:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، ديسمبر 27، 2023

محطّات


  • في الوقت الذي غامر عدد قليل من الأمريكيين بالوصول الى غرب نهر المسيسيبي، قدّمت لوحة "النظر أسفل وادي يوساميتي في كاليفورنيا" منظرا ترحيبيّا لواحدة من عجائب الطبيعة على الجانب البعيد من القارّة. وبعد رحلته الأولى إلى الغرب الأمريكي عام 1859، رسم ألبيرت بيرشتات سلسلة من لوحات المناظر الطبيعية التي أثبتت شعبيّتها لدى جمهور الساحل الشرقي لدرجة أن الرسّام كان حريصا على العودة لرسم المزيد. وأدّى نشوب الحرب الأهلية إلى تأجيل رحلته، ولكن في عام 1863 انطلق بيرشتات من فيلادلفيا للقيام برحلة عبر القارّات بالقطار والحافلة وعلى ظهور الخيل.
    وعندما وصل أخيرا إلى كاليفورنيا، تجاوزت مناظرها الطبيعية توقّعاته. والمعروف أن بيرشتات ولد وتعلّم في ألمانيا، وكان على دراية جيّدة بجمال جبال الألب. لكنه كان يصرّ على انه لا توجد في أيّ مكان في أوروبّا مناظر طبيعية يمكن مقارنتها بمناظر سييرا نيفادا في مقاطعة يوساميتي. وتدعم لوحته "النظر إلى أسفل وادي يوساميتي" هذا الادّعاء القومي وتعبّر عن إحساس الفنّان بالدهشة عندما رأى لأوّل مرّة المناظر الطبيعية لتلك الجبال المهيبة.
    وقد اعترض بعض النقّاد آنذاك على اللوحة، بحجّة أن أسلوب بيرشتات جعل الصورة تبدو وكأنها مشهد مسرحي أكثر من كونها فنّا جميلا. ولكن ربّما كان هذا في الواقع هو التأثير المطلوب. ولم يقدّم بيرشتات أيّ أشخاص في لوحته ولا مسافرا واحدا أو صيّادا أو مستوطنا أو هنديّا أمريكيّا. وفي وسط التوليف، حيث نتوقّع أن نجد ذروة درامية للحدث، لا يوجد سوى مساحة شاغرة مغمورة بضوء ذهبي يخترق الغيوم. وفي صورة بيرشتات، يأخذ المشاهد وجهة نظر الفنّان ويكتشف أنه أمام هذا المشهد الرائع فإن البشر يتضاءلون إلى حدّ التفاهة.
    كانت منطقة يوساميتي معزولة بسبب جغرافيّتها حتى ما قبل منتصف القرن التاسع عشر بقليل، عندما جلبت حمّى البحث عن الذهب في كاليفورنيا عام 1848 موجة من السكّان غير الأصليين إلى جبال سييرا وتمّ "اكتشاف" الوادي. وكان الأمريكيون مفتونين بالوادي المخفيّ منذ فترة طويلة، وأشبع بيرشتات فضولهم من خلال توثيق معالمه الرئيسية رغم انه بالغ في تصوير أبعاده المهيبة. وقد يكون المقصود من الضباب الذهبيّ الذي وظّفه بيرشتات لتنعيم حوافّ المنحدرات الرائعة تبرير تلاعبه الخلاق بالحقيقة. وكما لاحظ أحد نقّاد سان فرانسيسكو عام 1865، يبدو الأمر كما لو أن المنظر رُسم في إلدورادو، في أرض الذهب البعيدة التي سرى ذكرها في أغنية أو قصّة أو شوهدت في حلم دون أن تُرى".
    كان بيرشتات يمتلك فهماً غريباً لما أراد الأميركيون في عصره أن يعتقدوا أنه ينتظرهم على الحدود الغربية: جنّة عدن التي باركها الله ولم تمسّها حرب أهلية وتحمل وعدا ببداية جديدة. لوحاته الرومانسية تجسّد الأمل الجماعي في أن المناظر الطبيعية النائية يمكن أن تشفي جراح الأمّة. وقد أكّد جون موير، أحد دعاة الحفاظ على البيئة ومؤسّس نادي سييرا، وهو من معاصري بيرشتات القريبين، على فكرة أن وادي يوساميتي يمكن أن ينعش الروح: "ستهبّ الرياح وتهبك نضارتها والعواصف طاقتها بينما تتساقط الهموم كأوراق الخريف."
    كان من الممكن أن تُرسم لوحة "النظر إلى أسفل وادي يوساميتي" في محترف بيرشتات في نيويورك عام 1864، عندما خصّص أبراهام لينكولن المنطقة كمتنزّه حكومي. وكانت تلك هي المرّة الأولى التي تنقذ فيها الحكومة الفيدرالية مساحة من الأراضي ذات المناظر الخلابة من عمليات التطوير. ولكن عندما تمّ الانتهاء من بناء خطّ السكّة الحديد العابر للقارّة بعد خمس سنوات، امتلأت المنطقة بالسيّاح الذين أرادوا أن يروا بأنفسهم الأماكن الرائعة التي عرفوها فقط من خلال اللوحات والصور الفوتوغرافية. وعندما عاد بيرشتات إلى يوساميتي عام 1872، عبّر عن أسفه لخسارة البرّية البكر التي صوّرها قبل ذلك ببضع سنوات فقط.


  • من المفردات الشائعة في اللغة اليابانية مفردة تسوندوكوTsundoku التي تعني فنّ شراء الكتب بأكثر مما يمكن للمرء أن يقرأه. وهي تتكوّن من كلمتين: تسونو وتعني تراكم، ودوكو وتعني يقرأ أو قراءة.
    وربّما تظن ان تسوندوكو هي معادل للكلمة الانغليزية ببليومانيا Bibliomania التي تعني الهوس بالكتب. غير ان هناك فرقا دقيقا بين الكلمتين، فالمهووس بالكتب يشتري الكتب بنيّة إنشاء مجموعة من الكتب. في حين ان الشخص الذي يصفه مصطلح تسوندوكو الياباني يشتري الكتب بنيّة قراءتها، لكن في نهاية المطاف تتكدّس تلك الكتب ولا تُقرأ.
    وفي الثقافة اليابانية لا توجد دلالة سلبية لهذه الكلمة. وإذا وصفت بها شخصا ما فلا يعني ذلك أنك تنتقده على شراء الكثير من الكتب دون أن يقرأها.
    الأديب الإيطالي امبرتو ايكو مؤلّف رواية "اسم الوردة" تحدّث مرّة عن كيف أن بعض الضيوف الذين اعتادوا أن يأتوا إلى منزله لزيارته ورؤية مجموعته المكوّنة من 30 ألف كتاب عبّروا عن دهشتهم من هذا العدد الكبير من الكتب وسألوه إن كان قرأها كلّها.
    وكان يردّ على ذلك مازحا بقوله: هذه الكتب قرأتها بالفعل، اما غير المقروءة فأتركها عادةً في مكتبي في الجامعة". بالطبع كان إيكو يعلم أن كلّ شخص هو فضوليّ فكريّا وأن المكتبة ليست مجرّد مجموعة من الكتب التي يعلوها الغبار، بل هي في المقام الأوّل أداة للبحث، وكلّ كتاب غير مقروء في مكتباتنا لا يقلّ أهميّة عن الكتب المقروءة.
    فالأخيرة تبيّن حدود معرفتنا ومستوى جهلنا، وكلّما عرفت أكثر ازداد عدد الكتب غير المقروءة، ولا يمكنك ان تكون نشطا فكريا دون إدراك مدى جهلك. وبطبيعة الحال، شراء الكتب وقراءتها يمكن أن تصبح هاجسا وحتى إدمانا. وهي تصبح إدمانا عندما تقرأ كتابا تلو الآخر دون ان تلتقط انفاسك ودون ان تتوقّف لاستيعاب ما قرأته.
    وأوضح علامة لمدمن الكتب هو انه ينسى ما قرأه منذ شهر فقط. وعلى النقيض من ذلك، لا يمكن للقرّاء الحقيقيين أن يستسلموا للنوم في الليل، لأنهم يظلّون يفكّرون في الرسائل الدقيقة والعميقة التي صادفوها أثناء قراءتهم الأخيرة.
  • يحكى أن رجلا رأى مجموعة من الفيلة الضخمة مربوطة بحبال صغيرة في أرجلها في سيرك. وتساءل: لماذا لم تحرّر الأفيال أنفسها بما أن لديها القدرة والقوّة على تحقيق ذلك. قال أحد المدرّبين: عندما كانت هذه الأفيال صغيرة، كانت مربوطة بنفس هذا الحبل ولم تتمكّن من تحرير أنفسها لأنها لم تكن قادرة بسبب عجزها. وعندما كبرت اعتقدت أن الحبل ما يزال يقيّدها، لذا لم تحاول الهرب.
    هذه القصّة تذكّرنا بأن المعتقدات المعوّقة يمكن أن تمنعنا من تحقيق إمكاناتنا الكاملة. والقصّة تشجّعنا أيضا على التخلّي عن الأحكام المسبقة والثقة في تغيّر الظروف والأحداث وعلى أن نتعرّف على القوّة الموجودة بداخلنا. كما أنها تدعونا إلى إعادة النظر في آرائنا وإيجاد معنى أعمق لتجارب الحياة.

  • Credits
    albertbierstadt.org

    الثلاثاء، ديسمبر 19، 2023

    كتاب الوسادة


    ذات مساء، منذ ألف عام، التقطت امرأة يابانية فرشاتها وغمستها في الحبر وكتبت: في الربيع يكون الفجر أجمل. وبينما يزحف الضوء فوق التلال، تنصبغ حدوده باللون الأحمر الباهت وتنتشر فوقه خصلات من سحابة أرجوانية".
    كانت المرأة، واسمها سي شوناغون، وصيفة لامبراطورة اليابان لمدّة عشر سنوات أثناء حكم سلالة هييان. وفي مرحلة ما، قرّرت أن تصنع كتابا على شكل وسادة، وهو الكتاب الذي ظلّت تحتفظ به بجوار سريرها، وكانت تدوّن فيه القصص والذكريات والانطباعات وأيّ شيء آخر يخطر ببالها. واشتهر هذا الكتاب في ما بعد بـ "كتاب الوسادة".
    بالنسبة لهواة التاريخ، يُعتبر الكتاب صورة مفصّلة عن حياة البلاط في اليابان الإمبراطورية. وبالنسبة لذوي الميول الفنّية والشعرية، فإن صور شوناغون وأوصافها جميلة ومثيرة كقولها مثلا: عند عبور نهر في ضوء القمر الساطع، أحبّ رؤية الماء متناثرا في زخّات من البلّلور تحت أقدام الثور".
    ومثل قولها: معطف أبيض ملبوس فوق صدرية بنفسجية، بيض بطّ، ثلج مبشور ممزوج بشراب ليانا وموضوع في وعاء فضّي جديد، مسبحة من البلّلور الصخري، ثلوج على أزهار ويستيريا أو برقوق، طفل جميل يأكل الفراولة."
    بالنسبة للأشخاص الذين يميلون إلى القيل والقال، هناك الكثير من ثرثرة البلاط التي تقدّمها لنا المؤلّفة. كما تقدّم الكثير من الحكايات المثيرة عن الرجال الذين عرفتهم وعن نساء يابانيات ثريّات يزرن المعابد أو يقلن الشعر أو يكتبن قوائم الواجبات. وهنّ بشكل عام ذكيّات وأنيقات طوال الوقت.
    تقول الكاتبة في جزء آخر من الكتاب: يا لجمال ليالي الصيف، ليس فقط عندما يظهر القمر، ولكن أيضا في الليالي المظلمة، حيث تطير اليراعات ذهابا وإيابا، وحتى عندما يهطل المطر!".
    ثم تقول: الألواح الأرضية في غرفة الانتظار لامعة بحيث تعكس كل شيء في الجوار. تنساب الستائر بسلاسة لتكشف عن سيّدة المنزل التي ترتدي تحت الرداء الداكن الذي تستخدمه كغطاء لسريرها ثوبا أبيض غير مبطّن وبنطالا قرمزيا".
    وتقول: من أحد جوانب القاعة يأتي صوت موسيقى العود الجميلة. ينقر العازف الأوتار بلطف بحيث يسمع المرء بالكاد رنين النغمات. وفي جزء آخر من الغرفة، تتجمع السيّدات معا تحت ستارة مغلقة. وتشتعل النار في أعماق مبخرة، ناشرةً رائحة حزينة غامضة ومليئة بالأناقة الهادئة".
    وتقول أيضا: في وقت متأخّر من المساء، هناك صنبور خفيّ في الخارج. تسرع وصيفة تعرف دائما ما يحدث إلى البوّابة وتسمح للزائر بالدخول. ثم بنظرة متعجرفة على وجهها تقوده خلسة إلى شخص ينتظر وصوله".
    مضمون الكتاب يوحي بأنه كان يُسمح لسيّدات بلاط سلالة هييان بمزيد من الحرّية مقارنة بمعظم النساء اليابانيات في ذلك الوقت. وعلى الرغم من الستائر التي تحجبهن عن الأنظار، كانت هناك إمكانية لعلاقات شبه سرّية، يسبقها ويتبعها تبادل منمّق للشعر.
    في مقدّمة الكتاب، تكتب سي شوناغون: لقد كتبت كلّ هذه الملاحظات في المنزل، عندما كان لديّ قدر كبير من الوقت لنفسي واعتقدت أن أحداً لن يلاحظ ما كنت أفعله. وقد ضمّنتها كلّ ما رأيته وشعرت به. ولأن الكثير منها قد يبدو خبيثا وحتى ضارّا بالنسبة للآخرين، فقد حرصت على إبقاء كتابي مخفيّا، لكنه أصبح الآن علنيّا، وهو آخر شيء كنت أتوقّعه."
    وتضيف: بدأت في ملء دفاتر الملاحظات بحقائق غريبة وقصص من الماضي وكلّ الأشياء الأخرى التي غالبا ما تتضمّن أكثر الموادّ تفاهةً. وبشكل عام، ركّزتُ على الأشياء والأشخاص الذين وجدتهم ساحرين ورائعين. كما ان ملاحظاتي مليئة أيضا بالقصائد والملاحظات عن الأشجار والنباتات والطيور والحشرات. ومهما كان رأي الناس في كتابي، فإنني لا أزال أشعر بالأسف لأنه ظهر إلى النور."
    يجب الاعتراف بأن شوناغون ليست إنسانة مثالية. فهي تكره أفراد الطبقات الدنيا، خاصّة إذا كانوا يرتدون ملابس سيّئة أو يصفّفون شعرهم بشكل خاطئ. "الرجال لديهم مشاعر غريبة حقّا ويتصرّفون بطرق أكثر غرابة. وفي بعض الأحيان يترك الرجل امرأة جميلة جدّا ليتزوّج بأخرى قبيحة".
    لكن شوناغون تكتب بعد ذلك قصصا قصيرة مثل هذه: امرأة جذّابة ينسدل شعرها بشكل فضفاض فوق جبينها تلقّت رسالة في الظلام. من الواضح أنها غير صبورة كثيرا بحيث لا يمكنها انتظار المصباح، وبدلاً من ذلك تلتقط جذوة نار مشتعلة من الموقد وتقرأ بجهد على ضوئها الشاحب."
    وتروي الكاتبة قصصا أخرى عن الإمبراطورة ورجال الحاشية الآخرين، وتحرص على أن نعرف آراءها في كلّ شيء. كما تسرد أسماء الجبال والبحيرات والغابات والمعابد وتعطي آراءها حول الموضات والألوان التي تبدو متناغمة معا.
    ومن نماذج العناوين التي اختارتها لبعض مقاطع كتابها: الأشياء التي يصعب قولها"، و"المميّزات التي أحبّها بشكل خاص"، و"الأشياء التي تستحقّ المشاهدة"، و"الأشخاص الذين يبدون سعداء مع أنفسهم"، و"الأشياء القريبة رغم كونها بعيدة"، و"الأشخاص الذين يعانون"، و"الأشياء التي تجعل المرء متوتّرا"، و"الأشياء التي تبدو أفضل في الليل منها في النهار"، و"الأشياء التي تجعل المرء يشعر بالندم".
    تمّ تداول "كتاب الوسادة" في البلاط الامبراطوري، وظلّ متوافرا في المخطوطات المكتوبة بخط اليد لعدّة مئات من السنين. وطُبع لأوّل مرّة في القرن السابع عشر، وهو موجود بإصدارات مختلفة، غُيّر في بعضها ترتيب الإدخالات وأضيفت او حُذفت أو حُرّرت تعليقات وفقرات.
    والذين كتبوا عن سي شوناغون في ما بعد وصفوها بأنها كانت امرأة مشاكسة، مع ثرثرة متأصّلة ومتعجرفة. وكانت تمضي أيّامها في كسل، تكتب شعرا وتعليقات لاذعة حول الخدم والطبقات الدنيا وتتقرّب من رجال الحاشية. لكنها أيضا كانت سريعة البديهة وحسّاسة ومنتبهة تماما لكل جمال العالم، وعندما تكتب بهذه الطريقة لا يسعك إلا أن تحبّها:
    الأشياء التي تجعل قلب الإنسان ينبض بشكل أسرع: العصافير وهي تطعم صغارها، والمرور بمكان يلعب فيه الأطفال، والنوم في غرفة تضوع فيها رائحة بخور فاخر".
    إن كنت من محبّي الشعر والسفر عبر الزمن، فستستمتع بهذه الرحلة إلى اليابان في القرن العاشر الميلادي، حيث ستشاهد عالما جديدا ومختلفا من خلال عيني امرأة.

