:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات شعر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات شعر. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، سبتمبر 25، 2024

أرواح دانتي


في ملحمته المؤلّفة من ثلاثة أجزاء، يصف دانتي رحلته الخيالية عبر الجحيم والمطهّر، وأخيراً رؤيته لرحلة مذهلة عبر الجنّة (أو الفردوس). وعلى طول الطريق، يواجه مجموعة من الأفراد الذين كان يعرفهم جيّداً أو يعرفهم عن قرب، فيتوصّل إلى طريقة مثالية لمكافأة أولئك الذين كان يوافقهم ومعاقبة الذين اعتبرهم أشراراً. فيحمل معه الأشخاص الذين كان يعتقد أنهم يستحقّون الجنّة، بينما يملأ جهنّمه بأولئك "الخطّائين والدنيئين" من عصره ومن عصور سابقة.
وقد كُتبت مجلّدات عديدة عن الشاعر وكتابه. لكن إجمالا لم تسفر تلك الكتابات عن أيّ نتائج مهمّة، بسبب ضياع سيرته الذاتية إلى الأبد. كان دانتي رجلاً متجوّلاً وحزيناً، ولم يدوَّن عنه الكثير من المعلومات أثناء حياته. وما كُتب عنه اختفى معظمه في غبار الزمن الطويل الذي يفصلنا عنه الآن.
فقد مرّت سبعة قرون منذ توقّف عن الكتابة والعيش. وبعد كلّ التعليقات، فإن الكتاب نفسه، أي "الكوميديا الإلهية"، هو كلّ ما نعرفه عن دانتي. وربّما نضيف صورة للرجل تُنسب إلى الرسّام جيوتو. وهناك لوحة أخرى "فوق" رسمها له الفنّان الإنغليزي من أصل إيطالي غابرييل روزيتي.
وفي كلا الصورتين، يظهر دانتي ملفوفاً بالحزن والألم. هذا هو الوجه الأكثر حزنا على الإطلاق؛ وجه مأساويّ ومثير للمشاعر، تشي ملامحه وكأن صاحبه متجمّد في تناقض حادّ، في حالة إنكار وعزلة وألم ويأس. روح ناعمة خفيفة، لكن تبدو صارمة ولا تقبل المساومة!
ومع ذلك، فهو أيضا ألم صامت واحتقار صامت: تنثني الشفاه في نوع من الازدراء للشيء الذي يأكل قلبه كما لو كان شيئا حقيرا تافها، وكأن من كانت لديه القدرة على تعذيبه وخنقه أعظم منه. إنه وجه شخص يحتجّ تماما ويخوض معركة مدى الحياة بلا استسلام. كلّ المودّة تحوّلت إلى سخط، سخط لا هوادة فيه، بطيء وهادئ وصامت مثل عين قدّيس قديم!
والعين أيضا تنظر في نوع من المفاجأة والتساؤل: لماذا حدث ما حدث؟ غضِبَ الأمير فلماذا يغضب الآخرون؟! هذا هو دانتي، هكذا ينظر هذا الصوت الذي صمت سبعمائة عام وهكذا يغنّي لنا أغنيته الصوفية التي لا يمكن فهمها.
القليل الذي نعرفه عن حياة دانتي يتوافق جيّدا مع هذه الصورة ومع هذا الكتاب. ولد في فلورنسا، في الطبقة العليا من المجتمع، في عام 1265. وكان تعليمه هو الأفضل في ذلك الوقت: الكثير من اللاهوت المدرسي والمنطق الأرسطي وبعض الكلاسيكيات اللاتينية.
وبطبيعته الذكيّة الجادّة، اكتسب من كلّ علم أفضل ما فيه. كان لديه فهم واضح ودقّة كبيرة. وكان يعرف بشكل جيّد ما يكمن بالقرب منه. ولكن في مثل ذلك الوقت، حيث لم تكن هناك كتب مطبوعة أو علاقات حرّة، لم يكن بوسع دانتي أن يعرف جيّدا ما هو أبعد. وفي حياته، خرج مرّتين في حملة عسكرية كجنديّ لدولة فلورنسا. وفي عامه الخامس والثلاثين، وبفضل تدرّج طبيعي في الموهبة والخدمة، أصبح قاضيا كبيرا في فلورنسا.
وقد التقى في صباه بفتاة صغيرة جميلة تُدعى بياتريس "أو بياتريتشا بالايطالية" بورتيناري. كانت في مثل سنّه ورتبته. وكبُر منذ ذلك الحين وأصبح يراها من وقت لآخر ومن بعيد. ويعرف الناس روايته المؤثّرة عن هذه العلاقة ثم انفصالهما وزواج الفتاة من شخص آخر ثم وفاتها بعد ذلك بفترة وجيزة. وبياتريس شخصية عظيمة في قصيدة دانتي. ويبدو أنها لعبت دورا مهمّا في حياته.


وعندما كتب عنها كمرشدة له عبر الأفلاك الدوّارة إلى الفردوس، وفَى دانتي أخيراً بوعده أن يكتب عنها ما لم يكتبه أحد قطّ عن امرأة. ومن بين جميع الكائنات، بدا وكأنها بعيدة عنه في الأبدية المظلمة رغم أنها الوحيدة التي أحبّها بكلّ عاطفته. لكنها ماتت فجأة، أما دانتي نفسه فقد تزوّج. لكن يبدو أنه كان بعيدا جدّا عن السعادة. ولم يكن من السهل إسعاد ذلك الرجل الصارم الجادّ ذي الانفعالات القويّة والطبيعة الحادّة.
ولو سارت الأمور على ما يرام وكما أراد دانتي، لكان ممكنا أن يصبح عمدة لمدينة فلورنسا أو بوديستا أو أيّ مدينة أخرى. لكن شاء القدر أن يكون للشاعر مصير أسمى، وهو الذي كافح كرجل يقاد الى الموت والصلب. لم يكن يعرف، أكثر منّا، ما هي السعادة الحقيقية أو التعاسة الحقيقية.
في دير دانتي، ارتفعت الاضطرابات المربكة إلى مستوى عالٍ، حتى أن دانتي، الذي بدا أن حزبه الأقوى، أُلقي مع أصدقائه فجأة الى المنفى وحُكِم عليه منذ ذلك الحين بحياة من البؤس والتجوال وصودرت كلّ ممتلكاته وأكثر. وكان لديه شعور شرس بأن هذا كان ظلما فادحا وشرّا في نظر الله والإنسان. وقد حاول بكلّ ما في وسعه أن يعاد النظر في الحكم بلا جدوى.
وهناك سجلّ لا يزال موجودا في أرشيف فلورنسا يقضي بإحراق دانتي أينما تمّ القبض عليه حيّا، نعم الحرق حيّا! هكذا تقول وثيقة مدنية غريبة للغاية. وهناك وثيقة أخرى غريبة أيضا، صدرت بعد سنوات عديدة، وهي رسالة كتبها دانتي إلى قضاة فلورنسا ردّاً على اقتراح أكثر اعتدالاً قدّموه له، وذلك بأن يعود بشرط الاعتذار ودفع غرامة. فأجاب بفخر صارم وعزيمة ثابتة: إذا لم أستطع العودة دون أن أتهم نفسي بالذنب فلن أعود أبداً".
الآن لم يعد لدانتي وطن في هذا العالم. وأصبح يتنقّل من راعٍ إلى راعٍ ومن مكان لآخر وأثبت بكلماته المريرة كم هو صعب الطريق!". لم يكن دانتي، الفقير المنفيّ، بطبيعته الجادّة المغرورة ومزاجه المتقلّب، رجلاً قادراً على استرضاء الحكّام. ويروي عنه بترارك أنه عندما كان في بلاط الأمير "ديلا سكالا"، وقف هذا الأخير بين حاشيته مبتهجا مسرورا يحيط به المهرّجون والمضحِكون.
وعندما التفت إلى دانتي، قال له وهو يشير الى أحد المهرّجين: أليس من الغريب الآن أن يجعل هذا الأحمق المسكين نفسه مسليّا للغاية، بينما أنت الرجل الحكيم تجلس هناك يوما بعد يوم وليس لديك ما تسلّينا به على الإطلاق؟". وقيل ان دانتي أجاب بطريقة أغضبت الدوق. وثبت أن مثل هذا الشاعر، بطريقته الصامتة المتغطرسة وسخريته وأحزانه، غير مقدّر له أن ينجح في البلاط.
وبمرور الوقت، أصبح من الواضح أنه لم يعد لديه أيّ مكان للراحة في هذه الأرض. لقد طرده العالم الأرضي ليتجوّل طويلا طويلا. وأخيرا وجد له ملاذا عند دوق ڤيرونا. وأصبح هناك الآن قلب يحبّه ومكان يأوي إليه ويواري فيه بعض حزنه المقيم.
الممالك الثلاث في "الكوميديا الإلهية"، الجحيم، والمطهّر، والفردوس، تطلّ على بعضها البعض وكأنها أقسام من مبنى عظيم. إنها كاتدرائية عالمية خارقة للطبيعة، متراكمة هناك، وصارمة ومهيبة ورهيبة. هذا هو "عالم أرواح" دانتي! وقد اعتاد أهل ڤيرونا عندما يرون الشاعر في الشوارع أن يقولوا: أنظروا! هذا هو الرجل الذي كان في الجحيم!". نعم، لقد كان في الجحيم، في الجحيم بما فيه الكفاية، في حزن شديد وصراع طويل، كما هو الحال بالتأكيد مع أمثاله.
ذات مرّة، قال كاتب معاصر عن "الكوميديا الإلهية" إنها نشأت من المناظر الطبيعية الخضراء المزروعة بعناية فائقة في الشعر الإيطالي القديم، وكأنها جبل صخري ضخم مغطّى بالغيوم بشكل لا يمكن اختراقه". في عمل دانتي، كلّ شيء يبدو وكأنه منصهر في حرارة الشمس. ونحن لا نصبح كاملين إلا من خلال المعاناة. وربّما نستطيع أن نقول إن الشدّة هي السمة الغالبة على عبقرية الشاعر. وهو لا يظهر أمامنا كعقل كاثوليكي كبير، بل كعقل ضيّق، بل وحتى طائفي. إنه ثمرة عصره ومكانته وجزء من طبيعته الخاصّة.
يخبرنا الرسّامون أن رافائيل كان أفضل رسّامي البورتريه على الإطلاق. لكن لا يمكن لأيّ عين موهوبة أن تستنفد أهمّية أيّ شيء. ففي أبسط وجه بشري يوجد أكثر مما يستطيع رافائيل أو غيره أن يأخذه معه. ولوحات دانتي التي رسمها في قصيدته الطويلة كانت موجزة ومكثّفة وحيوية كالنار في الليل البهيم.

Credits
worldofdante.org
digitaldante.columbia.edu

الخميس، يوليو 25، 2024

في الغابة/2


  • المفكّر والفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو الذي قضى فترة من حياته في وسط غابة يقول: ذهبت إلى الغابة لأنني كنت أرغب في أن أعيش حياة مدروسة، وأن أواجه فقط الحقائق الأساسية للحياة، وأرى ما إذا كان بمقدوري تَعلُّم ما يجب أن تعلّمني إيّاه الحياة، ولكيلا أكتشف عندما يحين موعد موتي أنني لم أعش. أن تضيع في الغابة في أيّ وقت هي تجربة مدهشة ولا تُنسى."
  • الدخول إلى عالم الفنّان الفرنسي هنري روسو يشبه الدخول إلى أعماق غابة يوحي شكلها بالمتاهة، حيث تتكشّف أنواع القصص والدراما المختلفة من خلف الأغصان والنباتات والأشجار. كان هذا الرسّام يرى العالم كغابة ويعبّر من خياله عن العالم كما يراه. وكان دائما يقول: لا شيء يجلب لي السعادة أكثر من تأمّل الطبيعة ورسمها".
  • دستويفسكي يشير في فقرة من روايته الأشهر "الإخوة كارامازوف" إلى لوحة يصفها بالمذهلة للرسّام إيفان كرامسكوي، تظهر فيها غابة في الشتاء ورجل يقف بمفرده على الطريق بثياب رثّة وحذاءين باليين. ثم يعلّق على اللوحة بقوله: هناك أشخاص كثر يعيشون في هذا العالم، ليسوا بالسيّئين أو الأشرار، لكن لا فائدة منهم أيضا".
  • باولو اوتشيللو رسّام إيطالي عاش في القرن الرابع عشر. وأشهر لوحة له صوّر فيها رحلة صيد في غابة ليلية لعدد من أثرياء فلورنسا مع حاشيتهم وخدمهم. وقد ملأ الرسّام اللوحة بصور لفرسان مع خيول وكلاب. في زمن اوتشيللو، كان الصيد هو الرياضة المفضّلة للعائلات الموسرة. ولطالما ارتبطت طقوسه بالزواج، إذ كانت مطاردة الحيوانات وصيدها هي الصورة المجازية للسعي في طلب المحبوب وخطب ودّه.
  • جيم كوربيت عالم طبيعة إنغليزي قضى سنوات طويلة في الهند في بدايات القرن الماضي وكتب كثيرا عن غابات تلك البلاد وعن جمال وتنوّع حياتها الفطرية. يقول واصفا غابة:
    اللون الأزرق الفولاذي للبِركة المحاطة بأشجار السرخس حيث يرتاح الماء قليلاً قبل أن يتدفّق فوق الصخور والحصى ليأخذ أنفاسه مرّة أخرى في بركة أخرى أكثر جمالا من تلك التي تركها للتوّ، وميض طائر الرفراف الملوّن وهو يكسر سطح الماء ويُسقط وابلا من الماس من أجنحته وهو يرتفع بزقزقة مبهجة بينما سمكة صغيرة فضّية مثبّتة بقوّة في منقاره القرمزي، النداء اللحني الواضح للغزلان المرقّطة إذ تُبلِغ أهل الغابة أن النمر، الذي تظهر آثار أقدامه مبلّلة على الرمال حيث عبَر النهر قبل بضع دقائق، يبحث عن عشائه."
  • "مكتبة المستقبل" مشروع ثقافي عالمي يعتمد على أشجار غابة. وقد تمّ بموجب المشروع تكليف عدد من الروائيين العالميين الأحياء بأن يكتب كلّ منهم مخطوطة رواية، على ألا تُطبع وتُنشر إلا بعد 100 عام من الآن.
    ولهذا الغرض زُرعت 1000 شجرة صنوبر في غابة بأوسلو على أن تُقطع الأشجار بعد 100 عام وتُحوّل إلى ورق تُطبع عليه مخطوطات الكتب التي يُرجّح ألا يكون مؤلّفوها على قيد الحياة في ذلك الوقت.
    ومن الروائيين الذين فرغوا بالفعل من كتابة مخطوطات رواياتهم وسلّموها لأمانة المكتبة كلّ من النرويجي كارل كنوسغارد والتركية اليف شفق والكندية مارغريت ايتوود.
  • الرسّام الروسي إيفان شيشكين من القرن التاسع عشر له لوحة جميلة ولا يخلو اسمها من شاعرية: أمطار في غابة الصنوبر" (فوق). الصورة تثير إحساسا بالألوان الزاهية وبالسماء الأكثر إشراقا. والرسّام يخلق شعورا حقيقيّا بالعالم، حيث الطبيعة ليست طيّبة أو شرّيرة.
    وهو يقودك في السير على طريق، ومن السهل عليك بعدها أن تقتفي خُطاه. كما انه يمنح الناظر انطباعا بأن السماء تمطر. كان شيشكين يُلقّب بـ "شاعر الغابات الملحمية الروسية" لإمساكه بمواسم الغابات وتعبيره عن أمزجة الطبيعة المتغيّرة.


