:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، مايو 17، 2024

الإنسان والأسد


يُحكى أن رجلا كان يسير في غابة. وتصادف أن التقى بأسد كان ذاهبا في نفس الاتّجاه، وقرّر الاثنان أن يتصاحبا. وعلى طول الطريق تحدّثا في أشياء كثيرة رأياها. لكن بعد مرور بعض الوقت، اتخذ الحديث منحى تنافسيّا.
كان كلّ من الرجل والأسد يعتقد أن نوعه متفوّق في العقل والقوّة على نوع الآخر. قال الرجل: نحن نستخدم الأدوات والأسلحة لجعل حياتنا أفضل، لذلك من الواضح أن البشر هم أذكى وأقوى المخلوقات". فأجاب الأسد: هذا هراء. أستطيع أن أشلّ حركة عشرة رجال في ثانية، فمخالبي وأسناني تثير الخوف في كلّ مكان."
واستمرّ جدال الاثنين على هذا النحو لبعض الوقت الى أن صادفا تمثالا ضخما. كان التمثال لرجل يشبه هرقل وهو يصارع أسدا. حدّقا في التمثال بصمت لفترة طويلة. ثم قال الرجل: لقد حُسم الأمر على ما يبدو. ألا ترى أن ملك الغاب يسيطر عليه الإنسان بالكامل؟ انظر جيّدا! إلى هذا الحدّ نحن أقوياء، ملك الوحوش يصبح طريّا هشّاً مثل الشمع في أيدينا!"
فردّ الأسد: هذا التمثال صنعه إنسان. ولو كان من صُنع أسد لحكى قصّة مختلفة."
تُساق هذه القصّة للتدليل على أن الحكم في أيّ أمر يعتمد كلّه على وجهة نظر من يروي القصّة، وأنه من المستحيل التوصّل إلى أيّ يقين من خلال قراءة الروايات المكتوبة من وجهة نظر أحادية.
البشر يصطادون الأسود ويصارعونها منذ القدم. وهم يفعلون هذا للتباهي، أي لإثارة إعجاب الآخرين بأهميّتهم وقوّتهم ورجولتهم. وأحيانا يصطادونها كرياضة وكجزء من التقاليد الثقافية، أو كوسيلة لحماية المستوطنات البشرية والماشية من خطرها.
وكان صيد الأسود رياضة الملوك والأباطرة من قديم الزمان. وأقدم سجلات عن هذه الرياضة تعود الى مملكة آشور، إذ كان الآشوريون يصطادون الأسود من داخل عربة أو سيرا على الأقدام باستخدام الأقواس أو الرماح. وكان الختم الملكيّ الآشوري يُظهر ملكا يذبح أسدا هائجا. وقد عُثر على أقدم تصوير لحاكم يصطاد الأسود محفورا على نصب تذكاري من البازلت في منطقة بلاد ما بين النهرين يعود تاريخه إلى ما قبل 3000 قبل الميلاد.
وكانت صور صيد الأسود الملكية تُرسم على الأشرطة البرونزية التي تزيّن البوّابات الأثرية وعلى المسلات الحجرية التي تسجّل إنجازات الملك وعلى ألواح الجدران المنحوتة التي تزيّن الغرف الداخلية للقصور الآشورية.
وقد وُجدت بعض أروع صور الصيد في قصر الملك آشور ناصربال الثاني (883-859 قبل الميلاد) في مدينة النمرود شمال العراق. وتُصوّر الملك وهو يصطاد الأسود والثيران البرّية من عربته، متبوعا بمشهد طقوسي حيث يسكب الملك قربانا من النبيذ على الحيوانات الميّتة ويوجّه خطابا إلى إله المدينة ليشكره، حتى لا تعود روح الأسد الشرّيرة وتطارده.
وبعد أكثر من 200 عام، أعاد آشور بانيبال إحياء عمليات صيد الأسود الملكية، وقام بتزيين قصره الشمالي في مدينة نينوى بنقوش منحوتة بشكل رائع تُظهر براعته كصيّاد شجاع. وقدّم بانيبال نفسه للعالم كحاكم بطل، مدعيّا أن الآلهة منحته قوّة ورجولة متميّزة. وكجزء من تدريبه العسكري، تعلّم قيادة العربات وركوب الخيول والرماية. وعلى عكس الحكّام الآشوريين السابقين، نادرا ما قاد آشور بانيبال قوّاته في حملات عسكرية.
وبدلاً من ذلك، أعلن عن براعته كمحارب، كما تعكسه سلسلة من ألواح المرمر المنحوتة في قصره والتي تُظهره وهو يصطاد الأسود. وهنا يصوّر كبطل بارع في الإثارة، حيث يذبح الأسود الشرسة على ظهور الخيل أو مشيا على الأقدام أو على ظهر عربة باستخدام مجموعة متنوّعة من الأسلحة.


النصوص الآشورية تسجّل كيف كانت الأسود تسدّ الطرقات وتضايق الرعاة من خلال مهاجمة الماشية في السهول. وكان من واجب الملك أو الحاكم تخليص أرضه من الحيوانات البرّية الخطرة. وقد انطلق آشور بانيبال إلى السهول في عربته الملكية لمواجهة سلالة جبلية شرسة من الأسود، لكنها حاصرته وهاجمته.
ومن خلال أداء دوره كصيّاد بطوليّ، يتفاخر آشور بانيبال كيف أنه بدّد كبرياء الأسود وقتل كلّا منها بسهم واحد لإعادة السلام إلى السهول. وبصفته الحاكم الذي اختارته العناية الإلهية لحماية آشور، كان من واجب الملك الحفاظ على النظام في العالم من خلال هزيمة "قوى الفوضى"، التي كانت تشمل الأعداء الأجانب والحيوانات البرّية الخطرة كالأسود وسواها.
ولطالما اعتقد الآشوريون أن عالمهم يجسّد قلب الحضارة وأن أعداءهم المتربّصين يكمنون في أطراف المملكة وعلى حدودها. وكانوا يظنّون أنه أينما حكَمَ الملك ساد السلام والرخاء، بينما تعاني الأراضي الخارجية من الفوضى.
ومن خلال صيد الأسود، وهي مخلوقات تعيش في المناطق النائية، أظهر آشور بانيبال كيف يمكنه بسط سيطرته على البرّية. وكانت عملية الصيد تلك، المليئة بالرمزية الطقوسية والدراما البطولية، وسيلة فعّالة للترويج لقدرة الملك باعتباره راعي الشعب وحامي الرعيّة.
الأعمال الفنّية التي تناولت صيد الأسود كثيرة، لكن أشهرها سلسلة من اللوحات الزيتية رسمها الفنّان الفرنسي اوجين ديلاكروا في منتصف القرن التاسع عشر.
وكثيرا ما كان هذا الفنّان يصوّر مشاهد الصيد وقتال الحيوانات فيما بينها في لوحاته. ومثل معظم الفنّانين الآخرين من العصر الرومانسي، كان ديلاكروا مفتونا بثقافات بلدان الشرق. وفي عام 1832، قام برحلة طويلة إلى المغرب كانت مصدر إلهام دائم له.
ورسم أثناء رحلته تلك لوحات يتقاتل فيها الأسود والنمور والصيّادون على ظهور الخيل حتى الموت. لكن من المرجّح أن ديلاكروا لم يسبق له أن رأى مثل هذه المشاهد عيانا، ولم يرَ حتى الحيوانات البرّية في بيئتها الطبيعية. وبدلاً من ذلك، استخدم دراسات تفصيلية للحيوانات التي رآها في حدائق الحيوان.
والرسّام الهولندي بيتر بول روبنز كلّف من قبل العديد من معارفه الأثرياء بتصوير بعض الكائنات البرّية والغريبة التي اصطادوها وامتلكوها أثناء غزوهم للأراضي والمستعمرات في أفريقيا والشرق.
المعروف أن صيد الحيوانات كان ما يزال غير قانوني بالنسبة لمعظم الناس في القرن السابع عشر، وكان مقتصرا على الحكّام والأثرياء. وكان لدى الأرستقراطيين، مثل أرشيدوق بروكسل، حديقة مليئة بالحيوانات، وكثيرا ما كان روبنز يذهب إليها لمراقبة الوحوش البرّية ورسمها.
وكانت أوروبّا آنذاك لا تزال تكتشف الأراضي والجزر البعيدة، لذا لم يكن الكثير من الناس قد شاهدوا مثل هذه المخلوقات عيانا من قبل، وكان روبنز يثير خيال الناظر بلوحاته الجامحة والمثيرة.
كانت صوره شائعة بين الرعاة الأثرياء وعامّة الناس، حيث صوّر هذه الحيوانات بكلّ مجدها الطبيعي في مقابل عقل الإنسان وبراعته. وكانت مثل هذه الصور أيضا علامة على المكانة، حيث يمكن للرعاة الموسرين إظهار أن لديهم المال والقوّة لاصطياد هذه الحيوانات وامتلاكها.
اليوم أصبح صيد الأسود موضوعا للجدل بعد أن أُدرج الأسد ضمن الأنواع المعرّضة للخطر من قبل الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة. وبعض الأنواع المنحدرة منه مصنّفة أيضا على أنها مهدّدة بالانقراض. ويعيش أقلّ من 20 ألفا من الأسود في براري العالم، أي أن عددها انخفض بنسبة 60% خلال العقدين الماضيين. ويرجع هذا الانخفاض بشكل أساسي إلى الصيد الجائر لها ولفرائسها وتدمير موائلها الطبيعية.


Credits
lionrecoveryfund.org

الاثنين، مايو 13، 2024

زوبعة في فنجان


ولد كاكوزو أوكاكورا (1862-1913) في اليابان. ولكنه تلقّى تعليمه، بناءً على رغبة والده، وفقا للتقاليد الإنغليزية. وقد أخذته رحلته المذهلة من يوكوهاما في اليابان إلى نيويورك وباريس وبومباي وبوسطن، حيث تشابكت حياته مع شخصيات بارزة مثل رابندراناث طاغور وجون سينغر سارجنت وهنري جيمس وجون لا فارج وهنري ماتيس وغيرهم.
وقد ألّف أوكاكورا في عام 1906 "كتاب الشاي" الذي أصبح واحدا من أكثر الكتب تأثيرا في القرن العشرين وتُرجم إلى أكثر من 40 لغة. وظهر الكتاب أوّل ما ظهر في أمريكا في مطلع القرن العشرين وقُرئ في الصالون الشهير لإيزابيلا ستيوارت غاردنر، الشخصية الاجتماعية الأكثر شهرةً في بوسطن في ذلك الوقت.
وبعد مرور ما يقرب من قرن من الزمان على صدوره، لا يزال الكتاب محبوبا في جميع أنحاء العالم لتناوله التاريخ الغنيّ للشاي الياباني ومكانته في ذلك المجتمع، بالإضافة الى حديثه عن الثقافات الآسيوية وعن الفنّ والروحانية والشعر.
وفيما بعد أصبح "كتاب الشاي" نصّا مركزيّا في الحركة الاستشراقية في أوائل القرن العشرين وأُعجب به شعراء مثل جون إليوت وإزرا باوند وغيرهما. ويمكن العثور على الكتاب اليوم في مكتبات الفلاسفة والفنّانين وأخصائيي الشاي حول العالم.
في كتابه، يناقش أوكاكورا موضوعات مثل الزّن والطاوية، بالإضافة الى الجوانب الاجتماعية والثقافية للشاي في الحياة اليابانية. ويجادل بأن البساطة التي ارتبطت بحفلات الشاي أثّرت على الثقافة والفنّ والهندسة المعمارية في اليابان.
أوكاكورا كان فيلسوفا وخبيرا فنّيا وأمين متحف. وكان وقت ظهور كتابه مديرا للفنون الآسيوية في متحف الفنون الجميلة في بوسطن. وأثّرت أفكار كتابه على أعمال فنّانين بارزين مثل فرانك لويد رايت وجورجيا أوكيف وغيرهما.
لم يكن أوكاكورا معروفا كثيرا وقتها، لكنه سيبرز كواحد من المفكّرين المرموقين في أوائل القرن الماضي. وقد وُصف بأنه كان يتمتّع بالذكاء والبصيرة الثاقبة. وكان مسؤولا إلى حدّ كبير عن مدّ الجسور بين الثقافات الغربية والشرقية بعد أن تعلّم التحدّث باللغة الإنجليزية في سنّ مبكّرة.
استكشاف أوكاكورا لثقافة الشاي كان مشبعا بإيمانه بأن الشرق والغرب يمكن أن يتعايشا في سلام. وبعد أن أصبح عنصرا أساسيّا في الحياة الغربية، بدا له الشاي "أو الكهرمان السائل كما يصفه" المادّة الوحيدة التي يمكن أن تتدفّق بسلاسة عبر الحدود الثقافية. يقول: من الغريب أن الإنسانية تلتقي اليوم على فنجان شاي". وهو يتأمّل في جميع عناصر حفل الشاي، بدءا من قصّة مؤسّس طقوس الشاي في القرن السادس عشر، أي راهب الزِّن ريكيو، وحتى الهندسة المعمارية للمقاهي والماء المثالي لصنع الشاي وما الى ذلك.
والكتاب لا يخلو من الأحاديث الفلسفية والتشبيهات اللغوية الجميلة كمثل قول المؤلّف: لا يجب أن يُعلّم الناس كيف يكونون فضلاء، بل أن يتصرّفوا بشكل صحيح". ومثل قوله: في العنبر السائل داخل الخزف العاجي، يمكن للمبتدئين أن يلمسوا تحفّظ كونفوشيوس ونكهة لاو تسو والرائحة الأثيرية لساكياموني." وأيضا قوله: نحن دائما نتعامل بوحشية مع أولئك الذين يحبّوننا ويخدموننا في صمت، ولكن قد يأتي الوقت الذي يتخلّى فيه أفضل أصدقائنا عنّا بسبب قسوتنا".
وبحسب أوكاكورا فإن طقوس الشاي القديمة هي مزيج من البوذية والزن والطاوية. وقد وُظّفت تلك الطقوس لتعزيز الانضباط العقلي والقرب من الطبيعة التي كان من المأمول أن تؤدّي إلى التنوير.
وفي مكان آخر من الكتاب، يصف أوكاكورا العالم بأنه مكان قذر وصعب، وأن لحظة التأمّل التي يوفّرها حفل الشاي الياباني تساعد الشارب على توضيح مكانه في العالم الفوضوي".
ثم يعبّر الكاتب عن قلقه من أن البشر صارمون للغاية ودائمون في العالم. وبدلاً من هذا التموضع الثابت، يقترح عليهم أن ينفتحوا على ما يسمّيه بـ "الحماقة الجميلة للأشياء". كما يدعو إلى فلسفة أكثر مرونة وأكثر تكيّفا، ويشير إلى أن فكرة الشاي تساعد الناس على تقدير لحظات الحياة القصيرة التي تتسرّب بسرعة مثل البخار الساخن المتصاعد من كوب شاي.
يقول أوكاكورا إن الهدف الذي سعى لتحقيقه من وراء تأليف "كتاب الشاي" هو جعل القارئ يفكّر في الشاي كما يفكّر في الفنّ أو الدين. ثم يُدلي بتعليقات متكرّرة حول حالة العالم، فيرى أن الديانات القديمة توفّر الراحة والطمأنينة في عالم من المعاناة والقلق. كما يعتبر أن كلا من الطاويّة والشاي ذاتا صلة بالعصر الحديث "الذي يؤكّد المؤلّف نفوره منه في كلّ مناسبة". ويذكّر القارئ بأن حالة العالم نادراً ما تتحسّن، لذا فإن أساليب التكيّف معه تُعتبر مهمّة بمثل أهميّة الشاي".


