:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات هوميروس. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات هوميروس. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، مارس 20، 2024

أعشاب الأوديسّا


أوديسّا هوميروس هي أحد أقدم أعمال الأدب الغربيّ، وتروي مغامرات البطل الاغريقي أوديسيوس خلال رحلته التي استغرقت عشر سنوات عائدا الى أرض الوطن من حرب طروادة.
وعلى الرغم من أن بعض أجزاء الملحمة قد تكون مبنية على أحداث حقيقية، الا ان المواجهات مع الوحوش الغريبة والعمالقة المرعبين والسحرة الأقوياء تُعتبر من قبيل الخيال الجامح.
ولكن هل يمكن أن يكون في هذه الأساطير أكثر ممّا يبدو للعين للوهلة الأولى؟
دعونا نلقِ نظرة على قصّة مشهورة من هذه القصيدة الملحمية.
أثناء رحلتهم الطويلة، يجد أوديسيوس وطاقمه من البحّارة أنفسهم في جزيرة "إيا" الغامضة. وبينما هم يتضوّرون من الجوع والارهاق، يعثر بعض الرجال على منزل فخم، حيث ترحّب بهم امرأة مذهلة وتدعوهم لتناول وليمة فاخرة في بيتها.
وبطبيعة الحال، تبيّن أن كلّ هذا جيّد لدرجة أنه من الصعب تصديقه. فالمرأة، في الواقع، ليست سوى الساحرة الشرّيرة سيرسي. وبمجرّد أن يأكل الجنود حتى الشبع على مائدتها، تقوم بتحويلهم جميعا إلى حيوانات بهزّة واحدة من عصاها.
ومن حسن الحظّ أن أحد الرجال تمكّن من الهرب، ليجد أوديسيوس ويخبره بمحنة بحّارته. لكن بينما يندفع أوديسيوس لإنقاذ رجاله، يلتقي بالإله الرسول هرمِس، الذي ينصحه أوّلاً بتناول عشبة سحرية، فينفّذ أوديسيوس هذه النصيحة. وعندما يواجه سيرسي أخيرا، لا يعود لتعاويذها أيّ تأثير عليه، وتسمح له بأن يهزمها وينقذ بحّارته.
بطبيعة الحال، قصّة السحر هذه والتحوّلات الحيوانية المرافقة لها نُفيت لعدّة قرون واعتُبرت محض خيال. لكن في السنوات الأخيرة، تواترت الاخبار عن أعشاب وأدوية أثارت اهتمام العلماء، ما دفع البعض إلى الظنّ بأنه ربّما كانت الأساطير عبارة عن تعبيرات خيالية عن تجارب حقيقية.
النسخ الأقدم من نصّ هوميروس تفترض أن سيرسي خلطت أدوية ضارّة في الطعام بحيث أن البحّارة بعد أن تناولوها قد يكونون نسوا تماما موطنهم الأصلي.
وتَصادفَ أن أحد النباتات التي تنمو في منطقة البحر المتوسّط هي عشبة بريئة تُعرف باسم عشبة جيمسون، والتي تشمل آثارها فقدان الذاكرة الواضح. والعشبة مليئة بالمركّبات التي تعطّل الناقل العصبيّ الحيوي المسمّى أسيتيلكولين.
ومثل هذا الاضطراب يمكن أن يسبّب هلوسة وسلوكيات غريبة وصعوبة عامّة في التمييز بين الخيال والواقع، أي الأعراض التي قد تدفع متعاطييها إلى الاعتقاد أنهم تحوّلوا إلى حيوانات، وهو أيضا ما يوحي بأن سيرسي لم تكن ساحرة، بل كيميائية تعرف كيفية استخدام النباتات المحليّة لتحقيق تأثير كبير.
لكن عشبة جيمسون ليست سوى نصف القصّة. وعلى عكس الكثير من التفاصيل الواردة في الأوديسّا، فإن النصّ الخاص بالعشبة التي قدّمها هيرمس لأوديسيوس مفصّل ومحدّد بشكل غير عاديّ. إذ يورد ذلك النصّ أنه يمكن العثور عليها في وادٍ في غابة، وأن جذرها اسود وزهرتها بيضاء مثل الحليب. لكن ولقرون عديدة تمّ نفي وجود مثل هذه النبتة.
غير أنه في عام 1951، اكتشف عالم صيدلة روسي يُدعى ميخائيل ماشكوفسكي أن القرويين في جبال الأورال استخدموا نباتا ذا زهرة بيضاء حليبية وجذر أسود لمعالجة الأطفال المصابين بالشلل.
وتبيّن ان النبات، المسمّى قطرة الثلج، يحتوي على مركب يسمى الغالانتامين، وهو يمنع تعطيل الناقل العصبي أسيتيلكولين، ما يجعله فعّالا في علاج، ليس فقط شلل الأطفال، ولكن أمراض أخرى مثل مرض الزهايمر.
في المؤتمر العالمي الثاني عشر لطبّ الأعصاب، أشار طبيبان لأوّل مرّة أن زهرة قطرة الثلج كانت في الواقع النبات الذي أعطاه هيرمس لأوديسيوس. وعلى الرغم من عدم وجود أدلّة مباشرة على أن الناس في زمن هوميروس يمكن ان يكونوا قد عرفوا عن آثاره المضادّة للهلوسة، الا ان هناك مقطعا لكاتب القرن الرابع اليوناني ثيوفراستوس يذكر فيه أن هذه النبتة كانت تُستخدم كترياق مضادّ للسموم.
فهل هذا يعني أن أوديسيوس وسيرسي وشخصيّات أخرى في الأوديسّا كانوا حقيقيين؟ الجواب: ليس بالضرورة. لكن هذا يشير إلى أن القصص القديمة قد تحتوي على المزيد من الحقائق وبأكثر ممّا كنّا نعتقد سابقا. وكلّما تعلّمنا المزيد عن العالم من حولنا، قد نكتشف بعضا من هذه المعارف مخبّأة داخل أساطير وخرافات العصور الخوالي.

Credits
cambridge.org

الثلاثاء، نوفمبر 28، 2017

بحر هوميروس

كانت علاقة اليونانيين القدماء بالبحر حميمية وخاصّة. وكانت رحلاتهم البحرية هي المحرّك الأساسيّ لثقافتهم.
والبحر حاضر في كلّ مكان في الطبيعة اليونانية. ومن أعالي الجبال الوعرة إلى السهول المنخفضة، لا يكاد مرأى البحر المتوسّط يغيب عن الأعين.
وهو حاضر أيضا في الأساطير الإغريقية التي تحكي عن الحوريات اللاتي يعشن في الماء وعن الكنوز التي توجد طافية على الشطآن.
بالنسبة للإغريق، البحر هو أكثر من واقع جغرافيّ، انه ثقافة وأسلوب حياة. كانوا يعتمدون عليه، ليس للعيش والتنقّل فقط، وإنما أيضا لمعرفة الأخبار وإدارة الحروب وللتبادل السياسيّ والتجاريّ.
البحر أيضا نقطة عبور بين الحياة والموت. زيوس قرّر في نهاية العصر البرونزيّ أن يبيد الجنس البشريّ بالطوفان جزاءً له على شروره. وقيل إن ذلك الطوفان تسبّب في تدمير اطلانتيس وطبيعتها الفردوسية.
وذات مرّة، أشار يوريبيديس إلى أن الإبحار إلى ما وراء أعمدة هرقل يُعدّ عملا محرّما لأنه ينتهك أرضا مقدّسة. غير أن البحّارة الفينيقيين تجاوزوا تلك الأعمدة منذ القرن السابع الميلاديّ.
كان الإغريق ينظرون إلى البحر كنقطة التقاء بين العالم المتخيّل وعالم الواقع. ويمكن أن نجد نفس هذه النظرة في ثقافات شعوب أخرى سبقوهم أو جاءوا بعدهم مثل البابليين وغيرهم من شعوب الهلال الخصيب.
ورغم أن البحر المتوسّط كان بحرا هادئا مقارنة بالمحيطات، إلا أن العواصف الموسمية العاتية فيه كانت تمثّل خطرا داهما على السفن والبحّارة. وهناك إشارة إلى حادثة مشئومة وقعت عندما أرسل الاسكندر المقدونيّ بعثة من ألف سفينة إلى المحيط الهنديّ عبر المتوسّط. وقد عانى البحّارة من أعراض ركوب البحر وأرهقوا ومات الكثير منهم بسبب الرحلة الطويلة.
لكن أن تبقى بعيدا عن البحر معناه أن تعيش في عزلة، لأن البحر وحده كان طريق الأفكار والتجارة.
في بداية القرن الخامس قبل الميلاد، استعار أسقف ليبيا اليونانية بُعده عن البحر ليصف كيف انه عاش بعيدا عن الحضارة. وجنود أثينا العائدون من بابل صرخوا "البحر.. البحر" عندما لاحت لهم من بعيد مشارف الوطن.
لكن الإغريق كانوا يدركون أن الترحال في البحر يمكن أن يكون عملا محفوفا بالمخاطر. وهذه الفكرة ترد كثيرا على ألسنة العديد من شعرائهم. هيسيود، مثلا، حذّر من البحر وكان يرى أن "الرجال الطامحين بالثروة هم وحدهم من يجازفون بالنزول إليه. لكن من المخيف أن تموت وسط الأمواج".
في "الإلياذة"، يستدعي هوميروس البحر في مناظر مثيرة تعبّر عن العديد من التجارب الإنسانية: البحّارة، الشطآن المنعزلة، العواصف البحرية وأمواج البشر التي تتدافع في معركة.
الشاطئ المنعزل يُصوَّر كخلفية لحزن كاهن يصلّي، بينما اضطراب الأمواج يعكس التوتّر الذي يعتمل في عقله. والبحر الساطع يعكس رحلة ناجحة لرجال أتقياء يبحرون باتجاه الوطن بعد مهمّة نبيلة.
والبحر المطمئن هو طريق السفر الواسع والمتيّسر. والأمواج المتلاطمة تذكّر بالمسافة الخطيرة بين ارض أخيل وطروادة.
أما أعماق البحر المظلمة فهي موطن الكائنات الخارقة وقوى الطبيعة.
سمات البحر ترد كثيرا من خلال الصور الرائعة التي يرسمها هوميروس في ملحمتيه لكي يقرّب تلك المشاهد والأحداث من ذهن القارئ الذي قد لا يكون خَبِرها مباشرة.
وبحر هوميروس يوصف بأنه ضبابيّ، مضطرب، عميق، متلاطم، مغمغم، هائج وعاصف.

لكن الشاعر يستخدم وصفا آخر غريبا للبحر عندما يتحدّث عن "بحر مظلم كالنبيذ". وهذه الجملة أصبحت مشهورة جدّا ويعرفها حتى الأشخاص الذين لم يقرءوا هوميروس أبدا.
وهو يذكر هذه الجملة، ليس في الأوديسّا، وإنما في "الإلياذة"، ملحمته الأولى، التي تجري أحداثها على ارض طروادة. كما انه يردّدها ستّ مرّات في أماكن متفرّقة من الكتاب.
"البحر المظلم كالنبيذ" عبارة فاتنة ومثيرة وتستدعي ذكريات وصورا متعدّدة لطالما فتنت مخيّلة الكثيرين. لكنها في نفس الوقت ما تزال عصيّة على الفهم ومثارا لجدل واسع بين النقّاد والقرّاء على حدّ سواء.
ترى بأية طريقة ذكّر البحر هوميروس بالنبيذ المظلم؟ ثمّة كلمات كثيرة يمكن أن تذكّر بالبحر، فلماذا قارنه بالنبيذ بالذات؟
مهمّة المترجم هي أن يقدّم للقارئ المعنى العامّ والمعنى المحسوس لكلمة أو جملة ما في نصّ أدبيّ. لكن عبارة هوميروس هذه، المشهورة والمحتفى بها كثيرا، غريبة وملتبسة.
وبعض الذين ترجموا الإلياذة استخدموا عبارة "بحر ازرق بلون النبيذ" كترجمة قريبة من الأصل، بينما اكتفى آخرون بكلمة "البحر" مجرّدة من أيّ وصف كي يريحوا أنفسهم من عناء البحث عن ترجمة مناسبة.
لكن هذا البحر ليس أزرق أبدا. فالكلمة اليونانية التي تعطي معنى الأزرق لم تُستخدم لوصف البحر إلا في أواخر القرن السادس قبل الميلاد في قصيدة منسوبة لسيمونيدس.
احد الكتّاب الانجليز من القرن التاسع عشر كتب يقول محاولا تفسير العبارة أن الإغريق كان لديهم شكل من عمى الألوان. كانت الألوان عندهم مقتصرة على الأبيض والأسود وربّما الأحمر.
وقال كاتب آخر إن الإغريق كان من عادتهم مزج نبيذهم بالماء، لكنهم أحيانا كانوا يمزجونه بالماء الحمضيّ، لذا تحوّل النبيذ الأحمر إلى ازرق.
وذهب كاتب آخر إلى أن جملة هوميروس ربّما قصد بها الغروب الأحمر للشمس إثر امتلاء السماء بالرماد الناجم عن ثوران بركان ما.
وهناك من قال إن العبارة لا معنى لها وهي مجرّد تعبير أجوف، لكنه ذو إيقاع شاعريّ. وربّما كان الغرض من استخدامه هو ملء الفراغ في شطر بيت.
الصورة التي أراد هوميروس أن يرسمها في بحره الشبيه بالنبيذ كانت تعتمد إلى حدّ كبير على ما الذي كان يعنيه النبيذ لقرّائه.
ومن المحتمل أن الإغريق كانوا يعرفون النبيذ الأبيض، مع أن معظم النبيذ القديم كان احمر. ونبيذ هوميروس كان أحيانا اسود، وهي صفة تذكّر بالموت والغضب والسفن والليل والدم والبحر.
عندما ينظر أخيل المنتحب باتجاه البحر الممتدّ أمام ناظريه فإنه يتواصل معه. ورغم أخطاره، إلا أن البحر يمكن أن يوفّر له ممرّا يأخذه إلى المكان الذي يتطلّع إلى بلوغه، أي الوطن.
وكون أن البحر يجلب الدمار أحيانا، فتلك حقيقة من حقائق التاريخ والشعر أيضا.
العصر البرونزيّ الإغريقيّ الذي وصفه هوميروس إنهار في بداية الألفية الثانية قبل الميلاد لأسباب غير معروفة. لكن السجلات التي تعود إلى تلك الفترة تتحدّث عن "مهاجمين جاءوا من البحر". وهذا الإيحاء عن شرّ قادم وُجد منقوشا على لوح طينيّ استُنقذ من ارشيف قصر بايلوس. ويبدو أن هذا القصر تمّ إحراقه على يد العدوّ. لكن قُدّر لهذا اللوح أن ينجو من الدمار.
والعبارة المكتوبة عليه تتحدّث عن "خمسين حارسا يقفون على شاطئ البحر". واعتمادا على وصف هوميروس المشهور، يمكن للمرء أن يتخيّل منظر القصر المحترق وسط أعمدة الدخان وصورة هؤلاء الرجال المسلّحين واليقظين وهم وقوف على الشاطئ بينما يحدّقون أمامهم في أفق "بحر مظلم كالنبيذ".

Credits
clarkesworldmagazine.com

الاثنين، أبريل 24، 2017

أصوات من الماضي


  • في بداية ستّينات القرن الماضي، اكتشف علماء آثار في مدينة اوغاريت السورية القديمة عدّة ألواح من الطين تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
    وكانت تلك الألواح تحتوي على كلمات مكتوبة بالأحرف المسمارية. ثم تبيّن أنها عبارة عن نوتات لأقدم موسيقى تمّ اكتشافها حتى اليوم وعمرها يتجاوز 3400 عام.
    آن كليمر، الأستاذة المتخصّصة في الحضارة واللغة الآشورية نشرت في أوائل السبعينات كتابا عن تلك الألواح السومرية وعن النظرية الموسيقية المكتشفة فيها. ثم كتب علماء آخرون نظريّاتهم وآراءهم الخاصّة عن الموضوع.
    الاكتشاف الموسيقيّ أكّد أن السلّم الدياتوني المؤلّف من سبع نغمات كان موجودا قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، وهو أمر يدحض آراء بعض علماء الموسيقى الذين ينفون وجود الهارموني في العصور القديمة ويزعمون انه لم يُكتشف إلا زمن الإغريق.
    اكتشاف اوغاريت الموسيقيّ غيّر جذريّا المفهوم السائد عن الأصول الأولى للموسيقى في العالم. لكن بصرف النظر عن النقاشات الأكاديمية، يثور سؤال عن طبيعة أو شكل هذه المقطوعة، أي أقدم موسيقى في العالم.
    الفيديو "فوق" يعطي فكرة عن هذا التوليف الغريب. والموسيقى يعزفها الملحّن مايكل ليفي على القيثارة، وهي آلة قريبة من الآلة الموسيقية التي عُزفت بها المقطوعة لأوّل مرّة.
    كليمر وأحد زملائها نشرا مؤخّرا كتابا مسموعا يضمّ معلومات عن موسيقى الشرق الأدنى القديم وشرحا عن الكيفية التي وصلت بها إلينا هذه الأغنية أو الترنيمة، بالإضافة إلى ترجمة كلماتها.

  • ترى كيف كان الإغريق يؤدّون أغانيهم؟
    بين عامي 750 و 400 قبل الميلاد، كان قدماء اليونانيين يؤدون أغانيهم بمصاحبة آلتي القيثارة والمزمار بالإضافة إلى عدد من الآلات النقرية، أي الطبول والدفوف وما في حكمها.
    واليوم وبعد مرور ألفي عام، عرف العلماء أخيرا كيف يعيدون بناء تلك الأغاني وكيف يعزفونها بطريقة دقيقة وقريبة جدّا من الطريقة التي كانت تُعزف بها في زمانها.
    على هذا الرابط يمكنك سماع ديفيد كريس، الخبير المتخصّص في آداب وفنون اليونان، وهو يعزف أغنية يونانية قديمة مأخوذة كلماتها من نقوش على الحجر ومؤلّفة لآلة قانون من ثمانية أوتار. أمّا اللحن فمنسوب إلى مغنٍّ إغريقي يُدعى سيكيلوس.

  • بعد أن استمعتَ إلى عيّنة من الموسيقى اليونانية القديمة، ربّما يخطر ببالك تساؤل آخر عن الكيفية التي كان بها الإغريق ينطقون أشعارهم وكيف كان شكل أصوات لغتهم القديمة.
    في هذا الفيديو ستستمع إلى قراءة من فصل من فصول ملحمة الإلياذة لهوميروس بلغته الأصلية التي كُتب بها. وقارئ النصّ هو ستانلي لومباردو أستاذ الأدب اليونانيّ في جامعة كانساس والذي سبق أن ترجم الاوديسّا والإلياذة من اليونانية إلى الانجليزية.
    ولومباردو يعرف الموادّ التي ترجمها جيّدا. وحتى الذين يجهلون اليونانية القديمة يمكنهم أن يشعروا بروح هوميروس وهو يسرد أخبار حرب طروادة وعودة الجند الطويلة إلى وطنهم.
    من الواضح أن لومباردو ترجم هذه الملاحم الخالدة بعد أن غمر نفسه بعمق في عوالمها. وصوته يبدو صادقا ومقنعا مثل صوت شاعر ملحميّ قديم. وربّما لو سمعه هوميروس نفسه لسُرّ به وأثنى على أدائه.

  • منذ زمن قديم، كانت الآكادية هي اللغة السائدة في بلاد ما وراء النهرين والشرق الأدنى القديم. لكنها اضمحلّت مع مرور الوقت، وشيئا فشيئا حلّت مكانها اللغة الآرامية.
    لكن اليوم، أي بعد أكثر من ألفي عام، عادت الآكادية إلى الواجهة من جديد بفضل جهود الدكتور مارتن وورثنغتون، الخبير في اللغة البابلية والآشورية، الذي بدأ تسجيل قراءات من الشعر والأساطير ونصوص أخرى بالآكادية، بما في ذلك ملحمة غلغامش.
    السؤال: كيف كانت ملحمة غلغامش، احد أقدم الأعمال الأدبية في العالم، تُقرأ بلغتها الأصلية؟
    في هذا المقطع ، يؤدّي بيتر برينغل بعضا من أبيات الملحمة بلغتها الأصلية على أنغام آلة القيثارة السومرية القديمة.

