:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، مايو 17، 2024

الإنسان والأسد


يُحكى أن رجلا كان يسير في غابة. وتصادف أن التقى بأسد كان ذاهبا في نفس الاتّجاه، وقرّر الاثنان أن يتصاحبا. وعلى طول الطريق تحدّثا في أشياء كثيرة رأياها. لكن بعد مرور بعض الوقت، اتخذ الحديث منحى تنافسيّا.
كان كلّ من الرجل والأسد يعتقد أن نوعه متفوّق في العقل والقوّة على نوع الآخر. قال الرجل: نحن نستخدم الأدوات والأسلحة لجعل حياتنا أفضل، لذلك من الواضح أن البشر هم أذكى وأقوى المخلوقات". فأجاب الأسد: هذا هراء. أستطيع أن أشلّ حركة عشرة رجال في ثانية، فمخالبي وأسناني تثير الخوف في كلّ مكان."
واستمرّ جدال الاثنين على هذا النحو لبعض الوقت الى أن صادفا تمثالا ضخما. كان التمثال لرجل يشبه هرقل وهو يصارع أسدا. حدّقا في التمثال بصمت لفترة طويلة. ثم قال الرجل: لقد حُسم الأمر على ما يبدو. ألا ترى أن ملك الغاب يسيطر عليه الإنسان بالكامل؟ انظر جيّدا! إلى هذا الحدّ نحن أقوياء، ملك الوحوش يصبح طريّا هشّاً مثل الشمع في أيدينا!"
فردّ الأسد: هذا التمثال صنعه إنسان. ولو كان من صُنع أسد لحكى قصّة مختلفة."
تُساق هذه القصّة للتدليل على أن الحكم في أيّ أمر يعتمد كلّه على وجهة نظر من يروي القصّة، وأنه من المستحيل التوصّل إلى أيّ يقين من خلال قراءة الروايات المكتوبة من وجهة نظر أحادية.
البشر يصطادون الأسود ويصارعونها منذ القدم. وهم يفعلون هذا للتباهي، أي لإثارة إعجاب الآخرين بأهميّتهم وقوّتهم ورجولتهم. وأحيانا يصطادونها كرياضة وكجزء من التقاليد الثقافية، أو كوسيلة لحماية المستوطنات البشرية والماشية من خطرها.
وكان صيد الأسود رياضة الملوك والأباطرة من قديم الزمان. وأقدم سجلات عن هذه الرياضة تعود الى مملكة آشور، إذ كان الآشوريون يصطادون الأسود من داخل عربة أو سيرا على الأقدام باستخدام الأقواس أو الرماح. وكان الختم الملكيّ الآشوري يُظهر ملكا يذبح أسدا هائجا. وقد عُثر على أقدم تصوير لحاكم يصطاد الأسود محفورا على نصب تذكاري من البازلت في منطقة بلاد ما بين النهرين يعود تاريخه إلى ما قبل 3000 قبل الميلاد.
وكانت صور صيد الأسود الملكية تُرسم على الأشرطة البرونزية التي تزيّن البوّابات الأثرية وعلى المسلات الحجرية التي تسجّل إنجازات الملك وعلى ألواح الجدران المنحوتة التي تزيّن الغرف الداخلية للقصور الآشورية.
وقد وُجدت بعض أروع صور الصيد في قصر الملك آشور ناصربال الثاني (883-859 قبل الميلاد) في مدينة النمرود شمال العراق. وتُصوّر الملك وهو يصطاد الأسود والثيران البرّية من عربته، متبوعا بمشهد طقوسي حيث يسكب الملك قربانا من النبيذ على الحيوانات الميّتة ويوجّه خطابا إلى إله المدينة ليشكره، حتى لا تعود روح الأسد الشرّيرة وتطارده.