ويعترف الكاتب بأن معظم الغربيين ينظرون إلى استهلاك الشاي على أنه أمر عرضي. والسبب هو أنه ليس لدى العالم الغربيّ الطقوس اليابانية أو الإطار الفلسفيّ المبنيّ على لحظات من الحياة اليومية. ويخبر القارئ أن حفلات تقديم الشاي مهمّة لأنها تتضمّن معرفة صوفية، ويمكن أن تكون لحظات روحانية مثل التأمّل أو الصلاة.
كما يرى أوكاكورا أن الفلسفة تشجّع الناس على تحويل الأعمال المنزلية البسيطة إلى فرص للتفكير في حياتهم، وأن غرفة الشاي هي المكان الذي يتحقّق فيه هذا التعليم. كما يشير الى أن التنظيف وإزالة الغبار من البيت هما امتداد للرسالة الأساسيّة لعقيدة الشاي والمتمثّلة في أنه حتى العمل الروتيني يمكن أن يصبح فرصة لمعرفة المزيد عن العالم.
ويسرد المؤلّف قصّة عازف قيثارة أسطوري كانت مهارته تتمثّل في أنه يفهم آلته الموسيقية ويعرفها حقّ المعرفة. وبينما حاول موسيقيّون آخرون فرض أفكارهم وأغانيهم على القيثارة السحرية، كان العازف هو الذي يسمح للآلة باختيار الأغنية المناسبة. وبالنتيجة فإن فهم ذلك العازف للتفاعل بين الفنّ والفنّان هو ما سمح له بإنتاج مثل تلك الموسيقى الرائعة. ويعتقد الكاتب أنه ينبغي لمعلّم الشاي والضيوف أن يفكّروا في التفاعل بين الفنّ والفنّان مثلما فكّر ذلك العازف".
ويكشف أوكاكورا عن نفسه بأنه متشائم، ويشعر بالقلق من أن الافتقار المعاصر للتفكير أو البصيرة أمر مدمّر، وأن العالم يميل الى الحروب والكراهية بدل أن يقدّر الفنّ. ويذهب الى أن فلسفة الشاي توفّر ترياقا طبيعيّا لهذه المشاكل ولعلاج العالم من أمراضه المزمنة وإنقاذه من الدمار الذي يبدو حتميّا.
ثم يتحدّث المؤلّف عن الأزهار ويصفها بأنها "وعاء للعاطفة". والأزهار بنظره تمثّل الحالة المزاجية المحيطة، وهي توفّر الراحة في اللحظات الصعبة وتضيف إلى فرحة المناسبات السعيدة. ويشير الى لحظات الفرح والحزن في الحياة والتي تكون دائما مصحوبة بالأزهار بجميع أنواعها مثل حفلات الزفاف والجنائز وغيرها. ويشير أوكاكورا إلى أن جودة الأزهار الطازجة تجعلها جزءا لا يتجزّأ من حفل الشاي الياباني.
ثم يتحدّث عن قصّة ريكيو (1522-1591) الذي كان معلّما حقيقيّا للشاي الياباني. وقد حُكم عليه بالإعدام لارتكابه جُرما ما. ثم سُمح له باختيار طريقة موته، واختار أن ينتحر طقوسيّا خلال حفلة شاي. ويصوّر أوكاكورا الموت على أنه لحظة رضا فلسفيّ ومهنيّ، فباختيار ريكيو حفل شاي أخير مكانا لقتل نفسه، فإن هذا الاختيار يُعدّ تجسيدا لكلّ ما ناضل من أجله في حياته.
ويضيف المؤلّف أن حفل الشاي يعلّم التفكير والوعي الذاتيّ اللازم لاحتضان حتمية الموت، وأن معلّمي الشاي وأولئك الذين يعيشون حياتهم وفقا لتعاليم الشاي يفهمون جمال الحياة. إنهم قادرون على الموت بنفس الطريقة التي عاشوا بها، من خلال فهم أن الموت جزء من كلّ أكبر. كما يرى أوكاكورا أن الشاي يعلّم الناس مكانهم في الكون الأوسع وأن أولئك الذين يعتنقون مذهب الشاي ليس لديهم ما يخشونه من الموت لأنهم اكتسبوا رؤية أكبر لواقع الحياة.
ويسرد أوكاكورا في كتابه بعض القصص المعبّرة كقصّة سوشي الذي كان يسير في أحد الأيّام على ضفّة النهر مع صديق له. وبعد برهة صاح سوشي: كم هو ممتع أن الأسماك تستمتع بوقتها في الماء!". فقال له صديقه: أنت لست بسمكة، فكيف تعرف أن الأسماك تستمتع بوقتها؟ فردّ عليه سوشي: أنت لست أنا، فكيف تعرف أنني لا أعرف أن الأسماك تستمتع بوقتها؟".
وهناك قصّة أخرى عن ريكيو صانع الشاي الذي كان يراقب ابنه في أحد الأيّام وهو يكنس ويسقي ممرّات الحديقة. وبعد أن انتهى الابن من مهمّته قال له ريكيو: لم تنظّف بما فيه الكفاية". ثم طلب منه المحاولة مرّة أخرى. وبعد ساعة من العمل المرهق، عاد الابن إلى ريكيو وقال له: يا أبي، لم يعد هناك ما يجب القيام به، فقد غسلت الدرج للمرّة الثالثة ورششت الفوانيس الحجرية والأشجار جيّدا بالماء وأصبحت الطحالب تتألّق بضوء ساطع ولم أترك غصنا ولا ورقة على الأرض".
فقال صانع الشاي: أيها الشاب الغِرّ، ليست هذه هي الطريقة التي ينبغي بها كنس طريق الحديقة". قال ريكيو هذا ثم دخل إلى الحديقة وهزّ شجرة ونثر فوق الأرضية أوراقا ذهبية وقرمزية وبقايا من ديباج الخريف. ما طالب به ريكيو لم يكن النظافة لوحدها بل العناصر الجمالية والطبيعية أيضا.
ويصوّر المؤلّف معلّم الشاي على أنه أمين اللحظة الفنّية التي يتمّ فيها تشجيع الضيوف على احتضان المعنى الأعمق لحفل الشاي. كما أن معلّم الشاي هو منشئ الحفل وهو الذي يلعب دورا مهمّا في تنفيذه، وبالتالي يصبح هو نفسه قطعة فنّية في حدّ ذاتها.
أوكاكورا هو أيضا شخص يفتخر بالموت حتى لو لم يعترف بذلك. وكتاباته عن الثقافة والتاريخ مشوبة بالتشاؤم. ويبدو الموت المجيد للأزهار نهاية مناسبة لأشخاص مثله حاولوا قبله شفاء العالم من أمراضه وفشلوا.

Credits
gutenberg.org

الجمعة، مايو 10، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • يروي الكاتب الكولومبي الكبير غارسيا ماركيز أنه عندما كان يعمل مراسلا صحفيا، سمع ذات مرّة عن قصّة بحّار مشهور غرقت سفينته ونجا هو، فذهب للقائه. ولم تكن المقابلة على هيئة سؤال وجواب. كان البحّار يسرد على ماركيز مغامراته وهو يكتبها.
    وعندما نُشر هذا التحقيق على مدى اسبوعين في الجريدة كان بتوقيع البحّار نفسه ولم يذيّله الكاتب باسمه. وبعد ٢٠ عاما، اُعيد نشر التحقيق واكتشف الناس أن ماركيز هو الذي كتبه. ولم يعرف محرّرو الجريدة أن التحقيق جيّد إلا بعد أن كتب ماركيز روايته "مائة عام من العزلة".
    العبرة من هذه القصّة هي أن الناس غالبا ما تستهويهم الأسماء واللافتات والشهرة. ومهما كانت براعتك ككاتب، فإن الناس عادة لن يعرفوا قدرك أو مكانتك أو موهبتك إلا بعد أن يصبح لك اسم وكُتُب وتصير مشهورا وتنال جوائز وأوسمة الخ.
  • كان بيكاسو يعيش في باريس عندما قرّر النازيون تحطيم الحفلة واحتلال العاصمة الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية. وإذا كنت تعتقد انهم عاملوه معاملة الملوك فأنت مخطئ. لكنهم أيضا لم يتعرّضوا له أو يؤذوه بشيء.
    كان بيكاسو فنّانا "منحطّا" حسب تعريفهم وعضوا نشطا في الحزب الشيوعي الإسباني، وطوال الوقت كان الديكتاتور الاسباني فرانكو يلحّ على النازيين باعتقاله وترحيله حتى يتمكّن هو من إطلاق النار عليه بنفسه.
    ربّما لو كان شخصا آخر غير بيكاسو لأرسله النازيون إلى أقرب معسكر اعتقال. لكنهم لم يتخلّصوا منه بأيّ طريقة، بل سمحوا له بالاستمرار في عمله الى حدّ ما، ولكن على طريقة "نحن نراقبك يا صديق فانتبه".
    النازيّون لم يفهموا أجواء بيكاسو وفنّه. وقد وصفوا عمله بأنه "فنّ منحط" لأنهم كانوا يتمتعون بموهبة إغفال الأشياء المهمّة والمختلفة.
    بإمكانك تخيّل بيكاسو وهو يجلس في الاستوديو الخاص به في مونمارتر، محاطًا بلوحات يمكن بيع واحدة منها اليوم بأموال تفوق بكثير ما يمكن أن يجنيه انسان في أعوام طويلة. وهو يجلس هناك غير مكترث بشيء أبدا، بينما يخطو النازيّون جيئة وذهابا خارج محترفه.
    ويقال إنه عندما رأى ضابط ألماني لوحة بيكاسو المشهورة "غويرنيكا" التي تصوّر كوارث الحرب، سأل بيكاسو ما إذا كان هو الذي فعل ذلك "أي رسَم اللوحة". فأجاب بيكاسو بدهاء: لا، انت فعلت". وكان ردّا بليغا جدّا إن صحّت القصّة.
    باختصار، عومل بيكاسو من قبل النازيين كما يعامَل شخص غريب في حفل عائلي: تسامحوا معه وتجاهلوه في الغالب، لكنّهم لم يُسكتوه أبدا. واستمرّ بيكاسو في عمله وأثبث أن الفنّ الحقيقي لا يمكن سحقه أو مصادرته.


  • "ما تراه هو كلّ ما هنالك!"
    معنى هذه العبارة أن ما تنظر إليه في لحظة ما هو كلّ ما تراه، وليس هناك أشياء أخرى مخفيّة أو غير مرئية. لكن أذكى العلماء في العالم يقولون إن الأمر ليس كذلك في الواقع.
    تخيّل طيّارا يقود طائرة ليلاً في طقس سّيء. هو لا يستطيع إلقاء نظرة خاطفة على العالم خارج طائرته. وكلّ ما يملكه هو الأدوات الموجودة على لوحة القيادة الخاصّة بالطائرة، أي مؤشّرات السرعة وضغط الهواء وجميع أنواع المفاتيح التي تخبره عن عالم لا يستطيع رؤيته مباشرة.
    هذه المفاتيح موثوقة للغاية وتوفّر للطيّار ما يحتاجه للمناورة بأمان عبر بيئته. هل هي نفس البيئة؟ بالطبع لا. لمجرّد أن قائمة الطعام في مطعم يمكن أن تعطيك معلومات دقيقة عن الطعام، فهي ليست الطعام نفسه. القائمة ليست الوجبة. أو كما يقول رينيه ماغريت: هذا ليس غليونا بل صورته فحسب.
    ظاهريا، معظم الناس لا يمكنهم الخلط بين الاثنين. ومع ذلك هذا هو بالضبط ما يفعله البشر في كلّ وقت. ومن خلال النظر إلى عالمنا باعتباره ماديّا بشكل أساسي. كيف يتعامل الإنسان مع المادّة؟ اننا نفترض أنها حقيقة. لكن المادّة ليست سوى لوحة التحكّم لدينا، إنها الواجهة التي نستخدمها للتفاعل مع الواقع.
    وكلّ ما لدينا هو هذه "المؤشّرات او المفاتيح" التي نلمسها ونشمّها ونشعر بها. لذلك يخبرنا حدسنا أن هذه المؤشّرات هي كلّ ما هو موجود. وبهذا المعنى فإن طريقة تعامل الإنسان مع المادّة هي مثل الطيّارين الذين يطيرون بالآلات. بدون زجاج أمامي شفّاف، لا يمكننا أبدا رؤية الواقع الفعلي "في الخارج".
    كيف تمثّل الكائنات الحيّة بيئتها؟ اكتشف فريق من علماء الأعصاب أن الكائنات الحيّة لا بدّ أن تمثّل بيئتها بطريقة مشفّرة لكي تبقى على قيد الحياة. وكلّ الانواع، بما في ذلك الإنسان، لديها نظامها الخاصّ من الأقراص والمؤشّرات: الأشكال والألوان التي نراها، الأصوات التي نسمعها، والنكهات التي نتذوّقها. وما نراه هو "أفضل تخمين" تطوّري أنشأته بيولوجيّتنا. انه يرسم صورة جميلة، لكن الصورة ليست الحقيقة.
    هذا هو الاستنتاج المذهل الذي توصّل إليه فريق من جامعة كاليفورنيا. لقد أظهروا من خلال التحليل والتجريب أن حواسّنا مبنيّة تطوّريا لتكوين فكرة مفيدة، ولكنّها صورة غير حقيقية للواقع، بل واحدة تناسب بقاءنا.
    وكما يقول أحد العلماء: قد يبدو الأمر معقّدا للغاية، لكنه كلّه يتلخّص في السؤال الأهمّ على الإطلاق: ما هو الواقع؟ وإذا كان مختلفا تماما عن الألوان والأشكال والأصوات والأنسجة التي نسميها "المادّة"، فما هو إذن؟!

  • هذه حكاية قديمة جدّا عن رجل بخيل أخفى كيسا من العملات الذهبية تحت جذع شجرة في حديقته. وكان يذهب الى هناك كلّ أسبوع لينظر إلى الذهب لساعات ثم يغادر. وفي أحد الأيّام، وبطريقة ما، عرف لصّ بمكان الذهب فاستخرجه وسرقه. وعندما أتى البخيل بعد ذلك لينظر إلى كنزه، لم يجد سوى حفرة فارغة.
    فبدأ يصرخ ويلطم حزنا على ما حدث. وجاء إليه جيرانه مسرعين لاستطلاع الخبر. فلمّا علموا بالقصّة سأله أحدهم: هل استعملت شيئا من الذهب؟ فقال البخيل: لا. كنت فقط أنظر إليه كلّ أسبوع."
    فقال له الجار ساخرا: حسنا، مقابل النفع الذي قدّمه لك الذهب، من الأفضل أن تأتي الى هنا كلّ أسبوع كما كنت تفعل وتنظر إلى الحفرة وهذا يكفي."
    والعبرة من القصّة هي أن الثروة ليست مهمّة بحدّ ذاتها، إنما المهم أن نستفيد منها ونستمتع بها سواءً كنّا أغنياءَ أو فقراء.