    Credits
    kyotojournal.org

    الخميس، ديسمبر 14، 2023

    محطّات


  • "غاتسبي العظيم" هي رواية سكوت فيتزجيرالد المشهورة والمنشورة عام 1925. وأحداث الرواية تتمحور حول حياة المليونير الغامض جاي غاتسبي وسعيه لتحقيق ما يُسمّى بالحلم الأمريكي.
    بشكل عام، تقدّم الرواية نقدا لاذعا للحلم الأمريكي والانحلال الأخلاقي للمجتمع والطبيعة الموقّتة للسعادة. وتثير الرواية تساؤلات حول قيم وتطلّعات المجتمع الأمريكي في عشرينيات القرن الماضي. ولا يزال يتردّد صدى هذه الرواية كقصّة تحذيرية من مخاطر الماديّة والسعي وراء الأوهام.
    لم أقرأ الرواية، لكن شاهدت الفيلم الرائع المستوحى من أجوائها. وفيتزجيرالد يحاول من خلال كتابه معالجة مواضيع مختلفة ونقل العديد من الرسائل.
    ومن أهمّها أن الحلم الأمريكي ذو طبيعة مراوغة، كما أنه هدف ضحل وبعيد المنال ومبنيّ على المادّية والثروة والبحث عن المتعة. وسعي البطل غاتسبي الدؤوب لتحقيق الثروة والمكانة الاجتماعية يؤدّي في النهاية إلى سقوطه.
    أيضا تتعمّق الرواية في موضوع الفساد والانحلال الأخلاقي الذي كثيرا ما يصاحب محاولات تحقيق الحلم الأمريكي. فالشخصيات تنخرط في خيانة الأمانة والخداع والسلوك غير الأخلاقي في سعيها للحصول على الثروة والمكانة الاجتماعية.
    كما تستكشف الرواية موضوع الوهم وقوّة الإدراك، إذ تقوم الشخصيات بإنشاء واجهات وأقنعة متقنة لإخفاء ذواتهم الحقيقية. وتتناول الرواية الفراغ المتأصّل في هذه الأوهام والعواقب المدمّرة للعيش في عالم من المظاهر الزائفة والخادعة.
    تصوير فيتزجيرالد للشخصيات والأحداث في الرواية يعكس خيبة الأمل الناتجة عن تراجع الحلم الأمريكي في العشرينيات. وهو يصوّر التجاوزات والانحطاط الأخلاقي والسطحية على أنها أعراض لمجتمع ينهار. والرواية تنقد قيم وتطلّعات ذلك العصر وتشير إلى أن السعي وراء الثروة المادّية يمكن أن يؤدّي إلى الإفلاس الروحي والأخلاقي.
    رواية غاتسبي العظيم تستكشف أيضا موضوع الحنين والشوق إلى الماضي "المثالي". وافتتان غاتسبي بالبطلة ديزي بيوكانان تغذّيه رغبته في استعادة الذكريات الرومانسية لعلاقتهما السابقة. والرواية تؤكّد على استحالة إعادة خلق الماضي وعلى النتائج المدمّرة للتشبّث بنسخة مثالية منه.
    حبّ غاتسبي لديزي حبّ مهووس واستهلاكي للغاية، ما يدفعه إلى بذل جهود غير عاديّة لاستعادتها. والرواية تتناول الخطوط غير الواضحة بين الحبّ الحقيقي وهوس التملّك، فضلاً عن العواقب الوخيمة للحبّ بلا مقابل.
    كما يتناول فيتزجيرالد موضوع الطبقات الاجتماعية وعدم المساواة المتجذّرة في المجتمع الأمريكي. والشخصيات في الرواية مصنّفة بحسب حالتهم الاجتماعية التي تكشف عن الاختلافات الصارخة بين النخبة الثريّة والطبقة العاملة.
    الشخصيات، وخاصّة غاتسبي، تكون مدفوعة في البداية بأحلام وتطلّعات مثالية. ومع ذلك، ومع تطوّر الاحداث، تتحطّم أحلامهم ويواجهون الحقائق القاسية لظروفهم. وتتأمّل الرواية فقدان البراءة وتفكّك الرؤى المثالية في مواجهة عالم معيب وفاسد.
    أيضا تستكشف الرواية موضوع الإدراك وتأثير الحكم الاجتماعي على الأفراد. فغالبا ما يُحكم على شخصيات الكتاب بناءً على المظهر والحالة الاجتماعية، ما يقود إلى افتراضات ومفاهيم خاطئة. وتثير الرواية تساؤلات حول سطحية أحكام المجتمع والطرق التي يمكن للتصوّرات السريعة تشكيل وتحديد حياة الأفراد.
    الرواية تنتقد أيضا أسلوب حياة المتعة، حيث تنغمس الشخصيات في الحفلات الباهظة والكحول وغيرها من أشكال الهروب لملء الفراغ في حياتهم. ومع ذلك، فإن هذا الانهماك يجعلهم يشعرون في النهاية بالفراغ وعدم الرضا عن الذات. والكاتب يرى أن السعادة الحقيقية والإشباع لا يمكن العثور عليهما في الملذّات المادّية الزائدة والسطحية.
    الراوي الذي اختاره فيتزجيرالد كي يسرد احداث القصّة يقدّم وجهة نظر ذاتيّة وغير موثوقة للأحداث في الكثير من الأحيان. ومن خلال استخدام راوٍ غير موثوق، يثير المؤلّف تساؤلات حول طبيعة الحقيقة والإدراك وتشويه الواقع. والكاتب بهذا يشجّع القارئ على التشكيك في دقّة السرد وتحيّزاته، ما يؤدّي إلى استكشاف أعمق لموضوعات الرواية.
    "غاتسبي العظيم" رواية مقنعة ومثيرة للتفكير وما يزال يُحتفى بها باعتبارها عملا كلاسيكيا من الأدب الأمريكي، حيث تقدّم رؤى عميقة حول الحالة الإنسانية والسعي وراء السعادة والديناميكيات المعقّدة التي يعمل بها المجتمع.


  • الأصفر هو اللون الأقرب إلى الشمس. وهو لون ذو شخصية مبهجة ومحفّزة. ولا غرابة في أن الصينيين كانوا يقدّسونه. وكان هو اللون المفضّل لملوكهم. وأحدهم كان يلقّب بالإمبراطور الأصفر الذي يُعتقَد انه مؤسّس الصين. ويقال أن هذا الإمبراطور ولد ببشرة صفراء أو أنه كان يرتدي ثيابا صفراء كرمز لمكانته الإلهية. ومع مرور الوقت، أصبح اللون الأصفر مرتبطا بالإمبراطور والبلاط. وكان يُعتبر دائما رمزا للقوّة والازدهار والحظّ السعيد.
    وقد ظلّ هذا اللون مميّزا في الصين لآلاف السنين. ويُعتبر لون الأرض ومركز كلّ شيء لأنه يولّد "الين واليانغ"، كما يقول الصينيون. وتفوّق الأصفر على الألوان الأخرى عندما أصبح شعار الإمبراطور، واستُخدم بكثرة في تزيين القصور الملكية والمعابد والمذابح والملوك أنفسهم.
    ومنذ القرن السابع عشر تقرّر أن الإمبراطور وحده هو الذي يمكنه ارتداء اللون الأصفر المحمر لأنه لون الشمس. وكان كونفوشيوس قد قال قبل ذلك بقرنين: لا يمكن أن يكون هناك شمسان في السماء، ولا إمبراطوران على الأرض". وهذا اللون الأصفر المحمر هو ما يشار إليه اليوم بالأصفر الإمبراطوري.
    ومن أجل الحصول على اللون بدقّة، يجب حصد أزهار نبات قفّاز الثعلب الصيني وطحنها وتحويلها الى عجينة ناعمة. ثم يُخلط المعجون بمادّة لاذعة مصنوعة من رماد السنديان والتوت أو أشجار الشيح الشاطئية.
    وكان استخدام اللون الأصفر الإمبراطوري خاضعا للحراسة. وقد صدر قانون في بداية عهد أسرة التانغ عام ١٦١٨م، ينصّ على أنه يُحظر على عامّة الناس والمسؤولين ارتداء الملابس أو الاكسسوارات ذات اللون الأصفر المحمر.
    واستمر تبنّي اللون الأصفر الإمبراطوري حتى عام 1912 عندما سقطت تسيشي آخر إمبراطورة امرأة للصين ومعها حكم أسرة تشينغ خلال ثورة شينهاي. ومنذ ذلك الحين فقد هذا اللون الأيقوني أهميّته.

  • ذات مرّة وصل شخص إلى قرية قادما من قرية أخرى. وكان يتساءل عمّا إذا كان سيحبّ القرية الجديدة. فذهب إلى حكيمها وسأله: هل تعتقد أنني سأحبّ هذه القرية؟ لقد لاحظت أن أناسها لطفاء ويحبّون الغريب. فسأله الحكيم: كيف كان الناس في البلدة التي أتيت منها؟ فقال: كانوا سيّئين وجشعين وغضوبين ويعيشون على الغشّ والسرقة. قال الحكيم: هؤلاء هم بالضبط نوعية الناس الموجودين في هذه القرية.
    وبعد يوم أتى شخص اخر إلى القرية، وزار الحكيم وسأله نفس السؤال الذي سأله صاحبنا الاوّل. فسأله الحكيم: كيف كان الناس في البلدة التي أتيت منها؟ فقال: كانوا لطفاء ويعيشون في وئام ويهتمّون ببعضهم البعض. فقال الحكيم: حسنا، هؤلاء هم بالضبط نوعية الأشخاص الذين يعيشون في هذه القرية.
    والدرس المستفاد هو أن ما تراه في العالم سيراه العالم فيك، إذا كنت ترى فقط الجانب السيّئ والجشِع من البشر، فهذا ما سيرونه فيك. لذا كن طيّبا مع العالم يكن العالم طيّبا معك.

  • Credits
    chinaonlinemuseum.com

    الثلاثاء، ديسمبر 05، 2023

    محطّات


  • لوحة "إيفان الرهيب يقتل ابنه" من عام 1885 هي واحدة من أكثر أعمال الرسّام إيليا ريبين المشحونة بالمشاعر النفسية. وفيها يظهر القيصر الروسي إيفان وهو يحمل ابنه المحتضر بين ذراعيه وعلى وجهه علامات الصدمة.
    قيل إن الابن، واسمه ايفان أيضا، تسبّب في إجهاض زوجته عندما ضربها وهي حامل بحجّة أنها كانت ترتدي ملابس غير محتشمة. وعندما علم والده بذلك استبدّ به الغضب وضرب ابنه على رأسه بعصا مدبّبة، ما أدّى إلى وفاة الابن.
    لوحة ريبين أثارت جدلاً كبيراً عندما عُرضت لأول مرّة. ووجدها بعض النقّاد والجمهور مزعجة وانتقدوا الرسّام لتصويره مثل هذا المشهد العنيف. إلا أن آخرين أشادوا باللوحة لتجسيدها القويّ لتلك الحادثة التاريخية واستكشافها للمشاعر الإنسانية المعقّدة.
    وكان أحد جوانب الجدل هو الدقّة التاريخية للحدث المرسوم. وشكّك بعض النقّاد في دقّة ترجمة ريبين للحادثة بحجّة أن الروايات التاريخية لم تكن نهائية وأن الرسّام منح نفسه حرّية أكبر من اللازم في تصوير القصّة.
    في ذلك الوقت مرّ ريبين بظرف خطير لأنه، وعلى الرغم من أن بعض معاصريه من الرسّامين تناولوا نفس الحادثة من قبل، إلا أنهم لم يضمّنوا أعمالهم تلميحات سياسية كما فعل هو. وفي الواقع وبسبب تصويره للقيصر على أنه قاتل مختلّ، اضطرّ ريبين إلى إزالة اللوحة من المعرض ولم يُسمح له بنسخها أو توزيعها، بينما نظر مسئولو البلاط إلى الصورة باشمئزاز.
    وقد تعرّضت اللوحة للتخريب مرّتين. في الأولى تعمّد رسّام مراهق إحداث ثلاثة شقوق كبيرة في الجزء من الصورة الذي يظهر فيه وجها إيفان وابنه. وقد ارتكب فعلته وهو يصرخ: كفى موتاً، كفى سفكاً للدماء!" ولحسن الحظ، تمكّن ريبين بطريقة ما من إعادة اللوحة الى سابق عهدها.
    وفي المرّة الثانية اقتحم رجل قاعة متحف تريتياكوف حيث كانت تُعرض اللوحة وضربها بعمود معدني. وقد تضرّر القماش والإطار جرّاء الزجاج المتكسّر الذي غطّى اللوحة.
    واللوحة هي واحدة من أشهر اللوحات الروسية المليئة بالمشاعر والتفاصيل. ومن المذهل كيف استخدم الرسّام القماش والألوان لتصوير حزن القيصر الأب وجنونه ورعبه واليأس البادي في عينيه، لدرجة انه قد يُخيّل للناظر أن الرسّام كان حاضرا عند وقوع الحادثة.
    الابن يرقد مصدوما، وتعبيرات الاب المفجوع بشكل صارخ تتناقض مع تعبيرات وجه ابنه الهادئ والشبيه بوجه المسيح. وعلى الرغم من أن يد إيفان ملطّخة بالدماء، إلا أنه يبدو كما لو أنه يحاول إيقاف تدفّق الدم أو علاج جرح ابنه. وبينما تمتلئ عيناه بالصدمة والرعب لما فعله، فإن تعبيرات ابنه حزينة، ويبدو من خلال لمسه لذراع والده وكأنه يخفّف عنه ويواسيه بمحبّة على هذا الفعل.
    التصوير الوحشي والمشحون عاطفيّاً صدم وأزعج العديد من المتلقّين. ووجد البعض أن مستوى العنف المصوّر كان مفرطا، وثارت نقاشات أخرى حول مدى ملاءمة مثل هذه الصور في الفنّ.
    والأسوأ من ذلك أن اللوحة أثارت تساؤلات حول نوايا الفنّان والمعنى الكامن خلف العمل. واتهم بعض الكتّاب ريبين بالتركيز على الصور النمطية السلبية في التاريخ الروسي وتقديم وجهة نظر أحادية الجانب عن القيصر إيفان الرهيب. وشعر آخرون أن اللوحة ركّزت فقط على الجوانب الاستبدادية في شخصية القيصر، متجاهلة إنجازاته وإسهاماته الأخرى.
    لكن على الرغم من كلّ هذا الجدل، حظيت اللوحة باهتمام كبير وأصبحت واحدة من أشهر أيقونات الفنّ الروسي. وما تزال تُدرّس بسبب أسلوبها الفنّي وكثافتها الانفعالية واستكشافها للموضوعات التاريخية والنفسية.