  • غابات السنديان ترتبط بعدد من ثقافات العالم. في أساطير الشمال الأوربّي، السنديان هي الشجرة المقدّسة لإله الرعد الإسكندنافي تور. واليونانيون اعتبروها مقدّسة لأنها شجرة زيوس كبير الآلهة. وتعيش السنديانة لقرون وأحيانا لألف عام. ومن أشهرها تلك التي زرعها الملك الانغليزي جون وعاشت 800 عام وعاصرت حكم 35 ملكا.
    أما أشهر شجرة سنديان على الاطلاق فتقع وسط غابة شيروود بإنغلترا. ويقال إن عمرها ألف عام وأنها نفس الشجرة التي كان يلجأ إليها روبن هود ورجاله الخارجون عن القانون. ومن المعروف أن السنديانة تدعم النظام البيئي وتخدم الكائنات التي تتغذّى عليها.
  • الروائي روبرت لويس ستيفنسون مؤلّف "جزيرة الكنز" يقول: لا تسيطر الغابة على قلوب البشر بسبب جمالها، بل بسبب ذلك الشيء الدقيق؛ تلك النوعية من الهواء المنبعث من الأشجار القديمة، والتي تعمل بشكل رائع على تغيير وتجديد الروح المتعبة."
  • الفنانّة فريدا كالو رسمت نفسها وصراعها مع الألم كثيرا. في إحدى أشهر لوحاتها التي رسمتها بعد عملية جراحية في العمود الفقري إثر حادث سيّارة، صوّرت الفنّانة المكسيكية نفسها بجسد غزالة تعدو في غابة مهجورة وفارغة وجسدها دامٍ ومثقل بالجراح من أثر السهام المنغرسة فيه. والمنظر يُوصل إحساسا بالعزلة واليأس.
  • في هنغاريا ووسط غابات كثيفة وجبال عالية يقوم متنزّه يقال إنه أحد أفضل الأماكن على الأرض للتحديق في النجوم وتصويرها. كما أنه جنّة للطيور النادرة. السماء هناك تصبح في بعض الليالي صافية جدّا، لدرجة أن أجراما سماوية مثل مجرّة المثلّث يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة.
  • الكاتبة ليزا كليباس تُورد وصفا بديعا لغابة حُوّل جزء منها إلى حديقة لقصر ضخم. تقول:
    كانت الغابة المحيطة بالحديقة عميقة وكثيفة، لدرجة أنها تبدو بدائية المظهر، في حين بدت الحديقة التي تبلغ مساحتها 12 فدّانا خلف القصر مثالية للغاية بحيث لا يمكن أن تكون حقيقية.
    وكانت هناك بساتين ومروج وبرَك ونوافير. كانت حديقة ذات أمزجة متعدّدة، تتراوح ما بين الهدوء والصخب الملوّن. حديقة منضبطة، كلّ خصلة من عشبها مجزوزة بدقّة، وزوايا سياج الصناديق مقصوصة لتصبح حادّة مثل السكّين.
    بدون قبّعة أو قفّازات، ومشبعة بإحساس مفاجئ بالتفاؤل، تنفّست أنابيل بعمق من هواء الريف. دارت حول حافّة الحدائق المتدرّجة في الجزء الخلفي من القصر واتبعت درباً مرصوفا بالحصى يقع بين أسرّة مرتفعة من الخشخاش وأزهار الراعي.
    وسرعان ما أصبح الجوّ معطّرا بشذى الزهور، حيث كان الدرب موازيا لجدار حجريّ جافّ مغطّى بأوراق من الأزهار الوردية والكريمية. وأثناء تجوالها البطيء، عبرت أنابيل بستانا من أشجار الكمّثرى القديمة التي نحتتها عقود من الزمن وحوّلتها إلى أشكال رائعة."
  • في منمنمة شرقية ذات تفاصيل وألوان رائعة رُسمت حوالي القرن السادس عشر الميلادي، نرى مشهدا لغابة ليلية تجري على أرضها مسابقة للصيد بين ثلاثة رجال يمتطون الخيل ويهاجمون مجموعة من الأسود والظباء والطيور. ويُرجّح أن هذه اللوحة رُسمت في الأصل لتزيّن غلاف كتاب أو ديوان شعر.
  • هيرسينيا اسم غابة عمرها أكثر من ١١ ألف عام، كانت في الماضي تمتدّ عبر أراضي عدّة دول اوربّية، أهمّها ألمانيا. وقد تحدّث عنها القائد الروماني يوليوس قيصر في أحد كتبه فقال إنها من الاتساع بحيث يحتاج الإنسان لـ ٩ أيّام لقطعها بالعرض.
    كما أشار إلى أنواع من الحيوانات والنباتات الغريبة التي رآها من قُدّر لهم الذهاب إلى هناك. ويتفق قيصر مع كلّ من أرسطو وهيرودوت وبليني الأكبر في أن هذه الغابة التي تردّد اسمها كثيرا في كتب القدماء قد تكون الموطن الأوّل لحيوان اليونيكورن الأسطوري أو حيوان آخر قريب الشبه به.

  • Credits
    poets.org
    jimcorbett.in
    georgiaokeeffe.net

    الأربعاء، يوليو 24، 2024

    في الغابة/1


    حتى مع استمرار تقلّص مساحات الغابات في العالم، يبدو الأدباء والكتّاب والفنّانون ميّالين أكثر فأكثر إلى تصوير الغابات كواحات للخلاص وملاذات للتحرّر من قيود وآفات الحضارة المعاصرة.
    أبطال القصص الخرافية غالبا ما يجدون طريقهم إلى الغابة. هناك يضيعون ثم يجدون أنفسهم، ويكتسبون فكرة عمّا يجب القيام به. والغابة دائما هائلة وغامضة. لا يمكن أن يفرض أحد سلطته عليها على الإطلاق، لكنها تملك القدرة على تغيير الحياة وتغيير المصائر.
    الغابة، هذا الفضاء البرّي يمثّل حدود قدرة الإنسان، وهو مكان يمكن أن يحدث فيه أيّ شيء.
  • في ملحمة غلغامش، يسافر الأبطال إلى غابة الأرز لمحاربة الوحوش. وغابة ميركوود لتولكين، المستمدّة من الأساطير الإسكندنافية، تُعتبر غابة سحرية خطرة للغاية، لدرجة أنه حتى الآلهة كانت حذِرة من دخولها. ودانتي يبدأ رحلته الشعرية الملحمية في غابة معتمة وغامضة، حيث يضلّ طريقه. كان الرومان يعتقدون أن المدخل الى الهاوية المؤدّية الى الجحيم يمرّ عبر غابة.
  • وفي ملحمة فرجيل، يقرّر البطل اينياس الذهاب إلى العالم السفلي ليرى طيف والدته الراحلة. وفي الطريق يقابل عرّافة توافق على مرافقته في الرحلة. ويذهب الاثنان إلى مكان فيه بحيرة عميقة تحيطها غابة مظلمة يُفترض أنها تقود إلى عالم الموتى. الرسّام وليام تيرنر تخيّل ذلك المنظر واستبدل البحيرة الأسطورية ببحيرة حقيقية.
  • أسطورة الرجل الذئب تفترض أن بعض البشر، وبفعل قوى خفيّة وشرّيرة، يتحوّلون في الليل إلى ذئاب تعوي وتتجوّل في الغابات والجبال بحثا عن فرائس. فإذا ما بزغ الفجر تخفّفوا من شخصياتهم الذئبية وعادوا إلى طبيعتهم البشرية.
  • في القصص الخيالية الحديثة، مثل المستذئب ومصّاص الدماء وبياض الثلج وهاري بوتر وغيرها، تكون الغابة محطّة أساسية في رحلة البطل ومكانا للخطر والاحتمال والمغامرة. وأحيانا تُصوّر على أنها حالمة ومصدر للأمل. لكن يمكن أن تكون الغابة أيضا مكانا للوحوش والشياطين الداخلية والقرناء والأشباح التي كثيرا ما تُربط بالجزء البدائي من الانسان.
  • وفي الأساطير الألمانية القديمة، تشكّل الغابة بوّابة مفتوحة على عالم غامض تسكنه مخلوقات غريبة لا تظهر إلا ليلا. لوحة الرسّام كاسبار دافيد فريدريش "رجلان يتأمّلان القمر" تعكس هذه الفكرة تماما. فالقمر يبدو مثل عين تكشف أسرار الغابة الخضراء المظلمة للرجلين اللذين يراقبانها من نقطة عالية وهما مختبئان خلف شجرة.
    الغابات تشكّل حوالي 30 بالمائة من مساحة أراضي ألمانيا. وعبر تاريخهم، كان الألمان يتخيّلون وطنا تغطّيه الغابات من أقصاه إلى أقصاه. وهم يرون في الغابة طبيعة وطنية وأسطورة قومية ومستودعا قويّا للذكريات التاريخية.
  • الفنّان الايطالي ساندرو بوتيتشيللي اختار غابة أسطورية متخيّلة ليضع فيها شخصيات لوحته الأشهر "الربيع" التي رسمها في فلورنسا في القرن الخامس عشر.
    وقد أحصى بعض علماء النبات أكثر من 400 نوع من النباتات في اللوحة، منها حوالي 200 زهرة. ولأنها تتضمّن صور شخصيات مثل فينوس ربّة الجمال والملهمات الثلاث وفلورا ربّة الربيع التي ترتدي ثوبا مشجّرا، فقد شاع انطباع بأن اللوحة صورة مجازية عن الزواج.
  • بابلو نيرودا، شاعر تشيلي، يقول واصفا رحلة له ذات يوم في غابة من غابات بلاده:
    أسفل البراكين وبجوار الجبال المغطّاة بالثلوج ووسط البحيرات الضخمة، تقع الغابة التشيلية العطرة والصامتة والمتشابكة الأشجار.
    أمّة من الطيور ووفرة من أوراق الشجر. تغوص قدماي في الأوراق الميّتة. يفرقع غصين هشّ. ترتفع أشجار الراولي العملاقة بكلّ خشونتها. وعلى ارتفاع شاهق، يمرّ طائر في الغابة الباردة، يرفرف بجناحيه، ويتوقّف في الأغصان التي لا شمس فيها. أنفاس عذبة تداعب وجهي، بينما يختفي قوس قزح اللامع مثل البرق.
    ويضيف: أمُرّ عبر غابة من السرخس أطول منّي بكثير. ومن عيونها الخضراء الباردة، تتساقط ستّون دمعة على وجهي. وفي الأسفل، تنزلق المياه البلّلورية فوق الغرانيت واليشَب، وتمرّ فراشة مشرقة كالليمون، ترقص بين الماء وأشعّة الشمس. وفي الأعلى، تتدلّى نقشات حمراء من أزهار اللاباجيريا مثل قطرات من شرايين الغابة السحرية.
    ثعلب يقطع الصمت مثل وميض ويرسل رعشة عبر الأوراق. صرخات مسموعة بالكاد لبعض الحيوانات الحائرة من بعيد. لكن الصمت هو قانون مملكة النباتات. إن أيّ شخص لم يرَ الغابة التشيلية لا يعرف هذا الكوكب. لقد خرجتُ من هذا المشهد الطبيعي الذي يمتزج فيه الطين بالصمت، لأتجوّل وأغنّي في هذا العالم".


  • الرسّامة الأمريكية جورجيا اوكيف كانت ترى في جبل باديرنال والغابة والبحيرة المحيطة به مصدر إلهام روحي وفنّي لها. كانت تنظر كلّ يوم الى تلك الطبيعة الفخمة من نافذة بيتها في نيومكسيكو وترسمها. وقد قالت عن الجبل مرّة: هذا جبلي، وقد أخبرني الربّ أنني إذا رسمته بما يكفي فسيصبح ملكي". وعندما ماتت، وتنفيذا لوصيّتها، نُثر رمادها فوق الجبل كشهادة على الآصرة الوجدانية والفنّية التي كانت تربطها به.
  • بعض كتب الأدب والقصص الشعبية تورد قصصا عن "أطفال الغابات" الذين يتربّون ويعيشون في كنف حيوان في البرّية (غزالة أو قرد أو ذئبة مثلا). ومع الأيّام يتعلّمون مهارات المشي على أربع والبحث عن غذاء والصراخ كالحيوانات وما إلى ذلك.
    ومن الأمثلة المشهورة على طفل الغابة رومولوس مؤسّس روما الذي يقال انه تربّى وعاش في رعاية ذئبة، وموغلي الذي ابتكر حكايته الكاتب الانغليزي كيبلنغ، وإنكيدو بطل ملحمة غلغامش الذي عاش مع السباع وتطبّع بطباعها إلى أن روّضته امرأة، وحيّ ابن يقظان الذي أرضعته وربّته غزالة، وأخيرا الطفلة التي رعتها نعامة في الصحراء الكبرى وأصبحت تتصرّف مثل قطيع النعام الذي عاشت معه، فتسابقهم وتأكل أكلهم وتعيش مثلما يعيشون.
    ويبدو أن ابتكار مثل هذه القصص وانتشارها يعكس حنين الإنسان إلى حياة أسلافه الذين عاشوا في البراري والغابات منذ أقدم الأزمنة. وهناك سبب آخر يتمثل في أن شخصيات هذه القصص تنجح في عبور الخط الفاصل بين الإنسان والحيوان، بين الطبيعي وغير الطبيعي وبين الحضاري والفطري.
    وربّما هناك عامل آخر هو افتتان الإنسان بالوحش الذي بداخله، وإعجابه بالفكرة القديمة عن "الهمجيّ النبيل" الذي لم تلوّثه الحضارة الحديثة وظلّ محتفظا في داخله بنقاء وطيبة الإنسان الأوّل.
  • في كتب ومخطوطات وقصص القرون الوسطى، راجت في أوربّا حكايات عن كائن سُمّي بمخلوق الغابات. وهو وحش شبيه بالإنسان، يغطّي الشعر كامل جسده. وأحيانا يُشبّه بـ إنكيدو غلغامش، من حيث انه لا يمكن ترويضه إلا على يد امرأة تقيّة.
  • الفنّان البلجيكي رينيه ماغريت رسم لوحة ذات تفاصيل نحتية أسماها "الغابة"، وفيها نرى تمثالا نصفيّا لرجل يستند على قاعدة اسطوانية بنّية اللون، وفي الخلفية ستارة وجدار. لكن ليس في اللوحة ما يدلّ على الاسم، باستثناء أن ملامح وجه التمثال تنبثق عنها فروع شجرة.
  • جون موير داعية البيئة الشهير الذي قضى معظم حياته في الغابات كتب ذات مرّة يقول: في الغابة سيتدفّق سلام الطبيعة إليك كما يتدفق ضوء الشمس إلى الأشجار. وستهبك الرياح نضارتها، والعواصف طاقتها، بينما تتساقط همومك مثل أوراق الخريف."
  • الرسّام الصيني الطاويّ القديم تشنغ تشي رسم 800 لوحة لغابات الخيزران. كان يرى فيها نموذجا لما يمكن أن يفعله الإنسان الحكيم. وكتب على إحدى تلك الصور بيتا من الشعر يقول مخاطبا فيه أشجار الخيزران: لتقفي أمام الجبال بصلابة، ولتقاومي العواصف بشموخ، ولتكوني أكثر قوّة بعد كلّ امتحان".
    كانت رسالة الشاعر موجّهة ظاهريا لتلك الأشجار. لكنه كان طبعا يخاطب الإنسان في كلّ مكان. الفلسفة الطاوية احتفت بهذه الأشجار منذ القدم وتناولت صفاتها الرمزية. فعيدان الخيزران مفرغة من الداخل، لكن ذلك الفراغ هو مصدر قوّتها وبقائها. فهي تنحني بمرونة أمام العواصف، ثم لا تلبث أن تقف من جديد بعد زوال الخطر. ولهذا ينصح الفيلسوف لاو تسو الإنسان بأن يكون مرنا وقويّا كالخيزران.
  • وفي العديد من الثقافات التي تُوصف بالبدائية، تتطلّب التنشئة القبلية قضاء الفرد فترة طويلة بمفرده في الغابات أو الجبال كي يتصالح مع العزلة ويتكيّف مع أخطار الطبيعة وليكتشف من هو حقّا بدل أن يفرض عليه المجتمع من هو وماذا سيكون مستقبلا.
  • الاثنين، يوليو 22، 2024

    أغاني طاغور


    ذات ليلة، رأى أحد مُلّاك الأراضي الهنود في المنام ثلاث عشرة نخلة متساوية الطول، وقد نمت كلّها في مكان ظليل، بينما كانت الشمس تشرق على مكان آخر مليء بالأعشاب الخضراء. وبينما كان الرجل يتأمّل المنطقة المغمورة بضوء الشمس، رأى نخلة جديدة تنمو في الأرض وتتطاول ثم تطرح ثمرا مختلفا أنواعه، بينما أناس كثيرون يتحلّقون حول النخلة ويأخذون من ثمارها العجيبة.
    ولما استيقظ الرجل من حلمه ذهب إلى أحد الكهنة كي يفسّر له الحلم. فقال له: النخلات الـ 13 هي مجموع بناتك وأبنائك، وأمّا النخلة الـ 14 التي نمت في بقعة مشرقة فمولود ستُرزق به قريبا وسيكون له شأن عظيم. ولكن إيّاك أن تضعه في البقعة البعيدة عن النور، أي في نفس مسار الحياة الذي تضع فيه أبناءك الآخرين. ولا تعلّم ابنك القادم الفلاحة وجني المحاصيل كبقيّة أولادك، بل إهتمّ بتعليمه وتثقيفه لأنه سيكون متميّزا كثيرا وسيستفيد من علمه وأدبه خلق كثير. ولا تحدّث أحدا بحلمك هذا مخافة الحسد، كما تعلم".
    وبعد سنوات، أخبر الرجل ابنه رابندرانات طاغور بذلك الحلم بعد أن كبر. وظلّ طاغور يتفاءل بالرقم 14 طوال حياته. وألّف أوّل قصيدة له وهو في سنّ الـ 14. كما كان يحتفظ بقفص فيه 14 طائرا من طيور الزينة. وكان من عادته أن يفتح لها باب القفص كلّ صباح، فتطير وتحلّق في السماء بضع دقائق ثم تعود إليه طائعة.
    كان تأثير رابندرانات طاغور (1861-1941) على عقل الهند وأجيالها الصاعدة المتعاقبة هائلاً. ولم تكن اللغة البنغالية فقط، أي اللغة التي كان يكتب بها، بل إن جميع اللغات الحديثة في الهند آنذاك قد تشكّلت جزئياً من خلال كتاباته.
    ولم تقتصر مسيرته المهنية التي امتدّت لأكثر من 60 عاماً على توثيق نموّه الشخصي وتنوّعه فحسب، بل عكست أيضاً التقلّبات الفنّية والثقافية والسياسية التي شهدتها الهند في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين.
    كانت البيئة الفنّية التي عاش فيها طاغور وجمال الطبيعة والشخصية الوقورة لوالده من بين المؤثّرات الأولى التي شكّلت حساسيّته الشعرية. في كتابه "حياتي" يتذكّر الشاعر بداياته الأولى فيقول: كان أغلب أفراد عائلتي يتمتّعون بموهبة ما، بعضهم كانوا رسّامين وبعضهم شعراء وبعضهم موسيقيين. وكانت الأجواء في منزلنا مشبعة بروح الإبداع".
    وفي نفس الكتاب يتحدّث طاغور عن الطبيعة، مَدرسته المفضّلة، فيقول: كان لديّ إحساس عميق منذ الطفولة بجمال الطبيعة وبالرفقة مع الأشجار والسحب وبالتناغم مع اللمسة الموسيقية لهواء الفصول. وكلّ هذه العناصر كانت تتوق إلى التعبير، وبطبيعة الحال كنت أرغب في منحها تعبيري الخاص".
    في صغره ذهب طاغور مع عائلته الى دالهوزي، وهو منتجع جميل يقع في سفوح جبال الهيمالايا. كان يتجوّل هناك بحريّة من قمّة جبل إلى أخرى، وقد أذهله جمال وعظمة الجبال. وخلال فترة إقامته في تلك البقعة، تولّى والده تعليمه وقرأ معه مختارات من الأدب السنسكريتي والبنغالي والإنغليزي. ويقال إن ذكرى تلك الرحلة الساحرة ظلّت مرافقة لحياة رابندراناث وحافزاً لإعادة تمثيل تلك التجربة النموذجية.
    في ديوانه "أغاني الصباح"، يحتفل طاغور بفرحه باكتشاف العالم من حوله. كان المزاج الجديد نتيجة تجربة صوفية مرّ بها أثناء نظره إلى شروق الشمس ذات يوم. يقول: بينما واصلت النظر، بدا فجأة أن حجابا سقط عن عينيّ ووجدت العالم غارقا في إشراق رائع، مع موجات من الجمال والفرح تتضخّم على كلّ جانب. اخترق هذا الإشراق في لحظة واحدة طيّاتِ الحزن واليأس التي تراكمت على قلبي وغمرته بفيض من النور الكوني".
    كان نشر ديوان "جيتانجالي"، أو قرابين الأغاني، الحدث الأكثر أهميّة في مسيرة طاغور في الكتابة، لأنه بعد ظهوره، فاز بجائزة نوبل في الأدب عام 1913، وهو أوّل تقدير من هذا القبيل لكاتب شرقي. وقد كتب الديوان بعد فترة قصيرة من وفاة زوجته وابنتيه وابنه الأصغر ووالده.
    يقول ابنه راثيندراناث واصفا ما حدث: ظلّ والدي هادئا ولم يزعج سلامه الداخلي أيّ كارثة مهما كانت مؤلمة. لقد منحه فقدُ أقاربه قوّةً خارقة لمقاومة المصائب الأكثر إيلاما والسموّ فوقها". كانت قصائد ذلك الديوان بمثابة بحث الشاعر عن السلام الداخلي وإعادة تأكيد إيمانه من خلال تنقية الذات وخدمة الإنسانية.


