:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات فريدريش. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فريدريش. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، يوليو 17، 2024

فريدريش: العالم كروحٍ بدائية


في الكثير من صور الرسّام الألماني كاسبار دافيد فريدريش (1774-1840)، لا يزيد عدد الأشخاص عن اثنين في الغالب. وهما دائماً يعطيان ظهريهما للناظر، ويبدوان كما لو أنهما يخطوان خارج المكان الذي يقفان فيه، أو يبحثان عن شيء ناءٍ لا يمكن بلوغه، ويتبادلان حديثاً أشبه ما يكون بحديث الأرواح.
وبالإضافة إلى هذا، هناك الحضور الدائم للقمر وأشجار السنديان، والأفق المنخفض كطريقة لإبراز قرب السماء وسيطرتها.
كانت الموضوعات المفضّلة لدى فريدريش، والتي ضمّنها في صوره، الأشجار العارية في مناظر الطبيعة الشتائية، والأطلال المغطّاة بأشجار اللبلاب، والسماء فوق بحر البلطيق العاصف، والأشجار المتيبّسة أو الداكنة، والسماء الليلية، وضباب الصباح، والآثار القوطية أو الصخرية، والارتباط الدائم بين البشر والطبيعة.
لم يكن الرسّام يصوّر الطبيعة فحسب، وإنما أيضا الحالات المزاجية والعواطف والمشاعر التي تستحضرها. ومصداقا لهذا كان دائما يردّد: لا ينبغي للفنّان أن يرسم ما يراه أمامه فقط، بل ما يراه داخل نفسه أيضا".
الكاتب المسرحي الإيرلندي سامويل بيكيت قال ذات مرّة إن لوحة فريدريش "رجلان يتأمّلان ضوء القمر" (1819) كانت مصدر إلهامه لكتابة مسرحيته العبثية المشهورة "بانتظار غودو". في لوحة فريدريش هذه، ذات الطبيعة الليلية، يقف شخصان خلف شجرة ذات أغصان متيبّسة وهما يتأمّلان القمر ونجمة المساء. وفي مسرحية بيكيت، ينتهي كلّ فصل بمشهد لبطل العمل وهو يحدّق من بعيد في ضوء القمر.
كان فريدريش يحبّ تضمين أعماله موتيفاتٍ قروسطية. وقد استلهم هذا من صديقه الشاعر غوته الذي خصّص أوّل كتبه للحديث عن جماليات كاثدرائية ستراسبورغ.
والكثير من لوحاته مثل "راهب على شاطئ البحر" تتحدّث إلى أجيال متعاقبة. وهناك إحساس عالٍ بالدراما في هذه الصورة يجسّده الشخص الوحيد الذي يظهر فيها متأمّلا البحر ومرهِفا سمعه لحركة وصوت الماء التي يتردّد صداها في الأفق المفتوح والممتدّ أمامه.
كان فريدريش ينظر الى العالم كروح بدائية. وهو في لوحاته ينقل المتلقّي الى الوراء، أي الى الوقت الذي كانت فيه الأرض شابّة. ومناظره الطبيعية لا تهتمّ كثيرا بالمكان. والطبيعة يصوّرها دائما كظاهرة. والكون بالنسبة له عبارة عن وثيقة مليئة بالصور الآمنة والخطرة معاً.
لوحته "ضباب في وادي إلبا" (1798) لها حساسية الصور الصينية المرسومة على الحرير في إمساكها الصامت بالضباب المتدحرج فوق الجبال. وأغصان الأشجار العارية من أثر الثلج تشبه سرباً من الظباء المستنفرة.
من أشهر اعمال فريدريش الأخرى تصاويره لأطلال دير إيلدينا الألماني المبني عام 1199. كان هذا الدير قد دُمّر أثناء حرب الـ 30 عاما واستُخدمت حجارته لبناء جامعات ومدارس. وفي عام 1800، كانت هناك نيّة لإزالة أطلاله نهائيا، غير أن رسومات فريدريش للدير أنقذته عندما وجّهت انتباه الناس إلى وضعه فطالبوا بالمحافظة على بقاياه وتأمينها.