  • Credits
    suite101.com
    pablopicasso.org

    الاثنين، مايو 06، 2024

    أطفال العصر الحجري


    هذا الكتاب عنوانه (الحافّة البرّية للحزن: طقوس التجدّد وآثار الحزن المقدّس)، ومهمّته، كما يقول مؤلّفه، هي إيقاظ علاقتنا الأزلية بالحيوانات والنباتات والأنهار والتلال والأشجار والغيوم. كما أنه صرخة احتجاج تدعونا للعودة إلى حياة التواصل والحميمية والشعور والدهشة. وهو أيضا دعوة لإشعال حيويتنا وإقناعنا بالعودة إلى الحياة من خلال الاهتمام بالحزن.
    مؤلّف الكتاب فرانسيس ويللر يقول إن كتابه يحفر في المشاعر التي يدفنها الكثيرون منّا. وهو يعتقد أن معظمنا يحمل قدرا كبيرا من الحزن، أكبر ممّا نسمح لأنفسنا بالاعتراف به. ويشير إلى أنه وضع الكتاب لعدّة أهداف، أهمّها "إعادة النفس إلى عمل الحزن وإعادة الحزن إلى عمل الروح".
    والمؤلّف يشعر أن الحزن "أصبح رهينة للعالَم الإكلينيكي والتشخيصات والنظم الصيدلانية". في حين أن الحزن، في معظم الأحيان، ليس مشكلة يجب حلّها أو حالة تحتاج إلى علاج، ولكنّه لقاء عميق مع تجربة أساسية تتعلّق بكوننا بشرا. ولا يصبح الحزن مشكلة إلا عندما تغيب الظروف اللازمة لمساعدتنا على التعامل معه، كأن نضطرّ إلى تحمّل حزننا في عزلة.
    والحزن، برأي المؤلّف، يرافقنا دائما بطريقة ما. وهناك أوقات يكون فيها حادّا، كأن يموت الشريك أو يتفكّك الزواج لنجد أنفسنا وحدنا. وهذه الفصول في حياتنا مكثّفة وتتطلّب وقتا طويلا لاستيعاب الحزن بشكل كامل. لكن لا ينبغي أن ننظر الى الحزن على أنه حقيقة محبطة، بل إن فيه نعمة مخفيّة، فهو ينبّهنا الى أننا ما نزال على قيد الحياة وأن كلّ خسارة تفتح الطريق لتجربة جديدة.
    ثم يتحدّث الكاتب عن "علم نفس الروح" الذي يستشعر الحيوية في كلّ عاطفة مهما كانت نوعية الحياة التي نعيشها في هذه اللحظة. إذ سيكون لدينا أوقات من السعادة، وهذا سبب للاحتفال، وقد نواجه أيضا أوقاتا من الحزن والشعور بالوحدة. وربّما تأتي علينا أحوال وتقع أحداث تثير فينا الأسى والألم.
    ويضيف: لقد نسي المجتمع التكنولوجي الحديث الشعور بالاندماج في ثقافة حيّة وغنيّة بالقصص والتقاليد والطقوس وأنماط التعليم التي تساعدنا على أن نصبح بشرا حقيقيين. إننا نعيش في مجتمع لا يهتمّ كثيراً بأمور الروح. ونتيجة لذلك، نحتاج إلى كتب وورش عمل حول الحزن والعلاقات والجنس واللعب والإبداع وما الى ذلك.
    ذات مرّة، كتب الفيلسوف النمساوي لودفيك فيتغنشتاين: ما لا نستطيع التحدّث عنه، نمرّ عليه بصمت". ويعلّق المؤلّف على ذلك بأننا نسينا لغة الحزن الأساسية. ونتيجة لذلك، أصبحت أرض الحزن غير مألوفة وغريبة، وعندما يقترب منّا الحزن نصبح خائفين وتائهين. والصمت المؤلم الذي يتحدّث عنه فيتغنشتاين لا يزال يخيّم على حياتنا كالضباب، ما يضع مجالات واسعة من الخبرة خارج متناول أيدينا.
    ويرى يللر أننا خُلقنا لمواجهة هذه الحياة بالدهشة والعجب، وليس بالاستسلام والمكابدة. إن حلم العيش الكريم المتأصّل فينا غالبا ما يُنسى ويُهمل ليحلّ مكانه خيال مجتمعيّ عن الإنتاجية والمكاسب الماديّة وما الى ذلك.
    هذا الكتاب يمكن أيضا اعتباره بمثابة صلاة وتوسّل من أجل كوكب الأرض. وبحسب الكاتب فإن أحد أسباب الإحساس العميق بالفقد هو ظهور علامات مستمرّة من التوتّر والتدهور على نظم الحياة في كوكبنا.
    ويوضّح ذلك بقوله: ليس من المفترض أن نعيش حياة ضحلة مليئة بالروتين الذي لا معنى له. فنحن ورثة سلالة مذهلة مليئة بذكريات الحياة التي عاشها أسلافنا بشكل وثيق ومتناغم مع الغزال والجاموس والغراب وسمك السلمون والعقاب والفراشات الملكية ومع سماء الليل.
    وبهذا المعنى فإن الكتاب يوقظ علاقتنا الأزلية بالحيوانات والنباتات والأنهار والتلال والأشجار والغيوم والطيور. كما أنه دعوة للعودة إلى حياة التواصل والحميمية والشعور بالدهشة. وكل هذا برأي المؤلّف لا يتأتّى إلا من خلال العناية بالحزن.


    والكتاب يقدّم خريطة لما يسمّيه أبواب الحزن الخمسة. وأوّل هذه الأبواب تختصره عبارة "كلّ ما نحبّه، سوف نخسره". والثاني هو الأماكن التي لم تعرف الحبّ، ويقصد بها تلك المشاعر والأجزاء في أنفسنا التي أغلقناها ودفعناها بعيدا، أي الأماكن المرتبطة بالعيب والصدمة أو ما يسمّيه الكاتب "فقدان الروح".
    والباب الثالث هو أحزان العالم. ويفسّر هذه الأحزان باقتباس منسوب الى طبيب نفساني وَصَف البشر بأنهم "أطفال العصر الحجريّ". ويشرح المؤلّف ذلك بالقول إن تركيبتنا النفسية والجسدية والعاطفية والروحية بأكملها قد تشكّلت أثناء التكوين التطوّري الطويل لجنسنا البشري. ومعنى هذا أن ميراثنا يشتمل على تبادل حميم وقويّ مع العالم الفطري، وهذا ما تتوقّعه عقولنا وأجسادنا".
    الباب الرابع للحزن هو كلّ شيء توقّعناه ولم يتحقّق. وهذا يتضمّن "توقنا للانتماء ورغبتنا في الشعور بالتوحّد مع الناس ومع كلّ أشكال الحياة". ويسرد الكاتب قصّة ذات دلالة عن قرية أفريقية يجتمع الناس فيها كلّ ليلة ليتشاركوا همومهم. أما الأطفال فينخرطون في أحاديث مع بعضهم ويلعبون حتى يستلقوا ويناموا. ويعلّق بقوله: تخيّل مدى عمق تأثير ذلك على كلّ فرد، إذا علم أنه مرحّب به في أيّ منزل يذهب اليه.
    أما الباب الخامس فهو حزن الأجداد، ويفسّره الكاتب بأن معظمنا يحمل أنواعا عديدة من الصدمات توارثناها من الأجيال التي سبقتنا، والتي نادرا ما كان لديها الوقت والمهارات اللازمة لحلّها. وهذا هو الوزن الزائد الذي يحمله الكثيرون منّا، والاعتراف به هو الخطوة الأولى للتخلّص منه.
    ويَعتبر ويللر الطقوس عنصرا حيويّا في معالجة الحزن، ويقدّم أمثلة جيّدة عن كيفية استخدامها بطرق مختلفة في المجتمعات القبلية، وكيف يمكننا استخدامها في عصرنا الحديث. ويرى أن الديناميكيات المهمّة في الطقوس هي توفير الاحتواء والتحرّر وجعل المكبوت مرئيّا.
    كتب أوسكار وايلد ذات مرّة يقول: حيث يوجد الحزن، توجد أرض مقدّسة". وهذا الكتاب هو دعوة للدخول إلى أرض الحزن المقدّسة وتجربة الطرق التي تمكنّنا من السير في هذا العالم، مع ما قد يصاحبه من حقائق قاسية عن الفقد والموت.
    ويشير المؤلّف الى أن الحزن يهزّنا ويفتحنا على أعماق روحية لم نكن نتخيّلها. كما أنه يُنضجنا ويستخرج من أعماق نفوسنا ما هو أكثر أصالة في كينونتنا. وفي الحقيقة، فإن القلب المنكسر، القلب الذي يعرف الحزن، هو القادر على الحبّ الحقيقي.
    لكن الاهتمام بحزننا في غياب المجتمع أمر صعب. فالحزن الذي يُحمل سرّا يظلّ باقيا في الروح ويسحبنا ببطء إلى ما تحت سطح الحياة وإلى تضاريس الموت.
    ويرى ويللر أن الحزن كان دائما جماعيّا ومشتركا. لكن في العصر الحديث، أصبح حزننا خاصّا ويحمل عباءة غير مرئيّة من العيب، ما يجبرنا على إخفائه عن العيون التي من شأنها أن تقدّم الشفاء.
    ويقول أيضا إن الحزن جزء من الدورات العظيمة للأرض، فهو يتدفّق في الليل مثل الهواء البارد الذي يغرق في مجرى النهر. ويضيف إن الكثير من الحزن الذي نحمله ليس شخصيّا، ولا ينشأ من تاريخنا أو تجاربنا، بل يدور حولنا قادما إلينا من فسحة أوسع، ويصل على متن تيّارات غير مرئيّة تمسّ نفوسنا.
    وبينما عانى الكثيرون منا بشدّة بسبب التربية غير الواعية، يجب أن نتذكّر أن آباءنا كانوا مشاركين في مجتمع فشل في تقديم ما يحتاجونه كي يصبحوا أفرادا أقوياء وأباءً وأمّهات جيّدين. لقد كان البشر، منذ آلاف السنين قبل ظهور الحضارة، يتلقّون الرعاية والدعم في قرية منذ ولادتهم، وليس في أسرة نووية. وكان هذا "تحوّلا كارثيّا ويدعو للحزن".
    إن ارتباطاتنا المتأصّلة ثقافيّا بالمقدّس تحيل عادةً إلى السماء والنور. ونحن نحبّ فكرة الصعود؛ صعود الأشياء وحركتها نحو النور، ونشعر بعدم الارتياح عندما ننزلق ونسقط لنجد أنفسنا ننحدر إلى الظلام. ولكن عندما نحصر المقدّس في شريط السماء الضيّق، فإنّنا نُنكر القداسة الساكنة في الظلام، في جذور الأرض، في الظلال الكامنة داخل أجسادنا التي هي رحم بداياتنا.

    Credits
    francisweller.net
    wisdombridge.net

    الخميس، مايو 02، 2024

    مدرسة أثينا ومفهوم الجمال


    تُعتبر لوحة رافائيل مدرسة أثينا (1511) أحد أفضل الأعمال الفنّية المعروفة من عصر النهضة الإيطالية. وهي واحدة من أربع لوحات جدارية موجودة في شقّة الفاتيكان المعروفة باسم غرفة سيغناتورا. وقد رُسمت هذه اللوحات بتكليف من البابا جوليوس الثاني لكي تلخّص المثل اللاهوتية والإنسانية.
    وتصوّر "مدرسة أثينا" أعظم فيلسوفين من العصور القديمة، أفلاطون وأرسطو، وهما يقفان وسط مساحة مقبّبة أسطوانية الشكل ومهيبة، بينما يحيط بهما فلاسفة وعلماء مشهورون آخرون مثل سقراط وفيثاغورس وبطليموس وغيرهم. ويبدو الحكماء منهمكين في نقاشات حيّة، بينما يشرف على المشهد تمثالا أبوللو ومينيرفا إلهتي الفنون والحكمة القديمة.
    وعلى الرغم من أنه لا يزال هناك بعض الجدل حول هويّة بعض الأشخاص الكثر الظاهرين في الصورة، إلا أنه يمكن التعرّف بسهولة على شخصيّتي أفلاطون وأرسطو. فانسجاماً مع تفكيره، يشير أفلاطون إلى السماء ليؤكّد ان الحكمة تكمن في عالم الروح، بينما يشير أرسطو باتّجاه الأرض كمصدر لملاحظاته.
    وأفلاطون يحمل كتابه "محاورات مع تيماوس"، الذي يصف فيه أصل وطبيعة الكون، بينما يحمل أرسطو كتابه "الأخلاق" الذي يؤكّد فيه على الطبيعة العقلانية للإنسانية والحاجة إلى السلوك الأخلاقي.
    وسيصبح مذهبا هذين الإثنين مؤثّرين كثيرا في الفكر الغربي. فقد تبنّى ليوناردو دافنشي، مثلا، أفكار أرسطو التي وجد فيها أساسا فلسفيا لدراسته للطبيعة. ومن المفارقات الغريبة أن رافائيل صوّر أفلاطون بملامح دافنشي!
    وعلى الرغم من أن أفلاطون وأرسطو لم يصوغا نظرية عن الفنّ، إلا أن هناك عناصر في تفكيرهما ترتبط ارتباطا مباشرا بالفنّ وبعلم الجمال. وفي الواقع، قدّم أفلاطون وأرسطو مفاهيم مهمّة مثل الشكل والمضمون لأوّل مرّة، وعلى الأخص في خطابهما حول التقليد او المحاكاة.
    لكن هناك العديد من الاختلافات الهامّة بين الرجلين. وأحدها هو أنه بالنسبة لأفلاطون، يجب أن يهتمّ التقليد في الغالب بالأشكال المثالية أو الأفكار التي تحكم الكون وتظهر في النظام والانسجام والتوازن في العالم الطبيعي.


    ومن المثير للاهتمام أن أفلاطون لم يعتقد أن الفنّانين لديهم القدرة على تفسير الأفكار الإلهية. ووفقا له، فإن مهمّة الفلسفة هي إيجاد المعنى. كما أنه رأى أن الأعمال الفنّية خادعة وتمنعنا من العثور على الحقيقة. ولذلك، كان لا بدّ من حظر الأعمال الفنّية في المجتمع المثالي الذي تَصوّره أفلاطون.
    والنظام في الكون، بحسب أفلاطون، يقوم على مبادئ رياضية، وبالتالي فهو مسألة تفكير عقلاني. ومع ذلك، ومن خلال التأكيد على أنه يجب على المرء فقط ان يقلّد، فان أفلاطون المثالي قدّم نموذجا مهمّا للخطاب في الفنّ، بالإضافة إلى أساس متين للفكرة الغربية عن وظيفة الفنّ المتمثّلة في تقليد الطبيعة.
    وعلى الطرف الاخر، كان أرسطو يعتقد أن التقليد ينطوي على تجربة إنسانية، وبهذا المعنى رأى دورا للفنون. ووفقا له، فإن للفنّان حرّية تقليد جوانب الطبيعة، لكنّه أصرّ على وحدة الشكل (أي الصفات الشكلية والبنيوية). ويشرح أرسطو الشكل من حيث "أسبابه" التي يقصد بها أيّ عامل خارجي غير المادّة يشرح سبب وجود شيء ما على ما هو عليه، وما هي الوظيفة التي يمكن أن يؤدّيها.
    وباختصار، فإن الشكل هو الذي يجعل الشيء على ما هو عليه. وفي حين أن الشكل حسب أفلاطون يتعلّق بالأشكال المثالية، فإن أرسطو يربط الشكل بشيء متأصّل في الشيء نفسه.
    وهناك اختلاف آخر بين أفلاطون وأرسطو، وهو الطريقة التي يناقشان بها التقليد فيما يتعلّق بالجمال. بالنسبة لأفلاطون، الجمال هو فكرة، شيء ما مجرّد يتمّ الكشف عنه في نظام العالم الطبيعي.
    ومن هنا جاءت الأهميّة التي أولاها للرياضيات باعتبارها المفتاح لفهم العالم الطبيعي. وبالنسبة لأرسطو، الجمال شيء حقيقي، وهو أيضا وظيفة للشكل وليس مجرّدا كما هو الحال عند أفلاطون ولكنه متجذّر في الشيء. وبعبارة أخرى، فإنه يرتبط بالسياق.
    لذلك، على الرغم من أن أفكار أفلاطون وأرسطو الفلسفية توفّر الأدلّة الأولى فيما يتعلّق بالعلاقة بين الشكل والمضمون، فإنها تُظهر أيضا العلامات الأولى لانقسام ما. فالجمال (أي المضمون)، وفقا لأفلاطون، هو الشكل الذي من خلاله تظهر المُثل السماوية وبدونه تظلّ تلك المثل مخفية عن البشر.
    ومن ناحية أخرى، يهتمّ أرسطو كثيرا بتشابه (شكل) المظاهر الحقيقية هنا على الأرض. وهذا الفصل بين الشكل والمضمون هو الذي سيؤثّر بشكل كبير على تطوّر الفنّ وعلم الجمال في العصر الحديث.