  • Credits
    openculture.com

    الأحد، أبريل 02، 2017

    آكلو اللوتس


    يذكر هوميروس في الاوديسّا أن اوديسيوس ورجاله، بعد مغادرتهم أرض ايسماروس، فوجئوا بعواصف بحرية عاتية عطّلت رحلتهم لأيّام. ثم لاحت لهم من بعيد ارض جزيرة غريبة.
    وعندما وصلوا إلى شاطئ الجزيرة، أرسل اوديسيوس بعض رجاله ليستكشفوا ما بداخلها. ووجدوا هناك جنساً رقيقاً من البشر يُدعون "آكلي اللوتس" ويتغذّون على نوع من الفاكهة الزهرية.
    وقد عرض سكّان الجزيرة على البحّارة أن يأكلوا شيئا من تلك الفاكهة. ولمّا تناولوها أصيبوا بالدوار ونسوا أن يعودوا إلى سفينتهم.
    وعندما تباطأ اوديسيوس عودتهم، ذهب ليبحث عنهم ووجدهم في حال من الخُدر والنسيان. ثم قام بسحبهم بالقوّة إلى السفينة.
    ورغم أن الجزيرة ممتعة وسكّانها طيّبون ومضيافون، إلا أن اوديسيوس طلب من بحّارته الابتعاد عنها بسرعة خوفا من أن ينجذبوا إلى فاكهتها المُسكرة. ثم قام بتقييدهم في السفينة إلى أن زال عنهم تأثير اللوتس الذي أكلوه.
    هوميروس يذكر أن كلّ شخص يتناول تلك الفاكهة التي لها طعم العسل سرعان ما يفقد رغبته في مغادرة الجزيرة أو العودة من حيث أتى.
    وكانت رغبة البحّارة هي أن يبقوا هناك مع سكّان الجزيرة يأكلون من فاكهتهم وينسون أمر العودة إلى وطنهم. يقول اوديسيوس واصفا تأثير اللوتس العجيب على رجاله: كانوا يبكون عندما كنت ادفعهم إلى السفينة دفعاً".
    أرض آكلي اللوتس تبدو أشبه ما تكون بجنّة أسطورية. المشكلة انك عندما تصل إليها فلن تستطيع مغادرتها أبدا. وبعد أن تتذوقّ اللوتس، لا يمكن أن تأكل أيّ شيء آخر.
    وأرض اللوتس هي عقبة أخرى يتعيّن على بطل الاوديسّا أن يجتازها في طريق عودته إلى الوطن، تماما مثل جزيرة كاليبسو وفتنة السيرانات الجميلات.
    من السهل أن تبقى مع آكلي اللوتس وتعيش بينهم بسعادة وتصرف النظر عن مواصلة رحلة عودتك إلى الوطن ورؤية عائلتك، وهذا ما كان يتخوّف منه اوديسيوس المتطلّع إلى بلوغ وطنه في إيثيكا ورؤية زوجته وولده.
    وعندما نتأمّل في تفاصيل القصّة، يمكن لنا أن نفترض أن اللوتس هو نوع من المخدّر. والمخدّر من طبيعته انه يغيّم العقل ولا يصفّيه. وهذا يفسّر شعور آكلي اللوتس بالدوار. والمعنى هنا يكمن في أن على البطل، أي اوديسيوس، أن لا يستسلم للمتع عديمة القيمة إذا ما أراد أن يستمرّ في نضاله الطويل من اجل تحقيق هدفه النهائيّ.
    وأرض آكلي اللوتس كانت حيلة أخرى لإلهائه وصرف انتباهه عن غايته الأصلية، لكنه ينتصر على ذلك الإغراء بفضل إرادته وعزيمته القويّة.
    لكن عندما يكون الإنسان قد مرّ بمتاعب وتحديّات خطيرة، كتلك التي خَبِرها اوديسوس ورجاله، فما الذي يمكن أن يطلبه غير النسيان؟!

    إن الامتحان الحقيقيّ ليس في اللوتس بحدّ ذاته، وإنّما في إغراء التحرّر من المعاناة والحزن التي اُتيحت للبحّارة في الجزيرة.
    وأحد أهمّ دروس هذه الحكاية هو أن لا تستسلم أو تنخدع بظلال الجنّة عندما تعرف جيّدا أن الجنّة الحقيقية تقع، ليس في منتصف الطريق وإنّما في نهايته، مع كلّ ما يمكن أن يحمله ذلك من مخاطر وصعوبات.
    أحيانا تكون الطريقة الوحيدة لكسب مسابقة ما هي أن لا تنافس على الإطلاق، بل أن تحوّل وجهك بعيدا وتواصل حركتك للأمام.
    أيضا هناك في القصّة معنى مجازيّ روحيّ، وهو أن التخفّف من متاعب الحياة الأرضية يقتضي من الإنسان أحيانا أن ينتقل إلى مكان آخر. وقد وجد البحّارة ذلك المكان في الجزيرة التي شعروا فيها بالنسيان بعد أن تناولوا فاكهتها.
    الحياة على سفينة اوديسيوس كانت عبارة عن بحث بلا نهاية وعذاب مستمرّ يوهن القوى ويدمّر الروح. لقد انتقل البحّارة من مكان لآخر وقاتلوا وأبحروا لأعوام طويلة عبر أراضي نصف العالم المعروف وقتها. والآن، في أرض آكلي اللوتس، وجدوا طريقة أخرى مختلفة ومريحة للعيش.
    لكن اللوتس يحرِم آكليه من التفكير العقلانيّ. ولا يهمّ أن تُعطى الخيار لمغادرة الجزيرة من عدمه، فأنت لا تملك الخيار أصلا، وبمجرّد أن تأكله تكون قد اتّخذت قرارك بالبقاء فيها.
    أسطورة أرض آكلي اللوتس تردّدت أصداؤها كثيرا في آداب العالم القديم. ويقال إن اللوتس يشبه التمر، أو أنه نوع من النبيذ، وفي رواية أخرى أنه سوسن الماء الأزرق الذي يُعرف اليوم بأن له خصائص منوّمة.
    لكن جاذبية القصّة ليست في هذه التفاصيل، بل في بُعدها الميثيّ وفي فكرتها المركزية، وهي مقاومة البطل لكافّة الإغراءات والمُلهيات والتركيز على غايته الأساسية.
    الشاعر الانجليزيّ ألفريد تينيسون لا بدّ وأن هذه الأسطورة كانت في ذهنه عندما كتب قصيدة ملحمية إسمها "آكلو اللوتس"، استلهمها من زيارته إلى اسبانيا، حيث رأى هناك مزارع وقرى نائية لم تمسسها يد الحضارة بعد ولم يمتدّ لها عبث الإنسان.
    لكن آكلي اللوتس في قصيدة تينيسون ليسوا "دايونيسيين" مخدّرين ومدفوعين بالجشع الذي يقودهم لاستهلاك المتع الحسّية. إنهم أشخاص حَزانى ويائسون، تماما مثل طاقم سفينة اوديسيوس، وقد جرّبوا الكثير من المعاناة والموت بحيث أصبحوا ينفرون من أيّة فرصة للسلام أو السعادة.
    أسطورة أرض اللوتس وجدت لها صدى أيضا في القرن التاسع عشر، عندما وجد الامبرياليّون وأرباب الصناعة أنفسهم، مثل اوديسيوس، في مواجهة مجتمعات الريف التي قاومت طويلا فكرة التخلّي عن حياة الدعة والطمأنينة واستبدالها بحياة العمل الشاقّ والمُجهِد.
    وفي بعض الحالات، اُسقطِت الأسطورة على عادات بعض الشعوب المستعمَرة، كالصينيين وبعض شعوب الشرق الأوسط الذين كانوا يلجئون لتعاطي الأفيون أو الحشيش للتعبير عن رفضهم للحداثة. لكن كانت هناك حالات كان المستعمِر فيها هو من يلجأ لهذه الحيل لإلهاء الشعوب المستعمَرة ودفعها لنسيان مساوئ الاستعمار ومن ثمّ القبول به كواقع يصعب تغييره.
    في ملحمة هوميروس، ليس هناك ما يوحي بأن اللوتس يسبّب الإدمان، فالذين يأكلونه لا يعانون من المرض النفسيّ ولا يحتاجون لعلاج. الإدمان عادة يغلب الإرادة الحرّة، لكن آكلي اللوتس تناولوه بإرادتهم، وعندما انتزعه اوديسوس منهم لم تحدث لهم أعراض انسحابية. كلّ ما شعروا به هو الحزن والأسف بعد أن أدركوا انه مكتوب عليهم أن يعيشوا حياتهم، وإلى ما لا نهاية، في عرض البحر، حيث الموت المحدق والأخطار التي لا تنتهي.
    بعض الكتّاب القدامى استخدموا عبارة "آكلي اللوتس" مجازيّا، فالشخص الذي "يأكل اللوتس" هو أيّ شخص يميل إلى النسيان أو يتصرّف بلا وعي.
    وفي اللغة الحديثة فإن "آكل اللوتس" يُقصد به الشخص الذي يعيش حياة حالمة وسهلة دون أن يبالي بالعالم الخارجيّ المزدحم والصاخب من حوله.

    Credits
    sparknotes.com

    السبت، ديسمبر 03، 2016

    قصص وملاحم


    كثيرا ما تتضمّن قصص الملاحم بحثا ومغامرات وروّادا يناضلون في محاولتهم الذهاب إلى ما هو أبعد من الحالة الراهنة، ولأيّ سبب نبيل. غلغامش، مثلا، كان يبحث عن الخلود. وإينياس أنجز قدَرَه بتأسيس إمبراطورية جديدة في لاتيوم. وأخيل حارب من اجل الأخوّة ولينتقم من موت صديقه. وأوديسيوس حاول الإبحار إلى ما وراء الشمس الغاربة، وطوال الطريق ظلّ يحلم بالعودة إلى "إيثيكا" أو الوطن.
    تقاليد الملاحم وُلدت منذ القدم لتتحدّث عن توق الإنسان ورغبته الفطرية في أن يتجاوز مكانه وأن يسافر إلى ما وراء الحدود المقيّدة له على هذه الأرض.
    العالم الفيزيائيّ كارل ساغان كتب في مقدّمة مؤلّفه "الكون" يقول: البشر المولودون من غبار النجوم يقطنون الآن ولبعض الوقت عالما يُسمّى الأرض، وقريبا سيبدءون رحلة العودة إلى الوطن".
    ومثل اوديسيوس، فإن البشر في حالة بحث أبديّ عن وطن، أي عن أصولنا؛ عن مكان يملك الإجابات على تساؤلاتنا ويهدّئ من مخاوفنا.
    غير أن إيثيكا البشر ظلّت متمنّعة ومراوغة. هذه الإيثيكا الأبدية، سواءً كانت بالمعنى الدينيّ مثل الجنّة والنيرفانا والموشكا، أو بالمعنى الأدبيّ مثل لاتيوم أو يوتوبيا أو عدن، كانت وما تزال الهدف النهائيّ للبشرية الباحثة، وحتى لنقّاد ما بعد الحداثة والحركات النسوية.
    والملاحم الأدبية تحدّثت عن هذا البحث منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، وهو بحث لم يكلّ أو يملّ، فقط غيّر أشكاله وأساليبه بينما الإنسانية تبدأ الآن في استكشاف الكواكب الأخرى.
    غير أن بعض النقّاد يرون أن القصيدة الملحمية كجنس أدبيّ أنجزت نموّها منذ زمن طويل وأصبحت قديمة ولا علاقة لها سوى "بالماضي التليد". وهذا الماضي لا ارتباط له بالخطاب المعاصر، كما أن عقل القارئ الحديث لا يمكنه الدخول إلى الماضي الملحميّ، فنحن اليوم منقطعون عن أزمنة الملاحم وهي تظلّ مجرّد ذكرى بعيدة وماض مثالي.
    إن فكرة وجود عدد من الآلهة يقرّرون مصير البشر ويمثّلون تهديدا دائما لبعضهم البعض وللخليقة، ثمّ في النهاية يلوذون بالسماء حيث يعيشون هناك حياة أبدية على هيئة مجموعات نجمية أو أبراج، تبدو فكرة غريبة على كلّ الثقافات هذه الأيّام.
    كما أن الأديان المعروفة اليوم تناقض فكرة تعدّد الآلهة، بل إنها حتى ترفض الحضارات القديمة على أساس أنها وثنية وضدّ التوحيد.
    لكن روح الملاحم ما تزال تعيش معنا إلى اليوم وتؤثّر على المتلقي المعاصر من خلال قصص الخيال العلميّ التي يمكن من خلالها أن نفهم تقاليد الملاحم ونفهم أنفسنا كبشر بشكل أفضل.
    روايات الخيال العلمي تضع عقل الإنسان في مواجهة مع أسئلة الذات والمصير. فيلم "حرب النجوم" مثلا هو عبارة عن قصّة ملحمية، من حيث أن الملايين شاهدوه وأنه يتضمّن صورا وأفكارا وموتيفات عن مخلوقات مختلفة، كما أن الفيلم يحمل بصمة مبتكره.
    ملحمة الاوديسّا، التي تعني حرفيّا الرحلة الطويلة إلى الوطن، هي ككلّ الملاحم تقريبا عبارة عن قصّة عودة، وهي تسأل: هل يمكن للإنسان أن يعود إلى وطنه، خاصّة بعد سنوات طويلة من الحرب الدامية؟ والملحمة تحاول أن تعيد النظام بعد فوضى الحرب التي تُوجّت بسقوط طروادة.
    في نهاية الملحمة يتعلّم اوديسيوس أن أفضل مكان له هو حيث تكون زوجته وعائلته، أي الوطن.

    Credits
    literature.org

    الخميس، فبراير 11، 2016

    قصّة فينوس دي ميلو

    من بين جميع الفينوسات التي يزدحم بها متحف اللوفر، وبينهنّ إلهات الفنّ اليونانيّ والرومانيّ، والإلهات ذوات الوجوه والملامح الطفولية في جداريات الأسقف، والنساء الغامضات اللاتي خلّدهنّ الفنّ الأكاديميّ، تقف فينوس دي ميلو شاهقة ومتفرّدة.
    فينوس، النموذج، كانت دائما إنسانية بشكل لا يقاوم، فهي تبتسم، تفرد ذراعيها أو تسحب فستانها كي تغطي عريها. وأحيانا تجمع خصلات شعرها الطويل وهي تبرز من البحر، أو تلهو مع طفلها كيوبيد. لكن في متحف نابولي الوطني، هناك فينوس أخرى تبدو وكأنها على وشك أن تضرب مخلوق "ساتير" بحذائها.
    عندما تنظر بتأمّل إلى فينوس دي ميلو سيساورك انطباع بأنها لا تنتمي إلى عالمنا. وفي الحقيقة فإن افتتاننا بها يمكن أن يكشف عن انجذاب عصبيّ لأجسام أو أدوات الحبّ. فينوس دي ميلو محسوسة جسديّا ولا مبالية سيكولوجيا، وقورة وعظيمة وبعيدة.
    رأسها يميل قليلا بعيدا، نظراتها لا تقابل نظراتنا، وشعرها متقشّف لولا بضع خصلات تسقط حرّة على مؤخّرة عنقها. لكن استجابتنا لهذا المخلوق البعيد تحكمها هذه الخصوصية الآسرة لبشرتها. هنا يعمل النحّات بعاطفة عاشق، مُشرِكا اليد أكثر من العين.
    يمكن للمرء أن يحسّ بالنسيج الشحميّ المنتفخ تحت جلد فينوس وحول ردفيها وفي بطنها وفي الطيّات ما بين ذراعيها وصدرها. حلماتها لا تكاد تُرى، ومن الصعب أن تعتقد انه مسّها الإزميل.
    لكن ما الذي تفعله؟ يبدو أنها تثني جسدها قليلا لترفع فخذها كما لو أنها تحاول أن تمنع ملابسها من الانزلاق أكثر إلى أسفل. حركة خاطفة تَمكّن النحّات من الإمساك بها عند نقطة التعليق تماما.
    لكن هناك نظريات أخرى، واحدة تقول أنها كانت تحمل رمحا، وأخرى تقول أنها كانت تنظر في مرآة بيدها، وثالثة تذهب إلى أنها كانت تغزل.
    حتى اليوم لا احد يمكنه إثبات أيّ نظرية بخصوص ذراعي فينوس المفقودين. لكن السؤال: لماذا ما يزال هذا التمثال يفتن الناس بعد قرنين من اكتشافه، لدرجة أنه يُعتبر اليوم ثاني أشهر عمل فنّي في العالم بعد الموناليزا؟ من الواضح، وعلى نحو غير متوقّع، أن غياب الذراعين هو ما منح هذا التمثال جماله وتفرّده وهو ما يجعل من فينوس دي ميلو تحفة فنّية حديثة وغامضة.
    في البداية كانت المرأة ترتدي جواهر معدنية: سوارا وأقراطا ورباط رأس. لكن لم يتبقّ من هذه الأشياء في التمثال سوى الثقوب التي كانت تثبّتها.
    أثناء غزواته، قام نابليون بونابرت بنهب احد أجمل المنحوتات الإغريقية: تمثال فينوس دي ميديتشي ، من ايطاليا. وفي عام 1815 أعادت الحكومة الفرنسية التمثال إلى الايطاليين.
    لكن في عام 1820، انتهز الفرنسيون الفرصة لملء الفراغ الذي تركه غياب التمثال الايطالي في الثقافة الوطنية، فقاموا بشحن تمثال فينوس دي ميلو من اليونان إلى باريس.
    وقد قدّموا التمثال إلى الجمهور باعتباره أعظم حتى من تمثال فينوس دي ميدتشي. ونجحوا في مهمّتهم تلك بدليل أن التمثال قوبل بعاصفة من المديح والتقدير من الفنّانين والنقّاد فور عرضه لأوّل مرّة في اللوفر.
    وفي خريف العام 1939، أي عندما كانت الحرب تقترب من باريس، تمّ نقل التمثال مع أعمال نحتية مهمّة أخرى إلى مكان أكثر أمنا في الريف الفرنسي.
    إن من حسن حظّ العمل الفنّي انه يعيش أطول من عمر الفنّان الذي صنعه والراعي الذي كلّف بصنعه أو صرف عليه، وأن العمل نفسه يشارك في خلقه خيال الجمهور وأحيانا الصُدفة.
    لكن أصلا، تمثال فينوس دي ميلو يروي قصّة مختلفة. التمثال اكتُشف في الثامن من ابريل عام 1820 عندما تعثّر به مزارع يونانيّ يُدعى يورغوس كينتروتاس في طرف مدينة قديمة في جزيرة ميلو.
    ويُعتقد بأن من صنعه كان نحّاتا من الحقبة الهيلينية يُدعى الكساندروس في حوالي عام مائة قبل الميلاد. ويقال أيضا أن قاعدة التمثال المفقودة كانت تحمل نقشا باسمه.
    بعض المؤرّخين يقولون إن ذراع فينوس الأيسر كان يستريح على عمود، بينما ذراعها الأيمن كان يُمسك بملابسها. وطبقا لشخصَين مستقلّين شهدا عملية شراء التمثال قبل حوالي مائتي عام، فإن بعض القطع المفقودة منه شُحنت مع التمثال إلى فرنسا من بلدة ميلو باليونان حيث اكتُشف. لكن تلك القطع فُقدت بطريقة ما بعد وقت قصير من وصولها إلى اللوفر.
    وتقول إحدى الشائعات إن مسئولا كبيرا بالمتحف كان وراء عملية إخفاء تلك القطع، وهي تمثّل القماش والملابس، لأن وجودها كان يتناقض مع قراءته لرمزية التمثال. ومن بين تلك القطع، كانت هناك يد يسرى تمسك بتفّاحة، وقطعة من قاعدة التمثال.