المعروف أن صور الآثار والأماكن القديمة ترتبط في الوعي الجمعي بمشاعر متباينة كالحزن والحنين والغموض، وأحيانا الخوف. وكثيرا ما تذكّر رؤية الآثار بالمآسي القديمة للإنسانية وبالأفعال البطولية، وما إلى ذلك. وقيمة الآثار البصرية والجمالية تكمن في نقصها، أي عدم تمامها، وفي تفاعلها مع الطبيعة من حولها.
وفي العصر الرومانسي، أي زمن فريدريش، كانت الأماكن الأثرية ملتقى للأدباء والشعراء والفنّانين. وغالبا ما كانت تُستخدم كخلفية أو كصورة مجازية للأشياء الآيلة للذبول والتلاشي. غير أنها في الوقت نفسه يمكن أن تكون أماكن للتجدّد والتعلّم والإلهام. لكن في عصر النهضة، أي قبل ذلك بقرنين، كانت الأماكن القديمة تُقدّر لجمالها الفطري وباعتبارها رمزا لفناء العالم وشهادة على عجز الإنسان عن حماية ما أوجده.
في إحدى لوحات فريدريش من عام 1824، يرسم الفنّان سماءً لامعة ومليئة بالرؤى تحتلّ كامل الصورة تقريبا وتغطّي الارض الصغيرة الى أسفل. أحد النقّاد قال يصفها: هذه سماء نوفاليس الفيلسوف، فهي خالية من النجوم لكنها أكثر سطوعا من النهار، بينما تبدو الارض تحتها بلا نشاط او حياة".
وفي لوحة أخرى مليئة بالرموز وتعكس نظرته التأمّلية للطبيعة، يرسم فريدريش ثلاثة أشخاص، امرأتان ورجل، يرتدون ملابس من القرون الوسطى ويراقبون في ضوء القمر سفينة عائدة من رحلة في ساعة متأخّرة من الليل. قيل أحيانا إن السفينة في اللوحة ترمز لمرور الزمن ونهاية رحلة الإنسان.
كان فريدريش يرفض دراسة أو تصنيف الظواهر الطبيعية ويتجاهل ما يقوله العلم الحديث عنها، على أساس أن ذلك من شأنه أن يؤثّر سلبا على القيمة الشاعرية لصوره ويقلّل من دوره كشارح للطبيعة.
ورغم أن أعماله مشبعة بإحساس واضح بالحزن والكآبة، إلا أن هذا الشعور تأمّلي في الأساس، أي أن القبور والجنائز والأطلال الدارسة وغيرها تشير إلى حياة أكثر سلاما بعد الموت. وهذا العزاء بالخلود أو الحياة الأبدية حاضر حتى في أكثر أعمال الرسّام كآبةً وحزناً.
لوحة فريدريش الأشهر "متجوّل فوق بحر من الضباب" من عام 1817 (فوق)، تصوّر شخصا غامضا يقف فوق صخرة وعرة مراقباً المنظر الطبيعي الذي أمامه ومُعطياً ظهره للناظر. وقد أصبحت هذه اللوحة مألوفة لدرجة أنه أصبح من الصعب أن ندرك مدى ابتكاريّتها وثوريّتها عندما أُنجزت، حيث كانت تخالف كلّ الأنماط التقليدية في الرسم التجسيدي.
عندما حلّ عام 1820، كان كاسبار فريدريش يعيش حياة عزلة وانفراد وفقر نسبي. وقد أطلق عليه أصدقاؤه من الفنّانين والكتّاب لقب "الفنّان الأكثر عزلة بين المنعزلين".
وبعد موته بمائة عام، استخدم هتلر والحزب النازي أعماله للترويج لأيديولوجيتهم المتطرّفة، في محاولة لربطه بشعاراتهم القومية. وكانت النتيجة أن شعبية فريدريش سجّلت تراجعا واضحا خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
في هذا العام، 2024، تحتفل ألمانيا بذكرى مرور 250 على مولد فريدريش. وما يزال الفنّانون في العصر الحاضر يجدون في أعماله إلهاماً على مستويات متعدّدة. واستكشافاته للإنسان وعلاقته بالطبيعة تشكّل نقطة انطلاق للكثير من الفنّانين الذين يراقبون علاقة البشر المضطربة حالياً بالعالم الطبيعي في عصر التغيّر المناخي.