  • في آسيا الوسطى، الأدب هو الحياة، حيث تندمج الافكار والظواهر والكتب المقدّسة والسياسة. والأفكار المهيمنة على الأدب هي الرثاء والشعور بالخراب والقبح والتشاؤم، حيث تتسرّب هذه المواضيع إلى حبر كلّ كلمة.
    ويمكن أن نسمع كلاما رثائيّاً عند الروائي حامد إسماعيلوف أو الشاعر المضطهد يوسف جمعة أو عند كاتب بارز آخر هو القرغيزي جنكيز أيتماتوف. في رواية الأخير بعنوان "اليوم أكثر من مائة عام"، نقرأ عن عامل سكّة حديد يكافح لدفن صديق له متوفّى.
    ويستخدم أيتماتوف فكرة الذئب، وهي أسطورة تركية قديمة تعود إلى عصور ما قبل الإسلام عن رجل أسير يلفّ رأسه بجلد جمل ثم يُترك بعد ذلك معرّضا لأشعّة الشمس عدّة أيّام. وشيئا فشيئا ينكمش الجلد ويضغط على جمجمة الرجل حتى يسحق دماغه، ما يؤدّي إلى تدمير ذاكرته وقدرته على التفكير وجعله عبدا مثاليّا. إنها استعارة مزعجة لتجربة الشيوعية في آسيا الوسطى.
    الأوزبك هم أحفاد تيمورلنك فاتح العالم ومدمّر المدن وبانيها وراعي الفنون وملهم الكتّاب الناطقين بالإنغليزية، من كريستوفر مارلو إلى إدغار آلان بو، وعمر الخيّام الذي تُرجمت رباعيّاته واُعيدت ترجمتها في العالم اللاتيني لأجيال.
    زمن المغول، كانت مدن مثل أنديجان وبخارى ومرو وخيفا وقوقند وأوش وسمرقند وطشقند دولا ذات سيادة بدرجة أو بأخرى ولها تاريخ وتقاليد راسخة. وكانت ألماآتي وعشق أباد وأستانا ودوشنبي وبيشكيك شابّة مقارنة بتلك الحواضر الفخمة.
    وفي نهايات القرن العشرين، دخلت روسيا والصين وأميركا إلى المنطقة، وجلبت معها المسيحية والقيصرية والكونفوشية والشيوعية والليبرالية والديمقراطية، والأهم من ذلك كلّه القومية.
    الشاعر أباي كونانباييف المتوفّى عام 1904 والذي يشبّهه البعض بمعاصره الشاعر الأمريكي والت ويتمان يقول هذه الكلمات اليائسة والمتحديّة في إحدى قصائده:
    سواءً أكان ذلك خيرا أم شرّا
    فقد عشت حياتي مسافرا عبر طريق طويل محفوف
    بالصراعات والمشاجرات والخلافات والجدال والمعاناة والقلق.
    ووصلت إلى هذه السنوات المتقدّمة لأجد نفسي متعبا من كلّ شيء.
    لقد أدركت عبث أعمالي وعبثية وجودي.
    بماذا سأشغل نفسي الآن وكيف سأعيش بقيّة أيّامي؟
    أنا في حيرة من أمري لأنني لا أجد إجابة على هذا السؤال.
    وقرّرت بعد تفكير: من الآن فصاعدا سيكون القلم والورقة عزائي الوحيد وسأقوم بتدوين أفكاري.
    فمن وجد شيئاً مفيداً هنا فلينسخه أو يحفظه.
    وإذا لم يكن أحد بحاجة إلى كلامي فسيبقى معي على أيّ حال.
    وقبل بضع سنوات كتب شاعر كازاخستاني شابّ يُدعى أوزجيكان قصيدة يتوق فيها إلى حياة لا يستطيع حتى أجداده تذكّرها إذ يقول:
    هل لي أن اسافر عبر الزمن الى الوراء؟
    لا أريد هذا العالم الصناعي بعد الآن
    حيث يقاس كلّ شيء بالدقيقة والدولار
    من فضلك دعني اسافر الى الماضي
    حيث كان أسلافي محاربين
    يمتطون الخيول البرّية بظهور عارية
    وحيث كانت الخيول أرواحا شجاعة ومتحرّرة
    وحيث لا يمكن لأيّ سيارة أن توقظني من نومي الهادئ.
    أتوسّل إليكم
    دعوني أعود إلى الوراء
    لأرى غطاء الطبيعة الأخضر ينبسط أمامي
    مثل البحر الأبدي الذي لا تلامس فيه الأمواج الساحل
    وأبكي: كلّ هذا الفضاء! كلّ هذه المساحة!


  • يُعتبر نبات الهندباء مصدر إزعاج للكثير من المزارعين والبستانيين. لكن هناك دروسا مفيدة يمكن لهذا النبات تقديمها الى الناس. وسواءً كنت تجد هذا النبات مزعجا أو أنه مجرّد جزء جميل من الطبيعة، فهناك بعض النصائح الحياتية المدهشة التي يمكن ان تعلّمنا إيّاها هذه الزهرة.
    نبات الهندباء متعدّد الاستخدامات من الجذع إلى الجذر، فهو صالح للأكل تماما. بل اُستخدم أيضا في كلّ شيء بدءا من الطبّ الشعبي وحتى الصبغة. والهندباء أيضا تحسّن جودة التربة من خلال النيتروز والمواد المغذيّة الأخرى. الهندباء تعلّمنا أنه بغضّ النظر عن مدى تواضعنا أو بساطة مظهرنا العادّي، فإن لدينا في الواقع الكثير ممّا يمكننا أن نساهم به في هذا العالم.
    تتكيّف الهندباء بسهولة وتستطيع النمو في جميع أنواع التربة وظروفها. وهي لا تنمو فحسب بل تزدهر أيضا. كما تُعتبر نباتات رائدة، لأنها تعيد ملء التربة بعد تعرّضها للتلف مثلما يحدث بعد حريق هائل مثلا. وبعبارة أخرى، الهندباء تنتصر حتى في أصعب المواقف. ونعلم أن الإنسان يمكن أن يفعل ذلك أيضا.
    يمكن لبذور الهندباء أن تسافر لمسافة تصل إلى خمسة أميال في مهبّ الريح. وقد لا يبدو هذا بالشيء المعجز، لكنه مثير للإعجاب عندما تعلم أن الهندباء غزت العالم كلّه تقريبا. ويكشف تاريخ هذه الزهرة أنها كانت ذات يوم لا تنمو الا في أوراسيا. لكنها الآن تنمو في ستّ قارات مختلفة. الدرس: إذهب بعيدا وكن على استعداد لخوض تجربة العيش في أيّ تضاريس جديدة.
    إذا قمت بقصّ الهندباء أو قطعها، فإنها تعود الى سابق عهدها ببساطة. اقتلع جذورها أو ما تبقّى منها، وسوف ترى نموّ المزيد منها. وفي حين أن البعض قد يرى أن هذا مصدر إزعاج، الا أن الآخرين قد يرون فيه درسا أساسيا في العزيمة! لذا كن مثل الهندباء: عنيدا، عصيّا على الاجتثاث والالغاء وذا عزيمة لا تلين!

  • Credits
    ilyarepin.org

    الاثنين، نوفمبر 27، 2023

    محطّات


  • جون غراي، المولود عام 1948، فيلسوف سياسي إنغليزي ومؤلّف مهتمّ بالفلسفة التحليلية وتاريخ الأفكار والتشاؤم الفلسفي. في عام 2008 تقاعد كأستاذ للفكر الأوروبّي في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية. وقد ألّف غراي العديد من الكتب المؤثّرة، بما في ذلك كتابه "الفجر الكاذب: أوهام الرأسمالية العالمية" و "كلاب القشّ: أفكار حول البشر والحيوانات الأخرى" الذي هاجم فيه النزعة الإنسانية الفلسفية.
    هنا بعض آرائه المستمدّة من كتبه وحواراته.
    *الفلسفة الأخلاقية هي، وإلى حدّ كبير، فرع من الخيال. وعلى الرغم من ذلك، لم يكتب فيلسوف بعد رواية عظيمة. والحقيقة التي لا ينبغي أن تكون مفاجئة هي أنه في الفلسفة لا أهميّة لحقيقة الحياة البشرية.
    *اليونانيون القدماء سعوا إلى الخلاص في الفلسفة، والهنود في التأمّل، والصينيون في الشعر وحبّ الطبيعة، وأقزام الغابات المطيرة التي أصبحت الآن على وشك الانقراض عملوا فقط لتلبية احتياجاتهم اليومية وقضاء معظم حياتهم في خمول.
    *الهوموسابيانز (Homo sapiens) الذين ينتمي إليهم بشر اليوم ليسوا سوى واحد فقط من العديد من الأنواع البشرية. ومن الواضح أنهم لا يستحقّون البقاء. وفي وقت ما لاحقا أو عاجلا، سوف ينقرضون. وعندما يختفون، ستتعافى الأرض. وبعد فترة طويلة من اختفاء آخر أثر للحيوان البشري، فإن العديد من الأنواع التي كان البشر يرومون تدميرها ستظلّ موجودة إلى جانب أنواع أخرى لم تظهر بعد. وسوف تنسى الأرض الإنسان بينما تستمرّ مسرحية الحياة.
    *إن على أيّ شخص يريد حقّا الهروب من أنانية البشر ألا يبحث عن الأماكن الفارغة. وبدلاً من الهروب إلى الصحراء مثلا، حيث سيكون مرّة أخرى نهبا لأفكاره الخاصّة، من الأفضل له أن يبحث عن صحبة الحيوانات الأخرى. وحديقة الحيوان هي نافذة أفضل من المعابد للنظر منها إلى عالم البشر.
    *المأساة تولد من الأسطورة وليس من الأخلاق. بروميثيوس وإيكيروس بطلان مأساويان. ومع ذلك، فإن أيّاً من الأساطير التي يظهران فيها لا علاقة لها بالمعضلات الأخلاقية. كما لا علاقة لأعظم المآسي اليونانية بالأخلاق. وإذا كان يوريبيدس هو أكثر الكتّاب المسرحيين اليونانيين مأساويةً، فليس لأنه يتعامل مع الصراعات الأخلاقية، بل لأنه فهم أن العقل لا يمكن أن يكون مرشدا للحياة.
    *الذين يناضلون من أجل تغيير العالم يعتبرون أنفسهم شخصيات نبيلة، وحتى مأساوية. ومع ذلك، فإن معظم أولئك الذين يعملون من أجل تحسين العالم ليسوا متمرّدين على المخطّط الأساسي للأشياء. إنهم يبحثون عن العزاء عن حقيقةٍ يعرفون أنهم أضعف من أن يتحمّلوها. وفي جوهر الأمر، فإن إيمانهم بأن العالم يمكن أن يتغيّر من خلال الإرادة البشرية هو محاولة لإنكار فنائهم.
    *معظم الناس اليوم يعتقدون أنهم ينتمون إلى نوع يمكن أن يكون سيّدا على مصيره. هذا هو الإيمان وليس العلم. نحن لا نتحدّث عن الوقت الذي ستصبح فيه الحيتان أو الغوريلا أسيادا على مصائرها. لماذا البشر إذن؟!
    *لكي تفكّر في البشر باعتبارهم محبّين للحرّية، يجب أن تكون مستعدّا للنظر إلى التاريخ كلّه تقريبا على أنه خطأ. وعندما يقول الناس إن هدفهم في الحياة هو أن يكونوا سعداء، فإنهم يخبرونك أنهم بائسون.


  • مع اعتلاء لويس الرابع عشر عرش فرنسا وصعود الفنّ الجديد، الأرستقراطي موضوعا والكلاسيكيّ أسلوبا، عانت سمعة هذا الرجل الشهير من كسوف كامل لدرجة أنه في غضون بضعة أجيال نُسي اسمه تماما، ونُسبت لوحاته الباقية إلى رسّامين مثل هونثورست وزورباران وموريللو وحتى فيلاسكيز.
    لكن بدأت إعادة اكتشاف جورج دي لاتور عام 1915 واكتملت فعليّا عام 1934، عندما نظّم متحف اللوفر معرضا لأعماله بعد أن ظلّ مجهولا طوال ثلاثمائة عام.
    كان دي لاتور واحداً من أولئك الحالمين المنفتحين الذين يعكس فنّهم بأمانة بعض جوانب العالم الخارجي. لكنه يعكسها في حال من التحوّل بحيث يصبح كلّ تفصيل صغير ذا أهميّة جوهرية.
    ومعظم لوحاته يظهر فيها اشخاص يمكن رؤيتهم على ضوء شمعة وحيدة. والشمعة الواحدة، كما أثبت كارافاجيو والرسّامون الإسبان، يمكن أن تُنتِج تأثيرات مسرحية كبيرة. لكن دي لاتور لم يهتم بهذه المؤثّرات على ما يبدو. فلا يوجد شيء درامي في صوره، ولا شيء مأساويّ أو مثير للشفقة أو غريب. وليس هناك تمثيل للحدث ولا جاذبية لهذا النوع من المشاعر التي يذهب الناس إلى المسرح لاستثارتها ثم استرضائها.
    والشمعة الواحدة تُستخدم في كلّ حالة للتأكيد على هذا الوجود المكثّف وغير الشخصي أو المثير. ومن خلال عرض الأشياء الشائعة في ضوء غير عادّي فإن لهبها يُظهر الغموض الحيّ والأعجوبة التي لا يمكن تفسيرها بمجرّد وجودها.
    شخصيات دي لاتور ثابتة، لا تفعل أيّ شيء أبدا؛ إنها ببساطة هناك بنفس الطريقة التي توجد بها تماثيل الغرانيت ذات الأقدام المسطّحة. وعلى الرغم من أن فنّه خالٍ تماما من التديّن، فإنه يظلّ دينيّا بشكل عميق، بمعنى أنه يكشف بقوّة عن الوجود الإلهي في كلّ مكان.