    في مقدّمته لديوان جيتانجالي، كتب الشاعر الإنغليزي وليام بتلر ييتس: لقد حملتُ مخطوطة هذه الديوان معي لأيّام، قرأتها في قطارات السكك الحديدية وفي الحافلات وفي المطاعم، وكثيراً ما اضطررت إلى إغلاقها خشية أن يرى شخص غريب كيف أثّرت فيّ". أما الشاعر إيزرا باوند فقد وصف الكتاب بأنه "سلسلة من الأغاني الروحية" وقارنه بجنّة دانتي واعتبره عمل طاغور الأكثر تميّزا.
    تقول إحدى قصائد الديوان:
    أنت! مَن تعبُد في هذه الزاوية المظلمة المنعزلة من المعبد حيث الأبواب مغلقة؟ اترك هذا الهتاف والغناء وقراءة الودع. وافتح عينيك لترى أن إلهك ليس أمامك. إنه هناك حيث يزرع الفلاح الأرض الخشنة وحيث يكسر صانع الطريق الحجارة. إنه معهم في الشمس والمطر وثوبه مغطّى بالتراب. انزع رداءك المقدّس وانزل مثلهم على التربة المغبرّة. اخرجوا من تأمّلاتكم واتركوا أزهاركم وبخوركم جانبا. ما الضرر إذا أصبحت ملابسكم ممزّقة وملطّخة؟ عندما كان الخلق جديدا وأشرقت جميع النجوم في روعتها الأولى، عقدَ الآلهة اجتماعهم في السماء وغنّوا لصورة الكمال وللفرح الخالص".
    ويضيف: مثل سحابة من شهر يوليو معلّقة بثقلها من الأمطار التي لم تهطل بعد، دع عقلي يا إلهي ينحني عند بابك تحيّة لك. دع كلّ أغانيّي تجمع نغماتها المتنوّعة في تيّار واحد وتتدفّق إلى بحر من الصمت تحيّة لك. ومثل قطيع من طيور الحنين التي تحلّق ليلا ونهارا عائدة إلى أعشاشها الجبلية، دع حياتي كلّها تأخذ رحلتها إلى موطنها الأبديّ تحيّة لك."
    في أعقاب الجدل العام الذي بدأ بين المهاتما غاندي وطاغور في عام 1921 بسبب معارضة الشاعر لحركة اللاعنف التي قادها غاندي، عانت شعبية طاغور من انحدار حادّ ووجد نفسه معزولاً علناً بشكل متزايد. لكنه فيما بعد استعاد جزءا مهمّا من شعبيته بعد تأليفه لكلمات النشيد الوطني الهندي، والذي يُعدّ إحدى مساهماته العديدة البارزة.
    ورغم أن طاغور كان شخصية مهمّة في الحركة القومية الهندية وغالبا ما كان ينتقد الحكم الاستعماري البريطاني، إلا أن أيديولوجيته السياسية كانت معقّدة وذات تفاصيل دقيقة ومتفرّعة. لكنه مثل غاندي، كان يقف ضدّ نظام الطبقات الهندي الذي كرّس مفهوم طبقة المنبوذين.
    وفي قصائده وأغانيه ومسرحياته ورواياته وأغانيه، كان دائما يقف في صفّ الفقراء والعاجزين والمضطهدين. كما أراد تحرير العقل البشري من كلّ أنواع الأفكار الشرّيرة والمعتقدات الخاطئة.
    أملى طاغور قصيدته الأخيرة قبل ساعات قليلة من وفاته في السابع من أغسطس عام 1941. ونشرت الصحف الرئيسية في العالم بيانات نعي أشادت به ووصفته بأنه "روح البنغال" و"أعظم أديب في الهند" و"سفير الصداقة بين الشرق والغرب".
    بالإضافة الى الشعر، كان طاغور رسّاما. لكنّه لم يمارس الرسم الا بعد أن تجاوز الستّين من عمره. وقد أدهش الكثيرين بتحوّله المتأخّر إلى الرسم. في ذلك الوقت بدأ يُرفق بعض أشعاره برسومات، بعضها له هو شخصيّا، والبعض الآخر رسم فيها رجالا ونساءً كان يعرفهم.
    وكان هو أوّل رسّام هندي يعرض أعماله في أوروبّا وروسيا وأمريكا. كان أسلوبه في الرسم يتميّز بأشكال حرّة بسيطة ونوعية إيقاعية. وقد رسم الوجه الإنساني بطريقة تذكّر بالقناع أو الشخصية. كانت رسوماته غير مخطّط لها، بل تشكّلت من خلال الصُدف والقرارات الحدسية.
    وبعضها كانت عبارة عن صور لحيوانات وطيور وصفها طاغور بأنها "أضاعت فرصة وجودها دون سبب وجيه" أو "لم تتمكّن من التحليق إلا في أحلامنا". وكان كثيرا ما يستمتع بإسقاط إيماءة بشرية على جسد حيوان أو العكس.
    وفي لوحاته للطبيعة، غالبا ما كان يصورّها مغمورةً بأنوار المساء مع سماء لامعة وأشكال تتوارى في ظلال مشؤومة، ما يثير هالة من الغموض والصمت المزعج. ومن الملاحظ أن طاغور لم يطلق أسماءً على لوحاته، على الأرجح كي يحرّرها من أيّ ارتباط أدبي ويشجّع المتلقّي على استنباط فهمه الخاص لمعانيها.
    من أشهر اقتباسات طاغور وصفُه لتاج محل بأنه "مثل دمعة على وجه الأبدية"، و"عندما أرحل من هنا دعني أقل لك كلمة وداع: إن ما رأيتُه لا يُضاهى"، و"الإيمان هو الطائر الذي يشعر بالضوء عندما يكون الفجر ما يزال مظلماً".
    وأفضل ختام للموضوع قصيدة أخرى لطاغور يقول فيها:
    أنفقتُ الكثير من المال لأرى العالم
    فتجوّلت في العديد من البلدان
    وقطعتُ البحار والمحيطات
    لكن لم أفطن ابداً
    لقطرة الندى المتألّقة
    فوق سنبلة القمح
    أمام عتبة داري."

    Credits
    scotstagore.org

    الاثنين، يوليو 15، 2024

    في حضرة أبي العلاء


    أوصى أبو العلاء المعرّي بأن يُكتب على شاهد قبره: هذا جناه ابي عليّ وما جنيت على أحد". لكن ألم يكن ابو العلاء شاعرا وحكيما وإنسانا عاقلا وناضجا؟ كيف إذن غاب عن باله ان الانسان مسئول بالكامل عن حياته؟ ولماذا علّق اخفاقاته على والده وبرّأ نفسه؟
    ربّما لم يكن المعرّي يقصد والده بشخصه، وإنما أزمته الوجودية هو بما لها من مظاهر متعدّدة، مثل معاناته في الحياة وتجربته مع فقدان نعمة البصر وفقره ومرضه والفتن والمآسي التي رآها وعاصرها، وأيضا الأذى والتشهير اللذين تعرّض لهما بعد اتهامه بالزندقة بسبب بعض شعره.
    لكن هناك من يرى أن المعرّي لم تكن أزمته الدِّين بل البشر، فقد كشفت له حساسيته المفرطة والصادقة عن عالم البشر مبكّرا. ولمّا لم يستطع أن ينجو منهم أو أن يشفي غليله منهم، اتّجه إلى نفسه يلومها ويؤلمها.
    وهناك من يؤكّد أنه كان يقصد والده الحقيقيّ فعلا لأنه رآه سببا في أزمته الوجودية عندما أتى به إلى هذه الدنيا المرعبة. ومن المعروف أن المعرّي لم يتزوّج فينجب، ولذا قال: وما جنيتُ على أحد".
    الكثير من شعر المعرّي يصحّ وصفه بأنه عابر للأزمنة والثقافات والأديان. ومن ذلك قوله:
    إذا الإنسان كفّ الشرَّ عنّي : فسُقيا في الحياةِ له ورَعيا
    ويدرسُ إن أرادَ كتابَ موسى : ويُضمرُ إن أحبَّ ولاءَ شَعيا
    والمعنى: ليكن دينك أو معتقدك ما تشاء. المهم أن تُسالم الناس وتكفّ أذاك عنهم.
    وأيضا قوله:
    أتتني من الإيمانِ ستّون حجّةً : وما أمسكتْ كفّي بثني عِنانِ
    ولا كان لي دارٌ ولا ربعُ منزلٍ : وما مسّني من ذاك روعُ جَنانِ
    تذكرتُ أني هالكٌ وابنُ هالكٍ : فهانت عليّ الأرضُ والثقلانِ


    في الأبيات السابقة يعلن أبو العلاء انه زاهد في الدنيا ومتاعها عندما يتذكّر أن كلّ شيء فيها محكوم بالفناء في النهاية.
    الفيلسوف الفرنسي باسكال اشتهر بمقولاته عن "حساب الاحتمالات"، وأشهرها الذي يقول فيه إن عاقبة الإيمان أفضل من عاقبة الإنكار. لكن المعرّي سبقه إلى هذه الفكرة بـ 500 عام عندما قال:
    قال المنجّم والطبيب كلاهما : لا يُبعث الأموات قلتُ إليكما
    إن صحّ قولكما فلست بخاسرٍ : أو صحّ قولي فالخَسار عليكما
    يروي الثعالبي انه سمع يوما شخصا يقول: لقيت بمعرّة النعمان شاعرا أعمى يلعب الشطرنج والنرد ويدخل في كلّ فنّ من الجد والهزل، يُكنّى ابا العلاء. وقد سمعته يقول: أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي وأحسن بي إذ وقاني رؤية الثقلاء والبغضاء".
    في حوالي عام ٣٩٨ للهجرة، وأثناء رحلته إلى بغداد، مرّ أبو العلاء بشجرة. فقال له دليله: إخفض رأسك". ففعل. وعندما عاد من تلك الرحلة بعد أكثر من عام ومرّ بذلك المكان خفضَ رأسه من تلقاء نفسه. فلما سُئل عن ذلك قال: هنا شجرة". فقال له من معه: لا يوجد هنا شيء". وعندما تفحّصوا الموضع وجدوا أصل شجرة مجتثّة.
    قيل إن أبا العلاء ذهب آنذاك إلى العراق للتعريف بنفسه ومقابلة مشايخ البلاد وشعرائها. ويبدو انه عاد من هناك قبل الأوان لسبب ما. وقال شعرا يشي بحنينه الى مسقط رأسه:
    فيا برقُ ليس الكرخ داري وإنّما : رماني إليه الدهر منذ ليالِ
    فهل فيك من ماء المعرّة قطرةٌ : تغيثُ به ظمآنَ ليس بِسالِ
    الرحّالة والشاعر الفارسي ناصر خسرو سافر في أرجاء العالم الإسلامي لسبع سنوات في القرن الحادي عشر. وقد توقّف في معرّة النعمان في سوريا، ثم كتب وصفا غريبا عن لقاء له مع المعرّي. يقول:
    وكان بالمعرّة رجل كفيف يُدعى أبا العلاء. وعلمتُ أنه حاكم المدينة ويملك ثروة عظيمة وعبيدا وخدما كثيرين. لكنه سلك طريق الزهد فلبس الصوف ولزم بيته لا يبرحه. وكان قوت يومه نصف رغيف من الشعير لا يأكل غيره أبدا".
    توفّي أبو العلاء المعرّي في ربيع الأوّل سنة ٤٤٩ للهجرة، ووقف على قبره أكثر من ثمانين شاعرا يرثونه، وتُلي القرآن الكريم على مثواه لسبعة أيّام. وكان ممّن أبّنوه شاعر يُدعى أبا الفتح الحسن ابن عبدالله الذي ألقى قصيدة مشهورة يقول فيها:
    العلمُ بعد أبي العلاءِ مُضيّعُ : والأرضُ خاليةُ الجوانبِ بلقعُ
    جادت ثراكَ أبا العلاءِ غمامةٌ : كَنَدى يديكَ ومُزنةٌ لا تُقلِعُ
    ما ضيَّعَ الباكي عليكَ دموعهُ : إِن الدموعَ على سواكَ تُضَيَّعُ
    وأختم بهذه الأبيات للجواهري في مديح المعرّي:
    قم بالمعرّة وامسح خدّها الترِبا : واستوحِ من طوّق الدنيا بما وهبا
    واستوحِ من طبّب الدنيا بحكمته : ومن على جرحها من روحه سكبا
    وسائل الحفرة المرموق جانبها : هل تبتغي مطمعا أو ترتجي طلبا

    الجمعة، يونيو 14، 2024

    أغنية العروس الحزينة


    يعكس شعر لي باي إحساسا دائما بالصين القديمة وجمال مناظرها الطبيعية. قصيدته "أغنية العروس الحزينة"، أو تشانغان كما تُسمّى أحيانا، تتناول قصّة حبّ جميلة تعكس أفكار باي المبسّطة وفنّه في تصوير المشاهد من خلال الكلمات الشعرية.
    تتمحور هذه القصيدة حول قصّة حبّ بريئة بين فتاة وصبيّ. وعلاقة الاثنين تبدأ من أيّام الطفولة. ويشرح الشاعر مشاعر الفتاة بالتفصيل من وجهة نظرها. كما يصوّر ردّ فعلها عندما تبلغ الخامسة عشرة من عمرها.
    وفي السادسة عشرة تستعدّ لأيّام الوحدة التي تنتظرها. إذ عندما يسافر زوجها لسبب غير واضح، تصبح وحيدة لدرجة أن كلّ شيء يبدو لها بلا معنى. وتنتهي القصيدة بنغمة رثائية تصوّر شوق امرأة وحيدة إلى زوجها الذي لم يعد من رحلته، وربّما لن يعود.
    تستعرض القصيدة مجموعة متنوّعة من المواضيع، كالبراءة والحبّ وبلوغ سنّ الرشد والعلاقة والاعتماد والشوق والأمل. كما يصوّر لي باي بشكل جميل المناظر الطبيعية ويوظّفها لوصف الحالة الذهنية للشخصية. ومثل قصائده الأخرى، يجد القرّاء هنا أيضا عناصر رومانسية. كما أن رسم الشاعر للطبيعة الصينية يُضفي نكهة آسيوية على هذه القصيدة.
    المعروف أن لي باي أخذ الرومانسية في الشعر الصيني إلى آفاق جديدة. وقد عاش الشاعر في عصر أسرة تانغ، التي يُطلق عليها "العصر الذهبي للشعر الصيني". ووُصفت تلك الفترة بأنها عصر "العجائب الثلاث"، وإحداها شعر لي باي نفسه.
    تتكوّن "قصيدة العروس الحزينة" من أربعة مقاطع. وكلّ مقطع يوصل حركة معيّنة. الأوّل يتناول أيّام طفولة العاشقين. ولي باي يتحدّث عن موقف الفتاة الخجول ومرحها ومثابرتها وعاطفتها وكأنه يحاول أن يجذب القارئ للوصول إلى ذهنها.
    ثم يصف كيف بدأت علاقتها بزوجها. كان شعرها بالكاد يغطّي جبينها عندما كانا يلعبان معا، بينما كان هو يركب حصانا مصنوعا من الخيزران ويدور حولها كما لو أنها أميرة من تشانغان "وهي مدينة صينية تُسمّى اليوم شِيان":
    عشنا بالقرب من بعضنا البعض
    في ممرّ في تشانغان
    كنّا شابّين سعيدي القلب
    كان شعري بالكاد يغطّي جبيني
    كنت أقطف الزهور
    وألعب عند باب منزلي
    عندما اتيتَ على حصان من خيزران
    تهرول في دوائر
    وترمي لي البرقوق الأخضر
    ثم تتطوّر القصّة شيئا فشيئا. فقد تزوّجت الفتاة في الرابعة عشرة. وكانت خجولة جدّا لدرجة أنها لم تكن تجرؤ على الابتسام لزوجها. وكلّما دعاها لا تلبّي دعوته، بل تخفض رأسها خجلا وتنظر الى زاوية مظلمة من الغرفة:
    في الرابعة عشرة من عمري
    أصبحتُ زوجتك
    خجولة جدّا كنت
    لدرجة أنني لم أجرؤ على الابتسام
    وخفضت رأسي نحو زاوية مظلمة
    ولم ألتفت إلى دعواتك الألف
    وعندما بلغت الخامسة عشرة من عمرها، قوّمت حاجبيها وأصبحت شجاعة بما يكفي لتبتسم لزوجها. إدراكها لحبّهما الصافي جعلها واثقة من حقيقة أنه لا يوجد شيء يمكنه التأثير على حبّهما على الإطلاق:
    لكن في الخامسة عشرة
    عدّلت حاجبيّ وضحكت
    ثم عرفت السعادة
    وتمنّيت أن نظلّ معا
    كالماء والخمر
    وأن نفي بوعدنا