Credits
caspardavidfriedrich.org

السبت، أغسطس 05، 2017

الرومانسيّة في العالم المعاصر

إذا كنت تعتقد أن الرومانسيّة هي قصائد الحبّ وباقات الورد وشموع الليل المعطّرة، فعليك أن تعيد النظر في فهمك. فالرومانسيّة، في واقع الأمر، اكبر وأشمل من هذه الأشياء والارتباطات البسيطة.
بدأت الرومانسيّة كحركة فنّية وفكرية وأدبية في ألمانيا وفرنسا في منتصف القرن الثامن عشر. وكانت روحها المحرّكة هي الثورة ضدّ المؤسّسة وضدّ القواعد والقوانين والأفكار والصيغ الجاهزة التي طبعت الكلاسيكية.
كان الرومانسيّون يفضّلون الخيال على العقل، والمشاعر على المنطق. وكانوا يرون أن التعويل يجب أن يكون على المشاعر والفطرة كمرشد أساسيّ في الحياة بدلا من العقل والتحليل.
كما كانوا يُعلون من شأن التعبير عن الذات والفردانية ويؤمنون بأن الناس يجب أن يخضعوا لما تمليه عليهم مشاعرهم التلقائية، بدلا من الاحتكام للقواعد والطقوس الباردة التي رسمها المجتمع البورجوازيّ.
وكانوا أيضا ضدّ الآداب والتقاليد الاجتماعية، مفضّلين الصراحة والحديث المباشر. وكانوا يفترضون أن الأطفال أنقياء وطيّبون وأن المجتمع هو الذي يفسدهم.
ومن سمات الرومانسيّة الأخرى أنها تكره المؤسّسات وتمجّد الأفراد الشجعان من خارج المؤسّسة الذين يقاتلون ببسالة ضدّ الوضع الراهن.
كما أنها تحتقر التنظيم ودقّة المواعيد والوضوح والبيروقراطية والصناعة والتجارة والروتين. ورغم أنها تعترف بأن كل هذه الأشياء ضرورية، إلا أنها ترى أنها املاءات تعيسة فرضتها على الناس الظروف غير المواتية للحياة.
والرومانسيّة تفضّل الجديد والخاصّ والنادر والمميّز والاستثنائي على القديم والمتكرّر والرتيب والنمطيّ والاعتياديّ.
تأمّل هذه الحالة: أنت تعيش ضمن ثقافة تمارس عليك ضغطا كي تسايرها، كي تصبح مثل بقيّة الناس، ترغب في ما يرغبون وتفعل مثل ما يفعلون. ثم تبدأ في توجيه السؤال إلى نفسك: هل أصبح شخصا شاذّا أو غريب الأطوار إذا أردت أن أكون مختلفا، فلا ألبس ما يلبس الآخرون ولا أؤمن بما يؤمنون ولا أتصرّف مثل ما يتصرّفون؟
إذا كنت قد فكّرت بمثل هذه الأسئلة، فإن هناك الكثير ممّا يجمعك بالرومانسيّين وبأكثر مما تظنّ. فالرسالة الكبيرة للرومانسيّة هي: كن نفسك ولا تذهب إلى حيث يذهب القطيع.