  • تصوّر روايات الديستوبيا (Dystopian novels ) مجتمعات أو عوالم تتّسم بالحكومات القمعية والظلم الاجتماعي والمستقبل الكئيب أو القاتم.
    وقد تركت هذه الروايات أثراً كبيراً على الأدب والثقافة الشعبية. وتقدّم كلّ رواية وجهة نظر فريدة حول العواقب المحتملة للقمع المجتمعي مع قصص تحذيرية عن مخاطر السلطة والسيطرة الاجتماعية بلا ضوابط أو قيود والمخاطر المحتملة للتضحية بالخصوصية من أجل الأمن.
    ومن أشهر هذه الروايات "1984" لجورج أورويل التي تدور أحداثها في ظلّ نظام شمولي يحكمه الأخ الأكبر، وتصوّر عالما تٌقمع فيه الحريّة الفردية وتنتشر المراقبة الحكومية. وتستكشف الرواية مواضيع مثل سيطرة الحكومة والدعاية وتآكل الهويّة الشخصية.
    وهناك أيضا رواية عالم جديد شجاع (Brave New World) لألدوس هكسلي. وتقدّم هذه الرواية مجتمعا تمّت فيه هندسة الناس وراثيّا وتكييفهم من أجل التوافق والمتعة. وتتناول الرواية الآثار اللاإنسانية للتكنولوجيا والنزعة الاستهلاكية والسيطرة على المعلومات.
    وهناك أيضا رواية حكاية الجارية (The Handmaid's Tale) لمارغريت أتوود. في الرواية يتم إخضاع النساء وتكليفهن بأدوار محدّدة في مجتمع بائس أو ديستوبي يُدعى جيلاد. وتتعمّق الرواية في موضوعات الاضطهاد بين الجنسين والحقوق الإنجابية والأصولية الدينية.
    أيضا من أشهر هذا النوع من الروايات نحن (We) ليفغيني زامياتين والتي تُعتبر واحدة من أقدم روايات الديستوبيا وتصور مجتمعا مستقبليّا تُقمع فيه الفردانية ويُراقب المواطنون باستمرار من قبل الحكومة. كما تتناول الرواية موضوعات مثل المراقبة والامتثال والنضال من أجل الحريّة الشخصية.
    وهناك أيضا رواية ڤي رمزا للانتقام (V for Vendetta) لآلان مور وديفيد لويد. وتتحدّث عن مستقبل بائس يسيطر فيه نظام شمولي على بريطانيا. وتتتبّع الرواية حارسا ملثّما يُدعى V وهو يقاتل ضدّ الحكومة القمعية. وتستكشف القصّة موضوعات مثل الاستبداد والمقاومة وقوّة الأفكار.

  • Credits
    aeon.co

    الثلاثاء، نوفمبر 21، 2023

    قصيدة عن تمثالٍ فرعوني


    أوزيماندياس هو اسم قصيدة أو رباعية لبيرسي شيلي، أحد أعظم الشعراء الإنغليز في القرن التاسع عشر. نُشرت القصيدة لأوّل مرّة عام 1818. وفيها يقابل شخص يُفترض أنه شيلي رحّالة أو مسافرا من أرض قديمة.
    ويصف المسافر الحطام الضخم لتمثال فرعون عظيم. وهو لا يلاحظ فقط كيف تقف أجزاء التمثال على الرمال، بل يصوّر أيضا المناطق المجاورة. وتشير الصحراء والتمثال البالي إلى الفكرة المركزية للرباعية، وهي عدم جدوى الأفعال البشرية. كما يتطرّق إلى موضوعات عدم ثبات السلطة، والمصير، وحتمية سقوط الحكّام والأباطرة.
    في هذه القصيدة، يصف المتحدّث لقاءه بمسافر "من بلد قديم". العنوان "أوزيماندياس" ينبّه القارئ إلى أن هذه الأرض هي على الأرجح مصر، لأن أوزيماندياس هو الاسم الذي كان يطلقه اليونانيّون على رمسيس الثاني الذي كان فرعونا عظيما ومرهوب الجانب في مصر القديمة.
    ويحكي المسافر قصّة للمتحدّث يصف فيها زيارته لمصر. هناك رأى تمثالا كبيرا ومخيفا لرمسيس في الصحراء. ويقول إن النحّات لا بدّ أنه كان يعرف موضوعه جيّدا، لأنه من الواضح من وجه التمثال أن هذا الرجل كان قائدا عظيما، ولكنه كان أيضا شرّيرا للغاية.
    وعلى الرغم من أن القائد ربّما كان عظيما جدّا، إلا أنه يبدو أن الشيء الوحيد الذي بقي من مملكته هو هذا التمثال، وهو نصف مدفون ومتفكّك.
    تحمل القصيدة استعارة ممتدّة تغطّي جميع أجزائها. وكلّ ما حول المسافر صحراء قاحلة ولا شيء أخضر أو ينمو. ومع ذلك، لا يزال التمثال يفتخر بالإنجازات التي حقّقتها هذه الحضارة في الماضي. الصحراء تمثّل سقوط جميع الإمبراطوريات، فلا يمكن لأيّ شخص قويّ وغنيّ أن يظلّ بهذه القوّة إلى الأبد. وقد أصبحت هذه الاستعارة أكثر تأثيرا في القصيدة من خلال استخدام شيلي لحاكم فعلي. إنه يستخدم إشارة إلى حاكم قوي في مصر القديمة، لإظهار أنه حتى الشخص الذي يتمتّع بهذه القوّة المطلقة سوف يسقط في النهاية.
    يبدو نصّ "أوزيماندياس" وكأنه قصّة أكثر من كونه قصيدة، على الرغم من أن قوافي الأسطر تساعد في تذكير القارئ بأن هذا ليس نثرا. المتحدّث في القصيدة، وربّما يكون شيلي نفسه، يروي القصّة من وجهة نظره هو باستخدام الضمير "أنا".
    في السطر الأوّل يتحدّث عن لقاء رَحّالة من بلد قديم. في البداية، يبدو هذا السطر غامضا بعض الشيء: هل الرَحّالة من "بلد قديم"، أم أنه عاد للتوّ من زيارة تلك الأرض؟ ولا يعرف القارئ أيضا أين التقى المتحدّث بهذا الرَحّالة لأوّل مرّة.
    يشير العنوان إلى الأرض التي زارها الرَحّالة. كان اليونانيون يطلقون على رمسيس الثاني الفرعون المصري القوي اسم أوزيماندياس. لذا، يسهل على القارئ التعرّف على هذه الأرض القديمة، وهي مصر إحدى أقدم الحضارات في العالم. وبقيّة القصيدة مكتوبة بالفعل على شكل حوار. والمسافر يروي لشخص الشاعر تجاربه في مصر.
    والأسطر التالية تحتوي أيضا على بعض الصور الأكثر حيويةً وجمالاً في كلّ القصيدة. لقد كان شيلي كاتبا بارعا لدرجة أنه لا يتطلّب الكثير من الجهد ليتخيّل القارئ المشهد بوضوح في هذه القصيدة.
    من خلال عيون الرَحّالة يرى القارئ ساقين ضخمتين منحوتتين من الحجر ملقاتين في رمال الصحراء. وعلى مقربة منهما وجه التمثال نصف مدفون. الوجه مكسور، لكن لا يزال بإمكان الرَحّالة رؤية التمثال وهو ينطق عبوسا وسخرية. ومن هذا يستطيع أن يستنتج أن هذا الحاكم ربّما كان يتمتّع بسلطة مطلقة وأنه كان يحكم بقبضة من حديد. ومن السهل أيضا تفسير أن هذا الحاكم ربّما كان فخورا كثيرا باعتباره القائد الأعلى لحضارته.
    ثم يوجّه المسافر انتباهه إلى النحّات الذي صنع التمثال. ويعلّق قائلاً: أيّاً كان النحّات فهو يعرف موضوعه جيّداً. ويمكن لأيّ شخص أن يقول إن الفنّان قد استولى على مشاعر الحاكم بشكل استثنائي. وعلى الرغم من أن الفرعون قد مات منذ زمن طويل، إلا أنه موجود من خلال عمل النحّات. إذن من هو الأقوى في هذه الحالة؟ لا شكّ أنه النحّات.
    ثم يشير الشاعر الى أنه على الرغم من أن هناك نهاية للكائنات الحيّة، إلا أن الفنّ خالد لأنه يبقى. فالمنحوتات الرائعة ولمسة المعلّمين تعيش أطول من أصحابها. ثم يقدّم المسافر نظرة مثيرة للاهتمام حول القائد. فيداه تُظهران أنه كان يسخر من شعبه، لكن قلبه لم يكن كلّه سيّئا، فقد كان يطعم شعبه ويهتمّ بهم أيضا. واليد التي أمسكت بالعصا لم تطعم المواطن فحسب، بل سخرت أيضا من تفاهته. وهذا السطر يوفّر انقساما مثيرا للاهتمام غالبا ما نجده في أفظع القادة. وعلاوة على ذلك، فإن "اليد" ترمز إلى أوزيماندياس ككل.

    ثم تقدّم القصيدة مزيدا من التفاصيل حول التمثال، وتتضمّن الأسطر الأخيرة كلمات محفورة على قاعدته. الكلمات المنقوشة على القاعدة التي يجلس عليها أوزيماندياس تحكي أيضا عن شخصيّته. وهو يأمر من كلّ من يراه أن ينظر إلى كلّ ما أنجز وألا يقدّر ما صنعه، بل يجب عليه أن يخاف منه. وهذه الكلمات تصوّر غطرسة الفرعون.
    لكن الأسطر التالية تكتسي بنبرة مختلفة. الآن ذهب القائد، وكذلك امبراطوريّته. ويورد شيلي هذه المفارقة ليبيّن أنه على الرغم من بقاء هذا التمثال المكسور، إلا أن حضارة القائد لم تُخلّد. لقد سقطت، مثل التمثال، وتحوّلت إلى غبار.
    هذه الاسطر قويّة حقّا. إذ يبدو أن المسافر يسخر من الحاكم. وعلاوة على ذلك، فإن أسلوب شيلي هنا مهم. إنه يستخدم كلمات مثل "الخراب" و"الرمال الممتدّة" لإظهار مدى العجز الذي أصبح عليه هذا الفرعون الذي كان عظيما ذات يوم. لم يتبقّ شيء على الاطلاق. لقد سقط القائد، مثل أرضه، ومثل التمثال المكسور الذي يصوّره. وفي هذه السطور تتّضح رسالة القصيدة، فكلّ القادة سيرحلون في النهاية، وكلّ الحضارات العظيمة ستتحوّل في النهاية إلى تراب.
    وشيلي يستخدم عددا من الموضوعات في هذه الرباعية. والموضوع الأكثر أهميّةً هو عدم ثبات مجد الحاكم وإرثه. وهذه إشارة ضمنية إلى فكرة العبثية. وبغضّ النظر عن مدى صعوبة محاولة القائد أو الزعيم تثبيت اسمه في مرحلة ما، سوف ينساه الناس في النهاية.
    مثلا، حاول أوزيماندياس أن يصبح أعظم من الله وأعلن نفسه "ملك الملوك". وإذا نظرنا إلى التاريخ، فإن كلّ حاكم طموح فعل نفس الشيء. وفي سعيهم لتحقيق العظمة، نسي الحكّام طبيعتهم نفسها، فكلّ كائن حيّ يجب أن يموت. وعلاوة على ذلك، تستخدم الرباعية أيضا موضوعات المجد الضائع وقوّة الفنّ وأفول القوّة، وما إلى ذلك.


    هذا البيت: ساقان حَجريّتان ضخمتان بلا جذع" يثير الخوف والشفقة في قلوب القرّاء. ولا شكّ أن حجم التمثال يجعلنا نتساءل عن عظمة الحاكم وقوّته. ومع ذلك، فالصورة المتدهورة للتمثال تثير الشفقة وتتساءل عن طبيعة الإنجاز البشري.
    وفي السطور التالية، تصبح اللهجة أكثر جدّية وإثارة للخوف. ومع تقدّم القصيدة إلى النهاية، يبدو أن النغمة تخفّ قليلاً. فالمتحدّث يتعاطف بطريقة ما مع المجد الباهت للحاكم العظيم أوزيماندياس ويتحدّث بطريقة عاطفية عن حتمية الموت والانحلال.
    وعلى الرغم من أن شيلي كان أحد الشعراء الرومانسيين المهمّين، إلا أنه لم يحقّق شهرة أبدا أثناء حياته. ومع ذلك، فقد احتفظ بصداقة بعض الكتّاب الموهوبين للغاية. وكان من بين أصدقائه المقرّبين اللورد بايرون. وبالإضافة إلى ذلك، كان متزوّجا من ميري شيلي مؤلّفة رواية فرانكنشتاين.
    وُلِد شيلي في عائلة ثريّة، والتحق بجامعة أكسفورد، حيث بدأ مسيرته في الكتابة لأوّل مرّة. لكنه طُرد عندما رفض الاعتراف بأنه مؤلّف نصّ مجهول عنوانه "ضرورة الإلحاد". ثم التقى بالشابّة ميري غودوين ووقع في حبّها، على الرغم من أنه كان متزوّجا. وقد تخلّى عن عائلته ليكون معها. وتزوّج الاثنان بعد انتحار زوجته الأولى، وغيّرت ميري لقبها إلى شيلي.
    قضى شيلي غرقا وبشكل مأساوي عندما تعرّض القارب الذي كان يبحر فيه لعاصفة عاتية. وكان ما يزال شابّا في عمر الـ 29.
    هل لهذه القصيدة رسالة؟
    ليس من المبالغة القول إن شيلي كان إنسانا ذكيّا. فبينما يمكن للمرء أن يقرأ هذه القصيدة على أنها تتحدّث عن زعيم قديم لمصر، فإنه يمكن أيضا قراءتها كنقد للعالم الذي عاش فيه الشاعر. ربّما يحذر شيلي، الذي كان ناقدا سياسيا دائما، زعماء إنغلترا من أنهم أيضا سيسقطون يوما ما ويشير الى أن طموحهم الزائد عن الحدّ قد يقودهم إلى زوالهم.
    ومن خلال "أوزيماندياس"، يصف شيلي كيف أن الرجال الأقوياء وتراثهم محكوم عليهم بالتلاشي في غياهب النسيان. ويحاول الشاعر تقديم رسالة مهمّة مؤدّاها أنه مهما حاول الحكّام، فإن أعمالهم سوف تُنسى بعد موتهم. وبهذه الطريقة يحذّر الشاعر القرّاء من الافتتان بالسلطة لأن القوّة لا تضمن المجد الأبدي، فقط الرفق والتواضع هما ما يضمن ذلك.