وبعد أكثر من 200 عام، أعاد آشور بانيبال إحياء عمليات صيد الأسود الملكية، وقام بتزيين قصره الشمالي في مدينة نينوى بنقوش منحوتة بشكل رائع تُظهر براعته كصيّاد شجاع. وقدّم بانيبال نفسه للعالم كحاكم بطل، مدعيّا أن الآلهة منحته قوّة ورجولة متميّزة. وكجزء من تدريبه العسكري، تعلّم قيادة العربات وركوب الخيول والرماية. وعلى عكس الحكّام الآشوريين السابقين، نادرا ما قاد آشور بانيبال قوّاته في حملات عسكرية.
وبدلاً من ذلك، أعلن عن براعته كمحارب، كما تعكسه سلسلة من ألواح المرمر المنحوتة في قصره والتي تُظهره وهو يصطاد الأسود. وهنا يصوّر كبطل بارع في الإثارة، حيث يذبح الأسود الشرسة على ظهور الخيل أو مشيا على الأقدام أو على ظهر عربة باستخدام مجموعة متنوّعة من الأسلحة.


النصوص الآشورية تسجّل كيف كانت الأسود تسدّ الطرقات وتضايق الرعاة من خلال مهاجمة الماشية في السهول. وكان من واجب الملك أو الحاكم تخليص أرضه من الحيوانات البرّية الخطرة. وقد انطلق آشور بانيبال إلى السهول في عربته الملكية لمواجهة سلالة جبلية شرسة من الأسود، لكنها حاصرته وهاجمته.
ومن خلال أداء دوره كصيّاد بطوليّ، يتفاخر آشور بانيبال كيف أنه بدّد كبرياء الأسود وقتل كلّا منها بسهم واحد لإعادة السلام إلى السهول. وبصفته الحاكم الذي اختارته العناية الإلهية لحماية آشور، كان من واجب الملك الحفاظ على النظام في العالم من خلال هزيمة "قوى الفوضى"، التي كانت تشمل الأعداء الأجانب والحيوانات البرّية الخطرة كالأسود وسواها.
ولطالما اعتقد الآشوريون أن عالمهم يجسّد قلب الحضارة وأن أعداءهم المتربّصين يكمنون في أطراف المملكة وعلى حدودها. وكانوا يظنّون أنه أينما حكَمَ الملك ساد السلام والرخاء، بينما تعاني الأراضي الخارجية من الفوضى.
ومن خلال صيد الأسود، وهي مخلوقات تعيش في المناطق النائية، أظهر آشور بانيبال كيف يمكنه بسط سيطرته على البرّية. وكانت عملية الصيد تلك، المليئة بالرمزية الطقوسية والدراما البطولية، وسيلة فعّالة للترويج لقدرة الملك باعتباره راعي الشعب وحامي الرعيّة.
الأعمال الفنّية التي تناولت صيد الأسود كثيرة، لكن أشهرها سلسلة من اللوحات الزيتية رسمها الفنّان الفرنسي اوجين ديلاكروا في منتصف القرن التاسع عشر.
وكثيرا ما كان هذا الفنّان يصوّر مشاهد الصيد وقتال الحيوانات فيما بينها في لوحاته. ومثل معظم الفنّانين الآخرين من العصر الرومانسي، كان ديلاكروا مفتونا بثقافات بلدان الشرق. وفي عام 1832، قام برحلة طويلة إلى المغرب كانت مصدر إلهام دائم له.
ورسم أثناء رحلته تلك لوحات يتقاتل فيها الأسود والنمور والصيّادون على ظهور الخيل حتى الموت. لكن من المرجّح أن ديلاكروا لم يسبق له أن رأى مثل هذه المشاهد عيانا، ولم يرَ حتى الحيوانات البرّية في بيئتها الطبيعية. وبدلاً من ذلك، استخدم دراسات تفصيلية للحيوانات التي رآها في حدائق الحيوان.
والرسّام الهولندي بيتر بول روبنز كلّف من قبل العديد من معارفه الأثرياء بتصوير بعض الكائنات البرّية والغريبة التي اصطادوها وامتلكوها أثناء غزوهم للأراضي والمستعمرات في أفريقيا والشرق.