كان الرومانسيّون أيضا يجنحون نحو الغموض والخرافة، واعتبروا الخيال أداة أو بوّابة إلى التجارب المتسامية والحقائق الروحية.
وقد عادوا إلى القرون الوسطى، إلى الأفكار والأماكن القديمة، وأصبح لديهم اهتمام بالثقافات الشعبية وبأصول الثقافات العرقية والقومية.
وكانوا يؤمنون أيضا بأن الطبيعة امتداد لشخصيّة الإنسان، وأن أنفاس الله تملأ الإنسان والأرض، وأننا لا يمكن أن نصبح سعداء دون أن نرتبط بالطبيعة بمعناها الكبير والشامل.
وأكثر الشعراء والرسّامين الذين نعرفهم اليوم ولدوا من رحم الرومانسيّة، مثل بايرون وشيللي وكيتس وديلاكروا وجيريكو وغويا وفريدريش وبليك وكونستابل وتيرنر وكول وغيرهم. كان حبّ هؤلاء للطبيعة جارفا، وكانت أعمالهم تمتلئ بإشارات كثيرة عن الأشجار والأزهار والجبال والسحب والطيور والأنهار والمحيطات والغابات.. إلى آخره.
كانوا يعتقدون أنهم بالجلوس تحت شجرة وبالنظر إلى ما حولهم واستنشاق الهواء في الطبيعة المفتوحة يتعلّمون الكثير. مرأى وردة يمكن أن يحرّك الدموع في عين شاعر، ومزهرية قديمة يمكن أن تغري رسّاما رومانسيّا بتأمّلها طويلا ورسمها.
وكانوا يُسرّون برؤية المناظر التي لم تمسسها يد الحضارة. وليس بالمستغرب أن أطلال الحضارات القديمة كالإغريق والرومان والمصريين القدماء كانت أفكارا مفضّلة في الشعر الرومانسيّ.
وقد تحدّث الرومانسيّون كثيرا عن الآثار، وعن الأواني والمزهريات والتماثيل والمباني المهدّمة من الثقافات القديمة، ووظّفوا كلّ هذه الأشياء كأداة للتأمّل في مرور الزمن وقِصَر الحياة.
وكانوا أيضا مفتونين بالحياة البريئة لسكّان الأرياف. وحبّ الريف كما يعبّر عنه الأدب الرومانسيّ كان يرافقه غالبا إحساس بالحزن مردّه أن التغيير وشيك وأن طريقة الحياة البسيطة أصبحت مهدّدة بفعل التصنيع وزحف العمران.
الرومانسيّة ما يزال لها وجود في عالم اليوم. ومن الصعب أن تسترسل في الحديث عن أيّ موضوع دون أن تستخدم إشارة أو وصفا رومانسيّا لشرح موقف أو حالة.
لكن هناك من يرى بأن القليل من الرومانسيّة مفيد، والكثير منها ضارّ ويمكن أن يشكّل عقبة في طريق حياتنا.
فبعض رسائل الرومانسيّة قد تدفعنا في اتجاهات خاطئة، فتثير آمالا غير حقيقية وتجعلنا غير صبورين مع أنفسنا. كما أنها تقمع رغبتنا في تفحّص دوافعنا وأفكارنا، ويمكن أن تبعدنا عن حقائق الواقع وتقودنا لأن نندم ونحزن على الظروف الطبيعية للوجود.