    Credits
    poets.org

    الأربعاء، نوفمبر 15، 2023

    محطّات


  • أحد القرارات التي لا يجب عليك اتخاذها أبدا كإنسان فاهم ومحترم هو السماح لنفسك بأن تُجنّد من قبل جهة أو شخص أو اشخاص يريدونك أن تكره شخصا آخر لم يظلمك أو يسيء إليك. حاول تجنّب الاستنتاجات المتسرّعة بغضّ النظر عمّا يقوله الناس. وكن واعيا لما تقوله، لأن ما يقوله البعض عن الآخرين انما يعكس شخصيّاتهم الحقيقية. وقد يكون لهم أهداف شرّيرة خفيّة غير ما قيل لك وأنت لا تعلمها.
    صحيح أن اغتيال الشخصية أصبح اليوم سمة سائدة. ويمكن أن تكون ظاهرة مدمّرة للغاية أينما وُجدت. الجهد المتعمّد والخبيث وغير المبرّر والمستمر للإضرار بسمعة ومصداقية فرد أو جماعة هو من أسوأ الشرور. ومن المثير للاهتمام أن الادعاءات الكاذبة هي أكثر أشكال الإساءة المزمنة التي يمكن أن تخطر على بالك. فعندما لا يتمكّن الناس من قتل أحلامك وأهدافك سيحاولون اغتيال شخصيّتك ونزاهتك.
    يجب ان تتّصف بالذكاء الاجتماعي الذي يبقيك عاقلاً حتى عندما يحاول الآخرون تلويث عقلك حول شخص ما إلى أن تتأكّد بشكل كامل من صحّة ما يقال عنه. لا تلغِ شخصا بسبب ما يقوله الآخرون عنه. ولا تتوصّل إلى استنتاجات بناءً على ما يخبرك به الآخرون عن ذلك الشخص. ولا تحكم على إنسان من بعيد. اقترب وتحقّق بنفسك قبل أن تصدّق. هذه هي الطريقة التي يتدّرب بها القضاة لتجنّب إصدار حكم متحيّز ضدّ شخص ما. وتذكّر ألا تحكم على الكتاب من غلافه.
    تجنّب وجود أعداء في حياتك ما استطعت. بإمكانك أن تبتعد عن الأشخاص الذين لا تحبّهم. إن نقص التعليم والتعرّض لخبرات الحياة هو الذي يجعل الناس في بعض الأحيان يصنعون أعداءً. وعندما تخلق أعداءً، فإنك تخلق التعاسة لنفسك. الحياة حلوة وأقصر من أن نكون تعساء، ولا يمكننا ان نحظى بحياة مُرضية إلا عندما تخلو من الأعداء. لذا اُرفض الانضمام إلى الآخرين لكراهية شخص ما أو احتقاره أو اتهامه أو الافتراء عليه. فقد تدرك مع مرور الوقت أن ذلك الشخص لم يرتكب أيّ جريمة وأن القصّة الحقيقية تقع في مكان آخر.
    اُرفض أن تُستخدم كسلاح في معارك الآخرين، فليست كلّ معركة يجب على المرء أن يشارك فيها. وعندما يقاتل الناس بطريقة قذرة اُرفض الانحياز إلى أحد الجانبين. وارفض أن تكره الناس لمجرّد أنهم ليسوا مثلك. أحيانا تأتي الكراهية بسبب اختلاف القبائل أو الأديان أو المذاهب او الانتماء لمكان معيّن. فإذا كان شخص ما ليس من قبيلتك أو طائفتك فلا تجعله عدوّا.
    اُرفض الحكم على الناس حتى تتأكّد من القصّة بأكملها، فبعض الناس يتخذون قراراتهم بناءً على قصّة أو رواية واحدة. وهذا أمر خطير ويمكن أن يكون ضارّا للغاية. ومن المهم أن نحذر دائماً من أنصاف الحقائق. ويجب رفض الحكم على الآخرين دون فهم الأسباب الحقيقية الكامنة وراء ما يقال.
    أيضا اُرفض مخالطة الأشخاص السلبيين الذين يثرثرون عن الآخرين بالحقّ وبالباطل. مثل هؤلاء يحملون معهم نزعة سلبية ويمكن أن يكونوا مُعدين لك. والمشكلة مع هؤلاء الأشخاص ليست أنهم غير راضين عن الآخرين، بل في أنهم غير راضين أصلا عن أنفسهم. وتذكّر أن الحاقدين فقط هم الذين يحملون الشائعات أينما ذهبوا أو حلّوا. ودائما يجب أن نتوقّف عن خلق جدران الخلافات والأحقاد وألا نبني سوى جسور التفاهم والتعايش مع الآخرين.

  • *"كلّما تمكنّا من تركيز انتباهنا بشكل أوضح على عجائب وحقائق الكون من حولنا، قلّ ميلنا للتدمير."
    *"عندما نتأمّل الكرة الأرضية بأكملها كقطرة ندى كبيرة واحدة، مخطّطة ومنقّطة بالقارّات والجزر، ومحلّقة عبر الفضاء مع النجوم الأخرى وهي تغنّي وتتألّق معا، عندها يبدو الكون كلّه كعاصفة من الجمال لا نهاية لها."
    *"إن الجوهر الأساسيّ لروح الإنسان الحيّة هو شغفه بالمغامرة. ومتعة الحياة تأتي من لقائنا بتجارب جديدة، وبالتالي ليس هناك فرح أعظم من أن يكون لديك أفق متغيّر إلى ما لا نهاية، وأن يكون لكلّ يوم شمس جديدة ومختلفة. وإذا كنت ترغب في الحصول على المزيد من الحياة، فيجب عليك أن تفقد ميلك إلى الأمان الرتيب وأن تتبنّى أسلوب حياة متقلّبا قد يبدو لك في البداية مجنونا. ولكن بمجرّد أن تعتاد على مثل هذه الحياة سترى معناها الكامل وجمالها المذهل."
    *"نحن بحاجة لأن نجد الله، ولا يمكن العثور عليه في الضجيج والقلق. الله صديق الصمت. أنظر كيف تنمو الطبيعة؛ الأشجار والزهور والأعشاب، في صمت. وانظر الى النجوم والقمر والشمس، وكيف تتحرّك في صمت. نحن بحاجة إلى الصمت حتى تصفو نفوسنا وتتلامس أرواحنا."


  • كان منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد عصرا مضطربا مثل عصرنا اليوم. وقد شهد ظهور نقاشات حول كيفية العيش، وكيف نكون أخلاقيين، وكيف نبني مجتمعا جيّدا. وعلى عكس الفلاسفة الغربيين، لم يطرح المفكّرون الصينيون أسئلة كبيرة. كانت فلسفتهم عملية للغاية، وتعتمد على أسئلة بسيطة مثل: كيف تعيش حياتك اليومية؟" وقد أكّد هؤلاء المفكّرون أن التغيير العظيم لا يحدث إلا عندما نبدأ بالأمور الدنيوية والقابلة للتنفيذ.
    وتعاليمهم تكشف أن العديد من افتراضاتنا الأساسية حول الطريقة التي يجب أن نعيش بها قادتنا في الواقع إلى الضياع. وغالبا ما يتفاجأ الناس عندما يعلمون أن كونفوشيوس ولاو تسو وغيرهما من فلاسفة الصين الكلاسيكيين، لم يكونوا تقليديين صارمين، ولم يكونوا حكماء هادئين يبشّرون بالتعايش المتناغم مع العالم الطبيعي. بل كانوا مفكّرين مثيرين ومتطرّفين فجّروا تقاليد مجتمعهم وسعوا إلى جعل العالم مكانا أفضل من خلال توسيع نطاق الإمكانات البشرية.
    أحد الافتراضات الشائعة في الفلسفة الغربية يقول إن من المهم أن تنظر إلى داخلك وتكتشف من أنت حقّا، أي نفسك الحقيقية. لكن الصينيين شكّكوا في وجود الذات الحقيقية، خاصّة تلك التي يمكنك اكتشافها بشكل مجرّد. لقد فهموا أننا نحن البشر ذوو أوجه متعدّدة وفوضوية، ونتطوّر من خلال النظر إلى الخارج وليس إلى الداخل.
    كما أن شخصيّاتنا تتشكّل من كلّ ما نقوم به: كيفية تفاعلنا مع الآخرين، وردود أفعالنا تجاه الأشياء، والأنشطة التي نمارسها. مثلا، أنت لا تتصرّف عندما تتحدّث إلى والدك بنفس الطريقة عندما تتعامل مع زميل أو طبيب أو صديق مقرّب. فكلّ واحد منّا كائن معقّد يصطدم بكائنات معقّدة أخرى طوال اليوم. وكلّ لقاء يُبرز جوانب مختلفة.
    وتتكّون هويّتنا من أنماط سلوكية وعاطفية نمت معنا مع مرور الوقت. وهذا يعني أننا نتكوّن أيضا من احتمالات عديدة لما يمكن أن نصبح عليه. لذا فالنصيحة التي يسديها لك الفلاسفة الصينيون هي: توقّف عن البحث عن ذاتك لأنها في الواقع غير موجودة!
    وكان هناك افتراض آخر يقول انه بمجرّد أن نجد أنفسنا أو ذواتنا، فيجب علينا أن نحتضن تلك الذات ونكون صادقين معها لأنها تعبّر عن أصالتنا. لكن كونفوشيوس فكّر بشكل مختلف. قال إن مشكلة الأصالة هي أنها ليست تحرّرية كما نعتقد، أي لا تمنح صاحبها الحرّية. ما هي تلك الذات الاصيلة التي تعتقد أنك اكتشفتها حقّا؟ إنها لقطة لك في هذه اللحظة من الزمن. وإذا بقيت متمسّكا بتلك الذات اللحظية وسمحت لها بأن تصبح مرشدك، فإنها ستقيّدك ولن تسمح لك بالنموّ الذي يجعلك تدرك أنك تتغيّر باستمرار. لذا فنصيحة حكماء الصين هي: كن شخصا غير أصيل! فنحن لسنا ما نعتقده عن أنفسنا، بل يمكننا أن نصبح أشخاصا أفضل مع مرور الزمن.
    الافتراض الخاطئ الآخر هو أن الإنسان يجب أن يخطّط لحياته مسبقا وأن يتّخذ قرارات كبيرة. الصينيون يقولون إن التخطيط للحياة خطأ! فعندما تخطّط لحياتك، فإنك تتّخذ قراراتك بشأن مستقبلك بناءً على الشخص الذي أنت عليه اليوم وليس الشخص الذي ستصبح عليه غدا أو بعد سنة أو سنوات. وبدلاً من تقييد أنفسنا بالالتزام بالقرارات الكبيرة، يحسن أن نتعامل مع مراحل الحياة من خلال القرارات الصغيرة والقابلة للتنفيذ.
    وهناك افتراض خاطئ آخر مؤدّاه أن العالم ثابت ومستقرّ. فكما نعتبر أن ذواتنا مستقرّة، فإننا نرى العالم مستقرّا أيضا. بالطبع ندرك أن الحياة يمكن أن تتغيّر، ولكن في الوقت نفسه نميل إلى المضيّ قدما على افتراض أن العالم يمكن التنبّؤ به بشكل عام وأننا يجب أن نكتشف كيف سنتواءم معه.
    فإذا رأينا أنفسنا جيّدين في الرياضيات أو الفنون مثلا، فإننا نستمرّ في هذا المسار أو ذاك إلى ما لا نهاية. لكن الصينيين فطنوا الى أن العالم مجزّأ ومتقلّب. وهم ينصحوننا بضرورة العمل مع التحوّلات والتجارب والتفاعلات التي تغذّي حياة واسعة، بدلاً من وضع خطط لحياتنا قد تعيق حركتنا وتقيّد مستقبلنا.
    وهناك افتراض آخر يقول: حاول أن تركّز على نقاط قوّتك. مثلا اكتشف مواهبك ونقاط قوّتك ثم اعمل على صقلها. فإذا كنت رياضيّاً مثلا، فالأفضل أن تنضمّ إلى فريق كرة القدم. وإذا كنت تحبّ القراءة، فادرس الأدب. وأثناء مراحل عمرك ستقوم بتنمية هذه الميول الطبيعية حتى تصبح جزءا من هويّتك.
    لكن الصينيين يقولون لك ألا تفعل، وينصحونك بعدم التركيز على من تظنّ نفسك، لكي تتمكّن من كسر مفاهيمك المسبقة. فإذا كنت تعتقد أنك شخص رصين فمارس الرقص. وإذا لم تكن جيّدا في اللغات فانهمك في تعلّم لغة أجنبية. وليس الهدف أن تجعل نفسك أفضل في هذه الأشياء، بل أن تعيش حياتك كسلسلة من التمزّقات، لأن هذا هو ما يغيّرك بمرور الوقت.
    وختاما هناك افتراض شائع آخر وهو أن الأقوياء هم الذين ينتصرون. وكثيرا ما يقال لنا أن نقف أقوياء وأن نكون حازمين بشأن ما نريد. لكن لاو تسو مؤلّف كتاب "الطاو" يقول لك: كن ضعيفا!" ويدعوك لأن تتبنّى قوّة الضعف على حساب القوّة الظاهرة. ويضيف: علينا أن ندرك أننا مخلوقات معقّدة يتم جرّها باستمرار في اتجاهات مختلفة، وأنّنا ننمو من خلال العمل على تفاعلاتنا وتجاربنا واستجاباتنا، وأن الأفعال الصغيرة هي الأهم في تغيير أنفسنا والعالم نحو الأفضل.