المعروف أن صيد الحيوانات كان ما يزال غير قانوني بالنسبة لمعظم الناس في القرن السابع عشر، وكان مقتصرا على الحكّام والأثرياء. وكان لدى الأرستقراطيين، مثل أرشيدوق بروكسل، حديقة مليئة بالحيوانات، وكثيرا ما كان روبنز يذهب إليها لمراقبة الوحوش البرّية ورسمها.
وكانت أوروبّا آنذاك لا تزال تكتشف الأراضي والجزر البعيدة، لذا لم يكن الكثير من الناس قد شاهدوا مثل هذه المخلوقات عيانا من قبل، وكان روبنز يثير خيال الناظر بلوحاته الجامحة والمثيرة.
كانت صوره شائعة بين الرعاة الأثرياء وعامّة الناس، حيث صوّر هذه الحيوانات بكلّ مجدها الطبيعي في مقابل عقل الإنسان وبراعته. وكانت مثل هذه الصور أيضا علامة على المكانة، حيث يمكن للرعاة الموسرين إظهار أن لديهم المال والقوّة لاصطياد هذه الحيوانات وامتلاكها.
اليوم أصبح صيد الأسود موضوعا للجدل بعد أن أُدرج الأسد ضمن الأنواع المعرّضة للخطر من قبل الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة. وبعض الأنواع المنحدرة منه مصنّفة أيضا على أنها مهدّدة بالانقراض. ويعيش أقلّ من 20 ألفا من الأسود في براري العالم، أي أن عددها انخفض بنسبة 60% خلال العقدين الماضيين. ويرجع هذا الانخفاض بشكل أساسي إلى الصيد الجائر لها ولفرائسها وتدمير موائلها الطبيعية.


Credits
lionrecoveryfund.org

الاثنين، مايو 13، 2024

زوبعة في فنجان


ولد كاكوزو أوكاكورا (1862-1913) في اليابان. ولكنه تلقّى تعليمه، بناءً على رغبة والده، وفقا للتقاليد الإنغليزية. وقد أخذته رحلته المذهلة من يوكوهاما في اليابان إلى نيويورك وباريس وبومباي وبوسطن، حيث تشابكت حياته مع شخصيات بارزة مثل رابندراناث طاغور وجون سينغر سارجنت وهنري جيمس وجون لا فارج وهنري ماتيس وغيرهم.
وقد ألّف أوكاكورا في عام 1906 "كتاب الشاي" الذي أصبح واحدا من أكثر الكتب تأثيرا في القرن العشرين وتُرجم إلى أكثر من 40 لغة. وظهر الكتاب أوّل ما ظهر في أمريكا في مطلع القرن العشرين وقُرئ في الصالون الشهير لإيزابيلا ستيوارت غاردنر، الشخصية الاجتماعية الأكثر شهرةً في بوسطن في ذلك الوقت.
وبعد مرور ما يقرب من قرن من الزمان على صدوره، لا يزال الكتاب محبوبا في جميع أنحاء العالم لتناوله التاريخ الغنيّ للشاي الياباني ومكانته في ذلك المجتمع، بالإضافة الى حديثه عن الثقافات الآسيوية وعن الفنّ والروحانية والشعر.
وفيما بعد أصبح "كتاب الشاي" نصّا مركزيّا في الحركة الاستشراقية في أوائل القرن العشرين وأُعجب به شعراء مثل جون إليوت وإزرا باوند وغيرهما. ويمكن العثور على الكتاب اليوم في مكتبات الفلاسفة والفنّانين وأخصائيي الشاي حول العالم.
في كتابه، يناقش أوكاكورا موضوعات مثل الزّن والطاوية، بالإضافة الى الجوانب الاجتماعية والثقافية للشاي في الحياة اليابانية. ويجادل بأن البساطة التي ارتبطت بحفلات الشاي أثّرت على الثقافة والفنّ والهندسة المعمارية في اليابان.