    من الواضح أن فينوس دي ميلو كانت تمثيلا لأفرودايت المنتصرة وهي تعرض تفّاحتها الذهبية؛ الجائزة التي فازت بها في مسابقة الجمال التي نظّمها الأمير باريس.
    لكننا لا نعرف ما إذا كانت الإلهة حصلت على الجائزة بناءً على الجدارة وحدها أم لأنها قدّمت رشوة إلى القاضي. فقد وعدته إن فازت بأن تجعل أجمل امرأة في العالم تقع في حبّه، وكانت تلك بركة غير خالصة.
    فكما هو معروف، كانت الأميرة هيلين هي المرأة المقصودة، وقد تصادف أنها كانت متزوّجة من ملك إغريقيّ. وقصّة هيلين تلك مع باريس هي التي أشعلت أشهر صراع في التاريخ وفي الأدب الغربيّين، أي حرب طروادة.
    قصّة حكم باريس هي مجرّد توضيح للتناقضات المرتبطة بفينوس ومواهبها وأعطياتها. في الأزمنة القديمة، كانت هي التي تقرّر قصص الحبّ. ومنذ القرون الوسطى فصاعدا صارت تحكم على الجمال، وهو أكثر العناصر غموضا وجاذبية في الفنّ.
    ولهذا كانت راعية للعشّاق والفنّانين، وهي مهمّة لم تجامل فيها أيّا من المعسكرين أبدا. وبالإضافة إلى ذلك كانت إلهة الجمال والحبّ متزوّجة من فولكان؛ الشخص الوحيد القبيح الخلقة من بين عشيرة جبل الأوليمب، بينما كان حبّها الحقيقيّ والأوّل مارس إله الحرب.
    بطبيعة الحال كلّ هذا أدب؛ أي تلك الحكايات العبقرية المذهلة التي ظلّ الشعراء والفنّانون يحكونها على مرّ العصور. وبالنسبة لجميع الفينوسات من زمن هوميروس إلى زمن الرسّام فرانسوا بوشير، يمكن أن يقال إنهنّ لسن سوى ظلال باهتة وأنيقة لإلهة الخصوبة البدائية، أي افرودايت القبرصية.
    وربّما كان الأمر ينطوي على مفارقة أن نعلم انه، من بين كلّ صورها، فإن فينوس دي ميلو فقط، وهي أكثرهنّ تحضّرا، تستدعي ذكريات عن تلك الجذور القديمة.
    تبدو فينوس هذه رزينة ووقورة، ردفاها الضخمان ولحمها يكشف عن جسد امرأة حملت بالأطفال. لكنّ لها ثديي عذراء لم ترضع طفلا أبدا، وهو تقليد معروف في الفنّ الرومانيّ اليونانيّ. هذا التشويه أو التناقض لا يبدو أن له تفسيرا.
    في الحقيقة هيئتها تبدو اقرب ما يكون إلى أمّ قويّة، متأرجحة وهائلة أكثر منها عاشقة. علماء الآثار الذين اكتشفوا أوّل تماثيل صغيرة لإلهة الخصوبة منذ العصر الحجريّ لا بدّ وأن تمثال فينوس دي ميلو كان في أذهانهم عندما أسموها الفينوسات.
    وأكثر هذه التماثيل الصغيرة شهرة هو تمثال فينوس ويلليندورف الذي لا يختلف عن تمثال اللوفر كثيرا. ورغم أن التمثال يبدو صغيرا، إلا انه كبير في الواقع، إذ يتضمّن البطن والثديين والردفين، وكلّ ما في الأنثى.
    فينوس دي ميلو، ورغم أنها اكبر ممّا تبدو عليه في الحياة الواقعية، مسجّلة كـ "شيء"، لأنها مكسورة، شيء ثقيل جدّا وغير رشيق، لكنّه كان في الماضي صنما يُعبد.
    السورياليون تنبّهوا إلى هذا، فأعادوا تجسيد الإلهة كمعبودة غامضة، وهذا واضح في أعمال رسّامين مثل دالي وإرنست وديلفو. وقد تكون هذه التصاوير أسهمت في رواج أكثر السلع التي تركّز الرغبة على أجزاء من الجسد، كالعطورات والملابس الداخلية والمكياج والمجوهرات.
    تَشوّه فينوس يبدو انه يضرب على وتر بدائيّ في أعماق لا وعينا الجنسي. وطبقا لـ "هسيود"، أوّل مصدر إغريقيّ للأساطير، فإن فينوس وُلدت من الأعضاء التناسلية المقطوعة لـ "ساتورن" التي ألقى بها ابنه "كرونوس" في البحر بعد أن قام بخصيه.
    ولهذا فإن فينوس، الحبيبة المدلّلة في الفنّ الغربيّ وأكبر رمز لسحر الأنثى، لم تكن في الواقع امرأة. كما لم تكن ثمرة اتّحاد جنسيّ، بل كانت محصّلة جريمة جنسية بشعة. فينوس لم تكن سوى عضو ذكريّ مقطوع عاد إلى الحياة، وأصبحت رمزا للقلق والتوق الشهوانيّ ورمزا للقوّة الايروتيكية.
    ومن الأشياء المثيرة للفضول أن فينوس، في أكثر صورها الخالدة، تعيد للأذهان ذكرى تلك الأسطورة المكبوتة. إنها تخرج من ثنايا ملابسها الغشائية، رائعة ولا مبالية وفاتنة ونائية وغير قابلة للاختراق.
    ومن الأمور الغريبة كيف أن الفنّانين الغربيين قمعوا وأخفوا دائما هذا الجانب المشئوم من أسطورة الإلهة. فكّر في جميع الفينوسات في تاريخ الفنّ: كلّهن مخلوقات أثيريات ومن غير هذا العالم، قذف بهنّ الموج إلى الشاطئ مع صدفة بحر عملاقة وسط بتلات الأزهار.
    اليوم بإمكاننا أن نرى فينوس دي ميلو كما رآها أهالي بلدة ميلو الإغريقية أثناء احتفالاتهم الطقوسية، فاتنة ومغطّاة بباقات الأزهار والمجوهرات وكاملة. لكن ربّما كانت تبدو اقلّ روعة وإغراءً مما تبدو عليه اليوم.
    غير أن النظر إليها حيث هي اليوم في اللوفر، محاطة بحشد من الحجيج المفتونين من جميع أنحاء العالم، يوفّر فرصة للتأمّل والتفكير. بشرة فينوس اللامعة وهي تشعّ بالبريق تحت وابل من فلاشات المصوّرين تستثير في المخيّلة صور تلك الجماعة التي كانت تبجّلها وتقدّسها قبل أن تصبح اليونان هي اليونان وقبل أن يعرف العالم المتاحف.

    Credits
    crystalinks.com
    smithsonianmag.com

    الثلاثاء، يناير 05، 2016

    نوستالجيا


    الزمان مكان سائل. والمكان زمان متجمّد.
    - ابن عربيّ

    أحد الكتّاب الذي لا أتذكّر اسمه الآن طرح سؤالا فلسفيا بنكهة وجوديّة عندما قال: لماذا نسمّي الماضي ماضياً، ونحن نتذكّره كلّ يوم؟!
    هذا التساؤل منطقيّ وفي مكانه تماما. وقد حرّضني على أن أطرح تساؤلا قد يكون مختلفا بعض الشيء ولكنّه ذو صلة بالسؤال السابق. نحن، عندما ننشغل بتذكّر الماضي والحنين إليه، هل يُعتبر هذا سلوكا صحّيا، أم انه مؤشّر على أن ثمّة شيئا ما خطأ في تفكيرنا أو في طريقة حياتنا؟
    فكّرت في هذا السؤال كثيرا وخرجت ببعض الأفكار والانطباعات التي قد لا تكون بالضرورة صحيحة، لكنها مطروحة للنقاش والتأمّل على أيّ حال.
    أوّلا: قد لا يكون الماضي اسعد من الحاضر بالضرورة، ونحن عندما نتذكّره بشيء من الحنين فقد يكون السبب أن حياتنا الآن قد لا تكون مريحة أو على أفضل ما يُرام. وهناك سبب آخر يتمثّل في أن الإنسان بطبيعته يحنّ إلى أيّام الصبا والطفولة عندما كانت الحياة بسيطة وبريئة وخالية من التعقيدات والمسئوليات.
    الإحساس بالحنين، أو ما يُسمّى في الأدب والفنّ بالنوستالجيا، يمكن أن يكون قويّاً جدّا لدرجة انه في القرنين السابع عشر والثامن عشر كان يوصف ويعالَج باعتباره مرضاً؛ نوعا من الكآبة والحزن. قرأت انه أثناء الحرب الأهلية الأمريكية كان الجنود الذين يشعرون بالحنين لأهلهم وأماكن سكناهم يوصفون بأنهم يعانون من "مرض" النوستالجيا أو الحنين بعد أن يكونوا قد قضوا أشهرا في ميادين القتال.
    في ما بعد، وبالتحديد اعتبارا من القرن التاسع عشر، تخلّى هذا المصطلح عن حمولته السلبية أو المَرَضية بفضل بعض الكتّاب والفلاسفة الإنسانويين، وأصبحت النوستالجيا منذ ذلك الحين نوعا من الشعور المتسامي الذي لا يزور إلا كلّ إنسان مرهف الحسّ ومبدع.
    المشكلة مع النوستالجيا أو الشعور بالحنين هي انه يمكن أن يكون شعورا كاذبا أو خادعا، ومن ثمّ يتحوّل إلى عبء نفسي وشعوري عندما يعيق إدراكنا بأن هناك إمكانيات أفضل في واقعنا ينبغي استغلالها لتحسين نوعية الحياة التي نعيشها.
    والإحساس بالحنين قد يتحوّل أحيانا إلى سلاح خطير من حيث انه يمكن أن يخدعنا ويمنحنا الأعذار والمبرّرات كي نقاوم الواقع الحالي بدلا من محاولة إصلاحه وفهمه، ما قد يؤثّر على حياتنا الحاضرة ويملأها بالمشاعر السلبية والسيّئة.
    كلمة نوستالجيا أصلها يونانيّ، وهي مشتقّة من فعل معناه "العودة إلى الوطن". وقد استخدمها هوميروس في الاوديسّا ليصف رغبة اوديسيوس في العودة إلى موطنه في جزيرة إيثيكا. وعندما عاد إلى بيته كانت أشياء كثيرة قد تغيّرت. لكن زوجته بنيلوب كانت ما تزال هناك باقية على العهد ووفيّة ومخلصة له.
    هذه الأيّام، وفي هذا العالم الذي يتغيّر كلّ يوم ويصبح شيئا فشيئا أكثر سيولة وازدحاما، ليس بوسع الإنسان أن يعود بسهولة إلى البيت أو الوطن، أي إلى الماضي. وفي أحيان كثيرة، عندما تساورك الرغبة في العودة إلى البيت القديم الذي طالما اشتقت لرؤيته قد تتفاجأ بأنه تغيّر كثيرا عن صورته التي في ذهنك، والأسوأ من هذا والأكثر مدعاة للحزن أن تكتشف أن البيت نفسه لم يعد موجودا.
    ربّما نحن الآن بحاجة إلى نوع من الحنين أو النوستالجيا المرشّدة أو الذكيّة؛ نوستالجيا لا تركّز على استحضار الحزن والذكريات والألم بالضرورة، بل تنظر إلى الماضي على انه مرحلة فيها السلبيّ وفيها الايجابيّ، وأن المطلوب ليس احتضان الماضي والتعاطف والتماهي معه، بل الاستفادة من تجاربه ودروسه واستثمارها لجعل الحاضر أكثر سعادة وراحة.
    الحزن، الذي هو احد العناصر الملازمة للنوستالجيا، قد يأتي في بعض الأحيان على شكل أغنية أو مقطوعة موسيقية، ولا غرابة في هذا فالحزن والموسيقى صنوان منذ الأزل. وقد وجدت في الأغنية التي فوق احد أفضل الأمثلة التي تعبّر عن هذا المعنى. سماعاً ممتعاً..

    الاثنين، مايو 26، 2014

    عشاء مع أوفيد/2

    "الآن أكملتُ عملا لن يقدر على هدمه غضب جوبيتر، ولا النار ولا الحديد ولا الزمن الذي لا يشبع. فليأتِ، متى شاء، اليوم المحتوم الذي لا حقوق له إلا على جسدي، وليضع حدّا لمسار حياتي الغامض. سيكون اسمي عصيّاً على الفناء. وأينما توغّلَت قوّة روما بعيدا في الأرض التي تسودها، فلسوف يقرؤني الناس".
  • أوفيد، خاتمة كتاب "التحوّلات".

    لا تتوفّر معلومات وافية أو مؤكّدة عن حياة أوفيد. وكلّ ما نعرفه عن حياته الخاصّة مصدره كتاباته. ولعلّ هذه فرصة لسؤال الشاعر عن بعض الأمور المتعلّقة بظروف نشأته الأولى وكيف أصبح شاعرا.
    نعرف، مثلا، أنه ولد عام 43 قبل الميلاد، أي بعد اغتيال يوليوس قيصر بعام واحد. وكانت ولادته في بلدة سالمونا الايطالية لعائلة موسرة. وقد أخذه والده إلى روما لدراسة السياسة والخطابة، لكنه اختار الشعر. وقد تزوّج ثلاث مرّات وطلّق مرّتين قبل بلوغه الثلاثين وأنجب ابنة واحدة. وفي شبابه، سافر إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى أثينا.
    ألّف أوفيد العديد من دواوين الشعر، أحدها عنوانه "رسائل من نساء بطلات"، وهو عبارة عن سلسلة من الرسائل من نساء أسطوريّات إلى أزواجهنّ أو عشّاقهنّ الغائبين. وهناك ديوان ثان بعنوان "فنّ الحبّ"، ويحكي عن قصّة حبّ بطلتها امرأة من الطبقة الرفيعة في روما تُدعى كورينا.
  • ❉ ❉ ❉

    كان أوفيد شاعرا غزير الإنتاج. شخصيّته وكتبه ألهمت في ما بعد كتّابا لاتينيين خبروا، هم أيضا، تجربة النفي مثل سينيكا وبوتيوس. لكن من بين جميع مؤلّفات الشاعر، يُعتبر كتاب "التحوّلات" الأكثر شهرة واحتفاءً. وبراعة أوفيد في هذا الكتاب غير مسبوقة. وبالتأكيد لا يمكن أن أتخيّل لقاءً مع الشاعر دون أن اطرح عليه بعض الأسئلة والملاحظات عن الكتاب.
    عندما تقرأ "التحوّلات"، ستلاحظ أنه يتحدّث عن عالَم يتخلّله إحساس بالحركة وبالتشوّش وغياب النظام. وتسلسل الأحداث فيه محكوم بالصدفة ولا يسير وفق منطق السبب والنتيجة. كما ستلاحظ أن كلّ قصّة من قصص التحوّلات يصاحبها عادة عنف ومعاناة. وهذا يضفي على جميع قصص الكتاب طابعا دراماتيكيّا، بالنظر إلى أن العنف يتضمّن ضحيّة تصرخ وتحتجّ وتبدو بلا حول ولا قوّة.
    والضحايا هم غالبا إناث بريئات يتعقبّهن مغتصبون من الآلهة أو من البشر. والسرد يثير في نفس القارئ إحساسا بالشفقة على الضحيّة عندما تتحوّل إلى شيء آخر، كما لو أن ضغط معاناتها يفوق قدرة البشر على التحمّل.
    ولا بدّ وأن تتساءل وأنت تقرأ الكتاب: كيف يجب أن نتعامل مع هذه التحوّلات، وهي العنصر المحوريّ فيه. ولماذا هذا الإصرار على التحوّل من خلال عملية وحشية؟ وهل يضيف هذا إلى التجربة الإنسانية شيئا؟ ثمّ هل أوفيد يقول هنا شيئا عن طبيعة الإنسان كما يفعل كلّ من هوميروس وهيسيود مثلا في كتاباتهما؟ وهل التأثير المستمرّ لقصيدة التحوّلات يعتمد على فهمٍ ما للحياة أو على تجربةٍ ما وجدها الناس ذات قيمة مثلا؟
    مثل هذه التساؤلات قد تثير اهتمام أوفيد عند طرحها عليه. وقد يكون عنده من الإجابات والملاحظات ما يجلي بعض الغموض.
    وأيضا لا بأس من الاستئناس برأيه حول وجهة النظر الرائجة والتي تقول إن القصيدة لا تقدّم أيّة رؤية خاصّة عن الحياة، وأنها في الأساس عبارة عن احتفال بالعبقرية الأدبيّة للكاتب، وبرهان على المتعة النقيّة للقصص الخيالية التي لا يخالطها دروس أو مواعظ أخلاقية.

    ❉ ❉ ❉

    معظم قصيدة التحوّلات يتعلّق بأحداث في منتهى الوحشية. وإذا حاولنا اعتبارها، أي الحوادث، أحداثا حياتية، فإن الكتاب عندئذ يصبح عبارة عن صورة كئيبة ومظلمة عن تصرّفات وطبيعة البشر. أي انه يتضمّن رؤية لا تختلف عن الرؤية المتشائمة والأقدار المشئومة عن العالم في أدب كلّ من هيسيود وسوفوكليس.
    في أعمال هيسيود وهوميروس واسخيليوس وسوفوكليس، للأساطير معان خطيرة. فهي تضيء وترمز لجوانب مهمّة من طبيعة الحياة نفسها، مثل قدرة الآلهة على التدمير وأمزجتها الغاضبة وحبّها وكراهيّتها. والأحداث قد تبدو لاعقلانية ومضحكة وفجائية. لكنّها تُقدّم كرؤى جادّة عن طبيعة الأشياء التي تقع في مركز اهتمامنا، مثل رغبتنا في فهم القوى الأساسية خارج أنفسنا. والأساطير تُوظّف لتربط عالمنا المألوف مع الإحساس بالغموض الذي يساورنا عندما نتأمّل الأشياء التي هي خارج سيطرتنا والتي يستعصي علينا فهمها.
    غير أن أهمّ ملمح مثير للفضول في قصيدة التحوّلات، وهو سبب شهرتها على الأرجح، هو أنها لا تعرض مثل هذه الرؤية اليائسة عن الحياة ولا أثر لها فيها. وبرغم كلّ الوحشية فإن القصيدة توفّر قراءة سارّة وممتعة، بل ويمكن أن نصفها بأنها تحفة هزلية.
    هل سبق لك أن قرأت رواية الكونت دراكيولا؟ صحيح أن أجواءها مخيفة إلى حدّ ما، ولكن قراءتها جميلة وممتعة. وهذه الصفة تنطبق أيضا على "التحوّلات". وهي سمة تستحقّ الدراسة المتعمّقة، لأنها قد تكون أهمّ مؤشّر على الجاذبية القديمة والدائمة لهذا الكتاب.

    احد النقّاد قال إن من غير المجدي البحث عن معنى داخلي أعمق قد يكون أوفيد تركه للآخرين في "التحوّلات". فالكتاب يُبقينا دائما عند سطح التفاصيل، ولا يدعونا لنرى إن كانت سلسلة الكوارث هذه تقول أيّ شيء مهمّ عن العالم. انه كتاب يمكن أن نقرأه ونستمتع به دون أن يدفعنا أو يقودنا باتجاه أيّة منظومة من المعتقدات عن العالم أو عن فهمنا للكون.
    وهنا لا بدّ من إعادة طرح هذا السؤال على أوفيد: هل تتضمّن "التحوّلات" موقفا فلسفيّا، فكرة أو رؤية ما عن العالم، وهو ما لا يراه الكثيرون كما أشرنا آنفاً، أم أنها مجرّد قصص مسلّية وممتعة أراد الشاعر من خلالها أن يكشف عن مقدرته السردية ومهاراته الشعرية، بمعنى أن التجربة الجمالية فيها مقدّمة على الدروس أو المواعظ الأخلاقية؟
    من أشهر التحوّلات التي يحكي عنها أوفيد قصّة اوديب الذي تخبر ساحرة والديه بأن طفلهما، أي اوديب، سيكبر وسيقتل والده ويتزوّج أمّه. وعندما يكبر تتحقّق تلك النبوءة المشئومة. وهناك أيضا قصّة ديونيسيوس أو باخوس، وقصّة نرسيس وإيكو (أي الصدى).
    وفي مكان آخر من الكتاب، يتحدّث الشاعر عن قصّة ميداس. وميداس الحقيقيّ في هذا الكتاب هو المؤلّف نفسه. ولمسة الذهب التي لديه هي فنّه الذي يغيّر ويؤثّر. وإنجاز أوفيد يتمثّل في تحويل رؤية مظلمة ومحبطة عن الوجود إلى كوميديا كونية.