    ثم تتحدّث الفتاة عن نقطة التحوّل في حياتها. فعندما بلغت السادسة عشرة غادر زوجها في رحلة طويلة. ومثل أيّ امرأة أخرى من وسط آسيا في ذلك الزمن القديم، أصبحت وحيدة. كان زوجها قد سلك الطريق عبر مضيق جبلي يتكوّن من مسارات صخرية ومياه مضطربة.
    ومرّت خمسة أشهر على رحيله، وأصبح الوضع لا يطاق. واستمعت إلى نداءات القرود من الأشجار البعيدة. ولاحظت أن المسار القريب من بيتها أصبح يختفي تحت طبقة من الطحالب السميكة، ثم أتى الخريف بعواصفه وأمطاره، وتساقطت أوراق الشجر. وهذا رمز لشدّة الألم الذي يكتنف قلبها:
    وفي السادسة عشرة من عمري
    غادرتَ في رحلة طويلة
    في مضيق تشو تانغ
    عبر الصخور والمياه الدوّامية
    ثم جاء الشهر الخامس
    بأكثر مما أستطيع تحمّله
    وتردّد عويل القرود
    في سمائك البعيدة
    ولمحت آثار أقدامك
    عند بابنا يوم غادرت
    مختبئة عميقا تحت الطحلب الأخضر
    بحيث لا يمكن كنسها
    ونثرت رياح الخريف الأولى
    فوقها أوراقا متساقطة
    لكن أيّ رسالة من الزوج لم تصل. ومرّت ثمانية أشهر. والآن عندما تنظر إلى الحديقة بحزن، تؤلمها صورة الفراشات وهي تطير أزواجا وتحتفل بمرح على الزهور. وعلى النقيض من ذلك، ينكسر قلبها وتخشى أن تؤدّي الشيخوخة إلى ذبول جمالها، بينما حبيبها ليس معها. المقطع الأخير يدور حول تفاؤل الفتاة بعودة زوجها، مع أن الوضع يشير إلى خلاف ذلك.
    وفي هذا المقطع، تأخذ القصيدة فجأة منعطفا متفائلاً. إذ تعتقد الزوجة أن حبيبها سيعود ذات يوم، وتطلب منه أن يبعث إليها برسالة يخبرها فيها عن موعد وصوله. هذه الفكرة تجعلها سعيدة جدّا لأن من شأن تحقّقها أن يكسر مرحلة الانتظار الطويلة في حياتها. ثم إنها ستأتي وتقابله، بغضّ النظر عن طول المسافة. هذا هو كلّ ما تريده: تلميح منه بوصوله. هذا كلّ شيء!:
    والآن في الشهر الثامن
    أقبلت الفراشات
    تحوم، أزواجا، فوق أعشاب
    حديقتنا الغربية
    وأنا يلفّني الحزن
    وأخاف على وجنتيّ الذبول
    قلبي ينبئني بأنك عائد إلي
    فهل من رسالة منك
    لآتي لاستقبالك
    ولو على بعد مئات الاميال.
    لا يُعرف شيء عن مكان ولادة لي باي. لكن يُعتقد أنه ولد في آسيا الوسطى. وفي صغره عاش في سيتشوان بالقرب من تشانغدو. وفي تلك السنوات المبكّرة أحبّ قراءة ودراسة الشعر القديم والنصوص القديمة مثل كتاب "الطاو" للاو تسو.
    والمعروف أن لي باي عاش حياة منفلتة وغير مستقرّة. ويقال إنه قتل أشخاصا أثناء المبارزات وتحدّيات فنون الدفاع عن النفس. وقيل أيضا إنه التقى الشاعر المشهور الآخر دو فو مرّتين، وكتب الاثنان قصائد عن بعضهما البعض.
    وهناك بعض أوجه الشبه بين كلّ من لي باي ودو فو، فكلاهما شاعران عظيمان، كما عملا كمسؤولين في البلاط الإمبراطوري. وكلاهما عاشا في سيتشوان. لكن لي باي كان طاويّاً، بينما كان دوفو كونفوشيّاً.
    وبحسب بعض المصادر، كتب كلّ منهما أكثر من ألف قصيدة وتناولا مواضيع مثل الحبّ والحرب والموت وجمال الطبيعة والأماكن الجغرافية القديمة التي رأياها.
    وهناك أسباب في أن قصائد الاثنين تحظى بشعبية كبيرة الى اليوم، من أهمّها أن الشعب الصيني يحبّ القراءة عن الأماكن القديمة وعن الأشياء اليومية التي يقدّرها الناس، على عكس الشعراء الذين ظهروا في العصور اللاحقة والذين أصبحت قصائدهم أكثر ميتافيزيقيةً وغموضا.

    Credits
    cn-poetry.com

    الخميس، فبراير 08، 2024

    محطّات


  • يبدأ فيلم "نوستالجيا أو الحنين" لأندريه تاركوفسكي (1983) بلقطة ضبابية بالأبيض والأسود للريف الروسي، حيث يتحّرك صبيّ وثلاث نساء باتجاه الماء. ثم ينتقل الفيلم إلى مشهد ضبابيّ آخر في إيطاليا، حيث تسافر سيارة فولكس فاغن عبر الريف الجبلي. ثم يعتاد المشاهدون على هذه الانتقالات بين ذكريات أندريه غورتشاكوف عن منزله الروسي وإقامته الحالية في إيطاليا حيث يعاني من شعور بالضيق والحنين.
    وقد جاء أندريه إلى إيطاليا برفقة مترجمته للبحث في حياة المؤلّف الموسيقي الروسي بافيل سوسنوفسكي. وكان سوسنوفسكي يشعر باليأس والإحباط في منفاه الإيطالي، لذا أقدم على الانتحار عند عودته الى الوطن. كانت فكرة الاختيار بين المنفى والحنين الى الوطن رغم القمع الذي كان يعانيه مصدر قلق رئيسي أيضا لتاركوفسكي نفسه عندما كان يفكّر في مغادرة الاتحاد السوفيتي.
    يقول أحد النقّاد: لا يوجد شيء أكثر ترابيةً وجسدية من عمل تاركوفسكي، هذا المخرج الصوفيّ المشهور". ويعزو هذه الجسدانية الترابية إلى الاحترام الأرثوذكسي الروسي للطبيعة كمكان يتمّ فيه تقديس الخالق من خلال خلقه. كان تاركوفسكي ينظر للمعنى من جانبه العاطفي أكثر من العقلاني، لذا كان أسلوبه البصري يميل نحو الشوق والحزن.
    وكثيرا ما كان يمزج في أفلامه النموّ الترابيّ الرطب للطبيعة في مشاهد من الأماكن المقدّسة والذكريات. في فيلم "نوستالجيا"، يمثّل الصدع في نفسية أندريه الانحلال المعماري، حيث تكون المساحات الداخلية مساميّة ومفتوحة لعناصر الطبيعة.
    ويستخدم تاركوفسكي لقطات طويلة وبطيئة تحدث فيها حركة قليلة أو لا حركة على الإطلاق، ما يشير إلى أفكار بطل الرواية التي تتحرّك وتنتقل إلى الوراء. وإيقاع الفيلم وصوره غير العاديّة تتجنّب التقاليد السينمائية المألوفة ومفاهيم الجمال القديمة.

  • كان أحد الحكماء يحاول توضيح نقطة ما. وكان محدّثه غير مقتنع بكلامه. لذلك حاول اتباع طريقة أخرى معه. فقال للمجادل: حسنا، لنرَ الآن. كم رجلا لدى البقرة؟" وجاء الردّ: أربع بالطبع". قال الحكيم: هذا صحيح. والآن، لنفترض أنك تسمّي ذيل البقرة رجلا؛ كم رجلا لدى البقرة؟ فأجاب الرجل بثقة: خمس طبعا». فردّ الحكيم: الآن هذا هو المكان الذي أخطأت فيه. إن تسمية ذيل البقرة بالرجل لا يجعل منه رجلا!

  • كيف يستمرّ الأحياء في العيش
    وكيف يستمرّ الموتى في العيش معهم
    بحيث في الغابة
    حتى الشجرة الميّتة تعكس ظلّها
    وتتساقط أوراقها واحدة تلو الأخرى
    وتتكسّر أغصانها في الريح
    ويتقشّر لحاؤها ببطء
    ويتشقّق جذعها
    ويتسرّب المطر عبر شقوقها
    ويسقط الجذع على الأرض
    ويغطّيه الطحلب
    وفي الربيع تجده الأرانب
    وتبني مسكنها بداخله
    مع صغارها
    ويعيشون بأمان
    داخل الشجرة الميّتة
    في الطبيعة،
    كما في الحبّ،
    لا يضيع شيء.
    -لارا غيلبِن


  • عندما نشر بيير كورنيه مسرحيّته "السِيد" لأوّل مرّة عام 1636، لاقت استحسانا كبيرا من الجمهور والنقّاد على حدّ سواء. وقد فُتن الفرنسيون بالمسرحية واُعجبوا بالقصّة المثيرة للدون رودريغ وحبيبته تشيمين.
    واليوم تُعتبر "السِيد" أفضل اعمال كورنيه وواحدة من أفضل مسرحيّات القرن السابع عشر.
    وقد تحوّلت هذه المسرحية قبل سنوات الى فيلم تاريخي مشهور. واشتهرت أيضا الموسيقى الفخمة التي وضعها للفيلم الموسيقي البلغاري ميكلوش روشا.
    تعتمد قصّة السِيد على حياة رودريغ دياز دي فيفار الذي عاش في القرن العاشر وحارب في وقت ما ضدّ المسيحيين أحيانا، وأحيانا ضدّ المسلمين. لكنّه في المسرحية يصوّر كمسيحي. واسمه، أي السِيد، هو الاسم الإسباني المشتقّ من كلمة عربية هي "السيّد" التي تعني الشيخ او الزعيم.
    تبدأ قصّة السيد عندما تعلَم تشيمين ابنة دون غوميز من خادمتها إلفيرا أن والدها وافق على زواجها من دون رودريغ، فتشعر بسعادة غامرة لأنها تحبّ رودريغ كثيرا. لكنّها تحاول كتمان فرحها بسبب عدم قدرتها على التنبّؤ بمزاج والدها.
    وفي ما بعد يغضب والد تشيمين، أي دون غوميز، عندما يكتشف أن الملك قد منح شرف تعليم ابنه أمير قشتالة لوالد رودريغ، أي دون دييغو. كان غوميز يعتقد بأنه أحقّ بهذه الوظيفة من دييغو، لذا يقرّر أن يواجهه. دييغو، العجوز العاقل المعتدل المزاج، يحاول تهدئة غوميز ويعرض عليه صداقته. لكن غوميز الغاضب يقوم بصفع العجوز. وردّا على ذلك يسحب دييغو سيفه للدفاع عن شرفه. لكنّه أكبر سنّا من أن يكون ندّاً لدون غوميز الأصغر منه بكثير. وهنا يجرّد غوميز العجوز من سلاحه ويهينه أكثر قبل ان يغادر المكان.
    يشعر دون دييغو بالحرج من تلك المواجهة، ويطلب من ابنه رودريغ الدفاع عن اسمه وقتال غوميز. لكن رودريغ الذي يحبّ ابنة غوميز بجنون يرفض طلب والده في البداية. ولكن عندما يصرّ والده على أن يضع شرف عائلته فوق كلّ شيء، يقبل مبارزة دون غوميز.
    وعندما يصل خبر هذا الخلاف إلى بلاط الملك يقرّر منع المبارزة. لكن غوميز يتحدّى الأمر ويصرّ بغطرسة على قتال الشاب رودريغ. وعندما يحين وقت المبارزة، رغم أمر الملك بمنعها، وبسبب الاستفزازات المستمرّة من دون غوميز، يتواجه الرجلان لوضع حدّ للشجار بينهما نهائيّاً.
    وفي البلاط، يسمع الملك عن المبارزة وينتقد دون غوميز بسبب سلوكه الطفولي وقسوته تجاه الشابّ رودريغ. ثم يعبّر عن قلقه بشأن هجوم محتمل للبحرية المغاربية التي تقترب من شواطئ بلاده. وفي هذه اللحظة يصل أحد النبلاء ويبلغ الملك أن الشابّ رودريغ قتل دون غوميز.
    في المشهد التالي، يأتي رودريغ إلى منزل تشيمين، وعندما تواجهه خادمتها يبلغها انه ما يزال يضمر الحبّ لتشيمين. فتطلب منه الخادمة الهرب لأن الفتاة لا تريد سوى الانتقام منه على قتله والدها. فيجيب أنه إذا كان الانتقام هو ما تريده تشيمين فإنه مستعدّ بكلّ سرور لأن يُقتل على يدها.
    ثم تقترب تشيمين منهما فيختبئ رودريغ في الزاوية. وتخبر تشيمين إلفيرا عن مشاعرها المتضاربة. فهي من ناحية تلوم غطرسة والدها على كلّ شيء. ومن ناحية أخرى فإن الشرف يملي عليها قتل رودريغ. ثم يظهر رودريغ من مخبئه ويطلب من تشيمين أن تقتله بنفس السيف الذي قتل به والدها. لكنها لا تفعل ذلك.
    وهنا يهاجم المغاربة المملكة الاسبانية ويخوض رودريغ الحرب للدفاع عن وطنه ويُظهر شجاعة في المعركة ويحظى بشعبية كبيرة بين مواطنيه. حتى المأسورين من المغاربة يحبّونه ويطلقون عليه لقب "السِيد" أي الزعيم.
    لكن تشيمين لا تستطيع التخلّي عن سعيها لقتل رودريغ. ويوافق شابّ يُدعى دون سانشي على مبارزة وقتل رودريغ من أجل تشيمين، بينما تعده هي في المقابل بأن تتزوّج ممّن سينتصر في المبارزة. وقبل المواجهة يخبر رودريغ تشيمين بأنه لن يدافع عن نفسه ضدّ دون سانشي وأنه إذا كان الانتقام هو ما تريده حبيبته فينبغي أن تحصل عليه. وبعد ذلك، يأتي دون سانشي إلى تشيمين وسيفه يقطر دماً. فتعتقد أن رودريغ قد قُتل، فتبكي وتعترف بأنها كانت تحبّه وتقرّر دخول دير وتعلن الحزن عليه الى أن تموت.
    وفي نهاية المسرحية، يخبر الملك تشيمين أنه أثناء المبارزة قام رودريغ بتجريد دون سانشي من سلاحه، ثم قرّر أن يعفو عنه، وأخبرها أيضا أن رودريغ ما يزال على قيد الحياة. ثم يبلغها الملك بأنها خدمت والدها بما فيه الكفاية من خلال مطالبة دون سانشي بالانتقام له وأنها لم تعد بحاجة لأن تثأر من رودريغ. ثم يأمر الملك أن يتزوّج الاثنان خلال عام يتفرغ خلاله رودريغ للدفاع عن بلاده ضدّ المغاربة كي يصبح أكثر جدارة بحبّ تشيمين.