أوكاكورا كان فيلسوفا وخبيرا فنّيا وأمين متحف. وكان وقت ظهور كتابه مديرا للفنون الآسيوية في متحف الفنون الجميلة في بوسطن. وأثّرت أفكار كتابه على أعمال فنّانين بارزين مثل فرانك لويد رايت وجورجيا أوكيف وغيرهما.
لم يكن أوكاكورا معروفا كثيرا وقتها، لكنه سيبرز كواحد من المفكّرين المرموقين في أوائل القرن الماضي. وقد وُصف بأنه كان يتمتّع بالذكاء والبصيرة الثاقبة. وكان مسؤولا إلى حدّ كبير عن مدّ الجسور بين الثقافات الغربية والشرقية بعد أن تعلّم التحدّث باللغة الإنجليزية في سنّ مبكّرة.
استكشاف أوكاكورا لثقافة الشاي كان مشبعا بإيمانه بأن الشرق والغرب يمكن أن يتعايشا في سلام. وبعد أن أصبح عنصرا أساسيّا في الحياة الغربية، بدا له الشاي "أو الكهرمان السائل كما يصفه" المادّة الوحيدة التي يمكن أن تتدفّق بسلاسة عبر الحدود الثقافية. يقول: من الغريب أن الإنسانية تلتقي اليوم على فنجان شاي". وهو يتأمّل في جميع عناصر حفل الشاي، بدءا من قصّة مؤسّس طقوس الشاي في القرن السادس عشر، أي راهب الزِّن ريكيو، وحتى الهندسة المعمارية للمقاهي والماء المثالي لصنع الشاي وما الى ذلك.
والكتاب لا يخلو من الأحاديث الفلسفية والتشبيهات اللغوية الجميلة كمثل قول المؤلّف: لا يجب أن يُعلّم الناس كيف يكونون فضلاء، بل أن يتصرّفوا بشكل صحيح". ومثل قوله: في العنبر السائل داخل الخزف العاجي، يمكن للمبتدئين أن يلمسوا تحفّظ كونفوشيوس ونكهة لاو تسو والرائحة الأثيرية لساكياموني." وأيضا قوله: نحن دائما نتعامل بوحشية مع أولئك الذين يحبّوننا ويخدموننا في صمت، ولكن قد يأتي الوقت الذي يتخلّى فيه أفضل أصدقائنا عنّا بسبب قسوتنا".
وبحسب أوكاكورا فإن طقوس الشاي القديمة هي مزيج من البوذية والزن والطاوية. وقد وُظّفت تلك الطقوس لتعزيز الانضباط العقلي والقرب من الطبيعة التي كان من المأمول أن تؤدّي إلى التنوير.
وفي مكان آخر من الكتاب، يصف أوكاكورا العالم بأنه مكان قذر وصعب، وأن لحظة التأمّل التي يوفّرها حفل الشاي الياباني تساعد الشارب على توضيح مكانه في العالم الفوضوي".
ثم يعبّر الكاتب عن قلقه من أن البشر صارمون للغاية ودائمون في العالم. وبدلاً من هذا التموضع الثابت، يقترح عليهم أن ينفتحوا على ما يسمّيه بـ "الحماقة الجميلة للأشياء". كما يدعو إلى فلسفة أكثر مرونة وأكثر تكيّفا، ويشير إلى أن فكرة الشاي تساعد الناس على تقدير لحظات الحياة القصيرة التي تتسرّب بسرعة مثل البخار الساخن المتصاعد من كوب شاي.
يقول أوكاكورا إن الهدف الذي سعى لتحقيقه من وراء تأليف "كتاب الشاي" هو جعل القارئ يفكّر في الشاي كما يفكّر في الفنّ أو الدين. ثم يُدلي بتعليقات متكرّرة حول حالة العالم، فيرى أن الديانات القديمة توفّر الراحة والطمأنينة في عالم من المعاناة والقلق. كما يعتبر أن كلا من الطاويّة والشاي ذاتا صلة بالعصر الحديث "الذي يؤكّد المؤلّف نفوره منه في كلّ مناسبة". ويذكّر القارئ بأن حالة العالم نادراً ما تتحسّن، لذا فإن أساليب التكيّف معه تُعتبر مهمّة بمثل أهميّة الشاي".