    ❉ ❉ ❉

    من جهة أخرى، يمكن اعتبار "التحوّلات" كتابا عن تنوّع وسيولة الكون. وقصصه تذيب التقاليد الأخلاقية وتستكشف الأشياء الغامضة وتلغي الحدود والفوارق بين الرجال والنساء والحيوانات والآلهة والنباتات.
    وهو يستكشف الجندر من نواح كثيرة ومتعدّدة. وكلّ أصحاب نظريات الجندر الحديثة سيجدون في هذا الكتاب مادّة للتنظير. ولابدّ أن تستوقفهم، مثلا، شخصيّة هيرمافرودايت التي هي عبارة عن جنس مختلط، وشخصيّة اتالانتا التي تحبّ الصيد والرياضة مع أنها أنثى، وشخصيّة اخيل الذي يتنكّر على هيئة امرأة مع انه لا يُخفي اهتماماته الذكورية بالأسلحة. نظريّة الشاعر عن المثلية الجنسية مثيرة للاهتمام. فالتحوّلات الجندرية برأيه سببها التغذية وأسلوب الحياة وليس الطبيعة.
    متعة أوفيد القاتمة في رواية هذه القصص تستدعي الكثير من الأسئلة. لكن قصص اللقاءات الجنسية في الكتاب ممزوجة بأسئلة عميقة. مثلا، ماذا يعني أن يكون لديك أفكار ومشاعر محبوسة داخل جسد قابل للتحوّل؟ وما هي النفس؟ وما حدودها؟ وإذا تغيّر شكلك الخارجي، فما الذي يدوم بعد ذلك؟

    ❉ ❉ ❉

    ربّما يتفاجأ أوفيد عندما يعلم انه في العصور الوسطى كان هناك اتجاه لإضفاء سمة أخلاقية على كتاب "التحوّلات". وقد فُرضت عليه تفسيرات وعظية تتوافق مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية في روما في تلك الفترة وأضيف للقصيدة ما ليس فيها. لكن تلك التعديلات لم تنتهك الجوّ العامّ والأفكار التي يتضمّنها الكتاب. أي أن الكنيسة لم تضطرّ لحظر الكتاب خوفا منه، بل احتاجت فقط لأن تكيّفه، وذلك بفرض البناء الذي يناسب رغبات رجال الدين مع الإبقاء على الأسلوب السرديّ.

    ❉ ❉ ❉

    بعض النقّاد يذهبون إلى أن "التحوّلات" يتضمّن رؤية أو فكرة ما ذكرها أوفيد في الخاتمة عندما تحدّث عن الزمن وقدرته التي لا تُقهر. يقول: هناك أمم تصعد إلى القوّة والعظمة، وأمم أخرى تفشل وتسقط. طروادة كانت ذات وقت عظيمة بثرواتها ورجالها، وأعطت عشر سنوات من دم حياتها، والآن انتهت ولم يبق منها سوى الأطلال القديمة ومقابر الأسلاف المهدّمة".
    والمعنى الواضح لهذه العبارة هو أن روما، برغم عظمتها الإمبراطورية، من المحتّم أن تفشل، هي أيضا، وتسقط في النهاية. وفي الخاتمة، يهدي أوفيد كتابه لكلّ من يوليوس قيصر وأوغستوس. لكن وراء هذا الإهداء مفارقة لافتة، إذ أنه يشير ضمنا إلى انه أيّا ما كانت انجازات هذين القائدين السياسيين العظيمين، فإن أعمالهما لن تدوم طويلا.
    وما سيدوم حقّاً هو قصيدة أوفيد نفسها. وخاتمة الكتاب توضّح انه إذا كان التحوّل هو القاعدة في هذه الحياة، فإن الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينجو من التحوّل أو التغيير هو العمل الفنّي. في الحياة أو السياسة، ليس هناك ثبات أو دوام للحقيقة. والخلود الوحيد الممنوح لنا، نحن البشر، يأتي من الأدب العظيم، مثل قصيدة أوفيد.

    Credits
    ancient-literature.com
    public.wsu.edu
    poetryintranslation.com

    الأحد، مارس 23، 2014

    لقاء بين امرأة وطائر 1 من 2

    عندما تتأمّل بعض الحكايات التي كان الأوّلون يتداولونها في ما بينهم لتفسير كيف يعمل العالم، فستحصل على كثير من الأشياء الغريبة: كلاب بثلاثة رؤوس، بشر على هيئة تيوس، رجال ونساء برؤوس بشر وأجساد خيول وبغال، ومخلوقات لها وجوه مشوّهة وبعين واحدة. وهذا فقط ليس سوى غيض من فيض، كما يقال.
    الإغريق، بشكل خاصّ، كان عندهم الكثير من هذه القصص الجامحة، وأكثرها يحكي عن آلهة تتصرّف بطريقة رديئة ومتهوّرة.
    من أشهر هذه القصص قصّة "ليدا والبجعة" التي ذكرها هوميروس في ملحمة الإلياذة. وليدا في الأسطورة هي امرأة حقيقية من لحم ودم. أمّا البجعة فليست من نوع البجع الذي اعتدت أن تراه وأن تداعبه في الحدائق والبحيرات، كما أن لا علاقة لها بتلك البجعات البريئة التي صوّرها تشايكوفسكي وسان سونس في موسيقاهما. هذه البجعة هبطت إلى الأرض من جبل الأوليمب ولديها مهمّة تريد انجازها. والبجعة ليست في حقيقة الأمر سوى زيوس كبير آلهة الإغريق وهو في حالة تنكّر. أمّا لماذا يتنكّر، فهذا ما سنعرفه بعد قليل.
    أسطورة ليدا والبجعة صُوّرت بكيفيّات أدبية وفنّية وفلسفية متعدّدة. وإحدى أشهر المعالجات الفنّية المعروفة لهذه القصّة هي قصيدة الشاعر الانجليزي وليام بتلر ييتس بنفس العنوان.
    ولكن قبل أن ندخل إلى أجواء قصيدة ييتس، لا بدّ أوّلا من الحديث قليلا عن هذه الأسطورة. ودونما حاجة للدخول في التفاصيل، يكفي أن نعرف أن ليدا كانت فتاة من اليونان القديمة اغتصبها زيوس زعيم الآلهة بعد أن تخفّى بهيئة بجعة جميلة. ونتيجة لذلك، وضعت ليدا طفلة هي هيلين، وابنة أخرى هي كلايتمنيسترا. كما وضعت توأما من المحاربين الأشدّاء هما كاستور وبولوكس.
    هيلين أصبحت في زمن تالٍ أجمل امرأة في اليونان القديمة. وقد طلب يدها العديد من الأمراء للزواج. وفي النهاية تزوّجت من مينيلوس، ملك سبارتا، الذي كان أكثر الخاطبين وجاهة وثراءً. وقد أنجبا في ما بعد طفلة. غير أن زواجهما تعرّض للضرر عندما وقع باريس، وهو أمير من طروادة، في هوى هيلين.
    ولأن مينيلوس كان غائبا عن القصر حينها، فقد اختطف باريس هيلين "تشير رواية أخرى إلى أنها ذهبت معه بإرادتها" وهربا معا إلى طروادة، الأمر الذي أدّى إلى اشتعال حرب طروادة التي دامت عشر سنوات. وكما هو معروف، كانت تلك الحرب هي الحدث الأساسيّ والكبير في إلياذة هوميروس.
    عندما كتب الشاعر وليام ييتس هذه القصيدة عام 1928، كان معظم القرّاء وقتها على علم بقصّة ليدا والبجعة. وكان من المفيد أن ييتس أعطى قصيدته هذا العنوان، أي ليدا والبجعة. وربّما لولا العنوان لما عرفنا عن ماذا يتحدّث الشاعر، ولكنّا ظننّا انه كتب قصيدة ايروتيكية تجري أحداثها في حديقة للطيور مثلا.
    العنوان أيضا، أي ليدا والبجعة، يثير مجموعة من الارتباطات من تاريخ الفنّ الغربيّ. فقصّة ليدا مثيرة بحيث لم يستطع الفنّانون مقاومة إغراء تصويرها، سواءً كان ذلك رسما أو نحتا. وكان التحدّي الذي واجههم هو التعامل مع القصّة من منظور جديد. وهذا هو نفس التحدّي الذي واجه الشاعر ييتس أيضا.
    في القصيدة، لا نرى سوى لمحات سريعة من هذا الطائر الذي يشبه البجعة. ومن الواضح انه يتحرّك بسرعة كبيرة، وعقله مركّز على شيء واحد.
    المكان الذي تجري فيه القصّة/القصيدة مقتطع ومشوّه. ونحن نرى العالم كما لو انه اصطدم للتوّ بجسم ضخم. ويُفترض أن نتخيّل أن ليدا قبل الحادثة كانت تتجوّل في منظر من الطبيعة الخلابة، حديقة أو غابة مثلا. لكنّنا لا نرى مثل هذا المنظر الهادئ، بل سلسلة من الصور التي تذكّرنا بفيلم الطيور لألفريد هيتشكوك.

    القصيدة تبدأ بداية قويّة: ضربة مفاجئة وجناحان عظيمان". الضربة المفاجئة ليست شاهدا فقط على العنف، وإنّما أيضا على الارتجال وانعدام التخطيط من قبل زيوس الذي ارتكب تصرّفا مرعبا وظالما عندما حوّل نفسه إلى مخلوق جميل، ولكن غير سويّ، في محاولته الظفر بامرأة جميلة.
    والقصيدة تبدأ بصورة للبجعة وهي تهبط على ليدا. جناحاها الكبيران هما أوّل شيء يصفه الشاعر. وهي تمسك ليدا بمنقارها وتضغط على صدرها. والأسطر الثمانية الأولى تتناول الانطباعات الحسّية التي تشعر بها ليدا، مثل صوت اندفاع أجنحة البجعة وساقيها المتعثّرين وشعورها بأن البجعة تمسك بها من مؤخّرة رقبتها، ثم إحساسها بقدمي البجعة وهما يتقدّمان باتجاه فخذيها.
    ثم ينتقل مكان القصيدة إلى المستقبل. ومن مسافة بعيدة، نرى الأسوار المهدّمة لمدينة طروادة بعد أن نُهبت وأحرقت، بينما يتصاعد من المدينة عمود من الدخان الكثيف يتوسّطه وهج برتقاليّ اللون.
    بعد ذلك تتحرّك القصيدة إلى بقعة أخرى من المدينة، فنرى البطل اغاممنون وهو ملقى صريعا على أرضية منزله بعد أن قتلته زوجته كلايتمنيسترا بالتعاون مع الرجل الذي اتخذته عشيقا لها خلال سنوات الحرب. "للتذكير: كلايتمنيسترا هي الابنة الثانية التي أنجبتها ليدا بعد اغتصابها".
    الأسطر الأخيرة من القصيدة تعيدنا إلى المكان الحالي لليدا، وبالتحديد في الوقت الذي تنفث فيها البجعة قطرات من منقارها.
    المتكلّم في قصيدة "ليدا والبجعة" يشبه احد أولئك المراسلين الذين يغطّون أخبار الكوارث الطبيعية على التلفزيون. لكنّه لا يتدخّل للمساعدة. وهو يقدّم شرحا مفصّلا لمحنة ليدا، في حين يبدو كما لو انه يحوم حولها من جميع الزوايا.
    ومن الواضح أن المتكلّم يروي قصّة كان يعرف مسبقا نهايتها. وهو أشبه ما يكون بشخص قفز إلى داخل آلة للزمن كي يشاهد نقطة تحوّل بالغة الأهميّة في التاريخ، أي الحمل بهيلين أميرة طروادة. وحتى عندما تكمل البجعة الفعل الجنسي، فإن عقل المتكلّم يذهب سريعا إلى المستقبل كي يتأمّل معناه.
    قصيدة ليدا والبجعة هي في جوهرها تصوير للقاء جنسيّ عنيف بين امرأة وطائر. وإذا كنت تجد نفسك متعاطفا مع وجهة نظر اليونانيين القدماء، فقد تعتقد أن اللقاء عبارة عن تجربة إلهية وغامضة. أما إن قاربت القصيدة من منظور أكثر حداثة، فقد تشعر بالرعب. والقصيدة تتجاوب مع وجهتي النظر هاتين معا.
    القارئ الحديث قد يجد لغة القصيدة مزعجة لصراحتها وجرأتها. هذا على الرغم من أن القصص التي تحكي عن الجنس مع الحيوانات كانت شائعة في المجتمعات الكلاسيكية مثل اليونان القديمة. وقصّة ليدا والبجعة كانت معروفة جيّدا وقتها.
    لغة ييتس تصوّر البجعة على أنها عنيفة وغير مكترثة، ولكنها أيضا غامضة ومغرية. والشاعر يقدّم صورة للحظة الجنس، مشيرا إلى مشهد لا يخلو من الرقّة. وهو يلمّح إلى أن ليدا قد تكون تصرّفت بإرادتها وليس بسبب قوّة قاهرة، وكأنه يوحي بأنها ربّما كانت راضية عمّا جرى. كما انه يصف ثدييها المرتعشين بأنهما عاجزان أو بلا حول ولا قوّة، ما يعني انه لم يكن لها خيار في ما حدث لها، أو أن هذا حدث بسبب غلبة شهوتها.
    النقطة التي يثيرها ييتس هنا هي انه لو كانت ليدا تعلم مسبقا عن الدمار الذي ينتظر شعب طروادة بسبب إغواء زيوس لها، فإنها عندئذ تصبح ضالعة مع زيوس في ذلك الإثم.

    السبت، فبراير 15، 2014

    أرسطو وتمثال هوميروس

    كان "رمبراندت فان رين" فنّانا شاملا لدرجة انه يصعب وضعه ضمن مدرسة أو اتّجاه فنّي معيّن. لكن الحركة التي تعكس موضوعاته وابتكاراته هي الباروك التي انتشرت في أماكن كثيرة من أوربّا طوال القرن السابع عشر. وقد تضاعفت سمعته باعتباره واحدا من أفضل رسّامي البورتريه في كلّ العصور.
    وعلى ما يبدو، كان رمبراندت مؤمنا إيمانا قويّا بالعبارة التي تقول "إعرف نفسك". وربّما لهذا السبب، لا يوجد فنّان آخر يمكن أن ينافس هذا الفنّان العظيم في عدد اللوحات التي رسمها لشخصه والتي تربو على التسعين.
    رمبراندت كان أمينا جدّا في تصويره لنفسه. ولم يكن دافعه لذلك شيئا من النرجسية أو الإعجاب بالذات. بل قد يكون اختار البورتريه لارتباطه بالرسم التاريخيّ الذي كان يوليه اهتماما خاصّا طيلة حياته.
    كان رسم البورتريهات يحظى بشعبية كبيرة في السوق التجارية في عصره. وكانت البورتريهات التي يرسمها مطلوبة كثيرا في هولندا.
    وأيّا ما كان الدافع وراء رسمها، فإن صور رمبراندت لنفسه كانت تمسك بأكثر من مجرّد السمات الجسدية الظاهرية التي كانت تتغيّر باستمرار مع انتقاله من مرحلة عمرية لأخرى. ويمكن القول أن تلك الصور هي عبارة عن سيرة ذاتية وروحية للرسّام. كما كانت أيضا بمثابة رحلة استكشاف داخلية، بالنظر إلى انه، وطول حياته، لم يبتعد عن بلدته الأمّ "ليدن" أكثر من بضعة أميال.
    حياة رمبراندت يلفّها الغموض لأنه لم يترك وراءه أيّة سجلات مكتوبة عن نفسه، باستثناء شهادات الميلاد والتعميد والزواج والموت. كما لم يترك وراءه أيّة مفكّرة أو مدوّنة شخصية. هناك فقط سبع رسائل تركها بعد وفاته وهي مكتوبة بخطّ يده ولها علاقة بالمعاملات اليومية الروتينية.
    ولكن عندما قام بجرد ممتلكاته قبيل وقت قصير من وفاته، أعلن رمبراندت نفسه معسرا. غير انه لم يترك سوى عدد قليل من الأدلّة حول شخصيّته. لكن على مستوى المهنة، خلّف هذا الفنّان الكبير وراءه تركة رائعة هي عبارة عن أكثر من 2300 لوحة، من بينها لوحتاه الرائعتان والمشهورتان درس في التشريح والحرس الليلي ، بالإضافة إلى بعض لوحاته عن نفسه وكذلك لوحته الأخرى أرسطو مع تمثال نصفيّ لهوميروس.
    اللوحة الأخيرة، أي أرسطو مع تمثال لهوميروس، هي موضوع هذا المقال. وقد كلّف رمبراندت برسمها الدون انطونيو روفو، النبيل الصقلّي وجامع القطع الفنّية. ولم يكن لدى الدون أيّة ملاحظات أو تعليمات محدّدة للرسّام، باستثناء أن يرسم فيلسوفا.
    أما اجتماع العقول الذي كشفت عنه اللوحة بعد ذلك فقد كان فكرة الرسّام نفسه. والمشهد هو عبارة عن مزيج من التاريخ والأسطورة، كما انه يتضمّن بصمات رمبراندت المألوفة: البساطة، الهدوء، الشخصيّة والتعاطف.
    وفي حين أن شخصيّتين حاضرتان في اللوحة بشكل واضح، إلا أن الشخصية الثالثة، أي الإسكندر الأكبر، يظهر بشكل غير مباشر، وبالتحديد على القلادة المزخرفة التي يرتديها أرسطو.
    الفيلسوف، أي أرسطو، يُصوَّر هنا كشخصية متميّزة. وهو يرتدي ملابس مزركشة وجميلة تذكّرنا بعصر النهضة. وهناك مرتبة اجتماعية معيّنة تظهر بعض علاماتها في أعمال رمبراندت الأخرى مثل بعض صوره الشخصية. وهذه العلامات حاضرة هنا أيضا في الملابس الأنيقة لأرسطو وفي يديه المزيّنتين بالخواتم.
    ورغم أن أرسطو لم يكن رجلا عسكريّا، إلا أنه يبدو هنا بكامل زينته. كما يمكن رؤية سلسلة وميدالية ذهبية يُفترض أن يكون الأمير المحارب، أي الاسكندر، قد انعم عليه بهما.
    أرسطو، الواثق من مكانته الخاصّة، يبدو مستغرقا في التفكير. وهو يضع يدا على التمثال، بينما يلقي نظرة متأمّلة على الشاعر المشهور من الأزمنة القديمة، أي هوميروس، وهو شخص كان محطّ إعجاب كبير من أرسطو وكان الكسندر أيضا يبجّله.
    هذا اللقاء المتخيّل بين ثلاث شخصيّات من العصور القديمة يُعتبر نوعا من لقاء العباقرة. وهو لا يُظهِر فقط ابتكارية الفنّان وتألّق تقنيته، ولكن أيضا أفكاره حول هذا الموضوع وافتتانه بفكرته.

