الأربعاء، مارس 11، 2015

ألوان إل غريكو


رغم اسمه المستعار الذي يعني "الإغريقي"، فإن إل غريكو لم يكن يسمّي نفسه "اليوناني"، بل كان يوقّع لوحاته باسم "الكريتي" نسبة إلى جزيرة كريت حيث وُلد.
لوحات هذا الرسّام عندما يعاد استنساخها تموت. ولا يوجد رسّام آخر يمكنه أن يعيد إنتاج ذلك اللون البنفسجي الفانتازي أو الأزرق السماوي بمثل تلك الروعة والدقّة.
وإذا كان هناك من لا يزال يفضّل نكهة لوحات إل غريكو، فإن أفضل مكان لتذوّق صوره هو طليطلة؛ المدينة التي وصلت فيها موهبته الفنّية إلى أوجها.
وخيال إل غريكو يمكن مضاهاته بالطابع الفخم لمباني هذه المدينة. وفقط في طليطلة بإمكاننا أن نرى كيف أن مناظره الغيمية في السماء وعلى الأرض استفادت من الدراما المتحوّلة التي كانت تحدث في الجوّ فوق رأسه.
ورغم ذلك، فإن الرجل الذي قضى النصف الأوّل من حياته على ارض جزيرة كريت مسقط رأسه لم يستطع أبدا محو ذكرى ألوان الجزر اليونانية المشبعة بأشعّة الشمس. وهذه الألوان تتردّد كثيرا في أعماله كاللون الفيروزي لمياه بحر ايجه، واللون الأصفر البرّاق لأزهار المارغيتا التي تفترش حقول كريت في بدايات الصيف، واللون البنفسجيّ الساحر والهشّ لشقائق النعمان الذي حوّله إلى شال يغطّي الرأس الأحمر لمريم المجدلية في إحدى لوحاته المبكّرة والفخمة "فوق".
في طليطلة عاش إل غريكو حياة بسيطة واستطاع التكيّف بسرعة مع أجواء هذه المدينة التي شُيّدت في الأساس من امتزاج الثقافات الإسلامية واليهودية والمسيحية.
الموقع الجغرافيّ الدراماتيكي لطليطلة مكّن الرسّام من ابتكار حيل لا نهاية لها للتلاعب بالسماء والغيوم والطبيعة.
من ناحية أخرى، كانت كريت، اكبر الجزر اليونانية منذ العصر البرونزيّ على الأقل، عالما منعزلا ثقافيّا وسياسيّا. وفي القرن السادس عشر، كان معظم البرّ الكريتي واقعا تحت سيطرة الحكم العثماني. وفي زمن إل غريكو كانت كريت تُحكم من قبل حامية عسكرية كانت تشكّل عُشر عدد سكّان الجزيرة.
الرسّام الايطالي تيشيان ربّما كان النموذج المفضّل عند إل غريكو. غير أن تعامل غريكو مع الألوان الزيتية يعكس أيضا دراسته عن قرب لأسلوب تنتوريتو، الرسّام الايطالي الآخر المشهور بقطعه اللامعة من الطلاء والتي تحاكي منظر تساقط المطر.
ولا بدّ وأن فينيسيا كانت المكان الذي بدأ فيه إل غريكو جمع الكتب، ومعظمها كان باليونانية والايطالية. كان يمتلك مكتبة تحتوي على العديد من الكتب. ولم يكن يشتري الكتب للزينة أو التباهي، بل كان يقرؤها بعناية ويسجّل أفكاره الخاصّة في هوامشها. وقد اشترى، من ضمن ما اشترى، نسخة من كتاب جورجيو فاساري "تاريخ الفنّانين" وملأ هوامشه بملاحظاته وتعليقاته بالايطالية.
ويبدو أن إحساسه بالأبوّة كان العلامة الأكثر عمقا في حياته. فقد أسره منذ البداية جمال نساء طليطلة. وبعد عام من وصوله إليها، كانت إحداهنّ، واسمها هيرونيما ، قد حملت منه بطفل. لكن إل غريكو والمرأة لم يتزوّجا أبدا. ويبدو أنها توفّيت بعد وقت قصير من ولادة طفلهما.
هذا الطفل هو جورج مانويل الذي سيظهر في ما بعد على هيئة صبيّ أنيق وجميل الملامح في تحفة إل غريكو المسمّاة دفن كونت اورغاس .