  • Credits
    suite101.com

    الجمعة، نوفمبر 10، 2023

    محطّات

  • هناك نوع من اللوحات الفنّية التي تصوّر مشاهد هادئة تثير شعوراً بالسلام والاستبطان والاتصال الروحي. وتُظهر هذه اللوحات التي تنتمي الى فترات ومدارس فنّية مختلفة الطرق المتنوّعة التي اكتشف بها الفنّانون موضوع التأمّل، ومن خلالها يدعون المتلقّي الى التفكّر في أسرار الوجود والتواصل مع الذات ومع العالم من حولهم.
    ومن أشهر تلك اللوحات "الراهب" لأوديلون ريدون. ابتكر ريدون، وهو فنّان رمزي فرنسي، العديد من الأعمال التي تستكشف موضوعات الروحانية والتأمّل الداخلي. وتصوّر لوحته هذه راهبا يجلس في حالة تأمّل وهو محاط بصور أثيرية تشبه الحلم.
    هناك أيضا لوحة "رقم 5" لجاكسون بولوك. هذه اللوحة التعبيرية التجريدية لبولوك قد لا تصوّر التأمّل تماما، لكن توليفها النشط والتلقائي يمكن أن يثير تجربة تأمّلية. طبقات الطلاء المعقّدة والأنماط الديناميكية تدعو المتلقّي إلى الانغماس في حالة من التأمّل.
    هناك أيضا لوحة "5 دوائر" لكازواكي تاناهاشي. وتاناهاشي فنّان ياباني معاصر ومعروف بأسلوبه المميّز ولوحاته المستوحاة من فلسفة الزِن. سلسلة لوحاته الدائرية ترمز إلى التنوير والوحدة والطبيعة الدائرية للوجود.
    وهناك أيضا لوحة "دوام الذاكرة" لسلفادور دالي، وتصوّر ذوبان ساعات في منظر طبيعي حالم. وعلى الرغم من أن اللوحة قد لا تتضمّن عنصر تأمّل بشكل مباشر، إلا أن طبيعتها السوريالية والاستبطانية تدعو الناظر إلى استكشاف سيولة الوقت ومرونة الإدراك.
    ومن اللوحات الأخرى التأمّلية سلسلة لوحات "سوسن الماء" لكلود مونيه. وغالبا ما ترتبط هذه السلسلة التي تصوّر زنابق الماء في حديقة الرسّام في جيفرني بالهدوء والتأمّل. فالألوان الناعمة وضربات الفرشاة اللطيفة تخلق جوّا هادئا، وتدعو المتلقّي لأن يغمر نفسه في جمال الطبيعة والسلام الداخلي.
    هناك أيضا تمثال "المفكّر" لأوغست رودان. على الرغم من أن هذه المنحوتة الشهيرة لا تتعلّق بالتأمّل تحديدا، إلا أنها تصوّر شخصا في وضع تأمّلي ومستغرقا في التفكير. وهو يجسّد الطبيعة الداخلية للتأمّل والسعي وراء المعرفة والتأمّل الذاتي.
    أيضا هناك لوحة "ليلة مرصّعة بالنجوم" للفنّان فنسنت فان جوخ: على الرغم من أن هذه اللوحة الشهيرة لا تتحدّث بشكل صريح عن التأمّل، إلا أنها تصوّر سماءً ليلية مليئة بالنجوم الدوّامة وقرية هادئة في الأسفل. الفرشاة التعبيرية والألوان النابضة بالحياة تخلق جوّا حالما يمكن أن يلهم التأمّل والاتصال بالكون الواسع.
    وهناك أيضا لوحة "الموجة العظيمة قبالة ساحل كاناغاوا" لكاتسوشيكا هوكوساي. هذه اللوحة اليابانية الشهيرة تصوّر موجة عاتية على وشك الاصطدام بعدّة قوارب. وعلى الرغم من أن الصورة لا ترتبط مباشرة بالتأمّل، إلا أنها غالبا ما تفسر على أنها رمز لقوّة الطبيعة وعدم ثبات الحياة مع ما تثيره من تأمّل وشعور بالرهبة في نفس الناظر.
    وأخيرا هناك لوحة "التوليف الثامن" لفاسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي رائداً للفنّ التجريدي وكان يؤمن بالإمكانات الروحية للفنّ. لوحته هذه نابضة بالحياة ومعقّدة وتستخدم الأشكال والألوان والخطوط الهندسية لإنشاء تركيبة ديناميكية. ويمكن اعتبارها تمثيلا مرئيّا للعالم الداخلي للفنّان وسعيه إلى الانسجام الروحي.



  • كلمة انعكاسي reflexive هي إحدى تلك الكلمات الملتبسة لأنها تشبه إلى حدّ كبير كلمة تأمّلي reflective. ونعلم أن كوننا تأمّليين يعني أننا نتمتّع بالاستبطان أو التفكير أو التأمّل. و"انعكاسي" كلمة مشابهة، على الرغم من أنها تأخذ خطوة أخرى إلى الأمام أبعد من مفردة "تأمّلي". أن نكون انعكاسيين، بالمعنى السوسيولوجي، يعني أن نتأمّل ونفكّر في موقعنا الخاصّ في العالم.
    يقول عالم الاجتماعي آلفين غولدنر: إن الهدف النهائي لعلم الاجتماع الانعكاسي هو تعميق وعي عالم الاجتماع بمن هو وما هو، في مجتمع معيّن وفي وقت محدّد”.
    علماء الاجتماع يتحدّثون أحيانا عن "المشي في أحذية الآخرين" وعن "رؤية الصورة الأكبر". وهذان عنصران مهمّان في المخيال السوسيولوجي. ولكن من أجل القيام بأيّ من هذين الشيئين، يجب على المرء أوّلاً أن يكون انعكاسيّا. فإذا كنت تريد المشي في أحذية الآخرين، فيجب عليك أوّلاً أن تعرف ما هو الحذاء الذي ستمشي به، وإلا فلن تتمكّن من الشعور بالبثور والأورام التي يتعرّض لها الآخرون. وبالمثل، لكي ترى الصورة الأكبر، يجب أن يكون لديك فهم للرؤية الأضيق التي ترى من خلالها العالم.
    أن تتعلّم كيف تكون انعكاسيّا قد يكون أمرا صعبا. فالكثيرون منّا يشعرون بالارتياح تجاه واقعنا المسلّم به، ولا يرغبون في تركه. علاوة على ذلك، فإننا في كثير من الأحيان لا ندرك أننا نرى العالم من خلال مجموعة معيّنة من العدسات، وأن الآخرين يرون العالم من خلال عدساتهم الخاصّة. بل قد نعتقد أن كلّ شخص لديه نفس الخبرات والفرص التي لدينا. ومن خلال تبنّي هذا المنظور والفشل في التصرّف بشكل انعكاسي، فإننا نجعل أنفسنا غير قادرين على رؤية العقبات وانعدام المساواة والمشاكل التي قد يواجهها الآخرون.

  • يُحكى أن الرجل الذي اخترع النار لأوّل مرّة أخذ أدواته وذهب الى بعض القبائل التي ترتجف من البرد ليعلّمهم فنّ ومزايا إشعال النار. وسرعان ما تعلّموا وبدءوا في استخدام النار في الطبخ والتدفئة وخلافها. لكن قبل أن يقولوا للرجل شكرا على صنيعه، اختفى فجأة. لم يكن يريد أيّ شكر. أراد فقط أن يستفيد الناس من اختراعه.
    وذهب إلى قبيلة أخرى محاولا إثارة اهتمامهم أيضا باختراعه الجديد. لكنه واجه عقبة هناك. فقد بدأ الكهنة يلاحظون تزايد شعبية الرجل وتضاؤل تأثيرهم على الناس. لذلك قرّروا أن يدسّوا له السم ليتخلّصوا منه، وفعلا تمكّنوا من قتله. لكن بدأت الشكوك تساور الناس بأن الكهنة هم من فعلوا ذلك. وفكّر الكهّان في حيلة ذكيّة للتغلّب على هذا المأزق.
    فرسموا صورة كبيرة للرجل ووضعوها على المذبح الرئيسي في المعبد. وابتكروا طقسا يكرّم من خلاله الرجل القتيل. وعاما بعد عام تكرّس هذا الطقس وأصبح الناس يأتون من كلّ مكان لتكريم المخترع العظيم الذي ابتكر أدوات اشعال النار. وطُبّقت تلك الطقوس بأمانة. لكن لم يكن هناك نار. فقط شعيرة، ذكرى، تبجيل وامتنان!

    Credits
    wassily-kandinsky.org
  • الأحد، نوفمبر 05، 2023

    محطّات


  • ولد الفنّان انسيلم كيفر، الذي يعني اسمه بالألمانية "شجرة الصنوبر"، خلال الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، وبدأ مسيرته المهنية في السبعينيات كواحد من "الأولاد الأشقياء" في فنّ ما بعد الحداثة.
    وقد رأى بعض النقّاد في أعماله المبكّرة حنينا شرّيرا لهتلر أو محاكاة ساخرة لهذا الحنين. وعندما أصبح كيفر مشهورا عالميّا بعد بضع سنوات، أي في الثمانينات، كان ذلك بسبب لوحاته كبيرة الحجم التي تصوّر مناظر الطبيعة التي دمّرتها الحرب.
    كيفر ينتمي إلى جيل من الفنّانين الألمان من فترة ما بعد الحرب، والذين كان التاريخ الحديث بالنسبة لهم بمثابة كابوس يحاولون الهروب منه. وقد أشار أحد النقّاد ذات مرّة الى أن عمل كيفر يطرح باستمرار السؤال التالي: كيف تصبح فنّانا ألمانيّا بعد هتلر "الفنّان الألمانيّ المطلق والنهائي"؟!
    ومن خلال النفط والرماد والخشب والصلب والرصاص والخرسانة، وكذلك النسيج والبذور والموادّ النباتية والورق ممّا يستخدمه في أعماله، كان كيفر يتصارع، بطريقة أو بأخرى، مع هذا السؤال منذ ذلك الحين.
    انسيلم كيفر ليس مجرّد فنّان، بل له اهتماماته الفكرية والفلسفية، وقد ألّف عددا من الكتب في الأدب والفكر والفنّ. وفيما يلي بعض أفكاره المتضمّنة في بعض كتبه ومقابلاته.
    *عندما تركت ألمانيا، أمضيت ثلاث سنوات في السفر. كنت مستاءً جدّا وأردت تغييرا جذريّا. ولم أعد إلى ألمانيا منذ ذلك الوقت.
    *لست متشائما. أنا ساخر. وأرى أن العالم سيّئ. بعد الحرب العالمية الثانية، اعتقد الناس أنه بسبب موت هتلر، بدأت فترة جديدة. لكن لم يكن الأمر كذلك. فقد استمرّت الفظائع والمشاعر القومية المتطرّفة. البشر يعانون من سوء الإدراك.
    *قصّتي لا تبدأ في عام 1945. بل تعود إلى أزمنة سحيقة. كما تعلم، يوجد داخل جسمك خلايا تكوّنت في زمن الديناصورات. هذا ما يقوله أخصائيّو الدماغ. لذا، إن كنت تشعر بالغيرة، فمن المؤكّد أن هذا شعور بدائي.
    *أقرأ في وقت مبكّر جدّا من الصباح. ولديّ مكتبة كبيرة للغاية، أمشي فيها في الصباح. آخذ كتابا، ودائما ما يكون هو الكتاب المناسب.
    *لوحاتي مليئة بالمراجع الأدبية، وكنت دائما متردّدا بشأن ما إذا كنت أريد أن أصبح رسّاما أو كاتبا. في لوحاتي لا أشرح القصائد ولكن أحاول أن أنقل الحالة الذهنية التي تنتجها. وأعتبر باكمان أعظم شاعر في القرن العشرين.
    *أردت أن أكون فنّانا منذ أن كنت صبيّا صغيرا. لا أعرف إن كان ذلك نذير شؤم، لكن والدي، وهو مدرّس فنون، أطلق عليّ اسم أنسيلم على اسم رسّام ألماني كلاسيكي. لقد جئت من خلفية برجوازية صغيرة جعلتني أشعر بأنني محدود. لا أعتقد أبدا أن الفنّانين عباقرة؛ إنهم لا يُخلقون من لا شيء.
    *المرء لا يحتاج إلى موهبة ليكون فنّانا، بل إلى شغف وفكرة. أريد أن أكون قادرا على جعل الناس يفكّرون وأن يفتحوا عقولهم. أنا لا أعتبر نفسي أفلاطونيّا ولكنّي أعتقد أن الروح موجودة في المادّة ومهمّة الفنّان هي استخراجها.
    *أشعر أحيانا وكأن عمري 2000 عام. ويمكن أن تعود بك الذاكرة إلى أبعد من ذلك بكثير. إنها موجودة في الحمض النووي لخلايانا، ولدينا ذكريات الديناصورات.
    *النجوم أجزاء من الذاكرة، وكثيرا ما تجد طريقها إلى لوحاتي. الضوء الذي تنبعث منه النجوم لم يعد يحترق ولكنّنا ما زلنا نراه. إنه رمز للشرط الأساسيّ للوجود. قرأت مؤخّرا كتابا يتضمّن عبارة "يجب أن يكون لكلّ إنسان نجمه الخاص". إنها فكرة جميلة وقد اخذت بنصيحته. نجمي هو نوع من التأمّل الذي يحرّرني من القلق والتوتّر.
    *قوانين العلم محدّدة للغاية ومحدودة بالمكان والزمان. ولن يجد العلم أبدا الحقيقة النقيّة لأنها غير موجودة. الحقيقة تهاجر وتتغيّر. وكلّما اكتشفت المزيد من القوانين، اكتشفت المزيد من المجهول. لا يمكنك فهم العالم من خلال العلم.
    *لا أستطيع أن أتخيّل الثقافة الألمانية بدون اليهودية. كلّ ما هو مثير للاهتمام في الشعر والفلسفة الألمانية هو مزيج من الشعر الألماني واليهودي. لقد ارتكب الألمان جريمة كبرى. فبقتلهم اليهود وبتر أجسادهم، أخذوا نصف ثقافة الأمّة وقتلوها.
    *أبدأ الرسم عندما أصاب بصدمة، عندما يغمرني شيء يحرّكني، شيء أعظم منّي. يمكن أن تكون تجربة حقيقية مع شخص ما أو منظر طبيعي أو مقطوعة موسيقية أو قصيدة.
    *تعلّمت الكثير عن الفنّ من خلال قراءة "مذكّرات لصّ" لجان جينيه. لقد غمرتني كتاباته كثيرا. كان يقلب كلّ شيء رأسا على عقب، وهذا كان رائعا بالنسبة لي. كان يأخذ أنبل شيء يمكن أن تفعله ويلقيه في عمق المستنقع، في حين أن أفظع شيء، قتل شخص ما مثلا، يعتبره قطعة فنّية.
    *السماء والأرض ليستا موجودتين. الأرض مدوّرة. الكون ليس فيه صعود وهبوط. إنه يتحرّك باستمرار. ولم يعد بإمكاننا إصلاح النجوم لخلق مكان مثالي. هذه هي معضلتنا.
    *في كثير من الأحيان تبدو الأرض في لوحاتي محروثة أو محروقة أو كليهما. ويرى الكثير من الناس أن مناظري الطبيعية تشير إلى ساحات القتال. وهذا صحيح؛ ولكن بالنسبة لي هناك استعارة أكبر. إن الحراثة والحرق هي عملية تجديد، بحيث يمكن للأرض أن تُولد أو تُخلق من جديد. إن تشكّل الكون الذي تصوّرناه علميّا بدأ بحرارة لا تُصدّق. الضوء الذي نراه في السماء هو نتيجة احتراق بعيد. أجسادنا أيضا مولّدات للحرارة. وكلّ ذلك مترابط.
    *كلّ الأبراج السماوية هي أوهام أو أشباح. إنها غير موجودة. الضوء الذي نراه اليوم انبعث منذ ملايين أو مليارات السنين، وبالطبع كان مصدره يتغيّر ويتحرّك ويموت باستمرار. هذه الأضواء التي نراها، هذه السماء لا علاقة لها بواقعنا الحالي. نحن خائفون، لذلك نريد أن نفهم العالم. إن الأساطير تشرح العالم بشكل أفضل من العلم، لأنها مفتوحة على جميع أنواع الخيال.
    *لا أعتقد أن اللوحة تنتهي أبدا. إنها في حالة تغيّر مستمر، في حالة حركة. كتاب "التحفة المجهولة" لأونوريه دي بلزاك من أهم الكتب. إنه يُظهر أن اللوحة لا تكتمل أبدا.
    *لا أستطيع رؤية المناظر الطبيعية بدون حرب، لأن المناظر الطبيعية بالنسبة لي غالبا ما تكون مشبعة بآثار الحروب والمعارك.
    *لوحاتي ليست صورة واحدة أبدا، بل تحتوي على طبقات من الصور. بعض مناطق اللوحة تكشف عن هذه العملية، تماما مثل استخراج الحفر العلمي لطبقات جيولوجية متعدّدة تشكّلت على مرّ قرون.