    هوميروس نفسه أسطورة. الفترة التي عاش فيها كانت وما تزال محلّ نقاش بين المؤرّخين، بل إن وجوده في حدّ ذاته ظلّ محلّ شكّ من قبل الكثيرين. وقد قيل من باب الدعابة أنه لم يكتب الملحمة، ولكن كتبها شخص آخر يحمل نفس الاسم!
    لكن ما يزال الناس ينظرون لهوميروس على انه شاعر الإلياذة والأوديسّا. وهناك اعتقاد بأنه عاش قبل حوالي ثلاثة آلاف عام. وقد سبق زمنيّا ظهور البورتريه الواقعيّ. لكن صورته اختُرعت في وقت لاحق واستُنسخت بشكل متكرّر. وهو دائما ما يظهر على هيئة رجل أعمى وملتحٍ.
    ومن المرجّح أن رمبراندت اعتمد في "نمذجته" لهوميروس على تماثيل نصفية كانت في مجموعته الخاصّة يعود تاريخها إلى العصر الهلنستي.
    ظلمة وسكون الغرفة والوجود الخافت للكتب في خلفية اللوحة تُبرز الوجه المضاء والشخصيّة الوقورة للفيلسوف. كما أن تصويره كرجل من عصر النهضة، سواءً كان ذلك ترخيصا فنّيّا أو مفارقة تاريخيّة مقصودة، لا يمكن إلا أن يكون فكرة ملائمة كثيرا.
    كان أرسطو يعرف ويفهم في كلّ العلوم التي كانت سائدة في عصره والتي أسهم فيها، هو نفسه، بجهد أساسيّ. وكان يؤمن بأنه ما من علم لا يمكن بلوغه وأن كلّ العلوم مثيرة للاهتمام. كما كان يشعر بارتياح للفنون ويحتفي بها قدر احتفائه بالعلوم. وقد توقّف هذا الرجل الاستثنائيّ بتواضع أمام الشاعر المبجّل الذي تطرّق إلى أسرار الطبيعة الإنسانية.
    عالم هوميروس هو مكان للصراع والمحن والتحدّيات التي يُفترض بالبشر أن يُظهِروا أمامها القوّة والشجاعة والمثابرة. وكان عالمه أيضا مليئا بالدهشة والاكتشاف: نداءات غريبة، سفن محطّمة، كوارث طبيعية، آكلو لوتس وعمالقة وحوريّات بحر. كما تضمّنت ملحمتاه قصصا عن أشجع الرجال وأجمل النساء وأكثر الزوجات إخلاصا.
    وفي زمن أرسطو، كان هوميروس يرمز لخلود الفنّ. ورغم أنه تغنّى بالصراعات الأهلية القديمة، إلا أن كلماته تسمو على الموت بجمالها. ويمكننا أن نتخيّل انه كان شخصا فقيرا جدّا. كان يتجوّل في أرجاء اليونان مع قيثارته التي يعزف عليها في حفلات المساء مقابل مبلغ زهيد من المال. وكان هوميروس وفيّا لعبقريته، فلم يحقّق مالا من فنّه، وربّما لم يكن مهتمّا بشيء من ذلك.
    في صورة رمبراندت هذه، من الصعب سبر أغوار العينين المؤرّقتين اللتين تحاولان استكشاف مجمل المعرفة الإنسانية. لكن لأرسطو كتابا اسمه الأخلاق يتحدّث فيه عن التأمّل ويصفه بأنه أعلى أشكال السعادة والمتعة الأكثر ديمومة في الحياة.
    وعلى مرّ آلاف السنين، منذ هوميروس وألكسندر وأرسطو، فُُسّر التأمّل بطرق عديدة كدليل إلى الحياة، وكتب بعض الكتّاب نسخا حديثة من الأوديسّا. وبعد فترة طويلة من رسم رمبراندت لوحته هذه عن أرسطو وهوميروس، كتب نيكوس كازانتزاكيس نسخته الخاصّة من الأوديسّا.
    في ملحمة كازانتزاكيس، يدعو المؤلّف البشر المعاصرين للعمل معا ضدّ الشدائد وحتى ضدّ حتمية الموت. ثم لا يلبث أن يستغرق في لغة هوميروسية يقود من خلالها القارئ في تأمّل أرسطي. "لا أعرف ما إذا كنت سأرسو أخيرا. الآن أنجز عمل النهار. أجمع أدواتي: البصر والشمّ واللمس والذوق والسمع والعقل. ومع هبوط الليل، أعود مثل خُلد إلى بيتي الأرض، ليس لأني تعبت أو لا استطيع العمل، ولكن لأن الشمس شارفت على المغيب".
    إحدى أفضل الطرق في التفكير في تطوّر الثقافة بشكل عام، وفي تاريخ الحضارة الغربية بشكل خاصّ، هي المحادثة بين الأحياء والأموات. ومن الصعب أن نتخيّل تجسيدا أكثر شهرة واختصارا لهذه الفكرة من لوحة رمبراندت هذه غير العاديّة والمثيرة للإعجاب.
    و"أرسطو مع تمثال نصفيّ لهوميروس" هي واحدة من عدد قليل من الصور التي كُلف بها الرسّام من قبل زبون أجنبيّ. وقد أرسلت اللوحة من أمستردام إلى قصر روفو في ميسينا في صيف عام 1654. وكان السعر المتّفق عليه 500 غيلدر هولنديّ. وبعد مرور 300 عام، أي في عام 1961، ابتاع متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك اللوحة مقابل مليونين ونصف المليون دولار. ويقدّر خبراء السوق أن اللوحة، لو عُرضت للبيع اليوم، فستكسر حاجز الـ 100 مليون دولار بسهولة.

    Credits
    rembrandt-paintings.com
    popmatters.com

    الخميس، يونيو 06، 2013

    عشاء مع بيرسيفوني

    اليونان، بالنسبة للكثيرين، هي أرض ضائعة في الزمن. كلمة اليونان تستحضر صور البارثينون الذي تلوح أعمدته الرخامية ومبانيه البيضاء الخالدة في الأفق، والجزر التي يربو عددها على الألفي جزيرة والتي تومض على خلفية من زرقة وصفاء البحر المتوسط.
    عندما كنت طفلة، كانت اليونان أكثر واقعية بالنسبة لي من أمريكا حيث نشأت. وكان أوّل كتاب أحببته عبارة عن كنز مخبّأ في عُلبة. كان كتاب أطفال من القرن التاسع عشر بغلاف أزرق وذهبي. وكان يحتوي على قصص لـ هوميروس كُتبت في شكل نثر تنبّؤي يخالطه بعض الهزل.
    قرأت ذلك الكتاب مرارا وتكرارا، وأجفلت عندما اختار باريس أن يعطي التفّاحة الذهبية لـ أفرودايت مفضّلا الجمال على عرض هيرا له بالسلطة وعرض أثينا بالحكمة. وقلت في نفسي: لو انه اختار الحكمة لضمن السلطة والجمال أيضا.
    كنت بالتأكيد منجذبة للجوانب الجوهرية من اليونان، على غرار أولئك المفتونين بها والذين يسافرون إليها عبر الزمن. لكي ترى البلد وتجرّبه وتطّلع على ثقافته، يتعيّن عليك أن تنتقل عبر القرون بمرونة وسرعة.
    كانت مفاهيم علم الآثار والحفريات أمرا مهمّا للغاية بالنسبة لي. وكانت اليونان بعالمها القديم وعوالم الرومان وآسيا الصغرى على حدّ سواء مفقودة وحاضرة في نفس الوقت.
    كنت أدرك أن الناس خارج اليونان يعرفون الكثير عن العصور القديمة لهذا البلد، بينما لا يكادون يعرفون شيئا عن أحوال وظروف اليونان الحديثة.
    إسأل أيّ شخص عن اليونان المعاصرة لتجد أن معظم الناس يرسمون صفحة فارغة. في كتابي "عشاء مع بيرسيفوني: رحلات في اليونان"، حاولت أن أملأ هذه البقعة الفارغة من اللوحة. ومضمون الكتاب هو عبارة عن ملاحظاتي ومشاهداتي التي سجّلتها خلال إقامتي في هذا البلد لمدّة عام كامل.
    وقد وقفت خلال هذه الفترة عن كثب على تاريخ وأساطير اليونان وواقعها الحديث. ووظّفت إلمامي باللغة اليونانية للتعرّف على أصدقاء هناك ساعدوني في رسم صورة لبلد يتعايش فيه التاريخ مع الحداثة بطريقة مدهشة.
    وخلال هذا العام اليونانيّ، عايشت مهرجانات هذه البلاد وطقوسها الدينية والسياسية واستمعت إلى موسيقاها وحكاياتها وأساطيرها الخرافية كي اعرف شيئا ما عن الحيوات وعن الظروف التي شكّلتها. وأثناء هذه الفترة أيضا تعرّفت إلى العديد من شخصيّات اليونان المعاصرة مثل بينيلوب ديلتا صانعة أدب الأطفال الحديث، وإيون دراغوميس الكاتب والمفكّر السياسي، والروائي كوستاس تاكتسيس والمغنّي فاسيليس تسيتسانيس والنشطة النسوية كاليروي بارين. كما تعرّفت إلى الممثّلين والممثّلات اليونانيين الذين ابتكروا نمطا متفرّدا من التمثيل الذي عرفه العالم من خلال ماريا كالاس.
    في اليوم الثاني لوصولي إلى أثينا، اكتشفت طريقي للعشاء مع بيرسيفوني عندما رأيت امرأة في السوق تبيع كتب تفسير الأحلام، هذه الكتب التي ما تزال سمة لا غنى عنها في المكتبات اليونانية. وكنت قد أحضرت معي كتاب موسوعة تفسير الأحلام من تأليف محلّل الأحلام الشهير من القرن الثاني الميلادي ارتيميدوروس . وفي هذا الكتاب جمع المؤلّف صورا من أحلام معاصريه من اليونانيين والرومان. والأحلام التي يسردها ويفسّرها في الكتاب هي عن الآلهة والصلب وحفلات الزفاف وغيرها من صور الحياة اليومية في العصور القديمة المتأخّرة.
    في مدن اليونان المختلفة وفي أكبر جزرها وأكثرها سكّانا، استمعت بصبر للأحلام القديمة وعواقبها. وأصبح ارتيميدوروس الراعي المقدّس لقصّتي. صحيح أن عصر النهضة لم يصل إلى اليونان. لكنّ الآلهة والطقوس الوثنية القديمة حلّ مكانها القدّيسون والاحتفالات المسيحية.
    بدت لي اليونان بجزرها الكثيرة مثل جسم الإنسان الذي يتكوّن في معظمه من الماء، ومثل جسم شخص تحبّه، محدود ولكنه لا ينضب. ولاحظت كيف أن اعتزاز هذا البلد بماضيه تمازجه شكوك عميقة حول مكانه في العالم الحديث. اليونانيون يقولون لك باستهجان إن اليونان بلد صغير. ولكن مثل لغتها، فإنها عالم في حدّ ذاته. واللغة اليونانيّة ليست لغة حسّية، ولا هي ذات إيقاعات مرحة. إنها لغة صخريّة وترابيّة، لغة تمتلئ بالطين والصخور البركانيّة وتتألّق مثل الحجارة الثمينة.
    لقد خصّصت كلّ فصل من فصول الكتاب للحديث عن صورة من كتب الأحلام التي لعبت دورا مهمّا في حياة الناس الذين كتبت عنهم. وبطريقة ما، كان العشاء مع بيرسيفوني أيضا حلمي الخاصّ عن اليونان. "مترجم"
  • باتريشيا ستوراتشي – مؤلّفة وشاعرة أمريكية
  • السبت، مايو 18، 2013

    الأساطير واللغة 2 من 2

    وُجدت الأساطير مع الإنسان منذ آلاف السنين. وقراءتها تساعدنا على فهم الحياة والتجربة الإنسانية بشكل أفضل وتزيد معرفتنا بالماضي وبالكثير من الحضارات التي سادت ثم بادت. كما أنها تعلّمنا بأن هناك الكثير من الأديان والثقافات في هذا العالم، وبالتالي تجعلنا أكثر تسامحا وانفتاحا.
    بعض الأساطير أسهمت في صياغة الأديان وفي تشكيل تاريخ العديد من الأقوام والحضارات. وبعضها كان وما يزال مصدرا للكثير من الأعمال الشعرية والمسرحية والأدبية والموسيقية والفلسفية.
    الأساطير القديمة ما تزال تعيش معنا في ثقافتنا ونجد لها مرجعيات في العديد من المفردات والتعبيرات اللغوية المعاصرة.

  • أغاني السيرانات:
    في بعض الأحيان، نسمع أو نقرأ عبارة "أغاني السيرانات". والسيرانات هنّ حوريّات بحر بملامح فاتنة. كنّ يستلقين على الشواطئ للإيقاع بالبحّارة من خلال أغانيهنّ الساحرة التي تصيب عقل من يسمعها بالخبل والذهول. الإغريق المتأخّرون يصفونهنّ كنساء لهنّ أجنحة الطيور، وهي صورة مستعارة من قدامى المصريين.
    أغاني الحوريّات، لفرط جمالها، تصيب العقل بالتشوّش والذهول لأنها تعمل على شلّ قدرة الإنسان على التفكير والحكم العقلاني على الأمور. في الأوديسّا، تحذّر سيرسي اوديسيوس من الاستماع إلى السيرانات لأن أغانيهنّ قد تدفعه إلى الجنون. كما تحثّ بحّارته على ربطه بالسارية وسدّ أذنيه بالشمع كي تكونا منيعتين على الاستماع لتلك الأغاني الساحرة.
    أسطورة السيرانات يبدو أنها موجودة في العديد من ثقافات العالم. في الأسطورة هنّ مخلوقات خطيرة جدّا، ولكنهنّ أيضا يتمتّعن بجاذبية لا تقاوَم. كما يمكن اعتبار قصّتهن أمّاً لجميع الرموز الأسطورية الأنثوية، فهنّ مثيرات وفاتنات وقويّات.
    في جميع الحضارات القديمة تقريبا، كانت الأنثى تُعبد كآلهة، وفي نفس الوقت يُخشى جانبها كشيطان. والسيرانات يجسّدن جوهر السحر الذي تملكه المرأة وتزهو به على الرجل. لكن في الفنّ، فإن الأسطورة تتحدّث إلى الجنسين. وهي، بمعنى ما، تمثّل كلّ تلك الأشياء التي يقضي الإنسان حياته وهو يتجنّبها خوفا، لكنّه يندم على ذلك في النهاية.
    السيرانات نجدها اليوم في العديد من الأعمال الفنّية والأدبية وفي شعار شركة ستاربكس وفي رواية فرانز كافكا بعنوان صمت السيرانات .
    في وقتنا الحاضر، تكتسب أغاني السيرانات معنى مجازيّا. فالساسة الذين يبذلون للناس الوعود السخيّة والبرّاقة كي ينتخبوهم، إنما يعكسون بهذه الوعود معرفتهم بسيكولوجيا الإنسان وميله لتصديق الكلام المنمّق والمعسول. لذا فإن هؤلاء الساسة بارعون في غناء السيرانات، وبالنتيجة فإن الناس يميلون إلى الافتتان بـ "غنائهم" وتصديق وعودهم.

  • حصان طروادة:
    تتحدّث هذه الأسطورة عن إحدى أكثر الحيل شهرة في جميع العصور. الحرب بين الإغريق وأهل طروادة هي الآن في عامها العاشر. الطرواديّون شعروا بالابتهاج عندما استيقظوا في صباح احد الأيّام ليجدوا أن الجيش الإغريقي الذي كان يحاصر مدينتهم قد غادر أخيرا. غير أن الإغريق تركوا وراءهم هديّة غريبة هي عبارة عن حصان خشبيّ عملاق.
    تنفّس الطرواديّون الصعداء لأنهم اعتقدوا أنهم ارتاحوا أخيرا بعد أن خاضوا حربا ضارية وطويلة. وعندما رأوا الحصان الضخم أمام بوّابة مدينتهم ظنّوه رمزا للسلام وتحيّة للإلهة أثينا. لكنّ بعض الأهالي خمّنوا أن الحصان الخشبي قد يكون خدعة وأنه من الأسلم أن يتمّ إحراقه في مكانه.
    عرّاف المدينة، واسمه لوكون، حذّر الملك برايام حاكم المدينة من الحصان قائلا انه مكيدة وليس رمزا للسلام. غير أن بوسيدون، إله البحر، الذي كان يقف إلى جانب الإغريق، أرسل إحدى أفاعي البحر الضخمة كي تقتل لوكون وولديه. برايام ظنّ أن لوكون قُتل لأنه أدلى بنبوءة كاذبة. لذا أمر الملك بإحضار الحصان الخشبيّ إلى داخل أسوار المدينة.
    كان الإغريق قد وضعوا خطّة محكمة بعد عشر سنوات من الحصار الفاشل الذي فرضوه على طروادة. فقد تظاهروا بأنهم تخلّوا عن الحرب وقرّروا العودة إلى ديارهم. لكنهم تركوا ذلك الحصان الخشبيّ خارج الأسوار بعد أن ملئوه بالجند.
    وبعد يوم وليلة من الاحتفالات الصاخبة، انهار الطرواديون من الإنهاك الشديد بسبب إفراطهم في شرب النبيذ. الجنود الإغريق الذين كانوا مختبئين داخل الحصان استغلّوا الوضع وخرجوا من مخبئهم وفتحوا بوّابة المدينة. ثم دخل الجيش الغازي بأكمله إلى داخل المدينة وسوّوا أسوارها بالأرض ثم باشروا في قتل أو أسر جميع سكّانها.
    أسطورة حصان طروادة تحمل رمزيّة رائعة، وهي تعيدنا إلى ماض بعيد كان يخلو تقريبا من اللغة، وإلى مكان كانت فيه الرموز مرتبطة ارتباطا وثيقا بسعي الإنسان للبقاء على قيد الحياة. الحصان هو رمز للحرب، لكنه بنفس الوقت نموذج أصيل لقدرة الإنسان على الابتكار وعلى التدمير. كان حصان طروادة الوسيلة المثلى لحسم نزاع ملحميّ طويل أدّى في النهاية إلى القضاء على حضارة.
    وعلى الرغم من أن هذه القصّة منشؤها التاريخ القديم، إلا أننا ما نزال إلى اليوم نستخدمها في لغة الخطاب اليومي. وعندما نطلق على شيء ما "حصان طروادة"، فإننا نعني أنه حسن المظهر ولكنّه ينطوي على نيّة شريرة بداخله.
    وقد يكون حصان طروادة شخصا أو جماعة ما تحاول الإطاحة بشركة أو بلد أو حكومة من الداخل. كما يمكن أن يُطلق هذا الوصف على مجموعة مخرّبة أو جهاز يتمّ دسّه داخل صفوف العدو، أو على هديّة تُقدّم إلى شخص ما بنيّة الخداع وإيقاع الضرر. وتنويعا على هذا المعنى، تُستخدم هذه العبارة لوصف نوع من برامج الفيروسات التي تبدو قانونية وبريئة في الظاهر، لكنّ تأثيرها مدمّر على جهاز الحاسوب الذي تُنصب عليه.


  • سهم كيوبيد:
    لآلاف السنين، ظلّ الناس يتساءلون عن الكيفية التي يقع فيها البشر في الحبّ، أو كيف ينجذبون عاطفيّا إلى بعضهم البعض. وكانوا يعتقدون أن قوى خارجية تضرب ضربتها فجأة وتجرّد الإنسان من إرادته الواعية.
    الدراسات الحديثة تؤكّد أن هناك استجابات فسيولوجية يتمّ تحفيزها بأنواع مختلفة من الكيمياء الداخلية، بما في ذلك الغدد الصمّاء والأدرينالين والاندورفين والأوكسيتوسين.
    اليونانيون القدماء كان لهم تفسيرهم الخاصّ عن سرّ الوقوع في الحب، إذ كانوا يعزون ذلك إلى ما يُعرف بسهم إيروس إله الحبّ. سهم إيروس "أو كيوبيد عند الرومان" يشير ضمنا إلى وجود الفيرومونات وغيرها من الإشارات الفيزيائية والكيميائية.
    لكن ما هو مفقود في هذه الأسطورة في كثير من الأحيان هو حقيقة أن إيروس أو كيوبيد كان له سهمان: احدهما ذهبيّ يجلب الحبّ والجاذبية، والآخر رصاصيّ يُُحدث الكراهية والتنافر.
    أبوليوس يشير إلى هذه الثنائية في روايته الشهيرة عن كيوبيد وسايكي، بينما تتضمّن ترنيمة هوميروس إلى أفرودايت مقطعا يقول إن الحبّ لا يعرف حدودا وأن الإلهة وابنها يضربان جميع المخلوقات الحيّة برغبة غير عقلانية.
    في أوّل مرّة ظهر فيها كيوبيد، وكان ذلك في كتاب التحوّلات لـ اوفيد، استخدم سهمه بطريقة شرّيرة. أبوللو تعمّد إهانته عندما وصفه بأنه ولد سخيف لا عمل له سوى إطلاق السهام. وقد انتقم منه كيوبيد بأن أطلق عليه سهما ذهبيّا ليجعله يقع في الحبّ، كما أطلق سهما آخر، رصاصيّا هذه المرّة، باتجاه دافني الجميلة ليجعلها تخشى الحبّ وتكرهه. لذا فإن أبوللو في القصّة يطارد دافني إلى أن تتحوّل إلى شجرة غار كي تهرب منه، وكلّ هذا بسبب سهام كيوبيد التي لا ترحم.