ويعترف الكاتب بأن معظم الغربيين ينظرون إلى استهلاك الشاي على أنه أمر عرضي. والسبب هو أنه ليس لدى العالم الغربيّ الطقوس اليابانية أو الإطار الفلسفيّ المبنيّ على لحظات من الحياة اليومية. ويخبر القارئ أن حفلات تقديم الشاي مهمّة لأنها تتضمّن معرفة صوفية، ويمكن أن تكون لحظات روحانية مثل التأمّل أو الصلاة.
كما يرى أوكاكورا أن الفلسفة تشجّع الناس على تحويل الأعمال المنزلية البسيطة إلى فرص للتفكير في حياتهم، وأن غرفة الشاي هي المكان الذي يتحقّق فيه هذا التعليم. كما يشير الى أن التنظيف وإزالة الغبار من البيت هما امتداد للرسالة الأساسيّة لعقيدة الشاي والمتمثّلة في أنه حتى العمل الروتيني يمكن أن يصبح فرصة لمعرفة المزيد عن العالم.
ويسرد المؤلّف قصّة عازف قيثارة أسطوري كانت مهارته تتمثّل في أنه يفهم آلته الموسيقية ويعرفها حقّ المعرفة. وبينما حاول موسيقيّون آخرون فرض أفكارهم وأغانيهم على القيثارة السحرية، كان العازف هو الذي يسمح للآلة باختيار الأغنية المناسبة. وبالنتيجة فإن فهم ذلك العازف للتفاعل بين الفنّ والفنّان هو ما سمح له بإنتاج مثل تلك الموسيقى الرائعة. ويعتقد الكاتب أنه ينبغي لمعلّم الشاي والضيوف أن يفكّروا في التفاعل بين الفنّ والفنّان مثلما فكّر ذلك العازف".
ويكشف أوكاكورا عن نفسه بأنه متشائم، ويشعر بالقلق من أن الافتقار المعاصر للتفكير أو البصيرة أمر مدمّر، وأن العالم يميل الى الحروب والكراهية بدل أن يقدّر الفنّ. ويذهب الى أن فلسفة الشاي توفّر ترياقا طبيعيّا لهذه المشاكل ولعلاج العالم من أمراضه المزمنة وإنقاذه من الدمار الذي يبدو حتميّا.
ثم يتحدّث المؤلّف عن الأزهار ويصفها بأنها "وعاء للعاطفة". والأزهار بنظره تمثّل الحالة المزاجية المحيطة، وهي توفّر الراحة في اللحظات الصعبة وتضيف إلى فرحة المناسبات السعيدة. ويشير الى لحظات الفرح والحزن في الحياة والتي تكون دائما مصحوبة بالأزهار بجميع أنواعها مثل حفلات الزفاف والجنائز وغيرها. ويشير أوكاكورا إلى أن جودة الأزهار الطازجة تجعلها جزءا لا يتجزّأ من حفل الشاي الياباني.
ثم يتحدّث عن قصّة ريكيو (1522-1591) الذي كان معلّما حقيقيّا للشاي الياباني. وقد حُكم عليه بالإعدام لارتكابه جُرما ما. ثم سُمح له باختيار طريقة موته، واختار أن ينتحر طقوسيّا خلال حفلة شاي. ويصوّر أوكاكورا الموت على أنه لحظة رضا فلسفيّ ومهنيّ، فباختيار ريكيو حفل شاي أخير مكانا لقتل نفسه، فإن هذا الاختيار يُعدّ تجسيدا لكلّ ما ناضل من أجله في حياته.