    Credits
    raphaelpaintings.org

    الاثنين، أبريل 29، 2024

    سيزيف العصري


    ذات مرّة، انهمك مزارع مبتدئ في مشاهدة مقاطع فيديو تحفيزية. وأصبح ملمّا بأفكار مثل أهميّة الجهد وثقافة الزحام والعمل بجدّ وقت العمل واللعب بمزاج وقت اللعب.
    وبعد عدّة أيام، دخل إلى مزرعته متحمّسا، ومصمّما على تطبيق ما شاهده، لتحقيق نجاح أكبر في عمله. وبدأ بقلع أحد المحاصيل كوسيلة لجعله ينمو بشكل أسرع.
    لكن هذا لم يُجدِ نفعا.
    ثم بدأ في سقي النباتات مرّتين، على أمل أن تنمو بشكل أسرع. ولكنه أغرقها بدلاً من أن يجعلها تنمو أسرع. وبعد محاولات متعدّدة، أدرك المزارع أنه مهما بذل من جهد وعمل على تغيير الطبيعة فلن يؤدّي ذلك إلا إلى نتائج عكسية.
    على الرغم من التطوّرات التكنولوجية التي شهدتها البشرية لإحراز تقدّم أفضل وأسرع، إلا أننا لا نزال نعتمد على الطبيعة. فالجهد البشري له حدوده وهو دائما مرتبط بقوانين الطبيعة التي تحكم كلّ شيء.
    نحن لا نستطيع أن نزرع نباتا، مثلا، بمعزل عن قوانين النموّ الطبيعي، رغم أنه يمكننا التأثير عليه والتلاعب به أحيانا، ولكن بقدر محسوب ومحدود.
    يقول لاو تسو إن العالم يحكم نفسه بنفسه ولا يحتاج إلى تدخّلنا نحن البشر. ويضيف: عندما تصل إلى حالة عدم اتخاذ أيّ إجراء، فلن يُترك أيّ شيء دون تغيير".
    وتشبه هذه الفكرة المفهوم الياباني المعروف بـ عدم الفعل أو عدم القيام بشيء (wu-wei). والطاوية تقدّم عدّة طبقات فيما يتعلّق بكيفية تعزيز هذا المفهوم لعلاقتنا بالعالم، وكيف أن هذا الفنّ القديم المتمثّل في "ترك الأشياء تحدث" لا يجعلنا بالضرورة سلبيين أو متفرّجين، بل يمكنه في الواقع تحسين طريقة تصرّفنا إزاء الأحداث، ما يؤدّي إلى نتائج أفضل.
    وربّما يكون التفسير الأكثر شيوعا لمفهوم اللافعل هو مواءمة أفعالنا مع الطبيعة وعدم الإكراه على فعل شيء والتصرّف فقط عندما يكون ذلك مناسبا.
    يقول لاو تسو إن استخدام القوّة يؤدّي دائما إلى مشاكل غير منظورة". وهو لا يقصد المعنى الحرفيّ للقوّة، بل التدخّل لإجبار حركة الطبيعة على السير في اتجاه محدّد.
    إن للطبيعة مسارها، وهي تعمل دائما في الخلفية. كما أنها كامنة في جذر وجودنا الإنساني، وتخلق وتعيد خلق ما يسمّيه الطاويّون بالعشرة آلاف شيء: أي كلّ ما هو تحت السماء وما خلفها.
    ولكن على الرغم من الدفع الهائل للكون، إلا أن مجتمع اليوم ما زال يولي أهميّة كبيرة للجهد الإنساني قبل كلّ شيء. إننا نحتفل بالجهد، بغضّ النظر عن فعاليّته الحقيقية، بحيث نظلّ مشغولين دائما من أجل الانشغال نفسه. ومثل سيزيف في الأسطورة القديمة، ندفع بالصخرة إلى الأعلى، فقط من أجل الدفع.
    إن بذل الجهد شيء، وبذل الجهد بذكاء شيء آخر. صحيح أنه في بعض الأحيان يكون العمل الجادّ ضروريّا، ويكون الإجراء مناسبا. ولكن في كثير من المناسبات، لا يكون كذلك. والأمر يعتمد على إيقاع اللعبة وعلى الأوراق التي توزّع عليك وما إذا كان الدور دورك. والتصرّف خارج الدور يعني الوقوف ضدّ حركة اللعبة.
    وكثيرا ما أدّى "إكراه الأشياء على الحدوث" أو الدفع بالأمور إلى ما هو أبعد من قيود الطبيعة، كثيرا ما أدّى إلى الخراب على المدى الطويل وأتى بنتائج عكسية. يجب أن نكفّ عن لعب دور "سيزيف المعاصر" الذي يدفع بالصخرة الى قمّة الجبل، وعندما يقترب من القمّة تتدحرج الصخرة الى السفح، ثم يعاود محاولته العبثية في دفعها الى فوق مرّة بعد أخرى دون أن يثمر جهده عن شيء. إن المواقف والمشاكل كثيرا ما تحلّ نفسها عندما لا نتدخّل أو ندفع بها قسرا في اتجاه معيّن. وعندما نسمح للأشياء بالحدوث من تلقاء نفسها فإن الأمور تُنجز بشكل طبيعي.
    لقد كان ذلك المزارع المبتدئ يحتاج ببساطة إلى ترك محاصيله وشأنها والتحلّي بقليل من الصبر، بينما تتكفّل الطبيعة بالباقي. ولكن عندما يحين وقت الحصاد، ينبغي على المزارع أن يشمّر عن ساعده ويقوم ببقيّة العمل.


    يقول لاو تسو: إن الطاو لا يتصّرف بالقوّة أبدا، ومع ذلك لا يوجد شيء لا يستطيع فعله". والمعنى هو أننا إذا كنّا نساير الطبيعة فإن كلّ شيء يسير بسلاسة. إن مهمّة المزارع هي زرع البذور، ومهمّة البذور هي أن تنمو لتصبح محاصيل، وبعد ذلك تأتي مهمّة المزارع، وهي جني المحاصيل عندما تكون جاهزة. هذه هي الطريقة التي تعمل بها الطبيعة على النحو الأمثل.
    كان لاو تسو يعتقد أن العالم لا يمكن حكمه كما يحكم هو نفسه. إنه خارج نطاق السيطرة تماما. ومحاولة التحكّم فيه هي دائما معركة خاسرة. كما أن قضاء حياتنا في محاربة الطبيعة هو مضيعة للوقت، مهما كثر الناس الذين يمتدحوننا لانهماكنا في مثل هذا "المسعى البطولي".
    وبدلاً من إهدار طاقاتنا في محاولة السيطرة على ما هو طبيعيّ وتغييره، من الأفضل أن نقبل ما هو موجود ونسايره بمرونة مثلما يتدفّق الماء بسلاسة عبر سطح صخريّ باتجاه المحيط.
    إن البشر مختلفون في مواهبهم وقدراتهم وملكاتهم. البعض من المفترض أن يقودوا، والبعض الآخر من المفترض أن يتبعوا. البعض يجب عليهم أن يكدّوا ويجهدوا دائما، بينما يتمتّع البعض الآخر بأوقات رغدة وسهلة. وبعض البشر كبار وأقوياء بطبيعتهم، والبعض الآخر صغار وضعفاء بطبيعتهم. بعضهم ستتوفّر لهم الحماية والرعاية، بينما يُترك الاخرون ليواجهوا المتاعب لوحدهم.
    إن "ترك الأشياء تحدث" معناه أن نبحر في منطقة مجهولة دون أن ندع المجهول العظيم يزعجنا، أن ننطلق في مجرى النهر دون أن نفكّر في المكان الذي يقودنا إليه، أن نسبح مع التيّار وليس ضدّه، وأن نجعل طريقنا سلسا وخاليا من التردّد والخوف.
    عندما تذهب الى موعد، يكون الشخص الذي ستقابله مهتمّا بشيء واحد فقط: التعرّف عليك، أي على الشخص الذي تكونه أنت في تلك اللحظة. لكن الكثير من الناس يبالغون في الاستعداد والتحضير والتحليل والتدرّب على ما سيقولونه. ومن هنا يأتي التوتّر والقلق، لأننا نميل الى التركيز كثيرا على النتائج.
    يريد معظمنا أن يصبح هذا الموعد ناجحا، ونريد أن يكون الشخص الآخر مثلنا. لذلك يكون هناك ضغط وثمن يجب الفوز به. وإذا لم نحصل عليه نشعر بالتعاسة.
    وهكذا، فإن ما كان يمكن أن يكون ليلة ممتعة ومبهجة، يصبح مرهقا ومنهكا، مع الكثير من الأفكار الزائدة والاستعدادات الذهنية مقدّما.
    إننا نقف في طريق أنفسنا بمحاولتنا أن نمنع التدفّق الطبيعي للكون، وهو ما لا نستطيع فعله أصلا ولا السيطرة عليه، بغضّ النظر عن كميّة التفكير والتخطيط الذي نبذله.
    لكن تخيّل أنك تدخل موعدا وأنت غير مستعدّ أو متهيّء له على الإطلاق، بل حتى دون أن تتوقّع حلوله. ستتصرّف بشكل طبيعي، وفي هذه اللحظة ستبدو عفويّا لأنه لم يكن لديك فرصة للتفكير الزائد فيه. لم يكن هناك وقت للتخطيط والتخيّل والتحليل، وكلّ ما تبقّى هو أنت نفسك الحاضر والمتوحّد مع اللحظة.
    لذا، إذا تمكّنا من التخلّي عن النتائج أو التفكير فيها، سيمكننا التصرّف بسهولة وباستجابة أكبر، فقط من أجل الفعل نفسه.
    من الواضح أننا بسبب تجارب الماضي أو التكييف الاجتماعي أو الأيديولوجيات، شكّلنا أنفسنا لنتناسب مع السياق الذي نعيش فيه. لذا يحثّنا لاو تسو على العودة إلى "حالة غير معالَجة"، أو ما يسمّيه هو بـ "الحالة غير المنحوتة". ويقصد بها حالة الشخص غير المثقل بأمتعة الثقافة التي تشوّش رؤيته للعالم.
    يجب أن نتحلّى بالشجاعة الكافية للتخلّي عن الكثير ممّا تعلّمناه، والاستغناء عن أُطرنا الثابتة وافتراضاتنا المسبقة. أو كما قال لاو تسو: تخلّ عن المعرفة وستنتهي مشاكلك".
    يُروى أن تلميذا لكونفوشيوس أراد أن يسافر الى مملكة بعيدة بعدما سمع عن مشاكلها العديدة مع حاكمها المستبد. لذلك خطّط هذا التلميذ لاستخدام معرفته وحكمته لإلقاء محاضرة على ذلك الملك لمحاولة إقناعه بإدارة المملكة بحكمة وتعقّل.
    لكن كونفوشيوس أقنع تلميذه الساذج بعدم القيام بذلك وأخبره أن خططه مدفوعة بالأنا أكثر من اللازم ولن تجدي نفعا. في نهاية المطاف، لا أحد ينتظر أن يأتي شخص من العدم ويعرف "كلّ شيء" ليخبرك بكيفية أداء عملك. اعتنِ بشئونك بنفسك قبل أن تهتم بطاغية منشغل بذاته.
    ومع ذلك، قدّم كونفوشيوس بديلاً أطلق عليه "صيام القلب"، وهو شكل من أشكال التأمّل الذي يقود الى ترك تصوّراتنا المسبقة وإفساح المجال للانفتاح على النفس وعلى الكون.

    Credits
    ctext.org

    الجمعة، أبريل 26، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • من الأماكن المهمّة في حياة فنسنت فان غوخ زاوية دوّار مزدحم يُسمّى ساحة لامارتين يقع على الجانب الآخر من البوّابات الرومانية المؤدّية إلى آرل في جنوب فرنسا. وخلف ذلك المكان يجري نهر الرون، الذي رسم فان غوخ انعكاساته المتلألئة في إحدى الليالي التاريخية المرصّعة بالنجوم.
    وإلى الأمام شريط من المحلات التجارية المؤدّية الى حقول أزهار عبّاد الشمس الواسعة التي رسمها فان غوخ مرارا. هذا هو المكان الذي كان يقوم فيه ذات يوم البيت الأصفر لفان غوخ؛ أي المنزل البروفنسالي المشمس الذي كان موضوع لوحة زيتية له من عام 1889، حيث كان يأخذ فترة "راحة قسرية" على حدّ تعبيره. كانت تلك "غرفة نوم" ذات جدران بنفسجية شاحبة رسمها بالألوان الزيتية ثلاث مرّات في ذلك العام.
    المنزل الصغير كان يضمّ عددا من الأساطير، فهو المكان الذي دفع فيه أحد أشهر الفنّانين في العالم أساليب الرسم إلى ذروتها بأعماله المشهورة مثل "شرفة مقهى في الليل" و"عبّاد الشمس" وغيرهما. وكان هذا هو المكان الذي تحوّلت فيه حياة فان غوخ الشخصية إلى قصّة درامية ومأساوية. وهنا خاض فان غوخ معركة عنيفة مع صديقه بول غوغان قام أثناءها بقطع أذنه بشفرة حلاقة قبل أن يؤخذ الى مستشفى الأمراض النفسية.
    والحقيقة أن هناك العديد من معالم الحياة الفنّية لفان غوخ، بدءا من "مونس" مدينة المناجم البلجيكية، حيث طُرد الرسّام البالغ من العمر آنذاك 27 عاما من وظيفته كمبشّر يعمل بين عمّال مناجم الفحم المحليين. وقد قيل إنه سعى الى " تقويض كرامة الكهنوت" باختياره العيش في نفس الظروف المزرية التي يعيشها عمّال المناجم. ثم بدأ الرسم هناك.
    وهناك أيضا مونمارتر في باريس وآرل وسان ريمي في بروفانس. وفي النهاية هناك ضاحية أوفير سور واز الباريسية، حيث أنهي فان غوخ حياته في عامه السابع والثلاثين.
    ومن المدهش أنه بالنظر إلى شهرة فان غوخ وشعبيّته، فإن عددا من المعالم التاريخية التي واكبت حياته لم يحافَظ عليها أو تمّ إهمالها. ومع ذلك، فقد جُدّدت بعض المواقع بشكل رائع، مثل غرفة الرسّام في مصحّ سان ريمي دو بروفانس وغرفته في فندق أوفير سور واز حيث توفّي، وذلك لإحداث تأثير كبير على الزوّار المهتمّين بتاريخ حياة فان غوخ ومن اجل المجتمعات المحليّة التي تستفيد اقتصاديّا من هذا النوع من السياحة الثقافية الناعمة.
    والحقيقة أن هناك قدرا كبيرا من الاهتمام بلوحات فان غوخ في جميع أنحاء العالم. وهناك جمهور كبير يتردّد على المتاحف لرؤية أعماله. لكن بشكل عام، هناك أموال أقلّ لترميم تراث الرسّام والمحافظة عليه، وخاصّة مواقع التراث المحليّ التي يمكن العثور عليها في فرنسا وبلجيكا وهولندا.
    غالبا، في الأماكن التي عاش فيها فان غوخ، يوجد عدد من اللافتات التي تحتوي على صور أو كلمات له مستقاة من رسائله. وفي أماكن أخرى غامضة، كما في سان ريمي دو بروفانس مثلا، هناك لوحة تُظهر "حقل القمح الأخضر مع السرو" على جدار من الجصّ الأبيض لأحد المنازل الخاصّة.


  • "شطح المدينة" اسم رواية صغيرة عن عالم الرؤى والكشوفات. تأخّرت في قراءتها بسبب الظروف، وسرّني انني استطعت أخيرا. المؤلّف، الأديب الراحل جمال الغيطاني، ينقل القارئ إلى مدينة غامضة عمرها آلاف السنين.
    والمناسبة اجتماع لعدد من الأساتذة والزوّار الذين قدموا من أماكن مختلفة من العالم لإحياء احتفال. المدينة ليس لها اسم، متطوّرة وتاريخها ضارب في القدم، لكن الأمن فيها ناقص. نظرات الناس زجاجية وملامحهم متحجّرة وابتساماتهم مصطنعة وعواطفهم باردة.
    ربّما تكون المدينة الغامضة رمزا لغموض العالم. والشخصيات، وكلّها بلا أسماء، هي كناية عن اغتراب وضياع الانسان في هذا العصر وكون البشر مجرّد أرقام، أي بلا فردانية او هويّة.
    أيضا تقول الرواية بوجود عوالم موازية لعالمنا، وساكنوها غالبا هم الفلاسفة والشعراء الموتى، وأن التاريخ ما يزال يتحكّم في الحاضر، وأن ما نراه واقعا قد لا يكون كذلك في كثير من الاحيان.
    هذا الكتاب خفيف والسرد فيه ممتع والكثير من القصص والمعلومات التاريخية المتضمّنة مثيرة للاهتمام. وبإمكانك تجاوز بعض الصفحات دون أن تفقد خيط الأحداث أو يتأثّر استمتاعك بالقراءة.

  • يُحكى في قديم الزمان أنه كان هناك أسد يعيش في غابة مطريّة. وبينما كان نائما في أحد الأيام مرّ فأر صغير بشكل غير متوقّع وتحرّك فوق أنف الأسد على عجل. وأيقظ هذا الأسد الذي وضع كفّه الضخم بغضب على الفأر الصغير ليقتله.
    توسّل الفأر المسكين إلى الأسد أن يعفو عنه تلك المرّة فقط وسوف يردّ له الجميل في يوم من الأيّام. اندهش الأسد لسماعه كلام الفأر وتساءل كيف يمكن لمخلوق صغير كهذا أن يساعده. لكنه كان في مزاج جيّد فترك الفأر يرحل.
    وبعد أيّام قليلة، نصب أحد الصيّادين فخّا للأسد بينما كان يطارد فريسة في الغابة. ووجد الأسد صعوبة شديدة في تحرير نفسه من شبكة الصيّاد، فأخذ يزأر بصوت عالٍ ومتوجّع.
    وبينما كان الفأر يمرّ من تلك الناحية، سمع زئير الأسد فاتجه اليه ووجده يكافح بشدّة لتحرير نفسه من الفخّ. وبسرعة قضم الشبكة بأسنانه الحادّة حتى تمزّقت. وشيئا فشيئا أحدث فجوة كبيرة فيها، وسرعان ما تمكّن الأسد من تحرير نفسه من الفخّ.
    شكر الأسد الفأر الصغير على صنيعه، فذكّره الفأر بأنه إنما يردّ معروف الأسد عندما أنقذ حياته من قبل. وبعد ذلك، أصبح الأسد والفأر صديقين حميمين وعاشا بسعادة في الغابة.
    والعبرة المستفادة من هذه القصّة هي أن الرحمة تجني مكافأتها في الوقت المناسب، بغضّ النظر عن حجم ونوع المساعدة التي نقدّمها للآخرين. وكما قال الشاعر القديم: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه".