  • نهر ستيكس المظلم وكعب أخيل:
    كثيرا ما يأتي الحديث عن نهر ستيكس المظلم مترافقا مع الحديث عن كعب أخيل. في الأساطير اليونانية، كان نهر ستيكس حدّا فاصلا بين العالم العلوي للأحياء وعالم الموتى السفلي. كان النهر أسود لدرجة انه يستحيل رؤية أيّ شيء تحت سطحه.
    الإغريق كانوا يعتقدون أن آلهتهم لا تختلف كثيرا عن البشر من حيث أنها، هي أيضا، عرضة للأفكار والمشاعر الشرّيرة. الفارق الوحيد هو أن الآلهة اكبر وأقوى من البشر، كما أنها مستثناة من الشعور بالخوف من الموت.
    كان الموت بالنسبة لليونانيين القدماء شيئا مرعبا. تصوّرهم المأساوي عن أرض الموت الكئيبة هو الذي كان يدفعهم للتعلّق الشديد بالأرض ومباهجها. كانوا يعتقدون أن أرواح البشر بعد موتهم تسكن في منطقة باردة ومظلمة تُدعى هيديز. هناك يقضي الأموات وقتهم في البكاء والتطلّع للعودة إلى الأرض التي تركوها وراءهم.
    عندما تصل أرواح الموتى إلى نهر ستيكس، يتمّ نقلهم في قارب يقوده بحّار عجوز وغامض يقال له كيرون. البحّار لا يتكلّم أبدا إلى أيّ من ركّابه، كما أن أحدا منهم لا يتحدّث معه. صمت الموت يلفّ الجميع منذ اللحظة التي يستقرّون فيها على القارب.
    ويتوجّب على كلّ راكب أن يدفع لـ كيرون أجرا نظير نقله في قاربه. لذا كان اليونانيون يضعون عملة نقدية في فم كلّ شخص يموت. كما أن البحّار لا يحمل سوى أولئك الذي تمّ دفنهم بعد موتهم. ومصير كلّ من لا يفي بهذين الشرطين هو أن يهيم على وجهه على شاطئ النهر بلا هدف لمئات السنين. فيرجيل ودانتي وصفا في وقت لاحق الأرواح وهي تتدافع بشكل محموم ويائس على شاطئ نهر ستيكس للحصول على مكان في القارب.
    عندما تصل الأرواح إلى الشاطئ الآخر، تدخل من بوّابة كبيرة يحرسها كلب له ثلاثة رؤوس. وخلف هذه البوّابة يتمّ إصدار الحكم النهائي، فالأخيار يذهبون إلى الفردوس أو الحدائق السماويّة. أما الأشرار فيُرسلون إلى تارتاروس أو الجحيم، وهو مكان غامض تسكنه الأشباح والظلال والكوابيس.
    بعض علماء النفس يشيرون إلى أن تارتاروس، أو الجحيم، ليست سوى رمز لهذا العالم الذي نتقبّل فيه كلّ شيء ظاهريّا ودون نقد أو تمحيص. أمّا "الأجر" الذي يتقاضاه كيرون من ركّاب قاربه فهو رمز لشرط تخلّي الإنسان عن أي رغبة متبقيّة له في الواقع الماديّ الذي كان يعيش ضمنه قبل موته.
    نهر ستيكس هو رمز للانتقال من حالة الحياة إلى الموت. غير أن مياه هذا النهر هي التي منحت القوّة التي كانت تسعى إليها والدة أخيل لحماية ابنها.
    تذكر الأسطورة أن أخيل كان ابنا لـ ثيتيس، وهي حورية بحر ونصف إلهة. وأبوه كان بيليوس، ملك منطقة في جبل بيليون. وقد سمعت أمّه ذات مرّة كلام ساحرة تتحدّث عن موت أخيل في حرب ستحدث مستقبلا في طروادة. لذا أخذت الأمّ رضيعها إلى أن بلغت به نهر ستيكس المظلم كي تغمره في الماء ليصبح خالدا. كانت تمسك به من كاحله وهي تغمره. لذا أصبح جسده غير معرّض للخطر باستثناء بقعة واحدة فيه هي كعبه.
    لكن في وقت لاحق، مات أخيل قرب نهاية حرب طروادة نتيجة سهم أصابه في كعبه بعد قتله للبطل هيكتور. الأسطورة تشير إلى أن الجرح الذي أصاب أخيل كان مميتا لأن كعبه كان الموضع الوحيد الذي اجتمعت فيه قابليّته للفناء من شتّى أنحاء جسده. أوفيد يشير في "التحوّلات" إلى أن أبوللو هو من حدّد لـ باريس نقطة ضعف أخيل وساعده في مهمّة قتله.
    ومثل العديد من الأساطير، فإن وجود النهر في هذه الأسطورة يحمل رمزيّة خاصّة. فالنهر دائم الجريان ومياهه تتغيّر باستمرار. لذا فإن الأنهار رمز مثاليّ للتحوّلات والانتقال من طور لآخر. بل إنها تمثّل اكبر التحوّلات جميعا: أي الانتقال من الحياة إلى الموت، كما يجسّده نهر ستيكس الذي يجب أن يعبره جميع البشر قبل أن يدخلوا هيديز أو عالم الأموات.
    ورغم أن أسطورة أخيل قديمة جدّا، إلا أنها لم تدخل التداول اللغوي إلا في القرن التاسع عشر. وهي تُستخدم ككناية عن الضعف القاتل أو المنطقة الهشّة والسريعة العطب. وأوّل من استخدمها كان الشاعر الانجليزي سامويل تيلر كولريدج عندما وصف ايرلندا بأنها "الكعب الضعيف لـ أخيل البريطانيّ". هذه الأيّام، لو سمعت مديرا أو مسئولا يتحدّث عن احد أقسام مؤسّسته واصفا إيّاه بأنه "كعب أخيل" المؤسّسة، فالمقصود أن ذلك القسم لا يحقّق مكاسب أو أرباحا وأن بقاءه على هذا الوضع قد يشكّل خطرا على مستقبل الشركة.

    موضوع ذو صلة: نساء الأوديسّا
  • الأحد، يوليو 29، 2012

    جماليّات الطبيعة

    في الاوديسّا، يأخذنا هوميروس إلى أماكن متعدّدة من الطبيعة ويستكشف معانيها الرمزية، ويتناول القيم الحضرية للبطل والشخصيّات الأخرى، ويُخضعها للعديد من الاختبارات. كما يشرح لنا العلاقة بين الآلهة والبشر، وبين الحاضر والماضي، ويقدّم رؤى عن هذه الحياة وعمّا بعدها.
    وما يلفت الانتباه بشكل خاصّ هو حديث هوميروس عن البرّية والدلالات الرمزية التي تحملها. البرّية في الأوديسّا مكان غير حضريّ، وبالتالي يفتقر إلى كلّ صفات العمران. في البرّية، ليس من السهل أن تثق بأحد. قد يفترسك احد أكلة لحوم البشر، وقد تتحوّل إلى حيوان، أو قد تغويك غولة، أو تُسحق عظامك على الصخور.
    البرّية مكان مختلف وخطير. ولكنّها أيضا، وهذا هو أحد الجوانب المثيرة للاهتمام، جميلة ومغرية. وإذا كان بوليفيموس غاشماً وبهيميّا، فإن الطبيعة التي يعيش فيها هي أشبه ما تكون بالجنّة، مع طعام وفير بحيث لا يحتاج المرء للعمل أو بذل الجهد. أغاني السيرينات مدمّرة، لكنها جميلة. والبرّية أيضا تؤوي سيرسي إلهة التحوّلات السحرية. والذي يذكّرنا بهذا هو العبارة الأكثر شهرة في الأوديسّا: بحر الظلام النبيذي". مثل النبيذ، فإن البحر (والبرّية) غامضان ومظلمان ويحملان معهما الكثير من الأخطار. لكن، وكالنبيذ أيضا، فإن البرّية مُسكرة، وحتى ساحرة. ويمكن أيضا أن تكون منحة لبني البشر. والمرء لا يمكنه أن يفكّر في النبيذ دون أن يتذكّر طبيعته المتناقضة.
    في العهد القديم، ثمّة إشارات عن عدد من البراري. لكن الغرض من ذكرها هو امتحان ديانة العبرانيين وليس أكثر. إذ لا توصل هذه النصوص أيّ إحساس بأن للبرّية جمالا وفتنة، بل هي مجرّد ارض قاسية ومجدبة.
    البرّية أيضا لها حضور قويّ في الأدب والفنّ. فهي موجودة في الروايات التي تتحدّث عن مخاطر البحار المضطربة والبراري النائية "مثل رواية موبي ديك لـ هيرمان ميلفيل". وهي موجودة أيضا في أساطير الشمال الأوربّي وفي مغامرات الرحالة والمستكشفين القدماء. ومن بين المفكّرين والفلاسفة الذين تحدّثوا عن البرّية مطوّلا كلّ من جيل دولوز وغريغوري وايتهيد.
    في كتابه حواسّ الطيور، يتناول العالم تيم بيركهيد جانبا آخر من جماليات الطبيعة، متمثّلا في بعض الظواهر الغريبة التي رصدها من عالم الطيور. يتحدّث، مثلا، عن طائر يقال له الروبين "أو أبو الحنّاء بالعربية" وكيف انه يستطيع سماع الدود وهو يتحرّك تحت الأرض. ثم يتحدّث عن الكيوي، وهو طائر أعمى تقريبا. ومع ذلك يستطيع هذا الطائر شمّ الدود من مسافات بعيدة.
    ويتحدّث المؤلّف عن طائر الفلامينغو الذي يُعتبر من أجمل الطيور على الأرض. وهو معروف بألوانه الزاهية التي يغلب عليها الزهريّ. جاذبية الفلامينغو تتبدّى في أجمل حالاتها عندما يطير في أسراب كثيرة. وهو يهاجر لمسافات طويلة، إذ يمكنه أن يقطع أكثر من مائتي ميل في ليلة واحدة. وبإمكان الفلامينغو أيضا أن يحسّ بالمطر المتساقط على بعد مئات الكيلومترات، حيث الأرض المبلّلة التي تصلح للتكاثر. وللفلامينغو قدرة غريبة على التكيّف مع أكثر حالات البيئة تطرّفا. فهو يعيش قرب البراكين، لكن يمكن رؤيته وسط البحيرات الجليدية أيضا. الفلامينغو يمكن أن يعيش في بيئته الطبيعية حوالي ثلاثين عاما، وفي الأسر لخمسين عاما أو أكثر.
    الجبال أيضا لها جماليّاتها الخاصّة والمتفرّدة التي تجعل منها مصدر سحر وفتنة بمناظرها الجليلة وهوائها العليل. ساكنو الجبال هم عادةً، ولسبب غير معروف تماما، أكثر ودّا وحميمية ودفئا من سكّان الحواضر. لكن الحياة في الجبال معروفة بقسوتها، لذا يعتمد قاطنوها على بعضهم البعض طلبا للحماية والأمان. وبسبب بعد الجبال عن العمران، فإنك لا تستطيع العيش فيها دون أن تحتاج لمساعدة الآخرين. الإحساس بالجماعة هو ما يميّز سكّان الجبال أكثر من غيرهم. هذا الشعور الجماعي هو الذي يساعدهم على قهر ظروف العزلة والشتاء الطويل والتعامل مع المحاصيل التي لا تدوم طويلا.
    مكان أهل الجبال في العالم وفي التاريخ جعلهم يُظهرون أفضل ما في الطبيعة الإنسانية من صفات وخصال. الجبال مصدر إلهام، ليس بسبب جمالها المذهل فحسب، وإنما أيضا لأن سكّانها يتميّزون بالعاطفة والدفء الإنساني. والأشخاص الذين يتوقون إلى استكشاف غموض الكون والطاقات الكامنة فيه لديهم هذا الشغف بالجبال. في الجبال تحسّ بالعالم الأزلي والخالد وتصبح جزءا منه. تشعر بالسكون والرياح وتتنفّس الهواء العذب وترى فيها سماءً أوسع ونجوما أكثر.
    في كثير من الأحيان، نتحدّث عن الطبيعة وكأنها خير مطلق. لكنها، مثل كلّ شيء آخر في هذه الحياة، لها وجه مختلف. فالبراكين والزلازل والأعاصير التي تقتل البشر وتدمّر الممتلكات هي أيضا جزء من عالم الطبيعة. وهناك أيضا الفيروسات والبكتيريا القاتلة والسلوكيات المرتبطة بتغيّر الطقس وتعاقب الفصول.
    الفكرة الشائعة بين الناس هي أن خالق الطبيعة هو إله خيّر ورحيم. وبناءً عليه، يُفترض أن تكون الطبيعة أفضل العوالم قاطبة. غير أن الواقع يقول شيئا آخر مختلفا. فالطبيعة يمكن أن تقتل وأن تعذّب وتبطش وتدمّر. كما أن الحيوانات يفترس بعضها بعضا والطيور الجارحة تهجم على أعشاش الطيور الصغيرة لتلتهم صغارها. الطبيعة ليست خيرا محضا وليست شرّا خالصا بنفس الوقت. وفي كلّ الأحوال، يمكن أن تمنحنا الطبيعة أفضل ما لديها إذا ما تعاملنا معها بوعي وبصيرة.

    السبت، يونيو 16، 2012

    المعنى بين الحقيقة والمجاز

    من الأشياء المثيرة للاهتمام التحوّل الذي يطرأ أحيانا على بعض ألفاظ اللغة لتنتقل من حيّز الحقيقة إلى فضاء الاستعارة والمجاز.
    خذ مثلا كلمة غزْل أو نسيج، التي تحيلنا إلى مهنة قديمة تتطلّب قدرا من البراعة والفنّ. ثم تأمّل كيف غادرت مفردة النسج، الرقيقة والناعمة، معناها الحقيقيّ لتكتسب معنى استعاريّا يرمز إلى الدهاء والخداع والتآمر، كما في قولنا: فلان ينسج حيلة أو يحيك مؤامرة.
    من المعروف أن العنكبوت ينسج بيته من الخيوط الرقيقة والرفيعة، لكن القويّة بما يكفي للإطباق على فرائسه من الحشرات والهوامّ الصغيرة.
    وفي ملحمة الاوديسّا، يتحدّث هوميروس عن بينيلوب زوجة البطل اوديسيوس. كانت مشهورة بوفائها لزوجها لدرجة أنها انتظرت عودته من حرب طروادة عشر سنوات كاملة ورفضت عشرات الخاطبين الذين تقاطروا على بيتها يطلبونها للزواج. كانوا يلحّون عليها بأن تتزوّج احدهم، محاولين إقناعها بأن اوديسيوس مات ولن يعود أبدا.
    وفي محاولتها لصرفهم وإشغالهم، أبلغتهم أنها لن تتزوّج حتى تنتهي من نسج كفن لوالد زوجها. ولكي "تنسج" خطّتها جيّدا، كانت بينيلوب تنسج غزلها في النهار ثم تنقضه في الليل. أي أنها كانت خدعة "دبّرتها بليل" كما يقولون.
    والحقيقة أن كلّ عناصر المؤامرة متوفّرة في هذه القصّة الجميلة والمعبّرة: الظلام، الخداع، الحيلة، التسويف، شراء الوقت والتظاهر بفعل شيء لصرف الأنظار وتشتيت الانتباه عن الهدف الحقيقي.
    لكن بعد أربع سنوات من التأخير والمماطلة، كشف احد خدم بينيلوب عن خدعتها، ما أثار غضب الخاطبين. فأصرّوا على أن تختار على الفور ودون إبطاء واحدا منهم كزوج.
    في تلك الأثناء عاد اوديسيوس سرّا من رحلته الطويلة متخفيّا في ثياب رجل متسوّل. وبعد أن وصل، أمر بذبح جميع الخاطبين عقابا لهم على انتهاك بيته وتنغيص حياة زوجته.
    بالمناسبة، يقال أن كلمة غزَل "بفتح الزين" التي تعني محاولة التقرّب من النساء والتودّد إليهنّ مشتقّة من الغزال الشادن. لكن أظنّ أن هذه المفردة، أيضا، ليست بعيدة عن غزل أو نسج الخيوط، لأن فعل الغزَل يتطلّب، هو الآخر، قدرا من الرقّة والعذوبة وينطوي، بنفس الوقت، على شيء من الحيلة والدهاء، وحتى الفنّ.
    وعلى ما يبدو، فإن تحوّل بعض المفردات وانتقالها من الحقيقة إلى المجاز لا يتّصل باللغة فحسب، وإنما أيضا بطريقة عمل دماغ الإنسان وبالحواسّ التي تترجم الصور والحالات والمواقف إلى أفكار واستعارات.
    والاستعارة، في نهاية الأمر، ليست أكثر من حيلة جميلة تعوّض عن نقص إمكانيات اللغة في الإمساك بصورة أو موقف أو مزاج معيّن.

    موضوع ذو صلة: نساء الأوديسّا

    الأربعاء، مارس 14، 2012

    آخر أيّام تولستوي

    قبل حوالي مائة عام، توفّي ليو تولستوي عن عمر يناهز الثانية والثمانين بعد أن عانى من التهاب رئوي حادّ. وقد تابع العالم آنذاك أخبار مرضه ونقلتها الصحف في روسيا وخارجها يوما بيوم. ولم يكن تولستوي على علم بتلك الضجّة التي كانت تثور من حوله.
    وقبل وفاته بتسعة أيّام، كان الكاتب المشهور قد ترك منزله في ياسنايا بوليانا سرّا عند الفجر بصحبة سكرتيره الخاصّ. كان واضحا أن تولستوي اتخذ قراره النهائي بأن ينفصل عن حياته العائلية ويرتاح من شجار زوجته الدائم مع سكرتيره. وفي الليلة التي غادر فيها منزله كتب يقول: لقد فعلت ما يفعله الناس في مثل سنّي. قرّرت أن اترك الحياة الدنيوية وأقضي أيّامي الأخيرة في هدوء وعزلة".
    وفي طريقه إلى محطّة القطار، عرّج على دير شيماردينو لرؤية شقيقته، وقضى ليلة في فندق بجانب أحد الأديرة. ثم غادر مرّة أخرى في الرابعة فجرا باتجاه الجنوب.
    هروب تولستوي من ياسنايا بوليانا أصاب معاصريه بالذهول. البعض رأى في تصرّفه "تحرّرا بطوليّا" من قيود الحياة وإزالة للحواجز الأخيرة بينه وبين الله. كما وصفت الصحافة الروسية قراره بأنه "انتصار روحي"، بينما وصف بعض الكتّاب ما حدث بالمأساة العائلية.
    موت تولستوي، مثل حياته، كان حدثا تاريخيا، خاصّة في روسيا. فقد تقاطر الكتّاب والفنّانون والأتباع والفلاحون على ضيعته واكتظّت القطارات من موسكو إلى كراسنايا بالناس الذين قدموا لحضور جنازته. وحمل نعشه حشد من الفلاحين، وأنشدت اللحن الجنائزي جوقة من مائة مغنّ، ومشى في أثر النعش موكب من حوالي عشرة آلاف شخص.
    ولم يكن هناك رجال دين في الجنازة، إذ كانت الكنيسة قد أصدرت قرارا بطرد تولستوي منها قبل ذلك بسنوات، بعد أن صرّح علناً بأن علاقته مع الله لا تحتاج لوسطاء.
    وكانت الكنيسة قد أخذت على تولستوي أيضا بعض كتاباته التي رأت أنها أسهمت في تسريع صعود البلاشفة إلى الحكم في روسيا عام 1917م.
    بعد الثورة، وصف لينين تولستوي بأنه "مرآة الثورة الروسيّة"، متجاهلا أفكاره السلمية وإيمانه بالله. ومن خلال تحويل البلاشفة تولستوي إلى رمز لهم، فإنهم في نهاية الأمر أفرغوه من أهميّته.
    كان البلاشفة على علم بانتقادات تولستوي الجريئة لسلطة القيصر. وكانوا يدركون مكانته كأحد أعظم الكتّاب في العالم. كانت أفكاره وكتبه أثمن من أن يتركوها خارج قانونهم الفنّي. لذا كان يجب أن تُروّض وتُهذّب كي تنسجم مع قيودهم الأيديولوجية التي فصّلوها سلفاً.
    قرار طرد تولستوي من الكنيسة ما يزال سارياً إلى اليوم. ومؤخّرا اتهم مجموعة من المثقفين الروس الكنيسة بالعناد لإصرارها على إبقاء الروائي الكبير على قائمتها السوداء وبالتحكّم في أمور السياسة والثقافة في البلاد.
    وفي مواجهة مطالب عائلة تولستوي وأصدقائها بإلغاء قرار الطرد، أصدرت الكنيسة بيانا قالت فيه إن أعمال تولستوي جميلة ولا يمكن نسيانها، وأنها، أي الكنيسة، سمحت للناس بالصلاة على روحه والدعاء له بالرحمة". وأضاف البيان أن تولستوي شخصية مأساوية في تاريخ الأدب الروسي، وأنه استخدم موهبته لتدمير النظام الروحي والاجتماعي التقليدي للبلاد".
    وكان "المجمّع المقدّس" قد اصدر قرارا عام 1899 بحظر كلّ صلاة لتذكّر الكاتب أو الترحّم عليه بعد وفاته باعتباره مرتدّا.
    وكان أمرا محزنا، وإن لم يكن مفاجئا، أن تمرّ الذكرى المئوية لوفاة تولستوي قبل عامين دون أن يلحظها احد في روسيا. كان تولستوي يعارض العنف الذي تمارسه الدولة. وقد وصف الدولة بأنها سيطرة الأشرار المدعومين بالقوّة المتوحّشة. وكان يرى أن اللصوص اقلّ خطرا من الحكومة المنظّمة. كما دعا إلى فكرة المقاومة السلمية وشجب كافّة أشكال الحروب.
    وكان تولستوي أيضا يعتبر تحالف الكنيسة مع الدولة ضربا من التجديف والكفر. كما كان يعتقد بأن الارستقراطية تشكّل عبئا كبيرا على الفقراء. وعارض الملكية الخاصّة وانتقد مؤسّسة الزواج. وكان يثمّن كثيرا فكرة العفّة والكفاف الجنسي.