Credits
online-literature.com

الخميس، يونيو 22، 2017

طبيعة فريدريش


أصبح كاسبار ديفيد فريدريش الرسّام المحبوب الأوّل في ألمانيا وبات الألمان ينظرون إليه كأيقونة ثقافية. والسبب هو أننا عندما ننظر إلى لوحاته فإننا نشمّ فيها رائحة البارود.
ونعرف قبل أن يخبرنا المؤرّخون أن هتلر كان يحبّ رسوماته. الخواء والغموض في ساحات فريدريش التي لا يسكنها سوى أشباح أبطال ألمانيا جعلته المعادل البصريّ لفاغنر: بطل مخالف للعرف وذو ملامح كالحة، في قاعة عمالقة الثقافة.
لكن هذا لم يؤثّر كثيرا في شعبيّته. فرسّام المناظر الطبيعية هذا، الذي كاد أن يُنسى بعد وفاته عام 1843، أعيد اكتشافه من جديد في السنوات الثلاثين الأخيرة.
في سبعينات القرن العشرين، عاد الفنّانون والسينمائيون الألمان إلى الحديقة المتفحّمة لإرثهم الثقافيّ كي يتخيّلوا من جديد طبيعةً بعْثَرَتها النازية. وقد ذهبوا باحثين عن ألمانيا، وما وجدوه كان فريدريش .
الرسّام الألمانيّ المعاصر انسيلم كيفر صوّر نفسه في طبيعة فريدريش، معطيا ظهره لنا مثل الأشخاص في لوحات الأخير، ومؤدّيا التحيّة النازيّة.
ومنافسه الرسّام غيرهارد ريختر زار هو الآخر طبيعة فريدريش، لكنّه رسمها مغبّشة، كما لو أنه رآها من نافذة سيّارة في يوم مطير.
وعندما أعاد فيرنر هيرتزوغ إعادة إخراج فيلم نوسفيراتو عام 1979، حوّل قصة الفامباير أو مصّاص الدماء الذي يغزو بلدة في شمال ألمانيا إلى مقالة عن الرومانسية. فشخصيّات الفيلم تسير عبر تلال مغطّاة بالضباب، مثل تلك التي كان يرسمها فريدريش في مناظره.
وفي النهاية يختفي الفامباير في ساحة فسيحة وخالية، تماما مثل الشخص الملتحف بالسواد في أعظم لوحات فريدريش المسمّاة الراهب أمام البحر (فوق). وهيرتزوغ يرى الطبيعة الألمانية في لوحات فريدريش كمكان ملعون، بينما يعتبر أن مصّاص الدماء هو هتلر وفريدريش معا.
ومع ذلك تستمرّ جاذبية فريدريش القاتلة. ولوحاته ما تزال تظهر على غلاف أيّ كتاب كلاسيكيّ له علاقة بالرومانسية الألمانية أو القوطية.
وعندما اشترى الناشيونال غاليري لوحته طبيعة شتائية المرسومة عام 1811، كانت تلك أوّل لوحة لفريدريش يشتريها متحف من خارج ألمانيا.
لقد فتح فريدريش العالم، ولكن بثمن غالٍ وسوء فهم عميق عمّن كان وإلى ماذا كان فنّه يرمز. وأصبح هو الأيقونة الأهمّ للرومانسية الألمانية، وصارت صورته كمتسلّق للجبال وعاشق للتسامي والخواء صورة لتاريخ ألمانيا نفسها. ويبدو أن الناس يحبّونه مثلما يحبّون دراكيولا، لأنه يدهشهم ويرعبهم.
لكن فريدريش لم يكن رجلا مصابا بجنون العظمة، بل كان إنسانا واقعيّا شارك في عصره بعقلانية وبعين داهية سياسيّ. رسائله التي أعيدت طباعة بعضها مؤخّرا ربّما تخيّب أمل خبراء الفنّ الذين يميلون للحديث عن الجنون الألمانيّ.
ففريدريش يبرز في تلك الرسائل كناقد للسلطة وكمتعاطف متمرّد مع الطلاب المسجونين لاحتجاجهم ضدّ الأنظمة الديكتاتورية في الولايات الألمانية الصغيرة والمقسّمة بعد مؤتمر فيينا عام 1815، وأحيانا كداعية متحمّس للتغيير وكليبراليّ من القرن التاسع عشر.
الأب الحقيقيّ لرسم مناظر الطبيعة الرومانسية كان نابليون. فالجيوش الخفيّة للإمبراطور الذي توّج نفسه ملكاً، جعلت طبيعة أوربّا مرئية عندما شقّت تلك الجيوش طريقها عبر القارّة.