  • فقدنا اتجاهاتنا، ولم تعد الحياة قابلة للتنبّؤ، وانتهى ما كنا نعتبره روتيناً. قال أحدهم: الشخص الذي كنته قبل ثمان سنوات لم يعد موجودا. أنا اليوم شخص آخر. وأنا غير مسئول عن حياتي الآن.
    اليوم شاهدت الأخبار. وانكسر قلبي مرّة أخرى. أصبح كلّ شيء وكلّ شخص مضطربا. ويبدو كما لو أننا جميعا شخصيات مختلّة في سيرك. كلّ شيء يبدو عبثيا ومجنونا. نحن مؤلّفو أنفسنا، ونتشارك في تأليف رواية عملاقة لدوستويفسكي من بطولة مجانين. لكن الحياة هي هكذا. لا فائدة من القتال مع الواقع.
    عندما نقاتل، نعاني. لذلك من الأفضل أن تبقى ساكنا وتُمسك بقلبك المكسور. ربّما هذا هو ما يعنيه أن نكون على قيد الحياة: أن ننكسر ونتأثّر حتى البكاء أمام كلّ معاناتنا. وهو أمر مثير للاشمئزاز. ومع ذلك، فإننا نصنع العالم. إذن ماذا نفعل؟ نلجأ إلى ما هو أكثر استقرارا. نحتمي بالشيء الأكثر ثباتا.
    اجلس بثبات واستلقِ على مستوى منخفض. استسلم للاضطراب. ما أصبح صلبا ينكسر في عاصفة برّية. لذا، حاول أن تظلّ ناعما. وحاول أن تبقى قابلاً للتغيير. تنفّس وصلّ من أجل كلّ مظلوم في هذا العالم. صلّ معهم. وصلّ مثلهم.
    تعرّف على المجنون الذي بداخلك. وواجه العواصف الداخلية الهائجة. كلّ ما هو في الخارج يعكس ما في الداخل. إمسك قلبك وتنفّس عميقا واشعر بالامتنان لوجودك هنا. التزم بإحلال السلام حيثما كنت. إسمح للعواصف بالثوران دون أن تقع فيها. ثم انتقل إلى السكون.

  • Credits
    theartstory.org

    الأحد، أكتوبر 29، 2023

    محطّات


  • استمتاع الانسان برؤية الآثار يوحي بأن الخراب صفة معرفية مشتركة بين البشر جميعا. والجنس البشري، بحسب روز ماكولي مؤلّفة كتاب "متعة الآثار"، كان دائما ذا عقلية تمجّد الخراب. وفي جميع العصور وجد الأدب جمالا في القوى المظلمة والعنيفة التي يُعدّ الخراب أحد رموزها.
    وفي أحلام الإنسان الغربيّ المحبّة للخراب، فإن اليونان وإيطاليا هما اللتان مجّدتا دائما تلك الأحلام الحزينة التي تنظر إلى الوراء، ربّما لأن حضارة الغرب نشأت ونمت هناك حيث مجدُ العالم. هناك وُجد سقراط وأفلاطون وطروادة وأثينا والجزر واليونان العظيمة.
    كلّنا نحبّ الآثار، تقول ماكولي، رغم أننا لا نعرف السبب بالتحديد، لكن ربّما لأننا نحبّ أن نتخيّل كفاح الناس الذين ماتوا منذ زمن طويل والذين قاتلوا مثلنا أيضا وفازوا وخسروا وأحبّوا وكرهوا وكانوا يتوقون إلى السلام أو المعنى، تماما كما نفعل نحن.
    اللامعنى هو الخوف الأكبر بالنسبة لمن يحبّون الآثار. فنحن لا نخشى الموت، فهو سيأتي إلينا جميعاً. ولا نخشى القتال، بل في الواقع نتصالح معه إن فُرض علينا. ما نخشاه حقّا هو أنه لن يتمكّن أحد من السير على أنقاض حياتنا التي قضيناها هنا على الأرض، أن لا يكون هناك شيء، أن لا يوجد شاهد يقول "كنت هنا".
    وتتساءل الكاتبة: ما الذي يجذب آلاف السيّاح كلّ عام إلى المكسيك ومصر واليونان وأماكن أخرى من العالم، ممّن يتجشّمون عناء السفر لمسافات بعيدة، فقط ليلقوا نظرة على أكوام من الحجارة المدمّرة لبقايا حضارات كانت ساحرة في الماضي ولكنها اندثرت وتلاشت اليوم؟
    ثم تأخذ القارئ في رحلة ماراثونية عبر القارّات وعلى مرّ القرون من خلال الآثار الرائعة للمدن والقصور في أوروبّا وفي الشرق وفي شمال أفريقيا المغمورة بالرمال وفي المكسيك وغابات بيرو. كما تتأمّل كيف كانت الحياة قبل سقوط المدن وتعيد خلق الأشخاص الذين بنوا ودمّروا هذه الحضارات المجيدة وما الذي تعنيه آثارها للآخرين.
    وتتناول الكاتبة الجوانب الأثرية والمعمارية للمواقع، بالإضافة إلى ارتباطاتها الأدبية. وتتساءل: ما هذا الإغراء الغامض الذي يستثيره الخراب في نفس الانسان؟ وتجيب: لعلّ شهوة الهدم هي السائدة في كلّ البشر، إنه ليس مجرّد حنين إلى الماضي، ولكنّه أيضا تذكير صارخ بمرور الزمن والنهاية الحتمية لكلّ الأشياء.
    الآثار دائما في حالة حركة وتخضع للتغيير، وهي ممزّقة إلى الأبد بين البقاء والاندثار. كما أنها كيانات محافظة للغاية، ونحن نحبّها لأنها كذلك. لذا لا نريد أن يُعاد بناء قلاعنا القديمة لتصبح أوكارا للظلم الحديث. ولا نريد إعادة تسقيف معابد العصور الوسطى القديمة وتحويلها إلى حانات أو مطاعم أنيقة لإنسان العصر الحديث. نريد لتلك الاثار أن تظلّ قديمة وصدئة تحت الشمس، ونريد لأشباحها أن تبقى كي تحكي لنا عن القرون الخوالي عندما كان الناس يناضلون كما نناضل اليوم، وعندما كانوا يؤدّون أعمالهم بأيديهم وظهورهم وعقولهم قبل أن تجرف الثلوج والأمطار أسماءهم.
    الآثار تذكّرنا بالمعارك الهائلة التي جرت في الماضي. لكننا لا نريد تلك الآثار التي لا تزال تفوح منها رائحة الدم والشعر. نريدها عندما يمنحها الزمن إحساسا بالحنين والحتمية وتصبح نظيفة ومعقّمة. كما لا نريد إعادة بنائها، أي تجريدها من الفوضى الخلابة التي تُفقدها قوّتها الشعرية وقدرتها على الاستفزاز.

  • عند اليابانيين مفهوم يسمّونه "ما Ma " ، وهو عبارة عن توقّف في الزمن أو فاصل زمنيّ أو فراغ في المكان. و"ما" هو أيضا الوقت والمكان الذي تحتاج إليه لتتنفّس وتشعر وتتواصل. فإذا لم يكن لدينا وقت، وإذا كانت مساحتنا محدودة، فلن نتمكّن من النموّ. وهذا المبدأ العالميّ ينطبق على كلّ جانب من جوانب الحياة.
    و"ما" مليء باللاشيء، عدا الإمكانية. إنه يتحدّث عن الصمت مقابل الصوت، وعن السكون كضدّ للحركة. وهو التوقّف اللحظيّ في الكلام اللازم لنقل كلمات ذات معنى والصمت بين النوتات التي تصنع الموسيقى.
    الفراغ هو الجوهر. وقد رسم سيزان الفراغ وشكّله. وصنع جياكوميتي منحوتاته عن طريق "إزالة الدهون من الفراغ". وتَصوّرَ مالارميه القصائد بالغياب كما بالكلمات. وأكّد رالف ريتشاردسون أن التمثيل يكمن في فترات توقّف. ووصف إيساك ستيرن الموسيقى بأنها "ذلك الجزء الصغير بين كلّ نوتة، ذلك الصمت الذي يعطي الشكل".
    ولا يوجد مكان يتجلّى فيه مفهوم "ما" أكثر ممّا هو عليه في اليابان. القيم الجمالية متجذّرة بعمق في عقلية الناس كثقافة ومتشابكة في جميع مناحي الحياة اليومية. والتفكير في القرارات يتمّ بعناية، وبلا تعجّل أبدا. ويؤخذ بالاعتبار دائما الزمان والمكان التأمّلي. وغالبا ما يحدّد الحدس والشعور نتيجة الأفعال أكثر من المنطق والتفكير الخالص.
    وأحد الأمثلة على هذا هو التوقّف الصامت أثناء المحادثة. فطريقة التواصل اليابانية مليئة بالفراغ، وغالباً ما تُترك موضوعات الجمل دون أن تُقال. والوضوح في الكلمات ليس ضروريا دائما، فالوصول إلى فهم بديهيّ في وقفة صامتة يُعتبر ذكاءً شديدا. وهذا يتناقض مع معايير الاتصال الغربية الأكثر مباشرة، خاصّة في الولايات المتحدة حيث لا ينبغي ترك أيّ شيء للتكهّن وتتجنّب المحادثة حرج الصمت.
    وفي اليابان، يُحترم الاستماع اليقظ والملاحظة المدروسة أكثر بكثير من مجرّد تأكيد المتحدّث على رأيه أو التحدّث لمجرّد ملء صمت غير مريح. وفي الواقع، لا يُنظر على الإطلاق إلى الصمت على أنه شيء غير مريح. وغالبا ما يُنقل صدق المشاعر بفعالية أكثر من خلال التعبير الصامت أو الإيماءة.


  • هناك تعبيرات كثيرة أصلها إنغليزي لكنها تُستخدم بنفس الصيغة في اللغة العربية. وهذه بعض أكثر تلك التعبيرات استخداما وشيوعا.
    "الكرة في ملعبك The ball is in your court"، أي أن هذا دورك لاتخاذ إجراء.
    "يقتل عصفورين بحجر واحد To kill two birds with one stone"، أي يحقّق هدفين بعمل واحد.
    "انتظر حتى يهدأ الغبار Wait for the dust to settle"، أي عليك الانتظار ولا تتصرّف إلى أن يصبح الوضع أكثر وضوحا.
    "لا تضع بيضك كلّه في سلّة واحدة Don’t put all your eggs in one basket»، إي لا تعتمد على شيء واحد بل نوّع خياراتك.
    "الوقت هو المال Time is money"، أي أن الوقت مورد ثمين فاستخدمه بحكمة.
    "دع الكلاب نائمة Let sleeping dogs lie"، أي اترك الموقف كما هو إذا لم يتسبّب بأيّ ضرر.
    "ضاع في الترجمة Lost in translation"، أي أن المعنى غير مفهوم بسبب حاجز اللغة.

  • من الحكايات الرمزية القديمة المعبّرة وذات المغزى أن الحمار قال للنمر يوما: العشب أزرق.
    فأجاب النمر: لا، العشب أخضر.
    واحتدم النقاش بين الاثنين، فقرّرا عرض الموضوع على الأسد للبتّ فيه.
    وقبل الوصول إلى الغابة، حيث كان الأسد يجلس على عرشه، بدأ الحمار بالصراخ وقال: يا صاحب السمو، أليس صحيحا أن العشب أزرق؟"
    فأجاب الأسد: صحيح، العشب أزرق". تقدّم الحمار إلى الأمام وتابع كلامه: لكن النمر يختلف معي ويضايقني. وأرجو منكم معاقبته".
    فقال الأسد: سيعاقَب النمر بالصمت لمدة 5 سنوات".
    قفز الحمار فرحاً ومضى في طريقه راضياً وهو يردّد: العشب أزرق، العشب أزرق!"
    أما النمر فقد قبل عقوبته على مضض، لكنه سأل الأسد: يا صاحب السمو، لماذا عاقبتني، فالعشب أخضر فعلا؟"
    فأجاب الأسد: أعرف أنه أخضر". فسأل النمر متعجّبا: فلماذا عاقبتني إذن؟"
    أجاب الأسد: قراري لا علاقة له بمسألة ما إذا كان العشب أزرق أم أخضر. عاقبتك لأنه لا يمكن لحيوان شجاع وذكيّ مثلك أن يضيّع وقته في الجدال مع حمار، وفوق ذلك تأتي وتضايقني بهذا السؤال التافه".
    والدرس المستفاد من هذه الحكاية هو أن أسوأ طريقة لإضاعة الوقت هي الجدال مع الأحمق والمتعصّب الذي لا تهمّه الحقيقة، بل الانتصار لمعتقداته وأوهامه. لا تضيعوا الوقت أبدا في مناقشات لا معنى لها. فهناك أشخاص، رغم صحّة كل الأدلة المقدّمة لهم، ليس لديهم القدرة على الفهم، وآخرون يعميهم الغرور والكراهية والمكابرة، وليس لديهم سوى الرغبة في أن يكونوا على حقّ حتى لو لم يكونوا كذلك.
    وعندما يصرخ الجاهل، فإن على الذكيّ أن يلتزم الصمت، لأن سلامه وهدوءه الداخلي يستحقّان أكثر.

  • Credits
    virginiacolwell.com

    الثلاثاء، أكتوبر 24، 2023

    محطّات


  • في عام 1915 كتب سيغموند فرويد مقالة يتذكّر فيها حديثا دار بينه وبين الشاعر الألماني ريلكه أثناء سيرهما في حديقة. وفي لحظة ما بدا ريلكه في غاية الضيق والحزن. فقال له فرويد: ما المشكلة؟ إنه يوم جميل، وهناك نباتات وأزهار رائعة كثيرة حولنا".
    فقال ريلكه: إنني لا أستطيع التغلّب على حقيقة أنه في يوم من الأيّام سوف يموت كلّ هذا، كلّ هذه الأشجار والنباتات وكلّ هذه الحياة سوف تتحلّل وتزول".
    كان ريلكه يقصد أن زوال الأشياء وعدم ديمومتها هو مشكلة وجودية وأمر حقيقيّ في هذا العالم. وربّما لهذا السبب عندما نكون في حالة حبّ او ابتهاج، فإننا نشعر بحزن غامض نوعا ما. كما أن الأشياء الجميلة يمكن أن تجعلنا حزينين قليلاً في بعض الأحيان، وذلك لأن تلك الأشياء المبهجة تخفي رؤية شيء أكبر، باب مخفيّ مثلا او حفرة نحاذر الوقوع فيها، على الرغم من أن هذا شعور مؤقّت غالباً.
    وهذا هو السبب أيضا في أننا نشعر أحيانا بالحنين إلى شيء لم نفقده بعد، لكنّنا نرى أنه في النهاية زائل لا محالة. ما العمل إذن وكيف نستجيب لهذا الشعور؟ هل بعدم الارتباط بالأشياء والمشاعر كما تقول بعض الديانات الشرقية؟ أم بالتظاهر بعدم الاهتمام بحقيقة أن كلّ شيء وكلّ شخص نعرفه سوف يُؤخذ منّا بعيدا في يوم من الايّام؟
    إن الحقيقة المتمثّلة في سرعة زوال الأشياء وعدم ديمومتها يمكن مواجهتها بالمزيد من الأدب والأشعار والفنون، وبالتمسّك ببعضنا البعض بقوّة أكبر، وبأن نطيل لحظات الفرح والحبّ والسعادة ونمدّدها إلى أطول وقت ممكن، أو على الأقلّ أن نحاول فعل ذلك.
    فرويد وريلكه قدّما لنا نموذجين متعارضين للفقد وكيفية التعامل معه. والاثنان يساعداننا، كلٌ على طريقته، على أن نعيش مراحل الحزن والحداد ونتجاوزها.
    فرويد، الإنسانيّ المتفائل، يعتقد أن الزوال السريع للأشياء مساوٍ للنموّ والنضج. وكلّ ما هو غائب الآن هو غائب لسبب ما. والكائن المفقود هو كائن تحوّلي. والغياب أو الفقد هو مجرّد خطوة في عملية التحوّل من طور الى آخر.
    أما ريلكه، الشاعر المتشائم، فهو على الضدّ من تفاؤل فرويد. وبرأيه أن بعض الأشياء تُفقد ببساطة، مرّة واحدة وإلى الأبد. كما لا يوجد نموّ ولا تحوّل، بل غياب وفقد فقط. وكلّ ما نحبّه ونعجب به هو مجرّد من قيمته بسبب الانقراض الذي سيكون مصيره والذي لا يترك وراءه شيئاً.