  • Credits
    andrei-tarkovsky.com

    الثلاثاء، نوفمبر 21، 2023

    قصيدة عن تمثالٍ فرعوني


    أوزيماندياس هو اسم قصيدة أو رباعية لبيرسي شيلي، أحد أعظم الشعراء الإنغليز في القرن التاسع عشر. نُشرت القصيدة لأوّل مرّة عام 1818. وفيها يقابل شخص يُفترض أنه شيلي رحّالة أو مسافرا من أرض قديمة.
    ويصف المسافر الحطام الضخم لتمثال فرعون عظيم. وهو لا يلاحظ فقط كيف تقف أجزاء التمثال على الرمال، بل يصوّر أيضا المناطق المجاورة. وتشير الصحراء والتمثال البالي إلى الفكرة المركزية للرباعية، وهي عدم جدوى الأفعال البشرية. كما يتطرّق إلى موضوعات عدم ثبات السلطة، والمصير، وحتمية سقوط الحكّام والأباطرة.
    في هذه القصيدة، يصف المتحدّث لقاءه بمسافر "من بلد قديم". العنوان "أوزيماندياس" ينبّه القارئ إلى أن هذه الأرض هي على الأرجح مصر، لأن أوزيماندياس هو الاسم الذي كان يطلقه اليونانيّون على رمسيس الثاني الذي كان فرعونا عظيما ومرهوب الجانب في مصر القديمة.
    ويحكي المسافر قصّة للمتحدّث يصف فيها زيارته لمصر. هناك رأى تمثالا كبيرا ومخيفا لرمسيس في الصحراء. ويقول إن النحّات لا بدّ أنه كان يعرف موضوعه جيّدا، لأنه من الواضح من وجه التمثال أن هذا الرجل كان قائدا عظيما، ولكنه كان أيضا شرّيرا للغاية.
    وعلى الرغم من أن القائد ربّما كان عظيما جدّا، إلا أنه يبدو أن الشيء الوحيد الذي بقي من مملكته هو هذا التمثال، وهو نصف مدفون ومتفكّك.
    تحمل القصيدة استعارة ممتدّة تغطّي جميع أجزائها. وكلّ ما حول المسافر صحراء قاحلة ولا شيء أخضر أو ينمو. ومع ذلك، لا يزال التمثال يفتخر بالإنجازات التي حقّقتها هذه الحضارة في الماضي. الصحراء تمثّل سقوط جميع الإمبراطوريات، فلا يمكن لأيّ شخص قويّ وغنيّ أن يظلّ بهذه القوّة إلى الأبد. وقد أصبحت هذه الاستعارة أكثر تأثيرا في القصيدة من خلال استخدام شيلي لحاكم فعلي. إنه يستخدم إشارة إلى حاكم قوي في مصر القديمة، لإظهار أنه حتى الشخص الذي يتمتّع بهذه القوّة المطلقة سوف يسقط في النهاية.
    يبدو نصّ "أوزيماندياس" وكأنه قصّة أكثر من كونه قصيدة، على الرغم من أن قوافي الأسطر تساعد في تذكير القارئ بأن هذا ليس نثرا. المتحدّث في القصيدة، وربّما يكون شيلي نفسه، يروي القصّة من وجهة نظره هو باستخدام الضمير "أنا".
    في السطر الأوّل يتحدّث عن لقاء رَحّالة من بلد قديم. في البداية، يبدو هذا السطر غامضا بعض الشيء: هل الرَحّالة من "بلد قديم"، أم أنه عاد للتوّ من زيارة تلك الأرض؟ ولا يعرف القارئ أيضا أين التقى المتحدّث بهذا الرَحّالة لأوّل مرّة.
    يشير العنوان إلى الأرض التي زارها الرَحّالة. كان اليونانيون يطلقون على رمسيس الثاني الفرعون المصري القوي اسم أوزيماندياس. لذا، يسهل على القارئ التعرّف على هذه الأرض القديمة، وهي مصر إحدى أقدم الحضارات في العالم. وبقيّة القصيدة مكتوبة بالفعل على شكل حوار. والمسافر يروي لشخص الشاعر تجاربه في مصر.
    والأسطر التالية تحتوي أيضا على بعض الصور الأكثر حيويةً وجمالاً في كلّ القصيدة. لقد كان شيلي كاتبا بارعا لدرجة أنه لا يتطلّب الكثير من الجهد ليتخيّل القارئ المشهد بوضوح في هذه القصيدة.
    من خلال عيون الرَحّالة يرى القارئ ساقين ضخمتين منحوتتين من الحجر ملقاتين في رمال الصحراء. وعلى مقربة منهما وجه التمثال نصف مدفون. الوجه مكسور، لكن لا يزال بإمكان الرَحّالة رؤية التمثال وهو ينطق عبوسا وسخرية. ومن هذا يستطيع أن يستنتج أن هذا الحاكم ربّما كان يتمتّع بسلطة مطلقة وأنه كان يحكم بقبضة من حديد. ومن السهل أيضا تفسير أن هذا الحاكم ربّما كان فخورا كثيرا باعتباره القائد الأعلى لحضارته.
    ثم يوجّه المسافر انتباهه إلى النحّات الذي صنع التمثال. ويعلّق قائلاً: أيّاً كان النحّات فهو يعرف موضوعه جيّداً. ويمكن لأيّ شخص أن يقول إن الفنّان قد استولى على مشاعر الحاكم بشكل استثنائي. وعلى الرغم من أن الفرعون قد مات منذ زمن طويل، إلا أنه موجود من خلال عمل النحّات. إذن من هو الأقوى في هذه الحالة؟ لا شكّ أنه النحّات.
    ثم يشير الشاعر الى أنه على الرغم من أن هناك نهاية للكائنات الحيّة، إلا أن الفنّ خالد لأنه يبقى. فالمنحوتات الرائعة ولمسة المعلّمين تعيش أطول من أصحابها. ثم يقدّم المسافر نظرة مثيرة للاهتمام حول القائد. فيداه تُظهران أنه كان يسخر من شعبه، لكن قلبه لم يكن كلّه سيّئا، فقد كان يطعم شعبه ويهتمّ بهم أيضا. واليد التي أمسكت بالعصا لم تطعم المواطن فحسب، بل سخرت أيضا من تفاهته. وهذا السطر يوفّر انقساما مثيرا للاهتمام غالبا ما نجده في أفظع القادة. وعلاوة على ذلك، فإن "اليد" ترمز إلى أوزيماندياس ككل.

    ثم تقدّم القصيدة مزيدا من التفاصيل حول التمثال، وتتضمّن الأسطر الأخيرة كلمات محفورة على قاعدته. الكلمات المنقوشة على القاعدة التي يجلس عليها أوزيماندياس تحكي أيضا عن شخصيّته. وهو يأمر من كلّ من يراه أن ينظر إلى كلّ ما أنجز وألا يقدّر ما صنعه، بل يجب عليه أن يخاف منه. وهذه الكلمات تصوّر غطرسة الفرعون.
    لكن الأسطر التالية تكتسي بنبرة مختلفة. الآن ذهب القائد، وكذلك امبراطوريّته. ويورد شيلي هذه المفارقة ليبيّن أنه على الرغم من بقاء هذا التمثال المكسور، إلا أن حضارة القائد لم تُخلّد. لقد سقطت، مثل التمثال، وتحوّلت إلى غبار.
    هذه الاسطر قويّة حقّا. إذ يبدو أن المسافر يسخر من الحاكم. وعلاوة على ذلك، فإن أسلوب شيلي هنا مهم. إنه يستخدم كلمات مثل "الخراب" و"الرمال الممتدّة" لإظهار مدى العجز الذي أصبح عليه هذا الفرعون الذي كان عظيما ذات يوم. لم يتبقّ شيء على الاطلاق. لقد سقط القائد، مثل أرضه، ومثل التمثال المكسور الذي يصوّره. وفي هذه السطور تتّضح رسالة القصيدة، فكلّ القادة سيرحلون في النهاية، وكلّ الحضارات العظيمة ستتحوّل في النهاية إلى تراب.
    وشيلي يستخدم عددا من الموضوعات في هذه الرباعية. والموضوع الأكثر أهميّةً هو عدم ثبات مجد الحاكم وإرثه. وهذه إشارة ضمنية إلى فكرة العبثية. وبغضّ النظر عن مدى صعوبة محاولة القائد أو الزعيم تثبيت اسمه في مرحلة ما، سوف ينساه الناس في النهاية.
    مثلا، حاول أوزيماندياس أن يصبح أعظم من الله وأعلن نفسه "ملك الملوك". وإذا نظرنا إلى التاريخ، فإن كلّ حاكم طموح فعل نفس الشيء. وفي سعيهم لتحقيق العظمة، نسي الحكّام طبيعتهم نفسها، فكلّ كائن حيّ يجب أن يموت. وعلاوة على ذلك، تستخدم الرباعية أيضا موضوعات المجد الضائع وقوّة الفنّ وأفول القوّة، وما إلى ذلك.


    هذا البيت: ساقان حَجريّتان ضخمتان بلا جذع" يثير الخوف والشفقة في قلوب القرّاء. ولا شكّ أن حجم التمثال يجعلنا نتساءل عن عظمة الحاكم وقوّته. ومع ذلك، فالصورة المتدهورة للتمثال تثير الشفقة وتتساءل عن طبيعة الإنجاز البشري.
    وفي السطور التالية، تصبح اللهجة أكثر جدّية وإثارة للخوف. ومع تقدّم القصيدة إلى النهاية، يبدو أن النغمة تخفّ قليلاً. فالمتحدّث يتعاطف بطريقة ما مع المجد الباهت للحاكم العظيم أوزيماندياس ويتحدّث بطريقة عاطفية عن حتمية الموت والانحلال.
    وعلى الرغم من أن شيلي كان أحد الشعراء الرومانسيين المهمّين، إلا أنه لم يحقّق شهرة أبدا أثناء حياته. ومع ذلك، فقد احتفظ بصداقة بعض الكتّاب الموهوبين للغاية. وكان من بين أصدقائه المقرّبين اللورد بايرون. وبالإضافة إلى ذلك، كان متزوّجا من ميري شيلي مؤلّفة رواية فرانكنشتاين.
    وُلِد شيلي في عائلة ثريّة، والتحق بجامعة أكسفورد، حيث بدأ مسيرته في الكتابة لأوّل مرّة. لكنه طُرد عندما رفض الاعتراف بأنه مؤلّف نصّ مجهول عنوانه "ضرورة الإلحاد". ثم التقى بالشابّة ميري غودوين ووقع في حبّها، على الرغم من أنه كان متزوّجا. وقد تخلّى عن عائلته ليكون معها. وتزوّج الاثنان بعد انتحار زوجته الأولى، وغيّرت ميري لقبها إلى شيلي.
    قضى شيلي غرقا وبشكل مأساوي عندما تعرّض القارب الذي كان يبحر فيه لعاصفة عاتية. وكان ما يزال شابّا في عمر الـ 29.
    هل لهذه القصيدة رسالة؟
    ليس من المبالغة القول إن شيلي كان إنسانا ذكيّا. فبينما يمكن للمرء أن يقرأ هذه القصيدة على أنها تتحدّث عن زعيم قديم لمصر، فإنه يمكن أيضا قراءتها كنقد للعالم الذي عاش فيه الشاعر. ربّما يحذر شيلي، الذي كان ناقدا سياسيا دائما، زعماء إنغلترا من أنهم أيضا سيسقطون يوما ما ويشير الى أن طموحهم الزائد عن الحدّ قد يقودهم إلى زوالهم.
    ومن خلال "أوزيماندياس"، يصف شيلي كيف أن الرجال الأقوياء وتراثهم محكوم عليهم بالتلاشي في غياهب النسيان. ويحاول الشاعر تقديم رسالة مهمّة مؤدّاها أنه مهما حاول الحكّام، فإن أعمالهم سوف تُنسى بعد موتهم. وبهذه الطريقة يحذّر الشاعر القرّاء من الافتتان بالسلطة لأن القوّة لا تضمن المجد الأبدي، فقط الرفق والتواضع هما ما يضمن ذلك.

    Credits
    poets.org

    السبت، أكتوبر 02، 2021

    وعيشنا طيف خيال

    الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
    - الإمام علي

    من الأشياء الغريبة التي تتّصف بها الأحلام أننا لا نعرف أننا نحلم إلا إذا استيقظنا. فداخل الحلم، ذاكرتنا محدودة. لذا قد نظنّ أن ما نراه في حلم أمر حقيقي.
    وقدرة الحلم على أن يبدو واقعيّا هي التي دفعت الفيلسوف الفرنسي ديكارت لأن يتساءل ما إذا كان العالم الذي نعرفه ونحن في حالة يقظة قد يكون هو نفسه حلما.
    إذا كان الحلم يبدو أحيانا مثل الواقع، فكيف نتأكّد أننا الآن وفي هذه الحياة لا نعيش في حلم قد نصحو منه ذات يوم؟
    هذا هو السؤال الذي شغل العديد من الفلاسفة والشعراء والروحانيين وعلماء النفس منذ القدم وعلى مرّ قرون.
    والسؤال له علاقة بأنواع التجارب المتاحة للعقل الإنساني وبفحص الطبيعة الحقيقية للعالم الذي نعيش فيه.
    فهناك تجارب مرّ بها أشخاص عاشوا حالات غير عادية من الوعي، مثل الذين عادوا إلى الحياة بعد أن قاربوا الموت، أو الذين استخدموا عقاقير نقلتهم إلى حالات ذهنية معدّلة، أو ما يقال عن الوسطاء الروحانيين الذين يصِلون الأحياء بأقاربهم الذين غادروا هذه الحياة.
    لكن هناك من العلماء من يفرّقون بين حالتي الحلم والواقع ويجادلون بأن عالمنا الواعي متماسك، وهو ما يفتقده الحلم. غير أن ديمومة الأشياء وعناصر البيئة التي نراها في عالم الواقع ليست ضمانة على أن هذا العالم واقعيّ حقّا.
    من جهة أخرى، فإن الفيزياء تعلّمنا بأن الأشياء التي ننظر إليها على أنها صلبة هي مكوّنة بالكامل من فضاءات فارغة. وتجارب الكوانتم تَعتبر انه في ظلّ ظروف معيّنة فإن كتل المباني لا تتصرّف كجزيئات وإنّما كموجات من الاحتمالات.
    وبناءً عليه، هل يأتي يوم نصحو فيه من حلم فنرى عالما أكثر تماسكا وواقعية ونمرّ بمستويات غير مسبوقة من المعرفة والذاكرة وغيرها من الوظائف الادراكية تتجاوز تلك التي نعرفها في حياتنا العادية.
    أهل التبت يعتقدون أن الإنسان عندما يغادر هذه الحياة يدخل في حالة شبيهة بالحلم بانتظار ولادته من جديد.
    ومعنى أن "الحياة حلم" عندهم هو أن كل شيء هو ثمرة عقل الإنسان. فجسدك يتحلّل كل يوم، وهو يتغيّر باستمرار. ومن خلال التأمّل يمكنك أن توقف شعورك بجسدك أو أن لك جسدا. وفي فهمهم أن هذا العالم ليس حقيقيا لأنه نتيجة ما تتصوّره عقولنا القاصرة والمحدودة عنه.
    في هذا العالم، كلّ شيء مركّب. خذ السيّارة مثلا. ما الذي يتبقّى منها إن جرّدتها من الزجاج والأنوار والماكينة والمقاعد؟! في الحقيقة لا يبقى شيء بعدها يمكن أن يُسمّى سيّارة.
    إن وجودنا في هذا العالم العائم يشبه قطرة ندى صغيرة، أو فقاعة طافية فوق جدول، أو ومضة ضوء في غمامة صيف، أو شمعة واهنة في مهبّ الريح. انه وجود حالم بل وهشّ أيضا.
    كان تلاميذ بوذا يسألونه: هل أنت قدّيس أم إله أم زاهد متصوّف؟ وكان يجيب: أنا شخص إستيقظ". لذا سُمّي "بوذا"، أي الشخص الذي تمّ إيقاظه. وهو للحقيقة لم يقل إن الحياة حلم، بل قال إنها معاناة، وأحيانا وهم.
    إن حياة الإنسان تتلاشى مثل ندى الصباح. فكّر في ماضيك وكيف أن الأشياء لم تدُم. هل تتذكّر شخصا رأيته وهو يلفظ الأنفاس الأخيرة من حياته؟ كلّ شيء ينتهي في لحظة خاطفة.
    العلماء يقولون إن حياة شخص واحد ليست سوى جزء من الثانية من عمر الكون. ووجود البشر على هذه الأرض نسبةً إلى الزمن الجيولوجي للكوكب ليس أكثر من بضع وخمسين ثانية.
    انظر إلى السماء في ليلة مظلمة. سترى نجوما لا تُعدّ ولا تُحصى. لكن يُحتمل أن بعضها لم تعد هناك، بل ماتت مُنذ ملايين السنين. وما يصلنا هو ضوئها الذي يقطع مسافات فلكية كي يصلنا. أفلا يبدو هذا اقرب ما يكون إلى الحلم؟
    إن حياة الإنسان على هذه الأرض مقارنةً بحياة الجبال والأنهار والمحيطات الهائلة قصيرة جدّا. إنها مثل حلم يدوم ثواني معدودة ثم يتلاشى في الهواء بسرعة.
    ولو تذكّرت الماضي، أي قبل ٣٠ سنة أو ٢٠ أو حتى قبل أشهر، فإن كلّ ما بقي لديك هو الذكريات.
    فالعيش نوم والمنيّة يقظة
    والمرء بينهما خيال ساري
    ذات مرّة قرأت أن الإنسان إذا حضره الموت فإنه يرى في لحظات احتضاره شريطا من صور حياته وذكرياته، تمرّ أمام عينيه وتختصر أهم المواقف والأشخاص في حياته الفانية.
    "الحياة حلم" جملة يمكن أن يكون لها معنى ديني أحيانا، فإذا فكّرت في الخلود فإن الحياة على الأرض تشبه حلما. وفي هذه الحالة فإن على الإنسان أن يعمل للحياة الأخرى ويستعدّ لها بالعمل الصالح.
    يقول الإمام علي عليه السلام:
    إنما الدنيا كظلّ زائل
    أو كضيف بات ليلا فارتحل
    أو كطيف قد يراه نائم
    أو كبرق لاح في دنيا الأمل
    لكن سواءً كانت هذه الحياة واقعا أم حلما، فإننا يجب أن نعيشها كما ينبغي وأن يتحمّل كلّ منّا مسئوليته ليطوّر نفسه ويستثمر ما وهبه الله له من نعم وعطايا على أفضل وجه لفائدة نفسه والآخرين.