ويضيف المؤلّف أن حفل الشاي يعلّم التفكير والوعي الذاتيّ اللازم لاحتضان حتمية الموت، وأن معلّمي الشاي وأولئك الذين يعيشون حياتهم وفقا لتعاليم الشاي يفهمون جمال الحياة. إنهم قادرون على الموت بنفس الطريقة التي عاشوا بها، من خلال فهم أن الموت جزء من كلّ أكبر. كما يرى أوكاكورا أن الشاي يعلّم الناس مكانهم في الكون الأوسع وأن أولئك الذين يعتنقون مذهب الشاي ليس لديهم ما يخشونه من الموت لأنهم اكتسبوا رؤية أكبر لواقع الحياة.
ويسرد أوكاكورا في كتابه بعض القصص المعبّرة كقصّة سوشي الذي كان يسير في أحد الأيّام على ضفّة النهر مع صديق له. وبعد برهة صاح سوشي: كم هو ممتع أن الأسماك تستمتع بوقتها في الماء!". فقال له صديقه: أنت لست بسمكة، فكيف تعرف أن الأسماك تستمتع بوقتها؟ فردّ عليه سوشي: أنت لست أنا، فكيف تعرف أنني لا أعرف أن الأسماك تستمتع بوقتها؟".
وهناك قصّة أخرى عن ريكيو صانع الشاي الذي كان يراقب ابنه في أحد الأيّام وهو يكنس ويسقي ممرّات الحديقة. وبعد أن انتهى الابن من مهمّته قال له ريكيو: لم تنظّف بما فيه الكفاية". ثم طلب منه المحاولة مرّة أخرى. وبعد ساعة من العمل المرهق، عاد الابن إلى ريكيو وقال له: يا أبي، لم يعد هناك ما يجب القيام به، فقد غسلت الدرج للمرّة الثالثة ورششت الفوانيس الحجرية والأشجار جيّدا بالماء وأصبحت الطحالب تتألّق بضوء ساطع ولم أترك غصنا ولا ورقة على الأرض".
فقال صانع الشاي: أيها الشاب الغِرّ، ليست هذه هي الطريقة التي ينبغي بها كنس طريق الحديقة". قال ريكيو هذا ثم دخل إلى الحديقة وهزّ شجرة ونثر فوق الأرضية أوراقا ذهبية وقرمزية وبقايا من ديباج الخريف. ما طالب به ريكيو لم يكن النظافة لوحدها بل العناصر الجمالية والطبيعية أيضا.
ويصوّر المؤلّف معلّم الشاي على أنه أمين اللحظة الفنّية التي يتمّ فيها تشجيع الضيوف على احتضان المعنى الأعمق لحفل الشاي. كما أن معلّم الشاي هو منشئ الحفل وهو الذي يلعب دورا مهمّا في تنفيذه، وبالتالي يصبح هو نفسه قطعة فنّية في حدّ ذاتها.
أوكاكورا هو أيضا شخص يفتخر بالموت حتى لو لم يعترف بذلك. وكتاباته عن الثقافة والتاريخ مشوبة بالتشاؤم. ويبدو الموت المجيد للأزهار نهاية مناسبة لأشخاص مثله حاولوا قبله شفاء العالم من أمراضه وفشلوا.

Credits
gutenberg.org

الجمعة، مايو 10، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • يروي الكاتب الكولومبي الكبير غارسيا ماركيز أنه عندما كان يعمل مراسلا صحفيا، سمع ذات مرّة عن قصّة بحّار مشهور غرقت سفينته ونجا هو، فذهب للقائه. ولم تكن المقابلة على هيئة سؤال وجواب. كان البحّار يسرد على ماركيز مغامراته وهو يكتبها.
    وعندما نُشر هذا التحقيق على مدى اسبوعين في الجريدة كان بتوقيع البحّار نفسه ولم يذيّله الكاتب باسمه. وبعد ٢٠ عاما، اُعيد نشر التحقيق واكتشف الناس أن ماركيز هو الذي كتبه. ولم يعرف محرّرو الجريدة أن التحقيق جيّد إلا بعد أن كتب ماركيز روايته "مائة عام من العزلة".