  • Credits
    vangoghmuseum.nl/en

    الاثنين، أبريل 22، 2024

    رحلة في غابة العقل


    من أفضل الأفلام السينمائية التي تستحقّ المشاهدة فيلم راشومون "1950" للمخرج الياباني أكيرا كوروساوا (1910-1998). كان كوروساوا أحد أكثر المخرجين تأثيرا في تاريخ السينما وقدّم مساهمات كبيرة في تطوير السينما اليابانية والعالمية. ويمكن رؤية تأثيره في أعمال مخرجين كبار مثل سكورسيزي ولوكاس وكوبولا وغيرهم.
    امتدّت مسيرة كوروساوا المهنية لأكثر من خمسة عقود، أخرج خلالها وشارك في كتابة العديد من الأفلام الناجحة والتي نالت استحسان النقّاد والجمهور ونال عليها العديد من الجوائز المرموقة في المهرجانات السينمائية الدولية. وكان معروفا بقدرته على مزج عناصر القصص اليابانية التقليدية مع التقنيات الغربية، ما أدّى إلى ظهور أسلوب سينمائيّ فريد وقويّ ارتبط باسمه.
    "راشومون" يُعتبر بإجماع النقّاد من روائع السينما اليابانية والعالمية. وكان له تأثير كبير على تقنيات السرد القصصي والبنية السردية في السينما. عنوان الفيلم "راشومون" يشير إلى بوّابة في كيوتو باليابان، حيث تجري محاكمة ويقدّم الشهود رواياتهم المختلفة عن جريمة قتل.
    ومن خلال البناء السرديّ المبتكر، يثير الفيلم أسئلة فلسفية وسيكولوجية عميقة حول طبيعة الحقيقة والذاكرة وعدم موثوقية الإدراك وتعقيدات السلوك البشري. كما يتحدّى فكرة الواقع الموضوعي ويؤكّد على الطبيعة الذاتية والفردية لسرد القصص.
    تدور أحداث الفيلم في اليابان الإقطاعية، وتبدأ بالعثور على محارب ساموراي ميّتاً في بستان للخيزران. ثم يروي الشهود الأربعة على الجريمة إفاداتهم عمّا رأوه واحدا بعد الآخر. وبينما يسرد كلّ منهم قصّته المتعارضة مع قصص الآخرين، يتضح أن كلّ شهادة تبدو معقولة مع أنها مختلفة.
    وكوروساوا يستخدم الفيلم لإعطاء وزن متساوٍ لشهادة كلّ شخص، ويحوّل كلّ شاهد إلى راوٍ غير موثوق، من دون أيّ تلميحات حول من منهم يعطي الرواية الأكثر دقّة، وبذا لا يستطيع الجمهور معرفة الشخص الموثوق بشهادته ويُترك المتفرّج متشكّكا في قناعاته حول من أنهى حياة الساموراي.
    والبعض قد يجد هذا محبطاً لأن الفيلم يقلب التوقّعات ويرفض تقديم إجابة قاطعة أو مؤكّدة عمّا حدث. كما تفترض حبكة الفيلم ضمناً أنه عندما نتذكّر حدثا ما فإن تفسيرنا له يتأثّر بتجاربنا السابقة وتحيّزاتنا الداخلية.
    لكن أهمّ الأسئلة التي يثيرها "راشومون" هي: ما الحقيقة أصلا؟ وهل هناك حالات لا توجد فيها "حقيقة موضوعية"؟ وماذا يمكن أن تخبرنا إيّاه الروايات المختلفة لنفس الحدث؟ وكيف يمكننا اتخاذ قرارات جماعية عندما نعمل معا؟ هذه الأسئلة ليس لها إجابات محدّدة. وربّما تكون الفكرة الدائمة التي يطرحها الفيلم هي أن ترك مساحة للغموض تُعدّ قيمة مهمّة في حدّ ذاتها.
    بالإضافة إلى تجربته السردية المبتكرة، يتميّز "راشومون" أيضا بجمالياته البصرية المبهرة، إذ يساهم استخدام كوروساوا للضوء الطبيعي وحركات الكاميرا الديناميكية في إضفاء طابع دراميّ مكثّف على الأحداث.


    المعروف أن أثر هذا الفيلم قد امتدّ إلى ما هو أبعد من السينما، فاستُخدمت أداته السردية، أي تقديم وجهات نظر متعدّدة ومتباينة عن حدث ما، في الأدب والمسرح. ثم ما لبث أن ظهر مصطلح "تأثير راشومون"، الذي يصف ظاهرة التفسيرات المتناقضة لنفس الحدث وعدم موثوقية شهود العيان وقصور فهمنا للحقيقة والعدالة والذاكرة الإنسانية.
    بشكل عام، يمكن اعتبار فيلم راشومون رحلة في غابة العقل لتناوله موضوعات فلسفية عميقة واستكشافه لتعقيدات الطبيعة البشرية. كما يُعتبر عملا أساسيّا في تاريخ السينما، ليس لأنه يقدّم قصّة جذّابة ومثيرة للتفكير فحسب، وإنّما أيضا بسبب تركيبته البصرية المذهلة وسرده القويّ.
    وُلد أكيرا كوروساوا لعائلة من محاربي الساموراي، وكان لديه تقدير عميق للفنّ والثقافة اليابانية منذ شبابه. كما كان ميّالا للأدب والمسرح والفنون البصرية التي شكّلت خلفيّته الفنّية. وعُرف فيما بعد ببراعته في تصوير قصص من الحقبة الإقطاعية من تاريخ اليابان. لكنّه أيضا تعمّق في الموضوعات المعاصرة والحديثة واستكشف القضايا الاجتماعية والطبيعة البشرية وتأثير التحديث السريع على المجتمع الياباني.
    نهج كوروساوا في التعامل مع القضايا الاجتماعية وتأثير التحديث اتّسم بملاحظاته الدقيقة للسلوك البشري وقدرته على نسج روايات معقّدة. ومن خلال التفكير في المشهد الاجتماعي والثقافي المتغيّر في اليابان، التقط المعضلات والتوتّرات التي يواجهها الأفراد والمجتمع ككلّ خلال فترات التحوّل والتحديث.
    وكانت إحدى نقاط قوّة هذا المُخرج هي قدرته على خلق شخصيات غنيّة يمكن التماهي معها وتمثّل كفاح المواطنين العاديين. وكثيرا ما شَكّكت أفلامه في القيم التقليدية والأعراف المجتمعية لليابان. مثلا في فيلم "الساموراي السبعة"، تدور القصّة المحورية حول مجموعة من محاربي الساموراي الذين عُيّنوا لحماية قرية من خطر قطّاع الطرق. ويثير الفيلم تساؤلات حول أهمية ميثاق الشرف التقليدي الخاصّ بهؤلاء المحاربين.
    كما صوّر كوروساوا آثار الحرب العالمية الثانية والتحدّيات التي واجهها الشعب الياباني في فترة ما بعد الحرب. كانت اليابان وقتها مجتمعا منقسما على نفسه وفي حال من الفوضى وشيوع الفقر والجريمة وفقدان القيم التقليدية، بعد أن تركت آثار الحرب البلاد مدمّرة اجتماعيا واقتصاديا. وفي فيلم "عالي ومنخفض" يستكشف كوروساوا التناقض الصارخ بين الأثرياء والفقراء من خلال قضية اختطاف، ليعكس الفوارق الاجتماعية والاقتصادية في ذلك الوقت.
    وفي فيلم "إيكيرو"، يكتشف البطل، وهو شخص بيروقراطي، أنه مصاب بمرض عضال، ويتنقّل في النظام البيروقراطي، بينما يحاول العثور على هدف لحياته في سنوات عمره المتبقية. ويصوّر الفيلم الفوارق بين الطبقات الاجتماعية وتأثيرات عدم المساواة، بالإضافة الى التحدّيات التي يواجهها الأفراد المهمّشون في مجتمع ما بعد الحرب.
    وفي فيلم "عرش الدم" المقتبس من مسرحية "ماكبث"، ينقل كوروساوا مأساة شكسبير إلى اليابان الإقطاعية، مستكشفا التأثير المُفسد للسلطة والطموح في بيئة الساموراي التقليدية والصراعات بين القيم التقليدية والحديثة.
    ممّا يجدر ذكره أن فيلم "راشومون" تلقّى إشادة من النقّاد في اليابان وفي العالم، وفاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي عام 1951. كما مهّد نجاح الفيلم الطريق لأعمال كوروساوا والسينما اليابانية ككلّ للحصول على التقدير العالمي.


    Credits
    akirakurosawa.info

    الجمعة، أبريل 19، 2024

    ماليفتش والتفوّقية


    في 19 ديسمبر 1915، افتُتح معرض للأعمال الفنّية الراديكالية في سانت بطرسبرغ في روسيا. وقد تجاوزت العديد من القطع المعروضة حدود الشكل والأسلوب. لكن إحداها كانت مثيرة للجدل بشكل خاص.
    كانت اللوحة معلّقة في زاوية الصالة، في مساحة كانت تُخصّص عادةً للأيقونات الدينية. وكان اسمها "المربّع الأسود" لكازيمير ماليفيتش. أحد الحضور سخر من بساطة اللوحة مدّعيا أنه "حتى الطفل يمكن أن يرسم مثلها!"
    وذهب آخر إلى أبعد من ذلك، فكتب يقول ان "المربّع الأسود" من شأنه أن "يقودنا جميعا إلى هلاكنا!". بساطة اللوحة الظاهرية تثير الحنق والارتباك. لكن نظرة فاحصة تكشف أن عمل ماليفيتش ليس فقط أكثر تعقيدا ممّا يبدو للوهلة الأولى، بل قد لا يكون حتى لوحة لمربّع أسود على الإطلاق.
    وعلى الرغم من اسمها، ستجد أن الشكل المركزي للوحة ليس أسود ولا مربّعا تماما. وأضلاعه ليست متوازية أو متساوية في الطول، كما أن الشكل لا يتموضعُ تماما على القماش.
    وبدلاً من ذلك، وضع ماليفيتش النموذج بعيدا عن التوازن قليلا، ما يعطيه مظهرا حركيّا. كما أن اللون الأبيض المحيط به يمنحه نوعية حيّة ومهتزّة. وقد كشف التحليل الفنّي أن ماليفيتش كان قد استخدم القماش قبل ذلك للوحتين أخريين.
    ولو نظرت الى اللوحة اليوم، ستلاحظ وجود تشقّقات كثيفة في الطلاء نتيجة للتقادم وعوامل الجفاف. وهذه التشقّقات تكشف عن أجزاء من اللون الأصفر المغبر والأحمر النابض بالحياة والزمرّدي الباهت. وكلّها تشير إلى المراحل المتعدّدة التي قطعها ماليفيتش قبل أن يصل إلى الشكل النهائي للوحة.
    وتتجلّى عمليّته الإبداعية في ضربات الفرشاة القويّة والمعروضة بفخر وهي تتحرّك في العديد من الاتجاهات. كما لوحظ أن خيوطا من الشَعر، بالإضافة الى بصمات ماليفيتش نفسه، متأصّلة في الطلاء، ما يُضفي ملمسا مجازيّا وحرفيّا إلى العمل.
    من نواحٍ عديدة، يمكن القول إن تاريخ ماليفيتش بأكمله جزء لا يتجزّأ من "المربّع الأسود". والمعروف أنه ولد في أوكرانيا لأبوين يتحدّثان البولندية، وعاش هناك حتى وفّر أخيرا ما يكفي من المال لتغطية تكاليف الرحلة إلى موسكو. وعند وصوله إليها في عام 1904، انهمك في تجريب جميع الأساليب الفنّية الطليعية في المدينة.
    وقد رسم بأسلوب الانطباعيين واستوعب ما بعد الانطباعية ومرّ بمرحلة المستقبلية ثم تأثّر بالتكعيبيين. وبحلول عام 1913، كان على وشك تحقيق اختراق. وكان يدرك أنه حتى أكثر الفنّانين تطوّراً كانوا لا يزالون يرسمون أشياء من الحياة اليومية فقط.


    كان ماليفيتش منجذبا بشكل لا يقاوَم إلى ما أسماه "الصحراء حيث لا شيء حقيقيّ سوى الشعور". وهكذا أصبح الشعور جوهر عمله. وكانت النتيجة "المربّع الأسود" وأسلوبا جديدا أسماه "التفوّقية أو السوبريماتيزم Suprematism"، حيث يصبح الشعور بالوحدة هو الأسمى.
    وسيتحقّق هذا من خلال ما أسماه باللاموضوعية Non-objectivity، وهي خروج متطرّف للغاية عن عالم الأشياء لدرجةِ تَجاوُز التجريد.
    بالنسبة للفنّان التفوّقي، الوسيلة المناسبة هي تلك التي توفّر التعبير الكامل عن الشعور النقيّ وتتجاهل الموضوع المقبول بحكم العادة. فالموضوع في حدّ ذاته لا معنى له بالنسبة للفنّان، وأفكار العقل الواعي لا قيمة لها. كما أن الظواهر المرئيّة للعالم الموضوعي لا يعوّل عليها في حدّ ذاتها؛ الشيء المهم هو الشعور.
    كان ماليفيتش يؤمن بأن التبسيط والتشويه اللذين ميّزا الفنّ التجريدي كانا في النهاية بلا معنى، نظرا لأنهما ما يزالان يركّزان على تصوير أشياء العالم الحقيقي. وبالنسبة له، فقط ما هو غير تمثيليّ أو تجسيديّ تماما هو الجديد حقّا.
    وكان يرى أن الفنّ ليست وظيفته خدمة الدولة والدين أو توضيح تاريخ الأخلاق. كما لا يجب أن يكون له أيّ علاقة بالموضوع في حدّ ذاته. وبرأيه يمكن أن يوجد الفنّ في حدّ ذاته، بدون "أشياء".
    ومن آرائه الأخرى أن كلّ شكل حقيقي هو عالَم مستقل. وأيّ سطح بلاستيكي يعدّ أكثر حيوية من الوجه الذي تحدّق منه عينان وابتسامة. والمربّع ليس شكلاً من أشكال اللاوعي، إنه طفل ملوكي حيّ، وهو الخطوة الأولى للإبداع الخالص في الفنّ.
    وبينما أثار هذا النهج المتطرّف قلق النقّاد، سار ماليفيتش فيه قدما ولم يتراجع. فأمضى العقد التالي في شرح أعماله التفوّقية في مقالات، وعلّم أفكاره لجيل جديد من الفنّانين.
    لكن بعد صعود ستالين إلى السلطة في عشرينيات القرن العشرين، اعتُبرت الأساليب الطليعية، مثل التفوّقية، غير منتجة او مفيدة للدولة الشيوعية. وفي نهاية المطاف، أصبح من الخطر إنتاج أيّ فنّ خارج "الواقعية الاشتراكية"، وهي أسلوب فنّي قسريّ يحتفل بالقادة السوفييت و"العمّال الأبطال".
    في عام 1930، ألقت السلطات السوفيتية القبض على ماليفيتش لنشره "أفكارا تخريبية!" وتحت الضغط الشديد، عاد إلى رسم الاشخاص، فرسم الفلاحين وهم يقفون كالروبوتات في الأماكن الكالحة والمُتربة. لكن حتى هذه اللوحات كانت ما تزال تحتفظ ببصيص من أفكاره السابقة.
    وتدريجيّا، فقد الشخوص في لوحاته أذرعهم ووجوههم، ثم تحلّلوا نهائيّا مع اكتمال سيطرة الميكنة على الريف. وخلال هذا الوقت، رسم ماليفيتش أيضا صورة لنفسه، وبدا أنه قد تخلّى عن التفوّقية تماما. لكن يده المفتوحة في الصورة أخذت شكلاً رباعيا، وفي الزاوية كان هناك مربّع أسود صغير!
    كان هذا رمزا لرجل عانى من الحروب والثورات، لكنّه لم يتوقّف أبدا عن محاولات خلق فنّ جديد؛ ملجأٍ للشعور النقيّ الذي يكمن وراء ثقل الأشياء ومعاناة عالمٍ منقسمٍ على نفسه.