    Credits
    psychologytoday.com

    الأربعاء، مارس 20، 2019

    الوعي باللحظة الراهنة

    ثمّة حكمة بوذية عمرها أكثر من مائتي عام تشرح بوضوح أهمّية النظر إلى السماء بانتظام. فطبقا للحكاية الشعبية، كان المعلّم والشاعر اليابانيّ ريوكان تايغو الذي عاش ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ناسكا سعيدا.
    وقد تلقّى هذا الناسك دروسا في دير لعشر سنوات، ثم رفض الدين التقليديّ وقرّر أن يعيش حياة بسيطة قضاها في التأمّل وكتابة الشعر.
    ومن وقت لآخر، كان يحتسي شرابا شعبيّا مع الفلاحين في الريف ويتقاسم طعامه المتقشّف مع الطيور والحيوانات في البرّية.
    وفي الحقيقة لم يكن لدى ذلك الناسك ما يغري الآخرين بالسرقة. لكن في إحدى الليالي أتى إلى كوخه الجبليّ المنعزل لصّ كان يمنّي نفسه بالعثور على كنز.
    لكن اللصّ لم يجد شيئا ذا قيمة، فشعر بالإحباط، الأمر الذي أحزنَ الناسك أيضا. ويقال أن الناسك تناول ملابسه وفراشه ودفع بها إلى اللصّ قائلا: لقد أتيتَ من مسافة بعيدة وتجشّمت عناء الطريق لكي تراني. وأرجوك أن تقبل منّي هذه الهديّة".
    وأخذ اللصّ المذهول ملابس الناسك ومضى في سبيله. ثم تذكر القصّة أن الناسك أمضى بقيّة تلك الليلة عاريا، يحدّق في السماء ويتأمّل القمر الذي كان يلمع مثل جوهرة لا يمكن لأحد أن يسرقها على الرغم من أن الجميع يستمتعون بمرآها.
    وكان المعلّم ريوكان ما يزال حزينا لأنه لم يستطع أن يعطي اللصّ أكثر الكنوز قيمةً. وكتب في مفكّرته قصيدة هايكو أصبحت الآن مشهورة ويشرح فيها تلك التجربة بقوله: اللصّ تركه خلفه، القمر عند حافّة النافذة".
    هذه القصّة يرويها معلّمو البوذية ليذكّروا تلاميذهم أن معظم الناس مرتبطون بأشياء غير مهمّة في واقع الأمر. وكان ريوكان سيشارك اللصّ كنزه الأعظم لو أن الزائر الغريب رأى ذلك الكنز.
    القمر في البوذية يرمز للتنوير. وكلّ منّا يمكن أن يصبح إنسانا منيرا وساطعا كقمر مكتمل في ليلة صافية. لكن أفضل ما في طبيعتنا تحجبه الغيوم، على حدّ تعبير الأستاذ الأكاديميّ كينيث كلارك.
    فالارتباط والتعلّق بالأشياء وتشتيت الانتباه تمنعنا من إدراك أن لدينا ما نحتاجه بالفعل. وبحسب فلاسفة الزِّن فإن الوجود بحدّ ذاته كافٍ وليس هناك حاجة لأن نتطلّع إلى السلطة أو المال أو التجارب المثيرة التي لا تسبّب للإنسان سوى المعاناة. لكن بمقدورنا دائما أن نُمسك بالكنز الحقيقيّ؛ بالقمر المنير المخبّأ خلف غيوم ذواتنا، على حدّ تعبير كرافت.
    ويشرح ذلك بقوله: هناك صورة صغيرة ودائرية للهلال رسمها بالحبر البسيط المعلّم والرسّام اليابانيّ من القرن التاسع عشر ناتنبو، ليبرهن على الإمكانيات اللامحدودة التي توفّرها الأشكال المألوفة وأشياء الحياة اليومية، سواءً كانت قمرا في السماء أو آنية في مطبخك.
    كان ناتنبو رسّاما غزير الإنتاج. وقد تعلّم استخدام الرسم كوسيلة للتعبير عن المعاني التي تعجز عنها الكلمات. ورسم معظم لوحاته بعد أن تجاوز السبعين من عمره ووظّف فيها احد أعمق الرموز في البوذية، أي الدائرة. فهي فارغة لكنّها مكتملة تماما، ولانهائية لأنها تبدو بلا بداية ولا نهاية، مثل الكون.
    إننا عندما نتواصل مع الكون الكلّيّ ومع الأشياء البسيطة من حولنا فإننا نصبح أغنياء. وامتلاك هذه الثروة متاح للجميع، حتى للناسك الفقير الذي يعيش في الجبال. وهذا هو السبب في آن ناتنبو تقش على لوحته بيتا من الشعر يقول فيه: إذا أردت القمر فهو هنا، تعال وأمسك به".
    هناك كلمة تتردّد دائما على ألسنة المعلّمين الروحانيين وخبراء تطوير الذات وهي (Mindfulness)، وتعني الوعي باللحظة الراهنة. أي البحث عن المتع البسيطة في الحاضر.
    فبدلا من أن نشغل أنفسنا بتأمين راتب اكبر أو منزل أوسع أو سيارة أفضل لكي نطمئنّ على المستقبل، يتعيّن علينا أن نتوقّف عن ذلك اللهاث قليلا كي نشمّ عبير زهرة أو نمارس رياضة مفيدة أو نزور صديقا لم نرَه منذ زمن أو نأخذ إجازة قصيرة أو نراقب نزول قطرات المطر على ارض جافّة أو نستمع إلى زقزقة العصافير في الصباح الباكر.
    ومثل هذه الأشياء على بساطتها ومألوفيّتها يمكن أن تجلب للإنسان سعادة عظيمة. والكثيرون منا يضيّعون هذه المتع الصغيرة أثناء بحثهم عن سعادة اكبر قد تكون متوهّمة ويتعذّر بلوغها، كما تقول الكاتبة الأمريكية بيرل بك مؤلّفة رواية "الأرض الطيّبة".
    إن الحياة عبارة عن سلسلة من اللحظات، والسعادة هي احتفال بالحياة وبكوننا أحياءً. وعندما تشعر بالامتنان لكلّ شيء منحك الله إيّاه فستبتعد عنك الأفكار السلبية كالغضب والإحباط والكراهية والقلق والخوف وما إلى ذلك.
    ذات مرّة سُئل شيخ صوفيّ: ما الذي يجعل قلبك راضيا قنوعا؟ فقال: في كلّ صباح ارفع يديّ إلى الله لأقول له شكرا لك يا ربّي على كلّ شيء، فأنا لا اشتكي من شيء ولا انتظر شيئا".
    إننا لن نجد الحياة إلا في اللحظة الراهنة. فأمس أصبح تاريخا والغد في علم الغيب واليوم منحة أو هديّة، وهذا هو السبب في أن اليوم يُسمّى الحاضر أو (The Present) في الانجليزية. وما لم نعش في الحاضر فإن الحياة ستفوتنا.

    Credits
    qz.com

    الخميس، مايو 24، 2018

    جيروم والنمر


    القصص التي تتحدّث عن الارتباط الوجدانيّ بين الإنسان والذئب كثيرة. وربّما يعود سبب هذا الارتباط إلى حقيقة أن الذئاب جزء من آثار العالم القديم والمندثر عندما كان الإنسان واقعا بالكامل تحت رحمة الطبيعة وعاجزا عن السيطرة على قواها القاهرة.
    وغالبا ما تقترن الذئاب بالحياة في الصحاري والجبال التي تذكّر الإنسان بأسلافه الأقدمين وبخلود العالم. ولهذا السبب أصبح هذا الحيوان رمزا لاستمرارية الوجود الإنسانيّ وديمومة الحياة على الأرض.
    وفي مقابل وفرة القصص التي تحكي عن العلاقة بين الإنسان والذئب المعروف بقابليّته للاستئناس، لا تتوفّر قصص مشابهة عن حيوان كالنمر، مثلا، لسبب واضح. فالنمر حيوان متوحّش جدّا، وهو الحيوان الوحيد الذي لا يمكن للإنسان أبدا أن يروّضه أو يأمن شرّه.
    وحكايات الرحّالة الأوائل الذين لم يروا النمر تُصوّره على انه مخلوق خياليّ لا يختلف كثيرا عن التنّين. وبالنسبة للأوربّيين، ، كان النمر، وحتى القرن الثامن عشر، ما يزال أشبه ما يكون بالأسطورة، إذ لم يكن احد قد رآه عيانا. والصورة الوحيدة المتوفّرة عنه مصدرها كتاب مصوّر عن هيئات الحيوانات يعود تاريخه إلى القرون الوسطى.
    والفنّانون الذين رسموا النمر تخيّلوه في هيئة حيوان عنيف وشرس جدّا؛ أكثر شراسةً حتى من الأسد. أما الهنود والكوريون والصينيون فقد عرفوه منذ أقدم الأزمنة. والكوريون يعتبرون النمر حيوانا مقدّسا، وظهوره في مكان ما يُعدّ بشارة خير وعلامة فأل.
    الرسّام الاستشراقي الفرنسيّ جان ليون جيروم رسم في عام 1882 لوحة بعنوان أحزان الباشا، استوحاها من قصيدة كان قد قرأها لمواطنه الروائيّ فيكتور هيغو بنفس العنوان.
    والقصيدة تتحدّث عن باشا تركيّ كان قد استأنس نمرا واحتفظ به في قصره إلى أن مات "أي النمر". ويصف الكاتب الباشا وهو جالس أمام الحيوان الميّت وقد علت وجهه أمارات الألم والحزن.
    كان جيروم نفسه قد طاف ببلاد الشرق وسجّل في العديد من لوحاته بعض المناظر التي رآها في رحلاته الكثيرة إلى مصر وتركيا وغيرهما. وبعض تلك اللوحات تصوّر مشاهد صراع دامٍ حتى الموت بين بشر وحيوانات مفترسة.


    في "أحزان الباشا"، نرى الرجل التركيّ جالسا يتأمّل في صمت نمره الميّت المتمدّد على السجّادة التي تناثرت فوقها الورود الحمراء. اللوحة صغيرة نسبيّا، لكنها تعكس حالة غريبة ونادرة من التعاطف بين الإنسان وحيوان يصعب تصوّر أن يتمّ ترويضه أو أن تنشأ بينه وبين البشر علاقة ودّ وألفة.
    علماء الحيوان يقولون إن من عادة النمر أن يستبدّ به الغضب عندما يرى أيّ كائن حيّ يتحرّك بالقرب منه. وحتى لو عومل معاملة حسنة فإنه لا يتردّد في تمزيق اليد التي أطعمته. وكلّ مؤرّخي الطبيعة تقريبا مجمعون على هذه السمة العدوانية في سلوك هذا الحيوان.
    كما أن النمر معروف بطبيعته الأنانية، فعندما يقتل فريسة فإنه لا يأكلها في نفس المكان، بل يسحبها بسرعة إلى داخل الغابة حيث يمكنه أن يلتهمها هناك بمفرده ودون أن يُشرك معه حيوانا آخر.
    لكن النمر في لوحة جيروم مختلف، فهو مصوّر بطريقة رائعة وكأنه خارج لتوّه من حكاية شرقية قديمة. وبعض مؤرّخي الرسم رأوا في اللوحة ما يشبه النبوءة بقرب أفول شمس الإمبراطورية العثمانية.
    وأيّا تكن الرسالة، فإن جان ليون جيروم نجح في نيل استحسان النقّاد في زمانه، الذين أشادوا بمقدرته الفائقة في إخفاء أيّ اثر للفرشاة وفي إبراز أدقّ التفاصيل، كنوعية النسيج والفراء الناعم والأزهار وغيرها.
    كان من عادة هذا الفنّان أن يختار لصوره أحداثا بعيدة في الزمان والمكان. وكان يفضّل غالبا رسم الأساطير الكلاسيكية والتاريخ القديم وثقافات بلدان الشرق الأوسط والحيوانات الغريبة.
    وقبل جيروم بخمسين عاما، رسم الفنّان والشاعر الرومانسيّ الانجليزيّ وليام بليك صورة يظهر فيها نمر جميل وشرس مع بضعة أبيات شعرية متأمّلة تتغنّى "بعينيه ويديه الخالدتين" وبتناسق أعضائه ورعبه القاتل.
    ثم يتساءل بليك: هل كان الربّ يبتسم عندما خلق النمر، وهل من خَلَقه هو نفس الربّ الذي خلق الحمل"؟! وبالنسبة لبليك فإن ما يجعل من النمر أعجوبة من أعاجيب الطبيعة ليس جماله، وإنّما شراسته وقوّته.
    وأنت تتأمّل هذه اللوحة بألوانها الذهبية والأرجوانية البديعة، سيُخيّل إليك انك أمام مخلوق وديع وحالم. وهذا بالطبع تصوير مبالغ فيه ولا يمتّ إلى الواقع بصلة.
    لكن في هذه الأيّام فإن للوحتي جيروم وبليك أهمّيّة ومغزى، خاصّة في ضوء تحذير العلماء من أن النمور يمكن أن تختفي من العالم نهائيا خلال العشر سنوات القادمة بسبب الصيد الجائر والظروف البيئية غير المواتية.

    Credits
    joslyn.org

    الأحد، أبريل 01، 2018

    الاستبداد والفنّ


    لماذا يحبّ بعض الطّغاة الشعر والموسيقى والرسم والسينما، مع أن هذه الفنون تقترن برهافة الحسّ وسموّ المشاعر وتتناقض مع حالة الاستبداد وعقلية القمع والسلطة المطلقة؟
    كان كيم ال سونغ، الزعيم السابق لكوريا الشمالية، يحبّ السينما كثيرا. وقد كلّف صنّاع السينما في بلاده بإنتاج عدد من الأفلام الوثائقية عن شخصه وعن حياته. وهو يُصوَّر فيها جميعا كزعيم نصف إله، عظيم وخالد.
    كان كيم يلقَّب بوالد الشعب وشمس الأمّة. وقد كتب العديد من المسرحيات ومن قصائد الشعر التي لا تخلو من رقّة وعذوبة. وكان يتقرّب من الفنّانين لأنه كان يرى في ذلك تكريسا لسلطته، مع انه كان دائم الانتقاد "للفنّانين الذين يُنتجون أعمالا منحلّة"، على حدّ وصفه.
    ومع ذلك ففي عهد كيم، الشاعر والمسرحيّ، مات ثلاثة ملايين كوري بسبب الحروب والمجاعات.
    هتلر أيضا كان يحبّ الرسم، بل ورسم لوحات في بعض الأحيان. لكنه أحبّ السينما أكثر. وكان هو النجم في فيلم دعائيّ اُختير له اسم معبّر هو "انتصار الإرادة". ولطالما عبّر الزعيم النازيّ عن إعجابه بالقوّة السحرية للكلمة المنطوقة ووظّف ذلك في خطبه وبياناته.
    ومع ذلك فقد قتل هتلر، العاشق للرسم والسينما، حوالي اثنين وأربعين مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية، معظمهم من المدنيين.
    في مطلع القرن العشرين، ظهر في ايطاليا مجموعة من الشعراء الذين اسموا أنفسهم بالشعراء المستقبليين. كان هؤلاء يؤمنون بالأفكار القومية المتطرّفة، وكان شعارهم: دعوا الأدب يزدهر بخراب العالم!". وكان زعيمهم يُدعى فيليبو مارتينيتي الذي كان يعشق الحرب. وقد وصفها مرّة بأنها "الدواء الناجع الوحيد لهذا العالم".
    وكان ملهم هؤلاء هو الشاعر غابرييل دانونزينو الذي يقال انه كان الشخص الذي ألهمت أفكاره موسوليني الاستيلاء على السلطة في ايطاليا.
    وبعد أن أصبح موسوليني زعيما على ايطاليا، كان من عادته أن يترك عددا من دواوين الشعر مفتوحة على سطح مكتبه كي يراها زوّاره من الضيوف الأجانب فيقدّروا ثقافته الواسعة وسعة اطلاعه.
    لكن رغم ذلك، فقد تسبّب موسوليني المولع بالشعر في مقتل حوالي نصف مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية وفي غزواته الخارجية.
    ستالين أيضا كان عاشقا كبيرا للسينما، وقد تابع عن كثب مراحل إنتاج فيلم "ايفان الرهيب"، ربّما لأنه كان يرى في نفسه بعض سمات بطل الفيلم.
    كان ستالين أيضا يكتب الشعر بلغته الأمّ، أي الجورجية، وباسم مستعار. لكن شعره كان يتّسم بالتقليد والصور المبالغ فيها وبكثرة الكليشيهات.
    الغريب أن ستالين المحبّ للشعر تسبّب في مقتل حوالي سبعة ملايين إنسان أثناء تولّيه السلطة.
    في الصين، لاحظ ماو تسي تونغ أن أباطرة البلاد القدامى لم يتركوا تراثا أدبيا معتبرا، وقال: إن الرجال العظماء فقط هم من ينظرون إلى هذا العهد"، يقصد عهده هو.
    وقد كتب ماو شعرا كلاسيكيا قريبا من روح التراث الذي كان يمقته ويحتقره. كان يكتب بالأسلوب القديم، ولطالما وُصفت أشعاره بأنها نخبوية ومنقرضة. كانت تزدحم باللغة الفخمة وبالصور المستهلكة، مثل حديثه عن "الشمس الغاربة الحمراء بلون الدم" و"التلال الزرقاء كأمواج البحر".
    وفي إحدى قصائده، يتغنّى ماو بنساء الصين اللاتي يعشقن المعارك ولا يكترثن بملابس الحرير". وفي قصيدة أخرى كتبها قبيل انطلاق الثورة الثقافية، يتنبّأ ماو بالعاصفة القادمة: انظروا! العالم يوشك أن ينقلب رأسا على عقب".
    ومع ذلك، استحقّ ماو الشاعر لقب اكبر قاتل جماعيّ في التاريخ. فخلال أربع سنوات فقط من حكمه، تسبّب في مقتل خمسة وأربعين مليون فلاح صينيّ.
    رادوفان كاراجيتش، احد كبار مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة والمعروف بجزّار البوسنة، كان هو أيضا يقرض الشعر. ولم يتخلَّ عن تلك الهواية الرقيقة حتى في ذروة حرب الإبادة التي قادها ضدّ المسلمين والكروات.
    في برنامج وثائقيّ بُثّ مؤخّرا، يظهر كاراجيتش في لقطة قديمة مع شاعر روسيّ يُدعى ليمونوف. وكاراجيتش يتلو قصيدة على مسمع الأخير يتنبأ فيها بالعنف القادم. وعلى وقع القصيدة، يقوم ليمونوف بإطلاق وابل من الرصاص باتجاه أسفل الوادي الواقع تحتهما.
    وفي أثناء الحرب البوسنية، كان كاراجيتش يتفاخر بصدق نبوءته تلك التي وردت في إحدى قصائده بعنوان "سراييفو" والتي يقول في نهايتها: ترى ما الذي يخبّؤه لنا المعدن الأسود في المرآب؟!".
    المعروف أن كاراجيتش، عالم النفس المحبّ للشعر، قتل حوالي ثمانية آلاف مسلم خلال حصار سريبرينتسا عام 1995.
    لكن أقدم نموذج للديكتاتور المحبّ للفنون كان الإمبراطور الرومانيّ نيرون. المؤرّخون يذكرون أن روما تعذّبت من شعره بقدر ما تعذّبت من طغيانه. وبحسب من أرّخوا لحياته، كان نيرون مثالا في عنفه ودمويّته.
    وعلى الرغم من قلّة طموحاته العسكرية، إلا أن أفعاله الانتقامية كانت مدويّة. والصورة الشائعة عنه هي صورة طاغية متبلّد الإحساس يعزف القيثارة ويتلو شعرا بينما عاصمة ملكه تحترق وتتحوّل إلى رماد.
    خلال رحلة له إلى اليونان، شارك نيرون في مسابقة للشعر وفي سباق للعربات، وعاد من رحلته تلك محمّلا بالعديد من الجوائز. ويقال انه خطّط لانتحاره مسبقا وتدرّب كثيرا على ذلك قبل أن يكتب جملته الشعرية الأخيرة: أيّ فنّان سيموت معي"؟!
    كان عهد نيرون مرتبطا بالطغيان والبذخ. وقد قتل الكثيرين بمن فيهم أمّه وزوجته، كما أمر بإحراق مسيحيّي روما وهم أحياء بعد أن حمّلهم المسئولية عن حريق المدينة.