في الرسم الاسباني كان من النادر أن ترى منظرا طبيعيّا. وهذه الندرة يمكن عزوها للتاريخ الإسبانيّ نفسه. فحركة الإصلاح الكنسيّ المضادّ في اسبانيا القرن السادس عشر كانت تتّخذ موقفا معارضا بشدّة من الأفكار الكلاسيكية والانسانوية.
والعقيدة الكاثوليكية ذات التفسير المتشدّد للدين كانت تنظر إلى موضوع الطبيعة البشرية، والطبيعة إجمالا، على انه منحطّ وفاسد. وأن تتأمّل جمال الطبيعة، معناه أنك تشغل نفسك بفعل من أفعال الزندقة والوثنية. ونتيجة لذلك، ظهرت أنواع عدّة من رسم الطبيعة.
لكن خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر، أي عندما أتى إل غريكو ليعيش في اسبانيا، اكتسح تيّار صوفي وغنائيّ اسبانيا. وبدلا من رسم الأرض خضراء ومضيافة، بدأ الرسّامون يستخدمون الطبيعة كمكان للأحداث المقدّسة.
وفي مناظر إل غريكو الطبيعية يمكن أن نرى هذه العاطفة المشبوبة. فأسلوبه العصبيّ والصوفيّ والرؤيويّ في الرسم لا يعبّر فحسب عن المناخ الفكريّ والثقافيّ لعصره، وإنّما أصبح بعد قرون نموذجا للجيل التالي من الرسّامين الاسبان، بمن فيهم دي غويا وثولواغا وبيكاسو ودالي وخوان ميرو وغيرهم.
اسبانيا بدأت رحلة أفولها الطويل كقوّة عالمية مهيمنة ابتداءً من النصف الثاني من القرن السابع عشر. وخلال تلك الفترة من العزلة النسبية، ظلّت البُنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية القديمة على حالها، الأمر الذي عطّل عمليات تحديث البلاد. ومقاومة التغيير هذه أنتجت عادات وثقافة وفنّا متفرّدا ومختلفا عمّا كان موجودا في بقيّة البلدان الأوربّية.
المناظر الطبيعية الاسبانية أصبحت تجسّد العمود الفقري لهويّة البلاد. والكتّاب والفنّانون في أواخر القرن التاسع عشر رفعوا ذلك النوع من الرسم إلى مستويات من التقشّف والقوّة وأصبح مزيجا من الصور الأسطورية والتاريخية المستمدّة من الأحداث العظيمة من الماضي. وصار الرسم الاسباني للطبيعة يعبّر عن التاريخ الوطني، وأيضا عن الروح الفردية والجماعية.
رؤية إل غريكو كانت متجذّرة في تجاربه الشخصية وفي المناخ الديني لحركة الإصلاح المضادّ، أي عندما كانت البروتستانتية تشكّل تهديدا للكنيسة الكاثوليكية.
ولوحاته تبدو عاطفية مع تشوّهات مستطيلة واستخدام بارع للضوء والعتمة وإحساس قويّ بالحركة. في لوحته عن القدّيس يوحنّا ، وهي إحدى آخر لوحاته وأكثرها غموضا، يرسم شخصية هذا الناسك وهو يرفع يديه بالدعاء إلى السماء. وفي الخلفية تظهر سماء مضطربة وقطع من الحرير الأصفر والأخضر المنسدل وراء الأشخاص.
هذه اللوحة تصوّر حادثة من الإنجيل. والرسّام ضمّن رؤيته عن القصّة تشويها للأشكال وتحوّلات لنقاط الرؤية وضوءا مسرحيّا وطاقة روحانية ومظهرا ديناميكيا. وقد عمل على اللوحة لستّ سنوات وحتى وفاته في العام 1614م.
كانت تلك أصعب سنوات حياة إل غريكو. كان وقتها يعاني من الإفلاس المالي ومن أفول نجمه قبل الأوان. ولأنه كان بلا دخل ثابت أو موارد، فقد واجه غائلة الفقر والحاجة. ولا بدّ وأن الأمر تطلّب منه إيمانا لا يُصدّق كي ينجز هذه اللوحة الرؤيوية المتميّزة.
المعروف أن هذا العمل تعرّض للإهمال، وأحيانا للتخريب. وما نراه اليوم ليس سوى جزء بسيط من اللوحة الأصلية التي ضاع الجزء العلوي منها مع تغيّر الظروف وتقادم الزمن.

Credits
guggenheim.org
nybooks.com