    ينتمي تولستوي إلى عائلة بالغة الثراء. لكنّه أصبح يؤمن بأنه لا يستحقّ الثروة التي ورثها عن عائلته. وقد عُرف في أوساط المزارعين والفقراء بسخائه. وكان يوزّع مبالغ كبيرة من المال على المتسوّلين والمستحقّين، وهو أمر كان يثير حنق زوجته في اغلب الأحيان. وقبيل موته أعلن عن تخلّيه عن عائلته وثروته مفضّلا أن يعيش بقيّة عمره كراهب متجوّل.
    هذه المبادئ لم يعد لها مكان في روسيا اليوم التي ابتعدت كثيرا عن قيم وأفكار تولستوي.
    وتجاهُل روسيا لواحد من أعظم الكتّاب في البلاد يبدو غريبا، خاصّة إذا ما تذكّرنا أن اثنتين من رواياته، الحرب والسلام وآنا كارينينا، احتلّتا مؤخّرا المرتبتين الأولى والثالثة، على التوالي، ضمن أفضل عشر روايات في العالم. بل إن بعض النقّاد يذهب إلى أن رواية الحرب والسلام تتفوّق في قيمتها الإبداعية حتى على إلياذة هوميروس.
    فلاديمير تولستوي، احد أحفاد تولستوي، انتقد بمرارة إصرار البطريرك الذي يأتمر بأوامر فلاديمير بوتين على رفض الاستجابة لنداءات العائلة برفع قرار الطرد الكنسي الذي ما يزال مطبّقا منذ أكثر من مائة عام.
    ليوبولد سولرجيتسكي، احد أصدقاء وأتباع تولستوي، كتب يقول إن لـ تولستوي شخصيّتين: تولستوي العظيم وتولستوي الحقيقي. تولستوي العظيم ما يزال حيّا وسيبقى معنا إلى ما لا نهاية. أما تولستوي الحقيقي، أي الإنسان الرحوم والرقيق والصبور والمملوء إنسانية وتواضعا فقد ذهب إلى الأبد".
    وهذا التقييم يتوافق مع سيرة جديدة للروائيّ الكبير كتبتها روزاموند بارتليت بعنوان تولستوي: حياة روسية. وهو كتاب مليء بالمعلومات والحقائق التفصيلية عن حياة تولستوي وأفكاره.
    تذكر بارتليت في كتابها أن انطون تشيكوف، وكان احد أصدقاء تولستوي المقرّبين، قال ذات مرّة: تخيفني فكرة أن يموت تولستوي. وإذا مات فإنه سيترك ولا شكّ فراغا كبيرا في حياتي. وطالما انه حيّ، فإن موجة الابتذال والرداءة والقبح في الأدب ستبقى بعيدا في الظلمة الخارجية".
    تشيكوف لم يعش ليشهد موت تولستوي. فقد مات بمرض السلّ قبل ستّ سنوات من وفاة تولستوي وعن عمر لا يتجاوز الرابعة والأربعين. لكنه كان مصيبا في أن وجود تولستوي كان يفرض قيودا أخلاقية معيّنة على المجتمع الروسي.
    في الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1910، هرب تولستوي من بيته عند منتصف الليل برفقة سكرتيره وإحدى بناته. وعلى فراش الموت، استقبل عددا قليلا من أتباعه وبعض أبنائه. واتفقوا جميعا على انه لا يجب السماح لـ صوفيا، زوجة الكاتب، برؤيته. وفي النهاية، وبعد أن فقد وعيه رضخوا لطلبها. ودخلت وركعت عند سريره بينما كان يحتضر. وقد كتبت في مذكّراتها في ما بعد تقول: لم يُسمح لي أن أقول لزوجي وداعا. أولئك الناس القساة".
    عاشت صوفيا اندرييفنا تسع سنوات بعد وفاة تولستوي. وبقيت في ياسنايا بوليانا حتى بعد أن أحكم البلاشفة سيطرتهم على روسيا. كانت تتمنّى أن تُدفن إلى جوار زوجها في الضيعة التي عاشا فيها لأكثر من 48 عاما. لكن لم تُحترم تلك الرغبة. وعندما توفّيت في نوفمبر من عام 1919، دُفن جثمانها في مقبرة في كوتشاكي على بعد ميلين من قبر تولستوي.
    كان تولستوي شخصية ذات تأثير هائل، سواءً في أعماله أو في حياته.
    وفي سيرته، كان من المحتّم أن تكثر التناقضات: الجنديّ الشابّ الذي أصبح فيما بعد واحدا من دعاة السلام الأكثر صخبا في زمانه. و زير النساء الذي تُسجّل يومياته الطويلة صراعه مع دوافعه الجنسية، والذي أصبح بعد ذلك احد أكثر الناس عفّة وصرامة في عصره. والارستقراطي الذي أصرّ في وقت لاحق على أن يهب حقوق مؤلّفاته وكتبه إلى العامّة مجّانا. والناشط الاجتماعي الذي سُجن رفاقه وزملاؤه من المفكّرين والكتّاب أو أرسلوا إلى المنافي، بينما تمتّع هو بالحماية من قبل أقاربه في البلاط الإمبراطوري.


    المكان المناسب للبدء في التحقّق من هذه الشخصيّة المتناقضة هو ياسنايا بوليانا، الضيعة التي وُلد فيها تولستوي وقضى الشطر الأكبر من حياته.
    هذا المكان يعكس، أكثر من أيّ مكان آخر، طبيعة الرجل. والحقيقة أن ياسنايا بوليانا لم تتغيّر كثيرا منذ أن تركها تولستوي قبل أكثر من قرن. وما يزال بالإمكان الوصول إليها عن طريق زقاق تصطفّ على جانبيه أشجار البتولا.
    بعد وفاة تولستوي عام 1910، مُنحت بعض أراضي الضيعة للفلاحين الذين كانوا يخدمونه. بينما أعيد توزيع أجزاء من الأرض بعد قيام الثورة عام 1917. الإسطبلات ما تزال تؤوي بعض الخيول حتى اليوم. الغريب أن بيت تولستوي نجا من فوضى ثورة 1917، عندما تمّ نهب الكثير من الممتلكات والبيوت المجاورة.
    ارتباط عائلة تولستوي بـ ياسنايا بوليانا ما يزال قويّا إلى اليوم. وبعد رحيله ، تولّت صوفيا، زوجته، المسئولية عن المنزل والعقارات الملحقة به. كانت، حتى وفاتها عام 1919، تصطحب الضيوف الكثيرين الذين كانوا يزورون الضيعة، في حين تولّت الكسندرا، الابنة الصغرى لـ تولستوي، هذه المسؤولية خلال العشرينات قبل أن تغادر الاتحاد السوفياتي نهائيا عام 1928م.
    خلال العصر السوفياتي، احتفلت الدولة بالذكرى المئوية لميلاد تولستوي عام 1928 وبالذكرى الخمسين لوفاته في عام 1960م. وحظيت المناسبتان بتغطية واسعة في الصحافة. وكان ذلك أمرا مثيرا للاهتمام. فالعلاقة بين السلطات السوفياتية وأفكار تولستوي كانت متوتّرة. ومواقفه السلمية أصبحت غير مقبولة بشكل متزايد بالنسبة إلى النظام الجديد.
    إذا نظرنا إلى الوراء وقارنّا بين أوضاع روسيا زمن تولستوي وحالة البلاد الآن سنجد بعض أوجه الشبه المذهلة. فهناك اليوم فجوة تتّسع باطّراد بين الأغنياء والفقراء. وثمّة تحالف ملحوظ بين الكنيسة والدولة. وهناك رقابة بشكل أو بآخر وإقصاء للأصوات المستقلّة. كما أن الدور السياسي للدولة يقع على حدود الاستبداد.
    هنالك من يعزو صمت روسيا الرسمية وتجاهلها لإرث تولستوي لنقص الأموال وعدم القدرة على تسويق الكاتب تجاريّا في سوق ثقافية تهيمن عليها الأفلام المترجمة والواردات الأجنبية.
    لكنّ هناك سببا كامنا وأكثر عمقا، وهو افتقار البلاد للوسائل اللازمة لمعالجة القضايا الأخلاقية الملحّة التي تواجه روسيا اليوم، وهي نفس القضايا التي كانت موجودة في نهاية حياة تولستوي.
    ضمير تولستوي لم يكن يسمح له بالسكوت عن الظلم والعنف والفقر والخروج على القانون. وهي مشاكل كان يراها حوله في الحقبة المتأخّرة من روسيا القيصرية. وكان باستمرار يناشد مواطنيه بأن لا يصمتوا على الاستبداد والظلم والفساد وأن يتّخذوا موقفا.
    والواقع أن هناك الآن من يجادل بأن الأوضاع في روسيا اليوم ليست بأفضل حالا ممّا كانت عليه في بدايات القرن الماضي. كان الملايين من الروس، زمن ما قبل الثورة، ينظرون إلى تولستوي باعتباره منارة للحقيقة. واليوم يفضّل الناس عدم تذكّر عظمة وإنسانية كتّابهم في القرن التاسع عشر، ربّما بسبب شعورهم بعدم الارتياح إزاء تفريطهم وتقصيرهم ولامبالاتهم.
    جاذبية تولستوي في قلوب وعقول مواطنيه توارت كثيرا بدليل فشل الدولة المشين في تكريم ذكرى واحد من أعظم مواطنيها. وعلى المستوى الرسمي، يبدو أن لا مكان لأفكار فوضويّ ونباتيّ مسالم كان يبشّر بالأخوّة بين بني الإنسان في بلد لا يمجّد اليوم سوى أفكار الذكورة والعزّة القومية والحكومة القويّة.
    ولا يمكن إغفال نفوذ الكنيسة الأرثوذكسية التي استعادت نشاطها في العقدين الأخيرين وتتمتّع الآن بعلاقة وثيقة مع الحكومة الروسية. هذه الكنيسة هي نفسها التي ما تزال تعتبر تولستوي زنديقا على الرغم من جهود سلالته وسخط الكثير من الروس.
    في يوم وفاة تولستوي والأيّام التي تلته، أرسلت الدولة الجواسيس لتعقّب كلّ حركة وخطوة من أتباعه خوفا من أن يشجّع موته الملايين من مؤيّديه من الشباب والفلاحين والمثقّفين على القيام بتحرّك شعبي أو ثورة ما. أما ممثّلو الصحافة فقد حوّلوا موته إلى نوع من الإعلام المحموم.
    واعتمادا على الروايات الصحفية والمراسلات الشخصية وتقارير الشرطة والتعاميم السرّية والبرقيات والرسائل والمذكّرات، فإن المشهد العام لأيّام تولستوي الأخيرة كان انعكاسا حيّا لامبراطورية هشّة تقف بقلق على حافّة الحرب والثورة.

    Credits
    linguadex.com
    gutenberg.org

    الأربعاء، يوليو 21، 2010

    نساء الاوديسّا

    في ملحمة الاوديسّا، يقدّم هوميروس نماذج متعدّدة ومختلفة للنساء وللكيفية التي كان ينظر بها المجتمع الأبويّ الإغريقي إلى المرأة.
    في ذلك الوقت لم تكن النساء يتمتّعن بالكثير من الحرّية. كما كان الهامش المتاح للمرأة في اختيار طريقة حياتها ومستقبلها ضئيلا. كانت المرأة المثالية عند الإغريق عموما هي تلك الوفيّة لبيتها والمطيعة لأوامر زوجها.
    لكن الاوديسّا تتضمّن أفكارا أخرى كثيرة. والملحمة نفسها تتمحور حول رحلة اوديسيوس التي يرصد هوميروس من خلالها مراحل التطوّر الفكري والروحي التي يمرّ بها البطل في رحلته. كما تتناول بعض القيم التي كانت سائدة زمن هوميروس مثل الوفاء والعزيمة وكرم الضيافة وما إلى ذلك.
    المقال التالي يتحدّث عن أربع نساء ورد ذكرهنّ في الاوديسّا ولعبن أدوارا مهمّة في رحلة اوديسيوس الأسطورية. كما يرصد تأثير هذه الشخصيّات في الأدب الحديث.

    حدث ذات مرّة أن قذف الموج برجل في منتصف العمر على شاطئ جزيرة منعزلة. قبل 19 عاما، كان اوديسيوس قد بدأ رحلته من موطنه ليحارب في طروادة. لكن طروادة كانت قد سقطت قبل ذلك بـ 10 سنوات. والآن مضت تسع سنوات أخرى ولم يصل اوديسيوس بعد إلى موطنه إيثيكا، حيث تنتظره زوجته بينيلوب وابنه تيليماكوس.
    الرحلة من طروادة تستغرق عادة ثلاثة أسابيع عبر بحر ايجه وصولا إلى ساحل البحر الأيوني ومن ثم إلى إيثيكا. لكن اوديسيوس أغضب بوسيدون، فقام هذا الأخير بإغراق رجاله ثم حكم عليه بالنفي الأبدي ليعيش كلاجئ مبعد عن موطنه.
    من نواح كثيرة، يمكن اعتبار اوديسيوس شخصية حديثة. فهو يروق كثيرا لحالمي القرن الحادي والعشرين، تماما مثلما كان قبل أكثر من ألفين وخمسمائة عام عندما كان الرواة يقصّون أحداث الاوديسّا من الذاكرة.
    اوديسيوس هو رمز لسكّان الأرض الذين كانوا متناثرين عبر بحارها في يمكن وصفه بأنه نسخة أرضية من نظرية الانفجار الكبير. نحن الآن في العصر الذي أطيح فيه بكبار الآلهة في العصور القديمة. غير أن الاوديسّا حديثة بمعنى آخر تماما. أليس من حقّ القارئ الحديث أن يسأل ما إذا كان اوديسيوس قد أطال رحلته لأسبابه الخاصّة؟
    النساء اللاتي قابلهن على طول الطريق، مثلا؟

    كاليبسو..
    كانت الآلهة القديمة تخشى كاليبسو وما يمكن أن تفعله بالبشر إذا هم تاهوا في البحر وحلّوا على شطآن جزيرتها. معظم الرجال الذين قابلوها لم يعودوا إلى زوجاتهم أبدا. وآخرون هجروا زوجاتهم وذهبوا باحثين عن نساء مثاليات دون أن يعرف احد إلامَ انتهى مصيرهم.
    يذكر هوميروس أن كاليبسو كانت حورية خالدة وبارعة الجمال. وكانت تشتهي أن يكون اوديسيوس من نصيبها. ولا بدّ وأن مرآها كان يروق لرجل في أواسط العمر. هي لم تتلاعب بأعصابه مثلما فعلت الساحرة سيرسي قبل ذلك بعام. كما أنها لم تكبر ثم تتغيّر ثم تنضج كما حدث للأميرة الشابّة نوسيكا. ولم تحاول أن تسيطر عليه كما كانت تفعل زوجته بينيلوب. هل كان اوديسيوس يبحث عن الرفقة الكاملة؟ هل يبحث رجل حكيم عن امرأة مثالية؟ وإذا فعل، هل يكون ذلك "أمرا حكيما"؟ وهل الأغبياء فقط هم من يؤمنون بفكرة الرفيق المثالي؟
    مضت سبع سنوات على وجود اوديسيوس في جزيرة كاليبسو. وفي احد الأيّام، توسّلت الإلهة أثينا، حامية اوديسيوس، إلى زيوس وغيره من الآلهة أن يبادروا إلى إنقاذ اوديسيوس من براثن كاليبسو. في عالم الإغريق القديم، مثل هذه القرارات كان يلزمها الإجماع. وافق زيوس والآلهة على أن شيئا ما ينبغي أن يُفعل. واُرسل هيرمِس فعلا لإعلام كاليبسو أن عليها أن تطلق سراح اوديسيوس على الفور. ترى، هل توسّل اوديسيوس فعلا إلى الآلهة كي تسمح له بالهرب من كاليبسو، أم أن تلك كانت رواية أثينا عن القصّة؟ الأجزاء اللاحقة من الاوديسّا يرويها اوديسيوس نفسه. لذا فإنها تخلو من إجابة واضحة على هذا السؤال.
    عندما يذهب هيرمس إلى كاليبسو ليطلب منها إطلاق اوديسيوس تحتجّ على طلبه قائلة: انتم الآلهة لا يمكن تحمّلكم. شعوركم بالغيرة يجعلكم تقفون مذعورين من إلهة تنام علنا مع الرجال". قوّة كاليبسو واستقلاليّتها كانا يهزّان أركان العالم القديم ويحرجان الأوصياء على شئونه. إلهة فقط يمكنها أن تقول مثل هذه الأشياء. غير أن قرار كبار الآلهة يُعتبر نهائيا وملزما.
    كاليبسو تجلس في حديقتها على طرف الكهف الذي تعتبره بيتها. الهواء العليل في المكان يضوع بروائح أزهار الربيع الشذيّة. الطيور تغنّي، وهناك نار تشتعل. كاليبسو تتحرّك وتلوّح بيديها وتغنّي على أمل أن يقرّر اوديسيوس أن يبقى معها باختياره. إنها تنسج خيوط أحلامها بالحياة العائلية والرضا والاستقرار ورفض الصراعات والتوقّف عن ملاحقة الرجال. بل إنها تعده بالشباب الأبدي والخلود، مثلها تماما، إن هو قرّر البقاء. غير انه يجد كلّ هذه الوعود خانقة ولا تناسب الرجال. يتجوّل بعيدا بين الأشجار إلى أن يصل إلى المقعد الحجري في أعلى الجرف مستطلعا الأفق العاري للبحر.
    عندما أزفت النهاية، كانا على وشك أن يتعاركا. منذ زمن طويل لم يعد بمقدور الحوريات أن يمتّعن الرجال. كان اوديسيوس قد بدأ يتجنّب كاليبسو مفضّلا الجلوس أمام البحر والتحديق في الأمواج. هذا ما كان يفعله دائما عندما يستبدّ به الحنين إلى ارض الوطن. وهذا ما يفعله العشّاق غالبا عندما يتفرّقون: يحدّقون في البحر، ولا يعود الجنس الكامل والطعام الشهيّ يكفيان في النهاية.
    لذلك، ومثل العشيقة التي تراقب حبيبها وهو يعود إلى بلاده وزوجته، كانت كاليبسو تتابعه وهو ذاهب مع حركة المدّ في الصباح. إنها حتّى لا تساعده في بناء الطوف الذي سيبحر به. هو لا يقول وداعا، وهي لا تسعى لحمله على قولها. سبع سنوات معا تُعتبر فترة طويلة. وبعض الأشياء من الأفضل أن لا تقال.
    أدرك اوديسيوس انه يجب أن يرحل. هذه مجرّد مرحلة في عملية التطوّر الطبيعي من الميلاد إلى الموت، حيث نصبح جميعا لوحدنا ويتعيّن عندها أن يختار كلّ مصيره بنفسه. يختار هو أن يغادر أخيرا. هذا هو السبب في أن الآلهة تساعده وفي أن كاليبسو أذعنت لمشيئته في النهاية. ورغم أنها إلهة، إلا أنها فعلت ذلك وهي تحسّ بغضب عميق. لكنها تفهّمت رغبته في أن يكبر وأن يجرّب الصراع وألم الفراق مرّة أخرى وأن يخرج من حياة الركود إلى أمواج المحيط المظلم التي ستأخذه مجدّدا إلى وطنه.
    دورة الحياة لا يجب أن تتعطّل لفترة أطول مما ينبغي. والقصيدة نفسها يجب أن تأخذ مداها بلا توقّف. لو أن اوديسيوس مكث مع كاليبسو هناك، لما كان ثمّة شعر. ربّما لهذا السبب لم تكسب كاليبسو أبدا قلوب من ترجموا الاوديسّا من الرجال. كانت لديهم أفكار محدّدة حول عودة اوديسيوس إلى بينيلوب. بعضهم تحدّثوا عن القصّة من منظور التحليل النفسي. هل كانت جزيرة كاليبسو تذكّره بالرحم الذي كان يهرب منه طوال حياته؟ اوديسيوس كان يشتكي من آلام الولادة الجديدة التي تأجّلت عندما كان يعيش معها. والكثيرون زعموا أن اسم كاليبسو محمّل بالاستعارات الجنسية الرائجة في التحليل النفسي.
    هل كانت أسطورة العلاقة الكاملة والمرأة المثالية تعني انه سيفقد كلّ شيء آخر جعل منه رجلا؟
    هناك حزن أساسي يرتبط بشخصية كاليبسو. فهي لم تُدع مرّة ثانية كي تعود إلى الأساطير. يمكن للمرء أن يقول إنها ستظهر ثانية في المستقبل البعيد على هيئة امرأة فاتنة وغامضة ووحيدة في "سيّدة البحيرة" وأساطير الملك آرثر. كما ستظهر من جديد في شخصية "سيّدة جزيرة شالوت" الأكثر هشاشة.
    الإلهات اللاتي يتحدّين الزمان والمكان نادرات في الثقافة الغربية. وهن لا يتزوّجن ولا ينجبن أطفالا. لكنهنّ على الأرجح يتُقنَ لذلك. سيّدة البحيرة، مثلا، تخطف لانسيلوت وهو طفل. وهنّ يظهرن في القصص من حين لآخر ثم يختفين فجأة. وهذا أمر غير منصف تماما.
    اوديسيوس كان لديه طفل وقد أوفى بدينه للمجتمع، فلماذا لم يستطع أن يبقى مع كاليبسو وينجب طفلا آخر أو اثنين؟ النقّاد يريدوننا أن نصدّق أن جاذبيّتها الخطيرة تكمن في خلودها وفي نكرانها لذاتها، وهو أمر يلقى صدى طيّبا في القرن الحادي والعشرين، مع وجود رجال غربيين كثر لم يعودوا يعرفون ما يريدون. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يجادل في أن الزواج الثاني يمكن أن يكون شيئا حسنا وفي أن اوديسويس ربّما سيكون اسعد حالا معها لو أن الراوي منحه حرّية الاختيار في المسألة.