    العبرة من هذه القصّة هي أن الناس غالبا ما تستهويهم الأسماء واللافتات والشهرة. ومهما كانت براعتك ككاتب، فإن الناس عادة لن يعرفوا قدرك أو مكانتك أو موهبتك إلا بعد أن يصبح لك اسم وكُتُب وتصير مشهورا وتنال جوائز وأوسمة الخ.
  • كان بيكاسو يعيش في باريس عندما قرّر النازيون تحطيم الحفلة واحتلال العاصمة الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية. وإذا كنت تعتقد انهم عاملوه معاملة الملوك فأنت مخطئ. لكنهم أيضا لم يتعرّضوا له أو يؤذوه بشيء.
    كان بيكاسو فنّانا "منحطّا" حسب تعريفهم وعضوا نشطا في الحزب الشيوعي الإسباني، وطوال الوقت كان الديكتاتور الاسباني فرانكو يلحّ على النازيين باعتقاله وترحيله حتى يتمكّن هو من إطلاق النار عليه بنفسه.
    ربّما لو كان شخصا آخر غير بيكاسو لأرسله النازيون إلى أقرب معسكر اعتقال. لكنهم لم يتخلّصوا منه بأيّ طريقة، بل سمحوا له بالاستمرار في عمله الى حدّ ما، ولكن على طريقة "نحن نراقبك يا صديق فانتبه".
    النازيّون لم يفهموا أجواء بيكاسو وفنّه. وقد وصفوا عمله بأنه "فنّ منحط" لأنهم كانوا يتمتعون بموهبة إغفال الأشياء المهمّة والمختلفة.
    بإمكانك تخيّل بيكاسو وهو يجلس في الاستوديو الخاص به في مونمارتر، محاطًا بلوحات يمكن بيع واحدة منها اليوم بأموال تفوق بكثير ما يمكن أن يجنيه انسان في أعوام طويلة. وهو يجلس هناك غير مكترث بشيء أبدا، بينما يخطو النازيّون جيئة وذهابا خارج محترفه.
    ويقال إنه عندما رأى ضابط ألماني لوحة بيكاسو المشهورة "غويرنيكا" التي تصوّر كوارث الحرب، سأل بيكاسو ما إذا كان هو الذي فعل ذلك "أي رسَم اللوحة". فأجاب بيكاسو بدهاء: لا، انت فعلت". وكان ردّا بليغا جدّا إن صحّت القصّة.
    باختصار، عومل بيكاسو من قبل النازيين كما يعامَل شخص غريب في حفل عائلي: تسامحوا معه وتجاهلوه في الغالب، لكنّهم لم يُسكتوه أبدا. واستمرّ بيكاسو في عمله وأثبث أن الفنّ الحقيقي لا يمكن سحقه أو مصادرته.


  • "ما تراه هو كلّ ما هنالك!"
    معنى هذه العبارة أن ما تنظر إليه في لحظة ما هو كلّ ما تراه، وليس هناك أشياء أخرى مخفيّة أو غير مرئية. لكن أذكى العلماء في العالم يقولون إن الأمر ليس كذلك في الواقع.
    تخيّل طيّارا يقود طائرة ليلاً في طقس سّيء. هو لا يستطيع إلقاء نظرة خاطفة على العالم خارج طائرته. وكلّ ما يملكه هو الأدوات الموجودة على لوحة القيادة الخاصّة بالطائرة، أي مؤشّرات السرعة وضغط الهواء وجميع أنواع المفاتيح التي تخبره عن عالم لا يستطيع رؤيته مباشرة.
    هذه المفاتيح موثوقة للغاية وتوفّر للطيّار ما يحتاجه للمناورة بأمان عبر بيئته. هل هي نفس البيئة؟ بالطبع لا. لمجرّد أن قائمة الطعام في مطعم يمكن أن تعطيك معلومات دقيقة عن الطعام، فهي ليست الطعام نفسه. القائمة ليست الوجبة. أو كما يقول رينيه ماغريت: هذا ليس غليونا بل صورته فحسب.