    Credits
    huffingtonpost.com

    الأربعاء، مارس 21، 2018

    كتاب اللاطمأنينة

    كنت قد سمعت الكثير عن هذا الكتاب. ثم قرأته بعد أن وجدت ترجمته العربية على الانترنت. والحقيقة انه كتاب صعب وعصيّ على الفهم إلى حدّ كبير. لكن رغم صعوبته وإغراقه في أجواء التشاؤم والعدمية، إلا انه مليء بالمفردات الشاعرية والجمل الغريبة والصور المدهشة.
    بداية، لا اعرف إن كانت ترجمة عنوان الكتاب للعربية دقيقة أم لا. فـ "كتاب اللاطمأنينة" عنوان ملتبس ولا يُفصح بما فيه الكفاية عن مضمون أفكار مؤلّفه الشاعر البرتغاليّ فرناندو بيسوا. وربّما كان من الأفضل أن يُسمَّى "كتاب الانزعاج" أو "كتاب الهذيان" أو "كتاب القلق".
    والغريب انك عندما تفرغ من قراءته، لن يعلق في ذاكرتك منه شيء، على الرغم من أسلوب كاتبه الجميل. ومع ذلك فالكتاب يتضمّن بعض العبارات التي لا بدّ أن تستوقف القارئ وتدفعه للتفكير والتأمّل. وهذه بعضها..
  • السعادة هي ألا يكون لدى المرء رغبة في امتلاك أيّ شيء.
  • الرذيلة الوحيدة السوداء هي أن تفعل ما يفعله جميع الناس.
  • نحن لا نحبّ أحدا أبدا. ما نحبّه فقط هو فكرتنا عمّن نتوهّم أننا نحبّهم. ما نحبّه هو مفهومنا عن ذواتنا.
  • أنا هامش في مدينة لا وجود لها. أنا تعليق مسهب على كتاب لم يُكتب بعد. أنا شخصية في رواية تمرّ مرور الأثير وتتوارى دون أن تكون قد وُجدت.
  • أكتب وكأنّني أنفّذ عقوبة ما. والعقوبة القصوى هي أن اعرف أن كلّ ما كتبته عديم الجدوى، ناقص ويفتقر إلى اليقين.
  • الذين يعانون معاناة حقيقية لا يشكّلون مجتمعا. من يعاني يعاني منفردا.
  • ❉ ❉ ❉

    إذا حاولت أن تقرأ "كتاب اللاطمأنينة" من الغلاف إلى الغلاف، فستجده باعثا على الحزن والاكتئاب. إذ لا شيء كثيرا يحدث، وما ستقرؤه هو مجموعة من التأمّلات والأفكار الوجودية عن الحياة والوحدة والحالة الإنسانية.
    والكتاب استبطانيّ للغاية، لدرجة أن القارئ سيجد نفسه في حالة تلبّس مع أفكار الكاتب. لكن أرجوك ألا تقرأ الكتاب بهذه الطريقة. وبدلا من ذلك حاول أن تغمر نفسك فيه بطريقة عشوائية، وستكتشف عملا ذا طبيعة عبقرية لا يمكن نكرانها. ويمكن القول ببساطة انه تحفة في الكتابة الحديثة.
    من الصعب جدّا أن تشرح أو تفسّر كتاب بيسوا. وربّما يكون مجديا لو وضعته في سياق معيّن. عاش هذا الشاعر ما بين عامي 1888 و 1935. لكن أثناء حياته، كان يتجنّب الأوساط الأدبية والاجتماعية، رغم انه كتب الكثير من الشعر والنثر. وجزء كبير من كتاباته لم تُنشر إلا بعد وفاته.
    الاسم الحقيقيّ للشاعر، أي بيسوا، يعني بالبرتغالية "شخص". والمفارقة انه كان يكتب بأسماء أشخاص كثيرين، حوالي اثنين وسبعين اسما، وكلّ اسم كان له أسلوبه الخاصّ وشخصيّته وسيرته الذاتية المختلفة. ويتعيّن عليك أن تكون سمسارا أو عبقريّا حتى تكتب بكلّ تلك الأسماء الكثيرة.
    و"كتاب اللاطمأنينة" كتبه احد تلك الأسماء المستعارة، وهو برناردو سواريس، الذي كان يعمل في إحدى شركات صناعة الأقمشة في لشبونة. وفي مقدّمة الكتاب، يشرح بيسوا كيف قابل ذلك الشخص.
    أعمال الشاعر عُثر عليها في صندوق سيّارة بعد وفاته. وكتاباته النثرية لا تتضمّن نظام تسلسل أو تواريخ. لذا فإن جمعها معا كان مثار جدل واسع بين الأكاديميين الذين تخصّصوا في حياة بيسوا وكتاباته.
    من أشهر الاقتباسات المنقولة عن الشاعر قوله: أن تلمس قدم المسيح ليس مبرّرا لأن تخطيء في علامات الوقف". واستخدام الشاعر للغة عميق في الغالب ومدهش دائما. وفي ميزان القراءة فإن كتابه ثقيل، لكنه بنفس الوقت محلّق عاليا في تأمّلاته عن الحياة. وقراءته كفيلة بأن "تصيب روحك بالبرد" كما يقول بيسوا نفسه في واحدة من عباراته الرائعة.
    وبعض مقاطع الكتاب هي عبارة عن سطر واحد، والأخرى أطول قليلا، والقليل منها يحتلّ مساحة صفحتين. والأفكار غالبا عميقة، وأحيانا عصيّة على الفهم.
    "كتاب اللاطمأنينة" مليء بالجمل المدهشة، وهو لا يشبه أيّ كتاب سبق لك أن قرأته. ومن الغريب أن أعمال الشاعر غير معروفة على نطاق واسع. وإذا كنت شخصا ذا طبيعة تأمّلية، فإن هذا الكتاب سيغيّر طريقة رؤيتك للأشياء.
    ولعلّ أفضل ما يمكن أن يوصف به الكتاب هو عبارة بيسوا التي يقول فيها: أحدّق إلى الخارج من نافذة غرفتي، وأرى عددا هائلا من النجوم. لكن لا شيء هنا غير ذلك العدد الهائل من النجوم".

    Credits
    poetrysociety.org

    الثلاثاء، فبراير 27، 2018

    عُمَر العظيم

    عندما غرقت سفينة التايتانيك، في ليلة الرابع عشر من ابريل عام 1912، في البحر قبالة ساحل العالم الجديد، كان أهمّ ضحايا تلك المأساة كتاب.
    الروائيّ الفرنسيّ من أصل لبنانيّ أمين المعلوف قد يكون توسّع في هذه القصّة بعض الشيء عندما تناولها في روايته التاريخية سمرقند (1988). أما الكتاب المقصود فكان مخطوطا لديوان الرباعيّات للشاعر الفارسيّ عمر الخيّام من القرن الحادي عشر الميلاديّ.
    وفي الحقيقة كانت توجد وقتها نسخ متعدّدة من ذلك الديوان. غير أن المخطوط الذي حملته التايتانيك في رحلتها المشئومة تلك كان الأكثر فرادة وتميّزا، ليس من حيث مضمونه ولكن بسبب مظهره الغريب. وهذا المخطوط الحقيقيّ هو الذي ألهم المعلوف كتابة روايته المشهورة والتي يستهلّها بهذا السطر: في قاع التايتانيك، كان هناك كتاب. وسأروي لكم تاريخه".
    يقول مثل فارسيّ مشهور: من يبتغِ طاووسا عليه أن يذهب إلى الهند". والمثل يشير إلى ملك فارسيّ قديم يُدعى نادر شاه كان قد استولى في منتصف القرن الثامن عشر على الهند ونهب، من ضمن أشياء أخرى، عرش الطاووس المشهور فيها. وقد استُنسخت صورة ذلك الطاووس في لندن في وقت لاحق.
    كان كلّ من جورج ساتكليف وفرانسيس سانغورسكي مشهورَين في انجلترا بتصميماتهما الباذخة في تجليد الكتب وترصيعها بالمجوهرات، مدفوعَين برغبتهما القويّة في إحياء تقاليد القرون الوسطى. وفي احد الأيّام، قصدهما صاحب مكتبة مشهورة في لندن يُدعى هنري سوثران كي يكلّفهما بتصميم وتجليد كتاب لا يشبه أيّ كتاب آخر.
    حدث هذا في السنوات الأولى من القرن العشرين. وبدأ المصمّمان عملهما واستخدما في تصميم وتجليد الكتاب ألف حجر ثمين ما بين ياقوت وتوركواز وزمرّد وخمسة آلاف قطعة من العاج والجلد والذهب والفضّة.
    ولم تكن تلك التكلفة الباهظة تمثّل أيّة مشكلة، فقد مُنح ساتكليف وسانغورسكي شيكا على بياض كي يطلقا مخيّلتهما لصنع أفخم وأغلى كتاب سيراه العالم.
    وعندما أنجزا مهمّتهما في عام 1911، بعد عامين من الجهد المكثّف، صدر الكتاب العجيب حاملا عنوان "عُمَر العظيم". وكان يضمّ بين دفّتيه ترجمة ادوارد فيتزجيرالد لقصيدة الرباعيّات لعمر الخيّام مع رسوم توضيحية وضعها الفنّان ايلياهو فيدر. وكان يزيّن الغلاف الأماميّ للكتاب ثلاثة طواويس رُصّعت ذيولها بالمجوهرات وأحيطت بعناقيد كروم وبأنماط زهرية معقّدة مثل تلك التي تزيّن المنمنمات الفارسية من القرون الوسطى، بينما رُسم على غلافه الخلفيّ صورة لآلة بوزوكي يونانية.
    كان سوثران ينوي شحن الكتاب إلى نيويورك. وعندما وصل إلى هناك، رفض باعة الكتب أن يدفعوا الضريبة الثقيلة التي فرضتها سلطة الجمارك الأمريكية على الكتاب. فأُعيد شحنه إلى انجلترا، حيث اشتراه غابرييل ويلز من احد مزادات سوثبي بمبلغ أربعمائة وخمسين جنيها إسترلينيّا. ومثل سوثران، كان ويلز يُزمع إرسال الكتاب-التحفة إلى الولايات المتّحدة.
    لكن لسوء الحظ، لم يُقدَّر للكتاب أن يُشحن على السفينة الأصلية، فاختيرت السفينة التالية، وكانت التايتانيك، للقيام بالمهمّة. وما حدث بعد ذلك أصبح تاريخاً.


    لكن القصّة لم تنتهِ بغرق التايتانيك، ولا حتى بالموت الغريب لسانغورسكي الذي قضى غرقا بعد ذلك ببضعة أسابيع.
    فابن شقيق ساتكليف، واسمه ستانلي براي، قرّر أن يحيي ذكرى عُمَر الشاعر من خلال بعث الكتاب إلى الحياة مرّة أخرى. وباستخدامه الرسومات الأصلية التي كان قد وضعها سانغورسكي، تمكّن بعد ستّ سنوات من العمل المضني من استنساخ الكتاب ثم أودعه في سرداب احد البنوك.
    ويبدو أن كتاب "عُمَر العظيم" وُلد وهو يحمل علامة شؤم. وربّما لأنه كان رمزا لهشاشة الإنسان، فقد أتى عليه حريق لندن الذي اندلع خلال الحرب العالمية الثانية وحوّله إلى رماد.
    لكن براي لم ييأس ولم يستسلم، بل شمّر عن ساعديه وبدأ العمل من جديد على إنتاج نسخة أخرى من كتاب عمّه. لكن في هذه المرة لم يستغرق صنع الكتاب سنوات بل عقودا. وقد أُكمل بعد أربعين عاما من العمل المتقطّع. وقبيل موته، أوصى براي أن تؤول ملكية الكتاب إلى المكتبة البريطانية، حيث يمكن رؤيته اليوم. وكان قد قال قبل رحيله: لا أؤمن بالخرافات رغم أنهم يقولون إن الطاووس يرمز للكوارث".
    ترى ما هي الرباعيات؟ ومن هي هذه الشخصية الغامضة التي فتنت سوثران والكثيرين غيره؟
    ينتمي عمر الخيّام إلى بلدة في شرق إيران. وأثناء حياته، كان يحظى بالتقدير الكبير بسبب اكتشافاته المبتكرة في الفلك والرياضيات. وكما هو الحال مع غيره من الموسوعيين الفرس، مثل ابن سينا، كان الخيّام شاعرا أيضا. لكن قصائده لم تكن تشبه قصائد أيّ شاعر إيراني أتى قبله.
    فَهِمَ الخيّام الطبيعة الموقّتة للحياة وحتمية الموت ودعا لأن يستمتع الإنسان بالوقت القصير الممنوح له على هذه الأرض. يقول في إحدى رباعياته:
    لا تشغل البال بماضي الزمان : ولا بآتي العيش قبل الأوان
    واغـنم مـن الـحاضر لـذّاته : فـليس في طبع الليالي الأمان
    ولطالما عبّر الشاعر عن حيرته وعن تشكّكه في الكثير من الأفكار التي اعتاد الناس أن يتقبّلوها دون نقاش.
    أطال أهل الأنفس الباصرة : تفكيرهم في ذاتك القادرة
    ولـم تـزل يـا ربّ أفهامهم : حيرى كهذي الأنجم الحائرة
    والمعروف أن الخيّام عاش في ظروف اتّسمت بالاضطراب السياسيّ، فإيران في زمانه كانت تحت احتلال الأتراك بعد أن فتحها العرب، وستأتي جيوش المغول بعد وقت قصير لتنشر فيها الموت والخراب.
    كان غوته محبّا لحافظ، وفولتير معجبا بسعدي. أما فيتزجيرالد فوجد في "صانع الخِيَام العجوز" رفيقا لروحه. وكان قبل ذلك قد ترجم بعض نصوص الأدب الفارسيّ ومن ضمنها كتاب "منطق الطير" للشاعر فريد الدين العطّار. لكن الرباعيات أصبحت تحفته الكبيرة بلا منازع.
    ورغم أن ترجمته لها كانت فضفاضة إلى حدّ ما، إلا انه نقل فيها روح الرباعيات ونَفَس شاعرها. في البداية، لم يلفت الكتاب انتباه الكثيرين، لكنه سرعان ما أصبح يتمتّع بشعبية جارفة لم يكن فيتزجيرالد نفسه يتخيّلها أبدا.