    Credits
    kazimir-malevich.org

    الثلاثاء، أبريل 16، 2024

    نهاية رجل خطير


    كان قتل أرخميدس أحد أكبر الأخطاء التي ارتُكبت في تاريخ العلم. وكان هذا العالم اليونانيّ قد قُتل على يد جنديّ روماني عام 212 قبل الميلاد أثناء حصار الرومان لبلدة سيراكيوز في صقلّية، على الرغم من صدور أمر بعدم تعريضه للأذى.
    عُرف أرخميدس باختراعاته الكثيرة مثل الأشعّة الحرارية والمدفع البخاري ومفهوم الصغر اللانهائي وغير ذلك من النظريات الهندسية والرياضية. وربّما لو عاش عامين أو ثلاثة أخرى لكان على الأرجح قد اكتشف حساب التفاضل والتكامل، أي قبل نيوتن أو لايبنتز بألفي عام.
    الكلمات الأخيرة المنسوبة إلى أرخميدس قبيل مقتله كانت: أرجوك لا تخرّب دوائري!" كان يخاطب قاتله مشيراً إلى الرسم الرياضي الذي من المفترض أنه كان يدرسه.
    أرخميدس يُعتبر أعظم عالم رياضيات في العالم القديم، وأحد أعظم الرياضيين في جميع العصور. وقد نشأ ليصبح عالما متفرّدا بتوجيه من اثنين من أكبر علماء الرياضيات في زمانه. وعُرف عنه أيضا دوره الاستراتيجي في الحروب القديمة وتطوير التقنيات العسكرية.
    وإن كنت قد شاهدت شخصية كرتونية لرجل عجوز يركض عارياً في شوارع إحدى المدن، فمن المرجّح أن تكون تلك الصورة الكاريكاتورية لأرخميدس.
    وأصل القصّة أن الملك هيرون الثاني تحدّى أرخميدس أن يعرف ما إذا كان تاج الملك مصنوعا من الذهب الخالص أو مخلوطا بالفضّة. وكان على أرخميدس أن يكتشف نقاء التاج من عدمه دون أن يضطرّ الى صهره، ما قد يؤدّي الى الإضرار به.
    وكانت تلك المسألة تلحّ على ذهن ارخميدس في كلّ وقت. وأثناء استحمامه، اكتشف أن هناك علاقة مباشرة بين الماء المتدفّق من الحوض وجسمه المغمور. وفجأة قفز من حوض الاستحمام وأخذ يركض في الشوارع وهو يصرخ "يوريكا.. يوريكا" أو "وجدتها.. وجدتها". وتوصّل الى مبدأه القائل بأن أيّ جسم مغمور في سائل يندفع إلى أعلى بقوّة تساوي وزن السائل المزاح.
    ثم أجرى ارخميدس الاختبارات على تاج الملك، وبالفعل اتّضح أن الملك كان على حقّ، فقد خُلطت الفضّة بالذهب في التاج. ومنذ ذلك اليوم أصبحت عبارته الشهيرة "يوريكا" تُستخدم للتعبير عن الفرح الكبير بأيّ اكتشاف جديد أو مفاجئ.
    ويبدو أن العلم المفضّل عند أرخميدس لم يكن الهندسة بل الرياضيات. وربّما كان أحد أعظم إنجازاته في الرياضيات هو قياس الدائرة. وكانت قياساته لها دقيقة بشكل مثير للإعجاب.
    ومن المؤسف حقّا أن مثل هذا الرجل اللامع والعبقري انتهى نهاية مفجعة. فقد كان الرومان بقيادة الجنرال ماركوس مارسيلوس يحاصرون مدينة سيراكيوز لمدّة عامين عندما تمكّنوا أخيرا من فتح أسوار المدينة.
    وقيل إن مارسيلوس أمر بألا يَمسّ أحد أرخميدس وأنه سيكون ضيفه الشخصي. في ذلك اليوم، كان أرخميدس جالسا في منزله يحاول حلّ مسألة رياضية معقّدة عندما اندفع إلى داخل بيته جنديّ روماني فوجده يرسم دوائر على الأرض. وعندما أشهر الجندي سيفه في وجه العالِم قال له بهدوء: أرجوك قبل أن تقتلني، دعني أنتهي من دوائري". لكن الجنديّ لم يكترث بطلبه فهوى عليه بسيفه وقتله.
    كان الغزاة الرومان على ما يبدو يثأرون من أرخميدس لأنهم اعتبروه رجلا خطيرا لابتكاره سلاحا جديدا استُخدم في الحرب ضدّهم. فعندما أبحر الأسطول الروماني لقتال جيش الملك هيرون، طلب الأخير من أرخميدس ابتكار طريقة فعّالة لمواجهة أسطول العدوّ الأكثر عددا وعدّة. وقد دُمّر معظم الأسطول المهاجم بواسطة المرايا المقعّرة، أو شعاع أرخميدس الحراري، الذي عكَسَ ضوء الشمس على السفن ما أدّى الى احتراق معظمها.
    ويُعتقد أن أرخميدس ربّما استخدم مرايا كثيرة كعاكسات مكافئة. وقيل إنه عندما رأى جنود الجيش المهاجم ما حدث للسفن قالوا لملكهم: يجب أن نكفّ عن محاربة هذا الوحش الهندسي الذي تغلّب على مآثرنا بشعوذته الخارقة. لقد حوّل سفننا الى أكواب لغرف الماء من البحر!".
    ويقول بعض المؤرّخين أن المينويين Minoans سبق أن استخدموا مرايا مزدوجة لهذا الغرض، وربّما كان أرخميدس يعرف هذا أو سمع به من قبل.
    دُفن أرخميدس بالقرب من بوّابة سيراكيوز، ووُضعت على قبره كرة واسطوانة. وعلى الرغم من أنه لم يكن مشهورا كثيرا في زمانه، إلا أن مخطوطاته تُرجمت في العصور الوسطى الى لغات عديدة وجذبت اهتمام الكثيرين. وفي القرن التاسع عشر قال فولتير واصفا إيّاه: كان في رأس أرخميدس من الخيال أكثر بكثير ممّا كان في رأس هوميروس!"

    Credits
    archimedespalimpsest.org

    السبت، أبريل 13، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • لم أقرأ رواية ذئب البراري "أو ذئب السهوب" إلا متأخّرا نسبيّا. وقد وجدتها ممتعة وعميقة المعنى. كما أنها خفيفة وسهلة الفهم. ومن المزايا الأخرى التي قدّرتها في الرواية أنها لا تتضمّن شخصيات كثيرة تُربك القارئ وتشتّت تركيزه.
    بطل الرواية يسمّي نفسه ذئب البراري. وهو شخص مثقّف، منعزل، بلا علاقات تقريبا، ومتحفّظ في إظهار مشاعره، لا يؤمن بالكثير من افكار وقناعات مجتمعه ويساوره الحنين الى عصور سابقة.
    وهو في الرواية يتحدّث عن الكثير من رموز الحزن وضحايا سوء الفهم في هذا العالم، مثل نوفاليس ودستويفسكي وأتيلا وفاوست وموزارت وهاملت واوفيليا وغيرهم.
    كما يتحدّث بشغف عن ظواهر لا أشكّ انها تجذب اهتمام الكثيرين، من قبيل بعض الصور والأنغام والروائح التي تنقل الانسان الى عوالم مختلفة وتلحّ على ذهنه بين فترة وأخرى. وذئب البراري يصف عزلته بأنها "ساكنة سكون الفضاء البارد الذي تدور فيه النجوم في افلاكها".
    في هذه الرواية "علم نفس" كثير، ربّما أكثر ممّا ينبغي، مثل حديث الراوي عن ثنائية الانسان والذئب، وكيف يتغلّب الذئب على الانسان او العكس. وهو يُفرد لهذا صفحات كثيرة. وقد شعرت أن الإسهاب في هذا النوع من الحديث يبطّيء من وتيرة الرواية، أيّ رواية، لدرجة انه يمكن ان يصيب القارئ بالملل.
    من العبارات التي راقت لي والتي ترد على لسان البطل قوله: الانسان بَصَلة مكوّنة من مائة غلاف"، أو قوله في وصف موسيقى الجاز أن نصفها عابق بشذى العطور ونصفها الاخر همجيّ."
    ذئب البراري او السهوب رواية مختلفة. ولا بدّ وأن يجد الكثيرون في أنفسهم شيئا من شخصية البطل أو بعضا من سمات شخصيّته الغريبة. وللمؤلّف هيرمان هيسّه روايات أخرى أشهرها "سيدهارتا" و"ساعة بعد منتصف الليل" وغيرهما.

  • يرسم بعض الفنّانين بهدف إضافة مشهد ودراما إلى العالم، بينما يستخدم آخرون فنّهم لإضفاء نوع من الصمت. الرسّام الدنماركي وليام هامرشوي كان ينتمي للنوع الثاني.
    استثمر هامرشوي الكثير من المعنى في هدوء الغرف الفارغة التي كان يرسمها. ولوحاته تتكوّن من تصميمات داخلية نصف ضبابية تلفت انتباهنا إلى الفوائد البسيطة للوجود، حيث نتمكن من ملاحظة المزيد، وفي الوقت نفسه نجد ضجيجنا الداخليّ ونعمل على تهدئته.
    وصور الرسّام هي نقيض لصور السيلفي الحديثة. فبدلاً من أن تقول "انظر إليّ وما أفعله"، فإن هذه اللوحات ترفض ذلك الجزء من الطبيعة البشرية الذي يريد أن يهتمّ به الآخرون. وبدلاً من ذلك، فإنها تدعو الانسان للتأمّل والتواضع.
    لماذا نرغب في ان ننظر الى أريكة فارغة أو نافذة مضاءة بنور القمر؟ الإجابة التي تقدّمها هذه اللوحات ضمنا هي أن بعض اللقاءات الأكثر أهميّة هي تلك التي تحدث في لحظاتنا الأكثر حميمية وخصوصية.
    قال هامرشوي ذات مرّة: لطالما اعتقدت أن الغرف تحتوي على مثل هذا الجمال برغم خلوّها من أيّ أشخاص، بل ربّما وعلى وجه التحديد عندما لا يوجد بها أيّ أشخاص". لذلك فإن ما تراه في لوحات الفنّان هو رغبته في رؤية العالم كسلسلة من أوقات العزلة والتأمّل.
    ولد هامرشوي في كوبنهاغن بالدنمارك عام 1864، وقضى معظم حياته في المدينة التي ولد فيها. وقد تدرّب في الأكاديمية الملكية الدنماركية للفنون الجميلة، وتلقّى دروسا على يد الفنّان نيلز كيركغارد ابن عمّ الفيلسوف المعروف سورين كيركغارد.
    وقد أنجز هامرشوي العديد من لوحاته الأكثر شهرةً داخل منزله في كوبنهاغن، واختار أن تكون زوجته هي الجليسة التي تظهر في جميع لوحاته.


  • عندما تسكب روحك وتهدر وقتك في نصّ ولا يقرؤه أحد، فقد يدفعك هذا لأن تشعر بالألم. والأمر يشبه أن تجرّد من جزء من هويّتك ككاتب وتبدأ في تقريع نفسك وتعنيفها. وربّما يجعلك هذا تتساءل عمّا إذا كنت قد خُلقت للكتابة حقّا، أو ما إذا كنت تحلم كثيرا أو تضيّع وقتك فيما لا طائل من ورائه.
    الشكوك التي طالما راودتك عن انعدام موهبتك واعتدتَ أن تبعدها تعود مجدّدا لتستقرّ على كتفيك وتهمس في أذنك نادبةً سوء حظك ولتخبرك أنها كانت على حقّ وأنك كنت مخطئا.
    لكن قد لا تكون هذه هي المشكلة. فإذا لم يجد أحد نصوصك جمهورا يقرؤه، فليس بالضرورة لأنه سّيء، بل قد تكون هناك أسباب أخرى خارجة عن إرادتك.
    هناك العديد من الكتّاب ممّن يربطون قيمة نصوصهم بعدد القراءات التي تحصدها تلك النصوص. ويشبه الأمر ربط كمّية المال بقيمة الشخص الذي يملكه، في حين أن المال لا يحدّد قيمة الانسان وعدد القراءات لا يحدّد قيمة النصّ.
    وواقع الحال أنك يجب أن تعتزّ بنصوصك المنعزلة، أي تلك التي لم تُقرأ بما فيه الكفاية. قد لا تكون جيّدة بما يكفي أو ربّما تكون بحاجة إلى جمهور من نوع ما يقدّرها ويستشعر ما فيها من تفرّد وجمال.
  • هذه القصّة المعبّرة ترد في العديد من الثقافات، مع بعض الاختلاف في التفاصيل.
    يُحكى أن أهل قرية شربوا من ماء نهر فأصيبوا بالجنون. فقط شخصان امتنعا عن الشرب من النهر، لذا استمرّا عاقلين.
    غير أن أهل القرية أصبحوا ينظرون إليهما نظرة دهشة وشفقة ظنّاً منهم انهما أصيبا بالجنون. ولكي يُبعد الرجلان شبهة الجنون عن نفسيهما، لم يجدا خلاصا سوى بالشرب من ماء النهر، فأصبحا مجنونَين!

  • Credits
    bruun-rasmussen.dk

    الأربعاء، أبريل 10، 2024

    الحصان الجَموح


    في عام 1862، رأى فتى هنديّ أحمر يُدعى "تاسونك" فيما يرى النائم منظرا لبحيرة صغيرة ساكنة. ومن زرقتها الهادئة انبثق حصان مع فارسه صعودا ثم خرجا عبر سطح البحيرة الى الأرض. كان الفارس نحيفا ذا شعر منسدل، بينما رُبط خلف أذنه اليسرى حجرٌ بنّي مُحمرّ ورُسمت علامة البرق على أحد جانبي وجهه. وعلى صدره العاري كان هناك وشم لقطرات برَد زرقاء.
    وبينما الفارس وحصانه يركضان، ظهرت خلفهما غمامة داكنة متدحرجة أخذت ترتفع شيئا فشيئا الى أعلى. ومن السحابة دوّت قعقعة رعد عميقة ووميض برق. كان الحصان قويّاً وسريعاً، وكانت ألوانه تتغيّر من الأحمر الى الأصفر الى الأسود الى الأبيض والأزرق.
    وفجأة دوّى رصاص وتطايرت سهام في الهواء، وانحرف بعضها باتجاه الحصان والفارس، ومرّت قريبا منهما لكن لم تلمسهما. وعلى مقربة منهما طار صقر ذو ذيل أحمر وأطلق صرخة في الفضاء. ونهض رجال من كلّ مكان وأمسكوا بالفارس ثم سحبوه إلى الأسفل من الخلف. وانتهى الحلم.
    روى الصبيّ الحلم لوالده وربّما لآخرين. ومنذ ذلك اليوم أصبح يلقّب بالحصان الجموح. ابن عمّه الملقّب "الأيل الأسود" وصف الحلم فيما بعد بقوله:
    رأى الحصان الجموح حلما ذهب به إلى عالم لا يوجد فيه سوى الأرواح، أرواح كلّ الأشياء. وهذا هو العالم الحقيقي الذي يقف خلف هذا العالم، وكلّ ما نراه هنا هو مجرّد ظلّ لذاك. كان يمتطي حصانه في ذلك العالم. وبدا أن كلّ شيء هناك يطفو: الأشجار والعشب والحجارة وكلّ شيء. كان حصانه يرقص كأنه مصنوع من الظلّ. ولم يكن الحصان مجنونا أو جامحا، ولكن كان في الحلم يرقص في كلّ مكان بهذه الطريقة الغريبة.
    كان ذلك الحلم هو الذي منحه قوّته العظيمة، لأنه عندما كان يشتبك في قتال، كان عليه فقط أن يفكّر في ذلك العالم الموازي ليكون فيه مرّة أخرى، وليتمكّن من تجاوز أيّ خطر دون أن يلحق به أذى".
    كان الحصان الجموح (1840 – 1877) محاربا من قبائل السيو The Sioux الهندية وزعيم فرقة من المقاتلين. ويعتبر من بين أعظم المدافعين عن أراضي السيو ضدّ قوات الحكومة الأمريكية في القرن التاسع عشر. كما أنه أحد أشهر شخصيات الهنود الحمر الأمريكيين في التاريخ ومن بين أبطال السيو الأكثر تكريما.
    وقد كرّس الحصان الجموح نفسه لمعارضة الجيش الأمريكي في وقت مبكّر من حياته، خاصّة بعد مذبحة غراتن والمذبحة التي تلتها في معسكر ليتل ثندر عام 1855 على يد العقيد ويليام هارني. وواصل مقاومته على مدى السنوات الإحدى عشرة التالية وحارب في العديد من المعارك، أشهرها معركة جسر نهر بليت وحرب السحابة الحمراء ومعركة البرعم الوردي وغيرها.
    في أغسطس 1854، دخلت بقرة كانت قد خرجت من قطار عربة للمورمون إلى معسكر الزعيم الهندي "الدبّ المنتصر". ولأن الإمدادات الغذائية التي وعدت بها حكومة الولايات المتحدة لم تصل فقد جاع الناس وذبحوا البقرة وأكلوا لحمها.
    وأبلغ حزب المورمون عن أن البقرة فُقدت وأن من سرقها كانوا من قبائل السيو. فاتصل الملازم هيو فليمنغ بالزعيم الدبّ المنتصر وطلب منه تسليم الشخص الذي سرق البقرة. فعرض عليه الدبّ تعويضا، لكن العرض رُفض.
    ثم قاد الملازم جون غراتن مجموعة من الجند إلى معسكر السيو للقبض على الرجل الذي زعموا أنه سرق البقرة. وقد رفض الدبّ المنتصر تسليمه فتصاعد الموقف وأصيب الدبّ بالرصاص ما أدّى الى مقتله. وردّ رجال السيو بقيادة الحصان الجموح بإطلاق النار، ما أسفر عن مقتل جميع الجنود البالغ عددهم 31 جنديّا.
    وبعد ذلك قام الجيش الأمريكي بقيادة العقيد هارني بالانتقام، حيث ذُبح المئات من الهنود. وقد عثر الحصان الجموح على الجثث المذبوحة في معسكر ليتل ثندر حيث أنقذ هناك امرأة كانت الناجية الوحيدة. ويقال أن حربه مع الغزاة الأوربيّين قد بدأت فعليّا في معركة غراتن التي كانت بداية لحرب السيو الأولى (1854-1856)، وقيل إن الحصان الجموح كان كلّما دخل معركة رسم على خدّه شرر برق مثل الذي رآه في حلمه وهو صغير.