    سيرسي..
    قبل أن يذهب اوديسيوس إلى جزيرة كاليبسو مكث سنة مع إلهة جميلة أخرى هي سيرسي التي كانت تختلف كثيرا عن كاليبسو.
    عندما وصلت سفينته إلى جزيرتها، لم يكن يعرف أين هو. لكن طاقم سفينته كانوا معه عندما وصل. أرسل اوديسيوس عددا من رجاله لاستطلاع الجزيرة. فوجدوا سيرسي، ساحرة البحر، التي قامت بتسلية أولئك البحّارة الأجلاف واستضافتهم. وقد أطعمتهم وغنّت لهم وغازلتهم، بل وشجّعتهم على نسيان أوطانهم وزوجاتهم. وهذه هي إحدى مفارقات السفر. إنه يذكّرك دائما بالوطن الذي تركته وراءك. لكن يمكن تخفيف ذلك الشعور بالكحول والجنس والعقاقير المخدّرة. وكانت سيرسي تعرف "عقاقيرها" جيّدا. عندما كانت تلوّح بعصاها السحرية الطويلة، كانت تحوّل الرجال جميعهم إلى خنازير تغطّ في نوم عميق.
    في النهاية، أتى اوديسيوس باحثا عن بحّارته. وبدا أنه كان يعرف كيف يسيطر على المرأة جنسيا. وقد تحقّق له هذا بفضل هيرمس الذي أعطاه ترياقا يقاوم عقاقير المرأة وبعض التعليمات عن أساليب الإغواء التي ستجذبها إليه. كانت سيرسي تحبّ الرجل الطبيعي، الرجل الترابي الذي يناسب إلهة للخصوبة. كانت تعيش في بيت مفتوح مبنيّ من الحجارة جيّدة الصقل وله أبواب لامعة وتحيط به غابة. كانت سيرسي تستطيع سحر الحيوانات البرّية كالأسود والذئاب التي تعيش على جزيرتها. لذا استطاعت أيضا أن تسحر اوديسيوس. وانتهى الأمر بهذا الصيّاد الوسيم والفظّ في أحضانها.
    وفي سريرها الرائع عرف أسماء النساء الخطيرات اللاتي سيقابلهن في المستقبل. كما علّمته أن يفهم أنهنّ جميعا إسقاطات لخوف الرجل من الأنثى واحتقار الجنس مع النساء.
    استمرّ اوديسيوس معها عاما كاملا. وقد وافق في النهاية على المغادرة مضطرّا بعد ما رآه من ضيق بحّارته ونفاد صبرهم.
    كان هناك الكثير من التوتّر الجنسي في جزيرة سيرسي. وقد راق هذا كثيرا لكتّاب الأدب الحديث مثل جيمس جويس وإيزرا باوند. في رواية الأوّل بعنوان اوليسيس "أو عوليس"، تظهر سيرسي في سلسلة من المشاهد التي تنقلب فيها الأدوار وتمتلئ بالممارسات السادية والماسوشية وبالهلوسة والكوابيس. وفي ديوان باوند "الأغاني"، تلعب سيرسي دورا وسيطا بين الحورية والإلهة التي لا يمكن بلوغها مثل أثينا وأفرودايت. أي أن سيرسي أصبحت رمزا للعالم الحسّّي ومثالا للغواية.
    ولم يكن من قبيل المصادفة أن باوند عندما كتب تلك القصائد كان يعيش مع زوجته، لكنه كان يتردّد على عشيقته. لذا ومرّة أخرى، يأخذ اوديسيوس مكان الصدارة. فهو يستمتع بوقته مع سيرسي، لكن من الواضح أن عليه أن يسمو فوق الأمور الحسّية ويعود إلى زوجته.
    الكاتبة كاثرين بورتر تمنح سيرسي قوّة جنسية وتلوم اوديسيوس على بروده ولامبالاته في السرير عندما كانت هي في ذروة عطائها ومحبّتها.
    كما تأخذ بورتر على البحّارة ضجرهم وتبرّمهم في الجزيرة، في حين أنهم مدينون لـ سيرسي برعايتها لهم وإكرامها إيّاهم. وإذا كانت سيرسي تتمتّع بالتفوّق على الرجال، فإنها لم تُظهِر ذلك بطريقة متغطرسة أو أنانية، بل كان السبب ببساطة أنها كانت أكثر ذكاءً منهم.


    نوسيكا..
    كانت نوسيكا مع وصيفاتها يلهين بالكرة على الشاطئ. بعضهنّ كنّ يغسلن الثياب بالجوار عندما ظهره اوديسيوس من بين الأشجار بلا ملابس. كلّ ما كان يرتديه كان غصن زيتون يستر به عريه. من الصعب الاستماع إلى رجل عار ثم أخذه على محمل الجدّ. لكن نوسيكا كانت امرأة حديثة. "هل يخيفكنّ منظر رجل"؟ قالت لوصيفاتها. لكنهنّ هربن في اللحظة التي انزلق فيها غصن الزيتون قليلا عن مكانه. كلّ أصدقائها وعائلتها يشهدون بجمالها وبطبيعتها الودودة. ومع ذلك لم تظفر برجل. هل يكون اوديسيوس هو الزوج المنتظر؟
    رتّبت نوسيكا لـ اوديسيوس أمر ذهابه إلى المدينة ليقابل والديها، الملك والملكة، حيث يستطيع سرد قصّته للأجيال القادمة. قالت إنها ستمشي في إثره إلى هناك. إذ لا حاجة لتغذية الشائعات والقيل والقال بذهابهما معا.
    عندما جرفت الأمواج سفينته وحطّ أخيرا على شاطئ جزيرتها، كانت تلك فرصتها. ترى، هل أضاعتها؟ هل كان يجب أن تدعوه ليظلّ معها؟ هذا هو الظهور الأوّل والأخير لـ نوسيكا في الاوديسّا. ومع ذلك، ففي عام 1897 قرّر الشاعر سامويل بتلر أن هذه المرأة لا بدّ وأن تكون هي من كتب قصائد هوميروس بأكملها. وقد بنى قضيّته على حقيقة أن معظم الاوديسّا رواها اوديسيوس في قصر والدها. ومن الواضح أنها كانت هناك لسماعها.
    بعض الأدباء من الرجال اعترفوا بحبّهم لها بطريقة باذخة. وهناك مسلسل ياباني مشهور أطلق اسم نوسيكا على إحدى بطلاته. ترى، أيّ نوع من النساء كانت تلك المرأة؟ هل كانت تفضّل أن تُمنح فضل إغواء اوديسيوس أم كتابة الاوديسّا؟ وهل تكون الاوديسّا فعلا تلخيصا لوجهة نظر امرأة؟
    إننا لا نعرف الكثير عن هوميروس. ولا نعرف ما إذا كان شخصا واحدا أو عدّة أشخاص. لكن البعض يزعم انه كان أعمى. وقد يكون هو الراوي الأعمى الذي يظهر في الاوديسّا. لكن الخيط المنسوج هنا ليس هو ذات الخيط. ونوسيكا لا تنسج أبدا قصّة عن نفسها.
    إنها ما تزال شابّة وغير متزوّجة. كما أنها قد لا تناسب رجلا كبيرا ومتزوّجا مثل اوديسيوس.
    بإمكان المرء أن يتخيّل أنها لو كانت هي من كتب الاوديسّا، لكانت خصّصت لنفسها جزءا اكبر وأفضل في الملحمة. وربّما كانت قد صوّرت قصّتها كلقاء ايروتيكي بين رجل كان يحنّ إلى ماضيه البعيد وامرأة شابّة تبحث عن رجل حقيقي. وهناك احتمال أنها لو كانت هي من كتب الملحمة، لكانت استبدلت صور الجنس المبتذل فيها بمشاهد رومانسية بين عاشقين يحترم كلّ منهما الآخر بعمق.
    في الأدب الحديث، هناك معجبون كثر بـ نوسيكا. جويس يتحدّث عنها بأوصاف أكثر واقعية. يمكن القول إنها التجسيد النهائي للذكاء والغواية. ولا بدّ وأنها كانت تروق لرجل في منتصف العمر يسعى لتجديد شبابه مع امرأة اصغر منه سنّا. أليس هذا ما يريده كلّ الرجال في مثل هذه السنّ على كل حال؟ لكن لماذا لم يحدث ذلك؟ لأن اوديسيوس كان يريد أكثر ممّا كان بوسع امرأة شابّة وجميلة أن تحقّقه.

    بينيلوب..
    كان لورانس العرب احد مترجمي الاوديسّا العديدين. ترى، ما الذي دفع ذلك الرجل الكاره للنساء لترجمة هذا الكتاب؟
    هل تكون فكرة المثلية الجنسية هي ما اجتذب لورانس إلى اوديسيوس "ذلك الأناني البارد الدم" كما كان يصفه؟
    هل لأنه، هو أيضا، كان يحبّ فكرة الترحال وكان قلقا على مصير حرّية الرجل في عالم من الملهيات الأنثوية؟
    لم يحبّ لورانس النهاية العائلية السعيدة التي آلت إليها الاوديسّا. لكنه لم يفكّر بإعادة صياغة القصّة كي تبلغ نهاية مختلفة.
    هل كان مقدّرا لـ اوديسيوس أن يعود إلى زوجته بينيلوب التي عانت من غيابه طويلا؟
    هل كانت هؤلاء النساء، كاليبسو وسيرسي ونوسيكا وحتى بينيلوب، مجرّد نساء ذوات جمال فتّاك اختُرِعن لإغراء البطل وإبعاده عن العالم لبعض الوقت ومن ثم إعادته إلى الحياة المنزلية كي يصبح مجرّد زوج صالح؟
    هل كنّ شبقات ومغريات ومتحكّمات ويسعين إلى الإيقاع بالبطل؟
    في أرض الموتى، يطلّ شبح اغاممنون الذي قتلته زوجته عند عودته من طروادة ويقول لاوديسيوس: لا تتساهل كثيرا حتى مع زوجتك. ولا تسِرّ لها بكلّ ما تعرف". هذه النصيحة متوقّعة من اغاممنون، فهو لم يفهم النساء أبدا.
    الاوديسّا تتناول ما هو اكبر من العودة إلى البيت والعائلة. إنها عن اختيار الإنسان لشريكه المثالي وعن توافق الجنس والزواج وعن الطريقة التي يمارس بها الرجل حياته قبل أن يعود في النهاية إلى المكان الذي بدأ منه. الاوديسّا هي عن الانبعاث وعن البحث عن هويّة جديدة. لكنّها أيضا عن الوفاء.
    ماذا كان اوديسيوس يريد؟ وما الذي يريده الرجال عموما؟ من الواضح أن اوديسيوس اختار بينيلوب كزوجة. عندما سقطت طروادة، كانت بينيلوب تتوقّع عودته. لم يكن قد مضى على زواجهما وقت طويل عندما غادر. كان ابنهما تيليماكوس ما يزال وقتها طفلا رضيعا. ومع مرور السنوات، توقّفت أخبار اوديسيوس. بكت بينيلوب كثيرا. وعندما عاد اوديسيوس إلى إيثيكا، كان قد مضى على غيابه تسعة عشر عاما ظلّت خلالها بينيلوب دون شريك جنسي كلّ ذلك الوقت.
    كانت تفقد ملامحها وتتقدّم بها السنّ شيئا فشيئا. لقد كانت تفتقد الزوج الذي يحميها ويدافع عنها. كان بإمكانها أن تتّهمه بهجرها. هل بوسع أيّ امرأة أن تنتظر طويلا مثلما فعلت؟ في الحقيقة كانت هناك مزايا واضحة لكونها وحيدة أو أرملة. كانت بينيلوب ما تزال بخير نسبيا، وهو ما جعلها هدفا لأصحاب عروض الزواج. وعلى الأقلّ كان بمقدورها أن تختار. كان العديد من الشبّان الوسيمين يتقرّبون منها محاولين خطب ودّها. قيل إنها كانت تستمتع باهتمامهم بها. وكان هذا صحيحا في البداية.
    غير أنها لم تختر أحدا منهم كزوج، لأن ذلك كان سيضع نهاية مفاجئة لحالتها. وهناك احتمال أن تجد اوديسيوس عند عتبة بابها في اليوم التالي. كما كانت تعرف أن الخُطّاب الآخرين وأهل المدينة سينتقدونها في اللحظة التي تختار فيها زوجا.
    كانت بينيلوب تنسج غزلها في النهار وتنقضه في الليل. النسج كان عمل النساء منذ العصور القديمة. وهو اليوم رمز أنثوي لإبداع المرأة وللقصص التي لم تكن تُسمع أبدا عندما كان الاهتمام كلّه منصبّا على الرجل أو الزوج.
    الاضطهاد معادل للصمت كما يقال. وبحْث بينيلوب لم يكن مختلفا عن بحْث اوديسيوس. لكن لم يكن عندها سفينة ولا إله يدلّها ويقودها خارج المجهول. بحثها يرمز لرفض العنف الذي يسكن الرجال. ستتوقّف النساء عن النسج عندما يتوقّف العنف. وقد اختارت بينيلوب أن تقاوم ونسجت قصّة واحدة هي قصّة رفضها للخاطبين. إنها القصّة الناقصة عن امرأة في بحر من قصص الرجال. وبينيلوب هي، بمعنى ما، مثال للأمّ العزباء هذه الأيّام.
    لذا داومت على المماطلة حتى بعد أن عاد اوديسيوس، لأنها كانت تريد أن تستكشف حقيقة شعورها نحوه بعد عودته. هل كانت تريده أن يعود فعلا؟ عندما عاد، كان متنكّرا في ثياب شحّاذ. لكنّها تعرّفت عليه في الحال. ومع ذلك أرادت أن تتأكّد انه هو نفس الرجل وأنها هي أيضا، ربّما، نفس المرأة. لذا تفحّصت ذكرياته وأصرّت عليه أن يحلق وأن يتحمّم. ثم قامت بقياس أدائه في السرير. ولم توافق على الاعتراف به إلا بعد أن رأت تلك الندبة في منطقته الخاصّة.
    عالجت بينيلوب الوضع بحكمة. وشخصيات الاوديسّا تعتبرها امرأة حكيمة.
    في النهاية، كانت لدى الآلهة خططها. والآن حان وقت التنفيذ. وقد اقتضت الخطط أن يُقتل جميع الخاطبين. وكانت النتيجة مذبحة دموية. لم تشعر بينيلوب بأيّ ندم على هذا الحكم، لأن الخاطبين كانوا يستحقّون ذلك. لقد استغلّوها وأكلوا سمعتها سواءً في بيتها أو خارجه. لذا تضمّن الحكم ذبح جميع أقاربهم أيضا. لكنّ الآلهة أوضحت أن هذه هي نهاية الدائرة. بعد ذلك عاش اوديسيوس وبينيلوب معا إلى أن أدركتهما الشيخوخة.

    الزواج في الاوديسّا يمكن أن يُنظر إليه باعتباره مؤسّسة متدهورة ورمزا للموت. وإلا كيف يمكنك أن تفسّر خيانة هيلين لزوجها أو قتل كليتامنسترا لزوجها اغاممنون أو سفر اوديسيوس الطويل؟
    الاوديسّا لا تحكي عن انتصار الزواج بعد انفصال دام تسعة عشر عاما، بل عن حقيقة انه لزم اوديسيوس تسعة عشر عاما كي يعود. نساء الاوديسّا لا ينصبن شراكا للرجال. الرجال هم الذين يوقعون أنفسهم في شراك أوهامهم وحِيَلهم.
    الكتّاب الإغريق الذين أتوا بعد هوميروس كانوا يعرفون هذا. وقد سخروا كثيرا من دوافع اوديسيوس. أما دانتي فقد وضع اوديسيوس في الجحيم باعتباره إنسانا منافقا وخائنا لنفسه ولأولئك الذين أحبّهم.
    ونظرا لتدخّل الآلهة، استطاعت بينيلوب أن تمسك المستقبل بيديها لبضع ساعات، وكان بإمكانها أن تدمّره كما فعلت كليتامنسترا. وقد نجا الزواج، فقط لأن بينيلوب اختارت أن تعترف بزوجها.
    تخيّل لو أنها رفضته. هذه هي النهاية التي اختارها جويس لروايته، حيث تستلقي "موللي بلوم" في سريرها متذكّرة حياتها وعشّاقها بينما يشخر "ليوبولد بلوم" في الظلام إلى جوارها. لم تكن وفيّة ولا مخلصة له، لكنها كانت تريد أن تتمسّك به.
    هل سيذهب اوديسيوس ثانية في سفر آخر بينما تجلس بينيلوب هناك بانتظار عودته مرّة أخرى؟ هذه هي النقطة التي تبدأ منها رواية نيكوس كازانتزاكيس "الاوديسّا: تتمّة حديثة". في هذه الرواية يبدأ كازانتزاكيس من حيث انتهى هوميروس، حيث يغادر اوديسيوس البيت مرّة أخرى ليبدأ رحيلا آخر.
    يمكن النظر أيضا إلى الاوديسّا باعتبارها تأكيدا لقيمة الزواج وفضيلة الوفاء الذي ينشأ بين الأزواج أيّا تكن الظروف. كما يمكن أن تكون تصويرا لإخلاص الأنثى من وجهة نظر هوميروس. في الملحمة، تبدو بينيلوب امرأة قويّة برغم حزنها. كما أنها تتمتّع بالذكاء العملي والقدرة على التخطيط البعيد. ولا يؤكّد هذا أفضل من قولها لـ اوديسيوس: فكّر في المصاعب التي سبّبتها لنا الآلهة. لقد حرمتنا من الحياة معا في ذروة شبابنا وسنوات عمرنا المزهرة. ومنعتنا من العبور معا بين مراحل العمر". هذه هي بعض أقوى العبارات التي كُتبت في الأدب الغربي، وهي تتحدّث إلى أيّ إنسان في منتصف العمر وما بعده. ورسالتها واضحة لا لبس فيها: اللوم يقع على الآلهة، لا على أنفسنا". "مترجم بتصرّف"


    Credits
    cambridge.org