    ظاهريا، معظم الناس لا يمكنهم الخلط بين الاثنين. ومع ذلك هذا هو بالضبط ما يفعله البشر في كلّ وقت. ومن خلال النظر إلى عالمنا باعتباره ماديّا بشكل أساسي. كيف يتعامل الإنسان مع المادّة؟ اننا نفترض أنها حقيقة. لكن المادّة ليست سوى لوحة التحكّم لدينا، إنها الواجهة التي نستخدمها للتفاعل مع الواقع.
    وكلّ ما لدينا هو هذه "المؤشّرات او المفاتيح" التي نلمسها ونشمّها ونشعر بها. لذلك يخبرنا حدسنا أن هذه المؤشّرات هي كلّ ما هو موجود. وبهذا المعنى فإن طريقة تعامل الإنسان مع المادّة هي مثل الطيّارين الذين يطيرون بالآلات. بدون زجاج أمامي شفّاف، لا يمكننا أبدا رؤية الواقع الفعلي "في الخارج".
    كيف تمثّل الكائنات الحيّة بيئتها؟ اكتشف فريق من علماء الأعصاب أن الكائنات الحيّة لا بدّ أن تمثّل بيئتها بطريقة مشفّرة لكي تبقى على قيد الحياة. وكلّ الانواع، بما في ذلك الإنسان، لديها نظامها الخاصّ من الأقراص والمؤشّرات: الأشكال والألوان التي نراها، الأصوات التي نسمعها، والنكهات التي نتذوّقها. وما نراه هو "أفضل تخمين" تطوّري أنشأته بيولوجيّتنا. انه يرسم صورة جميلة، لكن الصورة ليست الحقيقة.
    هذا هو الاستنتاج المذهل الذي توصّل إليه فريق من جامعة كاليفورنيا. لقد أظهروا من خلال التحليل والتجريب أن حواسّنا مبنيّة تطوّريا لتكوين فكرة مفيدة، ولكنّها صورة غير حقيقية للواقع، بل واحدة تناسب بقاءنا.
    وكما يقول أحد العلماء: قد يبدو الأمر معقّدا للغاية، لكنه كلّه يتلخّص في السؤال الأهمّ على الإطلاق: ما هو الواقع؟ وإذا كان مختلفا تماما عن الألوان والأشكال والأصوات والأنسجة التي نسميها "المادّة"، فما هو إذن؟!

  • هذه حكاية قديمة جدّا عن رجل بخيل أخفى كيسا من العملات الذهبية تحت جذع شجرة في حديقته. وكان يذهب الى هناك كلّ أسبوع لينظر إلى الذهب لساعات ثم يغادر. وفي أحد الأيّام، وبطريقة ما، عرف لصّ بمكان الذهب فاستخرجه وسرقه. وعندما أتى البخيل بعد ذلك لينظر إلى كنزه، لم يجد سوى حفرة فارغة.
    فبدأ يصرخ ويلطم حزنا على ما حدث. وجاء إليه جيرانه مسرعين لاستطلاع الخبر. فلمّا علموا بالقصّة سأله أحدهم: هل استعملت شيئا من الذهب؟ فقال البخيل: لا. كنت فقط أنظر إليه كلّ أسبوع."
    فقال له الجار ساخرا: حسنا، مقابل النفع الذي قدّمه لك الذهب، من الأفضل أن تأتي الى هنا كلّ أسبوع كما كنت تفعل وتنظر إلى الحفرة وهذا يكفي."
    والعبرة من القصّة هي أن الثروة ليست مهمّة بحدّ ذاتها، إنما المهم أن نستفيد منها ونستمتع بها سواءً كنّا أغنياءَ أو فقراء.

  • Credits
    suite101.com
    pablopicasso.org