    وعندما اكتُشف الذهب في مونتانا عام 1863، تقاطرت على المنطقة فرق من عمّال المناجم والمستوطنين. وأرسلت حكومة الولايات المتحدة العقيد كارينغتون لبناء حصون هناك، فأعلن الحصان الجموح وقادة آخرون الحرب. ثم شنّوا هجمات على العمّال الذين كانوا يجمعون التبن والخشب للحصون.
    واستمرّ الحصان الجموح وقادة الحرب الآخرون من الهنود في ضرب التفاصيل المدنية والمسافرين والبؤر الاستيطانية واستولوا على أعداد من الخيول والماشية وتسبّبوا في وقوع إصابات كبيرة.
    وفي ديسمبر 1866، هاجم الحصان الجموح مجموعة من الحطّابين، وخرج الكابتن فيترمان لقتاله، فقام الحصان باستدراجه وجنوده إلى واد حيث نصبوا لهم كمينا، ما أسفر عن مقتل جميع الجنود البالغ عددهم 81 جنديا فيما أصبح يُعرف فيما بعد باسم مذبحة فيترمان.
    وفي عام 1874، اكتُشف الذهب في بلاك هيلز، وهو موقع مقدّس عند قبائل السيو. وبدأ وصول المستوطنين الى هناك بأعداد كبيرة في انتهاك واضح لمعاهدة فورت لارامي لعام 1851 التي اعترفت بمطالبات السكّان الأصليين بأراضي أجدادهم واعتبرتها "أراضي هندية خالصة". وأدّى إخلال حكومة الولايات المتحدة ببنود تلك المعاهدة الى إشعال فتيل حرب السيو العظمى في الفترة من 1876 الى 1877.
    وردّ الجيش الأمريكي بسرعة، ما أدّى إلى تشتيت قبائل شايان وأراباهو والسيو الهندية وحلفائهم. وهرب بعض قادتهم إلى كندا، بينما قاد الحصان الجموح شعبه بعيدا عن قوّات المستعمرين الاوربيين.
    وعلى الرغم من أن الحصان الجموح لم يُهزم في معركة وولف ماونتن في 8 يناير 1877، إلا أنه انسحب من الميدان ولم يقاتل مرّة أخرى. وبعد أن قامت حكومة الولايات المتحدة بذبح الجاموس بشكل جماعي، وهو مصدر الغذاء الرئيسي لهنود السهول، اضطرّوا إلى الاعتماد على الإمدادات التي يقدّمها المقاولون المدنيون، رغم انها كانت متاحة فقط في المحميات التي أنشأتها الحكومة. لكن الحصان الجموح رفض الخضوع لحياة المحميات.
    كان الحصان يتجوّل مع شعبه، وكثيرا ما كان يتضوّر جوعا طوال الأشهر الأولى من عام 1877. وفي مايو 1877، وصل مع فرقته إلى فورت روبنسون في نبراسكا للتفاوض على شروط الاستسلام.
    لكن أمرا كان قد صدر باعتقاله، وأثناء مقاومته للحرّاس في فورت روبنسون تعرّض للطعن بحربة في ظهره سدّدها حارس. وكان الجرح نافذا فتوفّي في تلك الليلة من سبتمبر عام 1877 عن عمر لا يتجاوز الـ 37 عاما.
    وأخذ والداه وأقاربه جثّته ودفنوها في مكان لم يُكشف عنه. وكتب صحفي معلّقا على مقتله: هكذا مات أحد أقدر وأصدق الهنود الأمريكيين. كانت حياته مثالية وسجلّه نظيفا. اذ لم يشارك أبدا في أيّ من المذابح العديدة التي وقعت، وكان قائدا عمليا في كلّ معركة مفتوحة. ويستحقّ الشرف مثل أيّ شخص تنفّس هواء الله في هذه المساحات الواسعة".
    وفيما بعد، وعلى إثر استيلاء الاوربيين على المزيد من أراضي الهنود بقوّة السلاح، هرب العديد من أفراد قبائل السيو المتناثرين إلى إقليم داكوتا أو إلى كندا. أما من بقي منهم في مانكاتو مينيسوتا فقد أصدر الرئيس أبراهام لنكولن قرارا بشنقهم في أكبر عملية إعدام جماعي في التاريخ الأمريكي.
    وبعد فترة ليست بالقصيرة، استخدم الجيش الأمريكي المدفعية لإطلاق النار على عدد من الرجال والنساء والأطفال الهنود الذين كانوا يحاولون الفرار من المذبحة. وقُتل أكثر من 250 شخصا، بما فيهم الزعيم المسمّى بالقدم الكبيرة. وانتهت بذلك حرب استمرّت حوالي 40 عاما خاضها أفراد قبائل السيو للاحتفاظ بأراضيهم وطريقة حياتهم.
    وقد أجبرت الحكومة القبائل على إرسال أبنائهم إلى مدارس داخلية. وأُخذ الأطفال من عائلاتهم واُلبسوا ملابس أمريكية واُعطوا أسماء إنغليزية وقُصّت شعورهم ومُنعوا من التحدّث بلغاتهم او ممارسة دياناتهم أو إحياء احتفالاتهم.
    كانت تلك المدارس مكتظّة ومرافقها الصحيّة سيّئة، ما أدّى الى انتشار الأمراض المعدية، فهرب الطلاب منها او ماتوا. وفي عام 1934، شجّعت الحكومة الهنود على كتابة دساتير قبلية وسنّ قوانين لإدارة شؤونهم بأنفسهم.
    مرّت سنوات على مقتل الحصان الجموح ازداد خلالها ذيوع سمعته كزعيم شجاع ومقاتل من أجل حرّية شعبه. وفي عام 1982، أصدر مكتب البريد الأمريكي طابعا تكريما له. لكن حكومة الولايات المتحدة لم تعالج بعد القضايا التي ناضل من أجلها هو وغيره من قادة الهنود الحمر. ومع ذلك، فإن اسم الحصان الجموح لا يزال يلهم أولئك الذين يواصلون معركته الى يومنا هذا.

    Credits
    legendsofamerica.com

    الأحد، أبريل 07، 2024

    شاعر الطبيعة


    نتوق أحيانا إلى ما لا نستطيع بلوغه؛ إلى ما هو جميل ومثالي وبعيد المنال. في الشتاء، مثلا، قد تتطلّع الى أن تجد المتعة في مشهد خريفي ليس هذا أوانه. ومع ذلك ربّما لا يأتي الخريف بأكثر مما تمنحنا إيّاه هذه اللوحة "الى فوق"، والتي يصوّر فيها الرسّام الروسي إيساك ليڤيتان نهرا تصطفّ على جانبيه بعض الأشجار في أعماق الريف الروسي.
    كان ليڤيتان (1860 - 1900) يُضفي على رسوماته للطبيعة أمزجة متنوّعة مع مسحة روحانية تصبح انعكاسا للظرف الانساني. وبعض صوره الأخيرة التي رسمها قبيل وفاته كانت تنبض بالضوء، مع غيوم داكنة في السماء. كما كانت مشبعة بالتجارب والمشاعر الإنسانية الذاتية من حزن وسلام ومرح وابتهاج وما إلى ذلك.
    وكان أيضا يصوّر الكثير من المشاعر في اعماله متبنّيا نوعا من الواقعية القاسية الممزوجة بشيء من روح الشعر الواهب للحياة. ولهذا يصبح وجود البشر في المنظر غير ضروريّ بل وحتى زائدا عن الحاجة.
    التنظيم الذهني الجيّد والشكّ والضعف والمزاج الكئيب الذي تعكسه بعض صوره يعكس قدرة ليڤيتان الرائعة على النفاذ الى عمق الطبيعة الروسية السرّية والناعمة ممّا لم يستطع فعله رسّام آخر قبله أو بعده.
    ومناظر القرى الفقيرة مع طبيعتها القاسية، لكن الجميلة، التي نراها كثيرا في لوحاته سبق أن تغنّى بها شاعر روسي عاش في القرن التاسع عشر ويُدعى تيوتشيف، الذي كان أحد الشعراء المفضّلين لدى ليڤيتان. ومما يُنقل عن هذا الشاعر قوله: المكان الذي ولدت فيه كان اللون الغالب فيه هو الرمادي، ودروبه المتعرّجة تذكّر بعواء العواصف الثلجية".
    أحد معاصري ليڤيتان كان الرسّام ليونيد باسترناك الذي يقول: في روسيا لا يوجد منظر طبيعيّ لا يستحقّ أن تسجّله فرشاة رسّام". وكان يصف مناطق شمال روسيا "بالشمال العظيم الكئيب". لكن ليڤيتان نفسه لم يكن يعتبر الطبيعة الروسية متجهّمة ولا فقيرة.
    وقد سافر إلى خارج روسيا ثلاث مرّات، حيث رأى طبيعة أكثر حيوية في فرنسا وإيطاليا، وأكثر وقارا في جبال سويسرا. لكن تلك المناظر لم تحرّك مشاعره، بل ظلّ غير مبالٍ ومرهقا وملولا. وكتب رسالة حزينة يقول فيها: أستطيع أن أتخيّل جمال روسيا الآن بعد أن فاضت الأنهار وعادت الحياة الى مجراها. لا يوجد بلد أفضل من روسيا! فقط هناك يمكن أن يوجد منظر طبيعيّ حقيقيّ".


    كان من عادة الفنّانين الرمزيين أن يرسموا حالة الطبيعة في المساء أو الليل. وكانوا يعتقدون أنه عند الغسق أو في ضوء القمر يبدو العالم غامضا وشبحيّا ومبهما. وبدوره اكتشف ليڤيتان أن في حبّه القويّ للطبيعة الروسية الصاخبة والمتواضعة في آن شيئا ما روحانيّا أو مقدّسا وأن فيها الكثير من الشعر المتسامي.
    في بعض مناظره المسائية، تبدو الألوان صامتة والخطوط العريضة مهزوزة وغير واضحة في ضوء القمر الناعم. أما السماء فتظهر بلون أزرق وردي، مع سحابة مزرقّة تحجب جزءا من ضوء القمر وضبابٍ خفيف منتشر على الأرض ومجسَّد بطريقة رائعة وبارعة.
    في عام 1887، ذهب إيساك ليڤيتان إلى منطقة نهر الفولغا. رحلته الأولى الى هناك لم تُثر إعجابه كثيرا. وقد كتب إلى صديقه الكاتب المسرحيّ أنطون تشيكوف يقول: رأيت شجيرات وجبالا شديدة الانحدار. كنت أتوقّع أن يثير مرأى نهر الفولغا في نفسي انطباعات فنّية قويّة، ولكن كلّ ما رأيته كان سماءً رمادية ورياحا قويّة".
    وسرعان ما عاد الرسّام إلى موسكو ليرسم لوحته "المساء على نهر الفولغا". وبعد مرور عام، عاد إلى منطقة الفولغا مرّة أخرى، ولكن هذه المرّة مع فنّانة تُدعى صوفيا. واستقرّا في بلدة صغيرة ذات جمال خلاب على ضفّة النهر. وهناك رسم العديد من اللوحات مثل "الفناء المتهدّم" و "الخريف" و"البنفسج الليلي" وغيرها.
    قضى ليڤيتان العام الأخير من حياته في منزل الكاتب أنطون تشيكوف في شبه جزيرة القرم. وتوفّي في أغسطس من عام 1900 وهو في سنّ الأربعين بعد أن عانى من مرض عضال.
    كانت أعماله الأخيرة تمتلئ بالضوء بشكل متزايد وتعكس هدوء وجمال الطبيعة في قرى روسيا النائية. وقد عُرف الرسّام بحبّه الشديد لأزهار الليلك. ويقال إنه عندما توفّي تفتّحت أزهار الليلك مرّتين في ذلك العام، وبدا الأمر اشبه ما يكون بالأعجوبة.

    Credits
    russianartgallery.org

    الجمعة، أبريل 05، 2024

    الأرض الوسطى


    إختار جون توكين ان تجري احداث ثلاثيّته "سيّد الخواتم" فيما أسماه بالأرض الوسطى Middle Earth التي تقع بين قارّتين ويحيط بها بحر ونهر. واختار الكاتب هذه الارض المتخيّلة لأنها تختلف عن أرض البشر كما يفهمها علماء الآثار والجيولوجيا والتاريخ المعاصرون.
    إذ يسكنها جنس يشبهون البشر من حيث أنهم يمرضون ويموتون. ويشارك هؤلاء في العيش في الأرض الوسطى أقوام يقال لهم الهوبيت والاوركس المعروفين بعنفهم، وكذلك مخلوقات من التنانين والنسور والسحالي الضخمة، وبعض قبائل الجان.
    والجان الذين ابتكرهم توكين في ثلاثيّته ليسوا بالجان المؤذين أو الحاقدين الذين نجدهم في الحكايات الشعبية. إنهم بشر، أو بالأحرى ما كان عليه البشر لو لم يُطرد آدم وحوّاء من الجنّة، فهم خالدون وشباب إلى الأبد ولا يصابون بالأمراض مطلقا. لكنهم ما يزالون عرضة للغباء.
    وثلاثية توكين تدور أحداثها في عالم الأرض الوسطى الخيالي، حيث تعيش مئات الأنواع المختلفة معا. والرواية نفسها قطعة من الخيال، وهناك العديد من أوجه التشابه بين الأرض الوسطى وعالمنا، ما يثير التساؤل عمّا إذا كان هذان الكونان مرتبطين بالفعل ببعضهما البعض بطريقة ما.
    قدّم توكين الأرض الوسطى لأوّل مرّة في روايته الهوبيت، وهي أقصر بكثير من سيّد الخواتم وتدور أحداثها قبل 60 عاما من أحداث الرواية الاخيرة. وتقدّم القصّة مناطق مثل ميركوود وريفنديل وجبال الضباب، وكلّها لها سمات مشابهة لبعض المناطق التي يمكن أن نجدها في عالمنا.
    فـ "ذا شاير" أو المقاطعة، مثلا، تحاكي أصداء الريف الإنغليزي، و"روهان" تشبه طبيعة الدول الاسكندنافية، و"نومينور" مستوحاة من امبراطوريات التاريخ القديمة. وقد لا يكون هذا من قبيل الصدفة.
    الاغريق أيضا عرفوا الأرض الوسطى وتخيّلوها في مكان فوق عالم العمالقة وأسفل عالم الآلهة. وربّما يكون التأثير اليوناني الوحيد في ثلاثيّة توكين هو "نومينور"، وهو اسم المنطقة التي يبدو مصيرها تكرارا لأسطورة أتلانتس. ومن الواضح أن رعونة وفجور وانعدام أخلاقية آلهة الاغريق والأبطال والشخصيات اليونانية الرومانية لم تكن تروق لتوكين ذي الروحانية العميقة.
    طوال فترة عمله ككاتب، نشر توكين عدّة رسائل كتبها حول مواضيع مختلفة، وكشف في بعضها أن الأرض الوسطى لا علاقة لها بالعالم الذي نعيش فيه، بل هي مصطلح مشتقّ من اللفظ الإنغليزي "ميدل إيردي" للإشارة إلى الأرض نفسها، ولكن في مرحلة سابقة وقديمة جدّا من تاريخ الكوكب.