  • يقول الرحّالة والروائي كولين ثوبرون: كنت وأنا في السابعة من عمري منجذبا إلى بلدان بعيدة عندما قرأت حكايات الأطفال. كانت هذه خرافات بسيطة من بلدان ملأتني بالدهشة: الجزيرة العربية، مصر، روسيا والصين وخلافها. ولا أزال أحتفظ الى الآن بنسختي المهترئة من تلك القصص المصوّرة.
    أما الكتاب الذي عدت إليه ثانيةً فكان رواية دوستويفسكي "الإخوة كارامازوف". عندما كنت صغيرا خفت من ثقل الرواية وسرعان ما تخلّيت عنها. ثم عدت اليها في منتصف العمر وأذهلتني حمولتها النفسية، وبقيت الأسئلة الرهيبة التي طرحها إيفان الملحد دون إجابة.
    أما الكتاب الذي غيّرني عندما كنت مراهقا فهو كتاب "الجنس الثاني" لسيمون دي بوفوار. وهو عمل نسوي مبكّر ومؤثّر للغاية. وقد صوّرت فيه المؤلّفة التضييق الثقافي على المرأة عبر العصور. لكن بالنسبة لنفسي المتلهّفة، بدا الأمر وكأنه يكشف عن عالم أنثوي داخلي غنيّ أضفى على النساء غموضا أكثر.
    أما الكتاب الذي اكتشفته لاحقا في حياتي فهو "البحث عن الزمن الضائع". ولا أعرف لماذا تأخّرت في قراءة بروست حتى بلغت الخمسين من عمري. هذا الكتاب يحتوي على أكثر الاكتشافات حساسيةً وعمقاً ودقّةً عن الحبّ والذاكرة.


  • ماذا تفعل عندما لا تكون في أفضل حالاتك؟ حافظ على هدوئك واذهب إلى المكتبة. إقرأ، لا تتوقّف أبدا عن تثقيف نفسك وتطوير ذاتك وتحسين مزاجك. ستجد دائما في الكتب إجابات عن أسئلتك. كلّ الحلول موجودة في المكتبة. وهناك دائما كتاب واحد على الأقل يتناول استفساراتك.
    في بعض الأحيان، تلقي علينا الحياة بالكثير من الأعباء التي لا يعود بإمكاننا تحمّلها. لكن في كلّ الأحوال يجب أن نفكّر في الجانب المضيء للأشياء، أن نتذكّر دائما عنصر الخيرة والإيجابية. فكّر دائما في أحبّائك، في الأشياء التي تجعلك تبتسم وفي الأشياء الصغيرة التي تجعل حياتك اليومية تستحقّ العناء.
    في النهاية، ستجد أن ما تشعر به مجرّد شيء عابر وأنه إلى زوال وأن الأيّام المشمسة ستأتي دائما بعد الغيوم الداكنة. علينا فقط أن نبقى إيجابيين ومتفائلين مهما بدت الظروف صعبة أو مستحيلة.

  • يُحكى ان ناسكاً كان يقيم في غابة. وذات يوم وبينما كان يتناول وجبته البسيطة، سقط بجانبه فأر صغير من منقار غراب كان يحلّق في السماء. فتناوله وأطعمه بحنان بضع حبّات من الأرز. وبعد فترة رأى الناسك قطّة تطارد الفأر لالتهامه، فحوّل الناسك الفأر بفضل قواه الغيبية إلى قطّة قويّة.
    لكن القطّة تعرّضت لمضايقات شديدة من الكلاب، فحوّلها مرّة أخرى إلى كلب. وبعد فترة أصبح الكلب في خطر داهم من النمور، فبادر الناسك الى إعطاء الكلب شكل نمر. وطوال هذا الوقت ظلّ الناسك يعامل النمر على انه فأر صغير. وعندما كان اهل القرية المجاورة يمرّون من أمام كوخ الناسك ويرون النمر، كانوا يقولون: هذا ليس نمرا، انه مجرّد فأر غيّره الناسك الى نمر، وهو لن يفترسنا ولا حتى يخيفنا".
    وعندما سمع النمر هذا الكلام شعر بالاستياء وقال: طالما عاش الناسك، فإن هذه القصّة المخزية عن طبيعتي الأصلية لن تموت أبدا، لذا ينبغي عليّ أن اتخلّص منه نهائيّا". وقرّر فعلا ان يقتل الناسك. وعندما عرف الناسك مقصد النمر الجاحد، أعاده بكلمة واحدة منه إلى شكله الأصلي وعاد فأراً صغيرا مرّة أخرى.
    والعبرة من هذه الحكاية هي أنه لا ينبغي أبدا وضع الشخص الوضيع في مقام رفيع لا يستحقّه. فإن الوضيع متى وصل إلى مكانة عالية تنكّر الى من أحسن اليه وجحد معروفه عليه.

  • Credits
    freud.org.uk

    الثلاثاء، أكتوبر 17، 2023

    محطّات


  • "القرمزيّ" كلمة شديدة الخشونة ومزخرفة كثيرا. إذا استخدمها كاتب ما فهذا يعني أنه يميل الى استخدام صيغ التفضيل. لكنّ العديد من الكتّاب يستخدمونها ثم لا يلبثون أن يضغطوا بتكاسل على زرّ الحذف ويلغونها.
    كلمة "قرمزيّ" المستخدمة اليوم لا بدّ أن تثير الشكوك: لماذا اختار هذا الكاتب أو ذاك هذه الكلمة غير الجديرة بالثقة؟ وما الذي يختبئ خلف المخمل الرثّ والمكسّر لتلك الستارة القرمزية؟
    "القرمزي" واحدة من أقلّ الكلمات المفضّلة لدى الكثيرين. منها تفوح رائحة أسوأ عادات الكتّاب. وهي كلمة صُنعت بدقّة لتتولّى كافّة الأعباء الثقيلة بالنيابة عنك. وبالنسبة للأذن الحديثة، لا يزال صوتها فخماً، لكن معناها فاحش.
    وفي الوقت الحاضر لا تجد الكثير من الكلمات المجوّفة إلى هذا الحدّ. ورغم هذا ما تزال قيد الاستخدام بشكل نشط. ودلالاتها السابقة، أي الفخامة والرفاهية والتمجيد، أصبحت الآن مغلّفة بالسخرية.
    في عصر الأصباغ الاصطناعية الرخيصة، ننسى أن مصطلحات اللون متجذّرة في المواد الترابية باهظة الثمن. كلمة "قرمزي" مشتقّة من القرمزcrimson، وهو مصطلح يشمل عدّة أنواع من الحشرات التي تُلتقط وتُجفّف وتُطحن لإنتاج أصباغ حمراء باهظة الثمن.
    إحدى هذه الحشرات، وتُدعى دم القدّيس يوحنّا، تعيش بشكل طفيليّ على النباتات الصلبة. ولحصد ما لا يقلّ عن أربعين حشرة في كلّ ساق، يجب اقتلاع كلّ نبات من جذوره وتنظيفه وتجريده من الحشرات. كما يجب جمعها بأعداد مذهلة لإنتاج مادّة صبغية ذات تأثير لونيّ أخّاذ: 70.000 لكلّ رطل.
    ومع ذلك، وبحلول خمسينيات القرن التاسع عشر، تجاوز الإنتاج العالمي مليوني رطل سنويّاً، قبل أن ينخفض الرقم بشكل حادّ مع اختراع الأصباغ الاصطناعية في عام 1856. واليوم، لا يزال القرمز الحقيقيّ يلطّخ باللون الأحمر العديد من الأطعمة والمشروبات ومستحضرات التجميل. وكلّ هذه الأشياء وغيرها مطليّة على الأرجح بجوهر الحشرات المقطّر.

  • معظم الفلاسفة يناقشون الأفكار، لكنّهم لا يعطون قرّاءهم أيّة مفاتيح لعيش حياة أفضل. لكن من المفاهيم الفلسفية السهلة والعملية التي يمكن تطبيقها في حياتنا المفهوم الياباني المسمّى بوكيتو Boketto. ويعني فنّ التحديق في الفراغ بلا تفكير ودون فعل شيء.
    أي أن تتوقّف عن التفكير وأن تستمتع بوجودك في المكان والزمان. أي أن تكون دون أن تحاول أن تكون. أن تندمج في الكون دون أن تحاول التأثير فيه. أي أن تراقب السماء وشكل الغيوم وتساقط أوراق الشجر وتتأمّل جمال الشجر وألوان الأزهار. أي أنك لا تحاول حتى أن تفكّر. فقط تنظر.
    وإذا كنت تستطيع الوصول إلى البحر، فإن ممارسة البوكيتو أمام البحر سيكون عملا مميّزا. غروب الشمس أو شروق الشمس هي لحظة أخرى تكون فيها ممارسة هذه الرياضة الذهنية مفيدة.
    والبوكيتو يتطلّب شيئا واحدا فقط: التنفّس.
    توقّف عن أيّ شيء آخر، انفصل عن العالم، كن حاضرا جسدا وغائبا عقلا.
    البوكيتو ليس تأمّلا، لأنك لا تحاول التركيز على تنفّسك ولا على إحساس معيّن. إنه يعني عدم المحاولة. أي ألا تحاول فعل شيء.


  • قلّة هم الكتّاب العظماء الذين لم يكن لديهم شغف - قلّ أو كثُر - بالنجوم. ولم تكن فيرجينيا وولف، أحد أكثر العقول تألّقا في القرن الماضي، استثناءً. كتبت ذات مرّة: خلف الصوف القطنيّ يختبئ نمط". وطبعت هذه الفكرة كتبها وحياتها بشعور من التناغم الضمني مع الواقع والاقتناع بوجود آليّة خفيّة تحكم الكون. لذلك لم يكن غريبا أن تصبح النجوم وسماء الليل من بين هواجسها الكثيرة.
    تلقّت وولف تعليمها في المنزل، محاطةً بكُتُب والدها الذي كان رجل أدب وصاحب مكتبة ضخمة. وكان في مجموعته عدد هائل من المجلّدات عن العلوم والجيولوجيا والتاريخ الطبيعيّ وعلم الفلك (أي العلوم التي كانت هواجس العقل الفيكتوري). وكان على وولف الشابّة أن تتعرّف على حركات الكواكب ودورات القمر والمسافات بين النجوم ومقاييس الزمان والمكان التي ستشغل عقلها بقيّة حياتها.
    كان للعائلة منزل ريفيّ على ساحل كورنوول، حيث أيقظت السماء المرصّعة بالنجوم والأقمار حسّاً فانتازيّا في عقلها الصغير. وظهرت هذه الانطباعات في المناظر الطبيعية الليلية الموصوفة في إحدى أهمّ رواياتها، وهي "إلى المنارة".
    ومنذ صغرها، أقامت وولف تلسكوباً في المنزل الصيفي، وواكبت الاكتشافات الفلكية واكتشافات هابل وآينشتاين. كما استعانت بكتب علم الفلك في ذلك الوقت، ومن بينها كتاب جيمس جينز الأكثر مبيعا "الكون الغامض". وانعكس هذا في جميع كتبها تقريبا، ولكن بشكل خاصّ في كتابي "الأمواج" و"السنوات".
    لقد فهمت وولف جيّدا لغز وجمال الفضاء الخارجيّ والمجرّات. وكتبت ذات مرّة في مقال بعنوان "الجسر الضيّق للفنون" تقول: عمر الأرض ثلاثة بلايين عام، وحياة الإنسان لا تدوم سوى ثانية. وفي هذا الجوّ المشحون بالشكّ والصراع يتعيّن على الكتّاب أن ينتجوا!". كان الأمر كما لو أن الكون وأرقامه دعاها إلى الكتابة، لتترك إرثا على هذا الكوكب الصغير، في زاوية من مجرّة واحدة صغيرة.
    في عام 1927، شهدت وولف كسوفا كليّا للشمس، وهي فرصة لا تتكرّر إلا مرّة واحدة في العمر "لن يحدث الكسوف التالي الا عام 1999". وقد وصفت الحدث بدقّة في مذكّراتها وتحدّثت عن عدم انتظام سطح الشمس والمرور الدراماتيكي من الضوء إلى الظلام والعودة مرّة أخرى إلى النور.
    كانت التلسكوبات قد أخذت تنتشر تدريجيّا في جميع أنحاء أوروبّا. وكانت هذه الأجهزة موضع هوس وولف. وقبل أن تمتلك تلسكوبها الخاصّ، كانت تقضي ليالي كاملة في تعقّب النجوم مع أعضاء مجموعة بلومزبري. وأدّى ذلك إلى ظهور قصّتها القصيرة "البحث عن الضوء"، حيث يستخدم شابّ تلسكوبا لرؤية النجوم اوّلا، ثم للتجسّس على فتاة. وأخذت كائنات الفتنة هذه، أي التلسكوبات، تظهر بشكل متكرّر في كتابات وولف، وتحديدا في ما لا يقلّ عن ستّ من رواياتها التسع، وكذلك في العديد من المقالات والقصص القصيرة.
    وبالنسبة لحساسية وولف الفريدة، قدّمت السماء الليلية لمحات من جوهر العالم، ذلك الشيء المسمّى أحيانا بـ"بالواقع". وكانت هذه الرؤى تتجاوز الجمال. وقد وصفت هذا في نثرها الواضح والمذهل الذي نشرته في إحدى المجلات الصادرة عام 1926 عندما كتبت:
    " في داخلي باحث لا يهدأ. لماذا لا يوجد اكتشاف في الحياة؟ شيء يمكن للمرء أن يمسكه ويقول: هذا هو! الاكتئاب الذي أعانيه هو شعور بالضيق. وأنا أبحث، لكن هذا ليس كلّ شيء. هل سأموت قبل أن أجده؟ ثم أرى الجبال في السماء والغيوم العظيمة والقمر المرتفع فوق بلاد فارس، فيتشكّل لديّ إحساس رائع ومدهش عن شيء ما هناك. ولا أعني الجمال بالضبط. إنه شيء كافٍ ومُرضٍ في حدّ ذاته".

  • Credits
    suite101.com