الجمعة، أبريل 05، 2024

الأرض الوسطى


إختار جون توكين ان تجري احداث ثلاثيّته "سيّد الخواتم" فيما أسماه بالأرض الوسطى Middle Earth التي تقع بين قارّتين ويحيط بها بحر ونهر. واختار الكاتب هذه الارض المتخيّلة لأنها تختلف عن أرض البشر كما يفهمها علماء الآثار والجيولوجيا والتاريخ المعاصرون.
إذ يسكنها جنس يشبهون البشر من حيث أنهم يمرضون ويموتون. ويشارك هؤلاء في العيش في الأرض الوسطى أقوام يقال لهم الهوبيت والاوركس المعروفين بعنفهم، وكذلك مخلوقات من التنانين والنسور والسحالي الضخمة، وبعض قبائل الجان.
والجان الذين ابتكرهم توكين في ثلاثيّته ليسوا بالجان المؤذين أو الحاقدين الذين نجدهم في الحكايات الشعبية. إنهم بشر، أو بالأحرى ما كان عليه البشر لو لم يُطرد آدم وحوّاء من الجنّة، فهم خالدون وشباب إلى الأبد ولا يصابون بالأمراض مطلقا. لكنهم ما يزالون عرضة للغباء.
وثلاثية توكين تدور أحداثها في عالم الأرض الوسطى الخيالي، حيث تعيش مئات الأنواع المختلفة معا. والرواية نفسها قطعة من الخيال، وهناك العديد من أوجه التشابه بين الأرض الوسطى وعالمنا، ما يثير التساؤل عمّا إذا كان هذان الكونان مرتبطين بالفعل ببعضهما البعض بطريقة ما.
قدّم توكين الأرض الوسطى لأوّل مرّة في روايته الهوبيت، وهي أقصر بكثير من سيّد الخواتم وتدور أحداثها قبل 60 عاما من أحداث الرواية الاخيرة. وتقدّم القصّة مناطق مثل ميركوود وريفنديل وجبال الضباب، وكلّها لها سمات مشابهة لبعض المناطق التي يمكن أن نجدها في عالمنا.
فـ "ذا شاير" أو المقاطعة، مثلا، تحاكي أصداء الريف الإنغليزي، و"روهان" تشبه طبيعة الدول الاسكندنافية، و"نومينور" مستوحاة من امبراطوريات التاريخ القديمة. وقد لا يكون هذا من قبيل الصدفة.
الاغريق أيضا عرفوا الأرض الوسطى وتخيّلوها في مكان فوق عالم العمالقة وأسفل عالم الآلهة. وربّما يكون التأثير اليوناني الوحيد في ثلاثيّة توكين هو "نومينور"، وهو اسم المنطقة التي يبدو مصيرها تكرارا لأسطورة أتلانتس. ومن الواضح أن رعونة وفجور وانعدام أخلاقية آلهة الاغريق والأبطال والشخصيات اليونانية الرومانية لم تكن تروق لتوكين ذي الروحانية العميقة.
طوال فترة عمله ككاتب، نشر توكين عدّة رسائل كتبها حول مواضيع مختلفة، وكشف في بعضها أن الأرض الوسطى لا علاقة لها بالعالم الذي نعيش فيه، بل هي مصطلح مشتقّ من اللفظ الإنغليزي "ميدل إيردي" للإشارة إلى الأرض نفسها، ولكن في مرحلة سابقة وقديمة جدّا من تاريخ الكوكب.


ويقول أيضا أن من المفترض أن احداث الرواية تقع في فترة من العالم القديم الفعلي لهذا الكوكب. وربّما كان يقصد أن أحداث الرواية تدور بالفعل على الأرض، ولكن قبل فترة طويلة جدّا من ظهور أيّ سجلات تاريخية، أي في وقت كانت فيه العفاريت والعمالقة تتعايش جنبا الى جنب مع البشر الأوائل، بحسب تصوّره الفانتازي.
ومن خلال التأكيد على أن الأرض الوسطى هي في الواقع مجرّد أرض، جعل توكين سلسلته الخيالية أكثر ارتباطا وأقرب إلى كوكبنا، ما أدّى إلى إزالة المسافة بين عالمين ووضع الجمهور مباشرة في قلب هذه القصّة الخيالية.
وواضح أن هناك سببا وراء رغبة توكين في جعل المناظر الطبيعية في الأرض الوسطى مألوفة جدّا من خلال كتابته عن الجبال العظيمة والوديان العميقة والمحيطات الواسعة، وذلك لأنها في الأساس بعض عناصر كوكب الأرض. وعلى الرغم من أن العالم قد تغيّر بشكل جذري منذ أيّامه الأولى، إلا أن التكوين العام للكوكب ظلّ متشابها إلى حدّ ما، لذلك من المنطقي أن يكون في الأرض الوسطى بعض تلك السمات نفسها.
والأرض الوسطى مليئة بآثار العصور السابقة وعظمتها المفقودة منذ زمن طويل. وطوال حياته، كان يساور توكين كابوس متكرّر يتمثل في حدوث موجة بحرية هائلة تجرف كلّ شيء بعيدا. وكثيرا ما يذكر أتلانتس في رسائله. وفي الثلاثية، تكتسح مقاطعة نومينور موجة تسونامي مدمّرة كانتقام من الآلهة.
كان للأرض الوسطى أساطيرها وقصصها عند العديد من الأمم السالفة أيضا. وورد ما يشبهها في بعض أعمال الأدب مثل رواية بيوولف "أو المستذئب" وغيرها من الحكايات البطولية الإنغليزية القديمة وفي العديد من أساطير الآلهة والأبطال القدماء والحكايات الشعبية، وخاصّة تلك الخاصّة بالفتيان العاديين الذين يقومون بمهام بطولية، وفي الحكايات الرومانسية واساطير الملك آرثر وغيرها.
ربّما لا تتضمّن ثلاثية توكين أيّ صور رمزية او مجازية. لكنها بالتأكيد تعبّر عن قلق الكاتب بشأن عالمنا، بشأن فقدان براءة الريف وتلاشى الأساطير وتحوّلها الى مادّة. وإذا كنت تهتم بالنظر الى ما تحت السطح وتفحص توصيفات الكاتب للشرّ أو السلطة فستكتشف أن التعقيد الأخلاقي في هذا العمل أعمق بكثير من العبارات المبتذلة مثل أن الخير يهزم الشرّ أو أن السلطة تفسد الناس وما الى ذلك.
عند تصوير ثلاثية سيّد الخواتم، قرّر المخرج بيتر جاكسون استخدام المناظر الطبيعية الخلابة في نيوزيلندا في غالبية عملية التصوير. ونيوزيلندا كما هو معروف بلد مليء بالخضرة الشاسعة والمسطّحات المائية الجميلة التي تتناسب تماما مع الأوصاف التي قدّمها توكين في رواياته عن الأرض الوسطى.

Credits
tolkiensociety.org