنّب المحادثة حرج الصمت.
وفي اليابان، يُحترم الاستماع اليقظ والملاحظة المدروسة أكثر بكثير من مجرّد تأكيد المتحدّث على رأيه أو التحدّث لمجرّد ملء صمت غير مريح. وفي الواقع، لا يُنظر على الإطلاق إلى الصمت على أنه شيء غير مريح. وغالبا ما يُنقل صدق المشاعر بفعالية أكثر من خلال التعبير الصامت أو الإيماءة.
"الكرة في ملعبك The ball is in your court"، أي أن هذا دورك لاتخاذ إجراء.
"يقتل عصفورين بحجر واحد To kill two birds with one stone"، أي يحقّق هدفين بعمل واحد.
"انتظر حتى يهدأ الغبار Wait for the dust to settle"، أي عليك الانتظار ولا تتصرّف إلى أن يصبح الوضع أكثر وضوحا.
"لا تضع بيضك كلّه في سلّة واحدة Don’t put all your eggs in one basket»، إي لا تعتمد على شيء واحد بل نوّع خياراتك.
"الوقت هو المال Time is money"، أي أن الوقت مورد ثمين فاستخدمه بحكمة.
"دع الكلاب نائمة Let sleeping dogs lie"، أي اترك الموقف كما هو إذا لم يتسبّب بأيّ ضرر.
"ضاع في الترجمة Lost in translation"، أي أن المعنى غير مفهوم بسبب حاجز اللغة.
فأجاب النمر: لا، العشب أخضر.
واحتدم النقاش بين الاثنين، فقرّرا عرض الموضوع على الأسد للبتّ فيه.
وقبل الوصول إلى الغابة، حيث كان الأسد يجلس على عرشه، بدأ الحمار بالصراخ وقال: يا صاحب السمو، أليس صحيحا أن العشب أزرق؟"
فأجاب الأسد: صحيح، العشب أزرق". تقدّم الحمار إلى الأمام وتابع كلامه: لكن النمر يختلف معي ويضايقني. وأرجو منكم معاقبته".
فقال الأسد: سيعاقَب النمر بالصمت لمدة 5 سنوات".
قفز الحمار فرحاً ومضى في طريقه راضياً وهو يردّد: العشب أزرق، العشب أزرق!"
أما النمر فقد قبل عقوبته على مضض، لكنه سأل الأسد: يا صاحب السمو، لماذا عاقبتني، فالعشب أخضر فعلا؟"
فأجاب الأسد: أعرف أنه أخضر". فسأل النمر متعجّبا: فلماذا عاقبتني إذن؟"
أجاب الأسد: قراري لا علاقة له بمسألة ما إذا كان العشب أزرق أم أخضر. عاقبتك لأنه لا يمكن لحيوان شجاع وذكيّ مثلك أن يضيّع وقته في الجدال مع حمار، وفوق ذلك تأتي وتضايقني بهذا السؤال التافه".
والدرس المستفاد من هذه الحكاية هو أن أسوأ طريقة لإضاعة الوقت هي الجدال مع الأحمق والمتعصّب الذي لا تهمّه الحقيقة، بل الانتصار لمعتقداته وأوهامه. لا تضيعوا الوقت أبدا في مناقشات لا معنى لها. فهناك أشخاص، رغم صحّة كل الأدلة المقدّمة لهم، ليس لديهم القدرة على الفهم، وآخرون يعميهم الغرور والكراهية والمكابرة، وليس لديهم سوى الرغبة في أن يكونوا على حقّ حتى لو لم يكونوا كذلك.
وعندما يصرخ الجاهل، فإن على الذكيّ أن يلتزم الصمت، لأن سلامه وهدوءه الداخلي يستحقّان أكثر.
Credits
virginiacolwell.com
virginiacolwell.com