    وفي أواخر القرن التاسع عشر، عمد صالون أدبيّ تؤمّه النخبة في لندن إلى تغيير اسمه إلى عمر الخيّام. وما يزال الصالون يحمل هذا الاسم إلى اليوم. كما كانت ترجمة فيتزجيرالد للخيّام مصدر إلهام للفنّانين ما قبل الرافائيليين، مثل وليام موريس وادوارد بيرن جونز.
    وطُبعت من الرباعيات نسخ كثيرة مع صور توضيحية وضعها فنّانون آخرون مثل ادموند دولاك وادموند سوليفان وغيرهما. كما اقتبس مارتن لوثر كنغ بعض كلمات الخيّام في خطبته المناوئة للحرب عام 1967. وفي احد الأوقات، أنتجت هوليوود فيلما عن الشاعر، وظهرت العديد من عباراته ضمن كتاب اوكسفورد للاقتباسات.
    وما من شكّ في أن شعر الخيّام صمد أمام امتحان الزمن. وفي بلده إيران، ما يزال يتمتّع بشعبية كبيرة، إذ لا يكاد يخلو بيت من نسخة من الرباعيات. وعلى الرغم من أن فيتزجيرالد عدّل كثيرا في ترجمته، إلا أن الرباعيات ما تزال أشهر نسخة انجليزية من الديوان حتى اليوم. وفي أنحاء أخرى متفرّقة من العالم، ما تزال هذه القصائد تُقرأ وبمختلف اللغات.
    ربّما كان ساتكليف وزميله سانغورسكي قد تنبّئا مسبقا بالأهمية الكبيرة التي سيحظى بها كتاب الرباعيات عندما اختارا له ذلك التصميم العجيب. لكن كيف أمكن لكلمات كتبها شاعر قبل عشرة قرون أن يكون لها كلّ هذا الذيوع والانتشار المستمرّين، من العصر الفيكتوري إلى عصر القرن الحادي والعشرين؟
    الإجابة تكمن في خلود الرباعيات نفسها وفي حديثها عن الحقائق الكونية العامّة التي لا تقتصر على ثقافة أو دين أو عقيدة بعينها.
    وفي وقتنا الحاضر، حيث يعيش العالم حالة من التوتّر وعدم اليقين، قد تكون الرباعيات ذات صلة بعالمنا أكثر ممّا كانت خلال العصر المضطرب الذي كُتبت فيه أوّل مرّة.
    تُرى ما الذي يمكن أن يقوله مؤلّف ديوان الشعر الأكثر بذخا عن عالمنا المجنون لو كان ما يزال حيّا إلى اليوم؟
    ثمّة الكثير مما يمكن اقتباسه من شعر الخيّام ممّا يناسب واقع الحال اليوم كقوله مثلا:
    لا توحش النفس بخوف الظنون : واغنم من الحاضر أمن اليقين
    فـقد تـساوى فـي الـثرى راحـل غـدا : وماضٍ من ألوف السنين
    أو قوله:
    زخـارف الدنيا أساس الألم : وطالب الدنيا نديم الألم
    فكن خليّ البال من أمرها : فكلّ ما فيها شقاء وهمّ
    أو قوله:
    عش راضيا واهجر دواعي الألم : واعدل مع الظالم مهما ظلم
    نـهـايـة الـدنـيـا فــنـاء فــعـش : فـيـهـا طـلـيـقا واعـتـبـرها عــدم

    Credits
    bbc.com

    الأحد، فبراير 18، 2018

    أبو نواس الصينيّ


    لو سألت أيّ صينيّ عن أعظم سلالة في تاريخ الصين فسيجيبك غالبا أنها سلالة تانغ. والسبب هو أن فترة حكمهم (618-907) اتّسمت بالتنوّع الثقافيّ والانفتاح على الحضارات الأخرى. كما أنهم نجحوا في إقامة أقوى إمبراطورية واقتصاد في العالم آنذاك.
    كانت تلك السلالة تتألّف من ستّ عائلات حكمت عشر ممالك. وكانت عاصمة ملكهم "شيان" أكثر مدينة مأهولة في العالم في ذلك الوقت.
    وقد تقبّل ملوك التانغ الأفكار الأجنبية، بما فيها الفنون والآداب، وكذلك الأديان كالبوذية التي انتشرت في زمنهم إلى بلدان آسيا. وتحت حكمهم ازدهرت الثقافة الصينية نفسها وعاش الشعر الصينيّ أزهى فتراته.
    وفي عصر التانغ، وبالتحديد قبل 1300 عام، أي في بدايات القرن الثامن الميلاديّ، ولد أشهر شاعرين في تاريخ الصين، هما لي باي ودو فو. وأهميّة هذين الشاعرين في الصين تشبه أهميّة شكسبير عند الانجليز وبوشكين عند الروس.
    ورغم أن اللغة تغيّرت منذ ذلك الحين، إلا أن قراءة قصائدهما ما تزال متيّسرة بالنسبة للصينيين اليوم، كما أن أفكارهما عن الصداقة والحبّ والطبيعة وفساد الحكّام ما تزال ذات صلة بالعالم الحديث.
    ولي باي هو الشاعر الأكثر شهرة. وأشعاره مصاغة بجمل مختزلة، وهي عموما تتحدّث عن العزلة وعن الحنين للوطن. والكثير من حياته منعكس في قصائده، كالأماكن التي زارها، والأصدقاء الذين ودّعهم ورحلوا إلى أماكن بعيدة وربّما لن يعودوا، بالإضافة إلى تخيّلاته الحالمة وأوصافه للأحداث والطبيعة.
    وشعر لي باي يشبه إلى حدّ كبير شعر أبي نواس في الشعر العربيّ من حيث تمجيده واحتفائه الكبير بالشراب، واستخدامه للخيال، والتطرّف في بعض صوره، وقدرته على مزج كلّ هذا لينتج شعرا خالدا يصعب تقليده. ومثل أبي نواس أيضا، لا احد كتب عن النبيذ في الشعر الصينيّ أكثر من لي باي. وكثيرا ما يصوّر الشاعر في الرسم وهو يحدّق في قاع كأسه النبيذيّ انتظارا للإلهام.
    والسُّكْر الذي يعبّر عنه في شعره ينسجم مع المبدأ الطاويّ الذي يدعو إلى تحدّي وكسر الأعراف الاجتماعية. والطاوية نفسها تنظر إلى السُّكْر كجزء من "الطاو" أو الطريق. وحتى الشخصيات الخالدة في الطاوية كثيرا ما تُصوّر وهي في حالة سُكْر. والطاوية ترى أن النبيذ في النهاية هو من نتاج الطبيعة. وهو لا يعني فقدان الوعي، بل هو وسيلة لإبعاد المرء عن المشاعر التي تُثقِل على عقله.
    يقول لي باي في قصيدة بعنوان "الصحو من السُّكْر في يوم ربيعيّ": الحياة في هذا العالم ليست أكثر من حلم كبير. لذا لن أهدر حياتي بتحميلها أيّة أعباء أو اهتمامات. أسكر طوال اليوم وأستلقي بلا حراك عند الرّواق أمام بابي. وعندما أصحو، انظر إلى أشجار الحديقة وألمح طائرا يغرّد بين الأزهار وأسائل نفسي: هل كان اليوم ممطرا أم صحواً؟".
    لكن الشاعر في مقطع آخر يقرّ بأن النبيذ ليس حلا ناجعا لكافّة المشاكل. يقول: تعود الأحزان ثانية رغم أننا نغرقها بالنبيذ. ولأن العالم لا يمكن أن يجيب على جميع تساؤلاتنا، سأحلّ شعري غدا وأنزل إلى قارب صيدي الصغير".
    ولـ لي باي أيضا قصائد أخرى تتضمّن أفكارا وتأمّلات عامّة. يقول مثلا: تسألني لماذا اتّخذت لنفسي بيتا في غابة جبلية، وأبتسم وأنا صامت. وحتى روحي تظلّ صامتة لأنها تعيش في عالم آخر لا يملكه احد، حيث الأشجار مزهرة دائما والماء لا يكفّ عن الجريان".


    وقوله أيضا: كلّ شيء يذهب إلى الأبد، الأحداث، البشر، كلّ شيء إلى زوال مثل أمواج اليانغتسي التي يبتلعها البحر". وقوله: تلاشت الطيور من السماء، وجفّت آخر غيمة. نجلس معا، الجبل وأنا، وفي النهاية أرحل أنا ويبقى الجبل".
    كان لي باي شاعرا ماجنا. وأحد الأسباب التي تفسّر شعبيّته الكبيرة هو عربدته التي كان يمازجها شيء من المرح الصاخب.
    وكلّ فرد في الصين ومنذ سنّ الطفولة يجب أن يتعلّم شيئا من أشعاره. وحتى الصينيين الذين يعيشون في الغرب يحرصون على تعليم أطفالهم بعض أشعاره، ومن ضمنها قصيدته المشهورة عن القمر.
    والقمر في الصين يكتسب معنى خاصّا. إذ عندما يكون مكتملا فإنه يرمز إلى اجتماع شمل العائلة. والفكرة هي أن الإنسان يرى نفس القمر مع عائلته أو أقاربه، رغم أنهم قد يكونون في أماكن متباعدة جغرافيّا. لذا فإن قصيدة لي باي هذه تلامس وترا حسّاسا في نفوس الصينيين. كما أن القمر يرمز للشعر والأحلام.
    والغريب أن القمر يلعب دورا مهمّا في موت الشاعر نفسه. إذ تقول القصّة أن لي باي غرق في مياه احد الأنهار عندما سقط من قاربه وهو يحاول احتضان صورة القمر المنعكسة فوق الماء. ربّما كان ثملا في تلك اللحظة، وعلى الأرجح كان هذا هو حاله معظم الوقت.
    البورتريه المرسوم لـ لي باي يصوّره مرتديا لباسا طويلا ابيض بينما يرفع كأس النبيذ باتجاه القمر. وبطبيعة الحال، وكما سلفت الإشارة، لم يكن للسُّكْر دلالات سلبية بالنسبة لشاعر من القرن الثامن الميلاديّ، بل كان هو الطريق للإلهام المقدّس. ولي باي وزميله دو فو كانا يشربان بشراهة، رغم أن حياة كلّ منهما كانت مختلفة كثيرا عن حياة الآخر.
    فـ لي باي كان نجما كبيرا تحفّ به آيات التبجيل والتكريم أينما ذهب لأنه عبقريّ. أما دو فو فكان منتهى طموحه أن يحصل على وظيفة في الحكومة، لكنه فشل ولم يظفر بمنصب جيّد.
    ثم وقع تمرّد في الصين قاده جنرال يُدعى "آن لوشان" وأعقبته ثمان سنوات من الحرب الأهلية. فهرب دو فو من شيان عاصمة الإمبراطورية، ثم اعتُقل، ثم تاه بعد ذلك وأصبح يتنقّل كلاجئ ومنفيّ إلى أن اغتيل قائد التمرّد على يد ابنه. وبعدها أصبح بإمكان كلّ شخص أن يعود إلى بيته.
    وقد تمكّن دو فو من الحصول على وظيفة حكومية، لكن هذه الحال لم تدم طويلا. إذ يبدو انه فعل شيئا ما اغضب الإمبراطور، أو ربّما كان قد تحدّث بجرأة عن موضوع محظور أو كتب أشعارا تنتقد النظام. لذا تمّ طرده من وظيفته. وهو في إحدى قصائده يعلن أن مهمّته هي تحريض الناس وأنه عازم على فعل ذلك إلى أن يغيّبه الموت.
    وفي نهاية حياته، أصبح دو فو إنسانا معدما، لدرجة أن احد أطفاله مات بسبب الجوع. وهو في إحدى قصائده المشهورة عن الظلم في العالم، يتحدّث عن عاصفة هوجاء تهبّ على كوخ تقطنه عائلة فقيرة فتقتلع سقفه وينهمر المطر بغزارة على رؤوس الأطفال بداخله. ثم يحلم الشاعر لو انه يمتلك بيتا صلبا كالجبال يضمّ آلاف الغرف ليؤوي فيه كلّ المشرّدين في العالم، ويقرّر انه سيكون سعيدا لو مات من البرد بعد ذلك في كوخه البسيط والمتواضع.
    والصينيون يتحدّثون كثيرا عن هذه القصيدة. وهم يستخدمونها مع شيء من التحريف لوصف فساد المسئولين البيروقراطيين الذين يهتمّون بأنفسهم وعائلاتهم وينسون بقيّة الشعب. ورغم أن معظم الصينيين لا يتوفّر لهم من الوقت ما يكفي لقراءة الشعر هذه الأيّام، إلا أنهم يتذكّرون لي باي ودو فو ويرون في أشعارهما انعكاسا لبعض تفاصيل واقعهم اليوم.

    Credits
    chinese-poems.com

    الأحد، فبراير 11، 2018

    عوالم الأويغور


    من أهمّ الرموز الثقافية عند شعب الأويغور الشاعر الراحل روزي سعيد الذي تعكس أشعاره نضال الفلاحين من أبناء قومه. وقد فهم هذا الشاعر، ربّما أكثر من أيّ مثقّف اويغوري آخر، طبيعة الحياة القاسية للفلاحين الذين كانوا يعملون في مزارع الدولة الصينية في ستّينات القرن الماضي.
    كان سعيد شاعرا مشهورا وإنسانا محافظا وملتزما بالقيم الريفية. وفي إحدى قصائده المعروفة، يشير إلى ما يعتقد انه الدور الذي يليق بشعبه أن يلعبه، مؤكّدا على التمسّك بالجذور والأصالة.
    يقول في قصيدته: ليس إنسانا من يتنكّر لأصله. وليس إنسانا من يشعر بالخزي من صديقه. القيمة الحقيقية لإنسانية المرء تكمن في حفظه لوعوده. ومن يتنكّر لوعده ليس إنسانا. لا تربط مصيرك بكذّاب، ولا تسافر مع شخص يشعر بالأنفة منك. هذا العالم الجميل يشبه الجنّة بالنسبة للناس الطيّبين، لأن أفعال الأخيار هي التي صنعته. من يظلم الناس ليس إنسانا. وليس إنسانا أيضا من يتباهى بطائفيّته وجهله".
    ومن الشخصيات المعاصرة الأخرى التي يحترمها الأويغور طاهر حمود، وهو شاعر ومخرج سينمائيّ وأستاذ للفنون.
    في بعض قصائده، يعبّر حمود عن ارتباطه بالأماكن التي أتى منها، مثل مدينة كشغر التاريخية والتقاليد المنسية لجنوب شينجيانغ.
    وبعض أشعاره تتضمّن صورا عن العزلة وعن تبدّد أحلام الشباب. كما أنها تمتلئ بصور الحجارة المتجمّدة والسموات المنخفضة والأشجار والحكايات القديمة.
    ومنذ عشرة أعوام، حوّل حمود اهتمامه إلى السينما وخاض عدّة تجارب في تصوير الشعر الغنائيّ سينمائيّا وفي إعداد وتصوير بعض البرامج الوثائقية السردية.
    ومن أجمل أفلامه القصيرة فيلم بعنوان العاشق الجميل. وقصّته بسيطة ومألوفة، لكنه مصنوع بطريقة شاعرية. والشاعر يريد أن يثبت من خلاله أن مشاعر الحاضر ليست سوى امتداد للأفكار القديمة عن الفقر والاستقلال والرغبة.
    يعرض الفيلم لرحلة شابّ قرويّ فقير إلى المدينة. وهو يظهر في بداية الفيلم مارّا بجوار برج للمراقبة في مدينة اويغورية تُدعى كوشا. والمدينة نفسها شُيّدت قبل بناء هذا المعلم القديم الذي يعود إلى زمن حكم سلالة يوان الصينية.
    ثم يظهر في الفيلم سوق البلدة الذي تصطفّ على جانبيه محلات بيع الأواني والخزف والأقمشة وما إلى ذلك. يتجوّل الشاب في السوق، ثم يجد له عملا عند صاحب احد المخابز. ثم لا يلبث أن يقع في حبّ فتاة جميلة اعتادت على أن تأتي إلى المحلّ لشراء الخبز.
    لكنّ ذلك الحبّ سرعان ما ينهار عندما يتقدّم رجل اكبر سنّا وأكثر ثراءً فيتزوّج الفتاة. وعلى وقع أغنية حزينة تتحدّث كلماتها عن الوحدة والخيبة، يكتشف الشاب الحقيقة المرّة.
    وفي نهاية الفيلم، نراه وهو يمشي مبتعدا عن المدينة وعن الفتاة التي أحبّها وعن حلم آخر تمّ إجهاضه. وفي ابتعاده يمرّ من جوار البرج بينما تغرب الشمس وراء أفق تكلّله غيوم أرجوانية.
    وحال هذا الشابّ البسيط يشبه حال الكثير من المهاجرين إلى المدينة، إذ لا يمكن أن يبقى فيها المرء إلا لفترة بسيطة قبل أن يبدأ ترحاله من جديد إلى وجهة أخرى مجهولة.
    وحمود طاهر يستدعي في أفلامه مثل هذه القصص التراثية البسيطة ويُلبِسها طابعا عصريّا كي يبثّ فيها الحياة ثانيةً، وذلك بتحويلها إلى شكل بصريّ وشاعريّ.
    وهو في هذا الفيلم وفي سواه، يحاول أن يُضفي على الفقر طابعا من الجمال وينبّه إلى قيمة العمل الجادّ، وفي نفس الوقت يصوّر معاناة الأويغور في محاولتهم تلمّس طريقهم في عالم جديد محكوم بالتحوّلات السريعة وحالات انعدام اليقين.

    Credits
    uyghurensemble.co.uk