    ويقول أيضا أن من المفترض أن احداث الرواية تقع في فترة من العالم القديم الفعلي لهذا الكوكب. وربّما كان يقصد أن أحداث الرواية تدور بالفعل على الأرض، ولكن قبل فترة طويلة جدّا من ظهور أيّ سجلات تاريخية، أي في وقت كانت فيه العفاريت والعمالقة تتعايش جنبا الى جنب مع البشر الأوائل، بحسب تصوّره الفانتازي.
    ومن خلال التأكيد على أن الأرض الوسطى هي في الواقع مجرّد أرض، جعل توكين سلسلته الخيالية أكثر ارتباطا وأقرب إلى كوكبنا، ما أدّى إلى إزالة المسافة بين عالمين ووضع الجمهور مباشرة في قلب هذه القصّة الخيالية.
    وواضح أن هناك سببا وراء رغبة توكين في جعل المناظر الطبيعية في الأرض الوسطى مألوفة جدّا من خلال كتابته عن الجبال العظيمة والوديان العميقة والمحيطات الواسعة، وذلك لأنها في الأساس بعض عناصر كوكب الأرض. وعلى الرغم من أن العالم قد تغيّر بشكل جذري منذ أيّامه الأولى، إلا أن التكوين العام للكوكب ظلّ متشابها إلى حدّ ما، لذلك من المنطقي أن يكون في الأرض الوسطى بعض تلك السمات نفسها.
    والأرض الوسطى مليئة بآثار العصور السابقة وعظمتها المفقودة منذ زمن طويل. وطوال حياته، كان يساور توكين كابوس متكرّر يتمثل في حدوث موجة بحرية هائلة تجرف كلّ شيء بعيدا. وكثيرا ما يذكر أتلانتس في رسائله. وفي الثلاثية، تكتسح مقاطعة نومينور موجة تسونامي مدمّرة كانتقام من الآلهة.
    كان للأرض الوسطى أساطيرها وقصصها عند العديد من الأمم السالفة أيضا. وورد ما يشبهها في بعض أعمال الأدب مثل رواية بيوولف "أو المستذئب" وغيرها من الحكايات البطولية الإنغليزية القديمة وفي العديد من أساطير الآلهة والأبطال القدماء والحكايات الشعبية، وخاصّة تلك الخاصّة بالفتيان العاديين الذين يقومون بمهام بطولية، وفي الحكايات الرومانسية واساطير الملك آرثر وغيرها.
    ربّما لا تتضمّن ثلاثية توكين أيّ صور رمزية او مجازية. لكنها بالتأكيد تعبّر عن قلق الكاتب بشأن عالمنا، بشأن فقدان براءة الريف وتلاشى الأساطير وتحوّلها الى مادّة. وإذا كنت تهتم بالنظر الى ما تحت السطح وتفحص توصيفات الكاتب للشرّ أو السلطة فستكتشف أن التعقيد الأخلاقي في هذا العمل أعمق بكثير من العبارات المبتذلة مثل أن الخير يهزم الشرّ أو أن السلطة تفسد الناس وما الى ذلك.
    عند تصوير ثلاثية سيّد الخواتم، قرّر المخرج بيتر جاكسون استخدام المناظر الطبيعية الخلابة في نيوزيلندا في غالبية عملية التصوير. ونيوزيلندا كما هو معروف بلد مليء بالخضرة الشاسعة والمسطّحات المائية الجميلة التي تتناسب تماما مع الأوصاف التي قدّمها توكين في رواياته عن الأرض الوسطى.

    Credits
    tolkiensociety.org

    الاثنين، أبريل 01، 2024

    مانغو ماو


    قصّة ماو تسي تونغ مع ثمار المانغو كثيرا ما يأتي ذكرها عند الحديث عن الزعيم الشيوعي الصيني ومؤسّس جمهورية الصين الشعبية. ومع ذلك من المهم ملاحظة أن صحّة هذه القصّة ما تزال موضع نقاش وهناك نسخ مختلفة منها.
    لكن النسخة الأكثر شيوعا تقول انه خلال الثورة الثقافية في الصين، تلقّى ماو هديّة من الفلبّين عبارة عن ثمار مانغو. في ذلك الوقت، كانت المانغو تعتبر فاكهة نادرة وغريبة في الصين. وكما تذكر القصّة، قرّر ماو مشاركة المانغو مع مجموعة من الأطفال، بدلاً من الاستمتاع بها لوحده.
    وقيل إن ماو سأل الأطفال ما إذا كانوا قد رأوا المانغو من قبل، وعندما أجابوا بالنفي، أخذ قضمة من الفاكهة ووصف لهم طعمها وملمسها بشكل دقيق. ثم قام بتوزيع المانغو عليهم، ما أتاح لكل طفل شمّها ولمسها، ولكن دون أكلها، لأن ماو أراد منهم تجربة الفاكهة باستخدام حواسّهم فقط.
    وغالبا ما تُفسّر هذه القصّة على أنها رمز للمساواة التي كان يتبّناها ماو ورغبته في تقاسم ثمار التقدّم مع عامّة الناس. واستُخدمت أيضا لتوضيح جاذبية ماو الشعبوية وجهوده للتواصل مع الجماهير خلال فترة الاضطرابات السياسية التي شهدتها الصين آنذاك.
    لكن تظلّ هذه القصّة مجرّد حكاية تُروى، كما أن دقّتها التاريخية موضع جدل. ويزعم البعض أنها ربّما تكون ملفّقة أو مبالغا فيها لأغراض دعائية، بينما يقول آخرون أنها تعكس أسلوب قيادة ماو وصورته لدى الشعب. وكما هو الحال مع العديد من الحكايات التاريخية، من المهم التعامل معها بشكل نقدي والنظر الى الآراء والتفسيرات المختلفة.
    كانت حياة ماو تسي تونغ وقيادته مليئة بالعديد من القصص والحكايات، والتي أصبح بعضها معروفا. ومن أهمّها ما عُرف بـ "المسيرة الطويلة"، وهي واحدة من أشهر الأحداث المرتبطة بماو. اذ قام جيشه الأحمر عام 1934 برحلة شاقّة لأكثر من ستّة الاف ميل هربا من حصار القوّات القومية. وقد أصبحت المسيرة الطويلة رمزا لعزيمة وتصميم الحزب الشيوعي وعزّزت مكانة ماو كزعيم رئيسي.
    وهناك أيضا "حملة المائة زهرة" التي اُطلقت عام 1956، وقال ماو إن الغاية منها تشجيع المثقّفين والمواطنين على التعبير عن آرائهم علانيةً وانتقاد الحزب الشيوعي. ومع ذلك، فإن فترة الانفتاح النسبي تلك لم تدم طويلاً، حيث بدأ ماو لاحقا حركة مناهضة لليمين، وقمع أولئك الذين تحدّثوا علنا ضدّ الحزب، ما أدّى إلى انتشار الاضطهاد والرقابة على نطاق واسع.
    أيضا هناك ما عُرف بـ "القفزة الكبرى إلى الأمام"، وكانت إحدى سياسات ماو الأكثر طموحاً وإثارةً للجدل. وقد بدأت القفزة عام 1958 وكان الهدف منها تحويل الصين بسرعة إلى قوّة صناعية وزراعية من خلال المزارع الجماعية وأفران الصُلب.
    ومع ذلك، أدّت هذه السياسات إلى انتشار المجاعة وتدمير الاقتصاد، ما أدّى إلى وفاة الملايين من الناس. وكانت "القفزة العظيمة إلى الأمام"، التي شهدتها الصين في الفترة من 1958 إلى 1962، ذات عواقب كبيرة وطويلة المدى أثّرت بشكل عميق على المجتمع الصيني، وأدّت إلى معاناة إنسانية هائلة وانتكاسات اقتصادية وتداعيات سياسية. وقيل إنها تشكّل أحد أكثر الفصول ظلاماً في تاريخ الصين، ولا تزال آثارها تلقي بظلالها على البلاد حتى يومنا هذا.
    وأدّى فشل "القفزة" إلى فقدان مصداقية ماو تسي تونغ وسياساته. كما قوّضت الكارثة الاقتصادية والإنسانية موقفه داخل الحزب وأثارت انتقادات داخلية ضدّه. ونتج عن هذا في النهاية اشتداد الصراع على السلطة داخل الحزب وإطلاق الثورة الثقافية.
    بدأ ماو الثورة الثقافية عام 1966، وكانت فترة اضطرابات سياسية واجتماعية. وخلالها قام بتعبئة شباب الحرس الأحمر لتطهير العناصر "المعادية للثورة" والانخراط في النضال الأيديولوجي. وأدّت الحركة إلى انتشار العنف وتدمير التراث الثقافي وتعطيل التعليم والمؤسّسات.
    قصّة المانغو مع ماو ليست سوى قصّة ثانوية وربّما هامشية وسط عقد من التاريخ المؤلم المدفون. وحتى اليوم ظلّت مناقشة الثورة الثقافية بمثابة "التابو" في جميع أنحاء الصين.
    وعلى الرغم من أن بعض الحرس الأحمر السابقين حاولوا تحدّي هذه السياسة من خلال التفكير العلني والاعتذار عن أفعالهم، الا انهم ما زالوا يتجنّبون الإساءة إلى ماو تسي تونغ شخصيّا.
    ونظراً للمشهد السياسي الحالي في الصين، فإن الوقت وحده هو الذي سيحدّد متى سيناقَش هذا التاريخ بشكل مفتوح وحرّ.

    Credits
    ames.cam.ac.uk

    الجمعة، مارس 29، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • الشاعر الاسباني رافائيل البيرتي معظم أشعاره مستوحاة من الرسم. وقصائد أحد دواوينه تتضمّن إشارات عديدة إلى الرسّامين الذين كان قد رأى أعمالهم في متحف برادو في مدريد في صباه.
    وبالنسبة له، فإن الأصفر هو أكثر لون محمّل بالرموز. وهو يراه كرمز للسعادة، لكنه أيضا رمز للفقر والمرض والمعاناة والذبول. كما أن الأصفر يقترن عنده دائما بالخريف. وفي سياق حديثه عن هذا اللون، يشير إلى لوحة "المظلّة" لدي غويا كأفضل مثال لاستخدام اللون الأصفر.
    وفي العديد من قصائده، يتحدّث البيرتي عن الحورية الخضراء الصغيرة. ويرجّح انه استلهم هذه الصورة الشعرية من الحوريات اللاتي سبق أن رآهنّ في العديد من لوحات الرسّام الهولندي بيتر بول روبنز في مدريد.
    وفي قصيدة بعنوان "ليوناردو"، يتحدّث البيرتي حصرا عن اللون الأزرق، فيقرنه بدافنشي، لكنه أيضا يذكره مقرونا بآخرين مثل بوسان وفيلاسكيز وغويا. ويشير إلى أن مثله الأعلى في توظيف الأزرق هو بيكاسو.
    في حديثه عن الأزرق، يشير الشاعر إلى لوحة بيكاسو بعنوان "المأساة" باعتبارها النموذج الأكمل لاستخدام الأزرق في الفن. كما يذكر لوحة فرا انجيليكو "البشارة" ولوحة "مولد فينوس" لبوتيتشيللي باعتبارهما مثالين آخرين رائعين لاستخدام الألوان الزرقاء.
    يذكر البيرتي أيضا أن اللون الأرجواني يستثير لديه شعورا بالحزن والمعاناة. وهو يتحدّث عنه مقرونا بلوحات الرسّام الاسباني إل غريكو. أما الزهري الناعم فهو عنده رمز للحسّية، وهو يذكره عند الحديث عن أعمال الرسّام الفرنسي رينوار.

  • عندما قال ويليام فوكنر "الماضي لا يموت، إنه ليس حتى ماضيا"، كان يعبّر عن فكرة مفادها أن أحداث الماضي وتأثيراته تستمرّ في تشكيل الحاضر والمستقبل وتؤثّر عليهما. ويعكس هذا الاقتباس إيمان فوكنر بالأهميّة الدائمة للتاريخ والطرق التي يستمرّ بها صداه في العالم المعاصر.
    فهو يشير إلى أن الماضي ليس مجرّد مجموعة من الأحداث التي انتهت، بل هو قوّة مستمرّة في ممارسة تأثيرها على الحاضر. وهذا يجسّد فهم الكاتب العميق للعلاقة المعقّدة بين التاريخ والحاضر.
    كان فوكنر كاتبا أمريكيا معروفا برواياته وقصصه القصيرة التي تدور أحداثها في منطقة خيالية تدعى يوكناباتاوفا. وأحد مواضيعه المتكرّرة في رواياته هي فكرة أن الماضي ليس شيئا يمكن تجاهله أو نسيانه بسهولة.
    كان يعتقد أن الأحداث التاريخية والموروثات الثقافية والتجارب الشخصية لها تأثير عميق على الأفراد والمجتمعات حتى بعد فترة طويلة من وقوعها. والاقتباس يشير إلى أن الماضي ليس كيانا ثابتا وبعيدا، بل هو قوّة حيّة ودائمة الحضور ومستمرّة في تشكيل الحاضر وربّما المستقبل.
    وكثيرا ما استكشف فوكنر هذا المفهوم في أعماله من خلال الخوض في التواريخ المعقّدة لشخصيّاته وتفاعلاتهم مع القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية في عصرهم. وقد درس مطوّلا الآثار المتبقيّة من زمن العبودية والحرب الأهلية والتحيّزات والانقسامات العميقة الجذور التي استمرّت في الجنوب الأمريكي. وكثيرا ما صوّرت كتاباته الطرق التي أثّر بها ثقل التاريخ على حياة شخصياته وعلى علاقاتهم البينية، ما أدّى في الغالب إلى دورات من العنف وصدامات وصراعات شخصية.
    ويمكن تفسير عبارة "الماضي لا يموت، إنه ليس حتى ماضيا" على أنها تذكير بأن المظالم التاريخية والصراعات التي لم تُحل والقضايا المجتمعية العميقة الغور لا تزال تتردّد أصداؤها في الوقت الحاضر. وفوكنر يرى أنه من أجل فهم ومعالجة التحدّيات المعاصرة، يجب على المرء أن يواجه ويصارع حمولة التاريخ المعقّدة. كما أن الكاتب من خلال هذا الاقتباس يشجّع الأفراد والمجتمعات على التعامل بشكل نقدي مع ماضيهم والاعتراف بتأثيره الدائم، وأن يعملوا من أجل مستقبل أكثر عدالة وإنصافا.


  • لعب مفهوم الروح دورا مهمّا في تشكيل الأفكار اليونانية القديمة حول الحياة الآخرة والغرض من الحياة والسلوك الأخلاقي. وكانت لديهم مجموعة متنوّعة من المعتقدات فيما يتعلّق بمفهوم النفس وخلودها. وقدّمت المدارس الفلسفية والدينية المختلفة داخل الثقافة اليونانية وجهات نظر متباينة حول طبيعة الروح ووجودها بعد الموت.
    يرى هوميروس في الإلياذة والأوديسّا، مثلا، أن الروح قوّة حياة أو مبدأ متحرّك يترك الجسد عند الموت وينحدر إلى عالم الجحيم. والروح عنده ليست خالدة بنفس معنى الآلهة.
    ووفقا للمعتقدات الأورفية المرتبط بالشخصية الأسطورية "أورفيوس" فإن الروح إلهية وخالدة بطبيعتها وتخضع لدورة التناسخ.
    ورأى فيثاغورس وأتباعه أن النفس خالدة وتخضع لسلسلة من التناسخات. وكان ينظر إلى الروح على أنها كيان متميّز ويمكن أن يوجد بشكل منفصل عن الجسد ويحتفظ بذكريات الحياة الماضية.
    أما أفلاطون فكان يؤمن برؤية ثنائية للروح ويرى بأنها خالدة وموجودة قبل الولادة في عالم من الأشكال الأبدية. والجسد برأيه يعتبر وعاءً مؤقّتا للروح، بينما الموت تحرير للنفس وعودة إلى طبيعتها الحقيقية.
    أما الرواقيون، مثل إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وغيرهما، فقد نظروا إلى الروح كقوّة حيوية مرتبطة بالإله. لكنهم لم يؤكّدوا بالضرورة على خلودها. وكانوا يؤمنون بالعيش الفاضل وبضرورة قبول الموت كجزء طبيعي من الوجود.

  • Credits
    wordswithoutborders.org