وقد رأى فريدريش الولايات الألمانية تنهزم بطريقة مذلّة على يد جيوش نابليون، مثلما شهد فرانشيسكو دي غويا ضمّ اسبانيا، ومثلما رأى وليام تيرنر بريطانيا تُحوّل بحرها إلى سور دفاعيّ.
لكن ما جعل فريدريش يرى خطر الطبيعة كان سقوط نابليون. والذي أطاح بنابليون كان الفراغ والطقس والطبيعة. وزحفه على روسيا انتهى بهزيمته في الأرض اليباب لشتاء الشمال.
لقد هزّت الحروب النابليونية رَسْم الطبيعة الرومانسية بعنف. في لوحة تيرنر عاصفة ثلجية ، يصوّر الرسّام الانجليزيّ هانيبال وجيشه وهم يعبرون جبال الألب. وتيرنر يجسّد نابليون على هيئة جنرال قرطاجيّ ضئيل الحجم يقف هو وجنده بلا حول ولا قوّة أمام الجبروت الطاغي للجبال والطقس.
لكن في لوحات فريدريش يعاني نابليون من مصير أسوأ بكثير. ففي عام 1814، أي في السنة التالية لانسحاب بونابرت من موسكو، رسم فريدريش لوحته بعنوان الجنديّ في الغابة .
وفيها نرى جنديّا فرنسيّا منقطعا عن رفاقه يقف في درب ضيّق مقطوع الشجر داخل غابة يبدو انه لن يهرب منها أبدا. أشجار الشيح البنّية ترتفع كالأشباح فوق الجنديّ وتطبق عليه، وهو يبدو مستسلما، تاركا سيفه يسحب على الأرض ومصدوما من الظلام الرهيب الذي لا يقاوَم ويوشك أن يبتلعه.
هذه اللوحة أيضا تصوّر نابليون في شخص احد جنوده الهالكين. لكن بدلا من السهل الروسيّ، فإن الغابة الألمانية هي التي تهزمه هنا. ولوحة فريدريش هذه كثيرا ما اعتُبرت بمثابة بيان وطنيّ. فألمانيا، كما يوحي فريدريش، هي غابة متشابكة ومميتة وقادرة على ابتلاع أعدائها.
لكن من الخطأ أن تنظر إلى لوحات فريدريش على أنها وطنيّة فقط. وهي ليست احتفالات بالغموض الألمانيّ بقدر ما هي اختبار له. ففريدريش يوظّف خواء وفراغ ساحل بحر البلطيق وغابة ولاية تورنجيا كي يوحي بغطرسة الإمبراطورية.
فريدريش ليس رسول طُموح ألمانيا الجغرافيّ، بل المتأمّل فيه بسخرية. وفكرته هي انه يستحيل الانتصار على الفراغ، وأن البشر متطفلّون صغار في عالم لا يمكن أن يحلموا بأن يحكموه.
كما أن الرسّام يفضح سلطة الولايات الملوكية الألمانية، مثل بروسيا والبقيّة، التي كان الليبراليون الألمان يشعرون بأنهم معزولون عنها كليّاً.
في عام 1810، أرسل فريدريش اثنتين من أشهر لوحاته هما الراهب أمام البحر ودير في غابة السنديان ، لكي تُعرضا في برلين عاصمة بروسيا التي كانت قد أنزلت هزيمة ساحقة بنابليون قبل ذلك بأربع سنوات. وقد تسبّبت اللوحتان في إحداث ضجّة، ثم قرّرت العائلة الحاكمة اقتناءهما.
طبيعة فريدريش هي مكان لا تستطيع أن تجد فيه موطئاً لقدمك. حاول أن تقتحمه وتنتصر عليه، وستسقط صريعا بين الثلوج. لقد هلك نابليون في هذه الطبيعة، وكذلك هتلر.
فنّ فريدريش لا يمكن وصفه باللاعقلانيّ، بل هو عن اللاعقلانية. في لوحة امرأة في نافذة ، نرى امرأة (زوجة الرسّام) تعطي ظهرها للناظر وتحدّق إلى خارج الغرفة المعزولة باتجاه سارية سفينة في قنال. المنزل هو العالَم الآمن الذي كان فريدريش يتطلّع إليه وحقّقه.
السفينة ذات الحضور المشئوم تصل إلى البلدة، وكأنها خارجة من الطبيعة الألمانية. إنها تمثّل كلّ شيء كان فريدريش يخاف منه ويرغب به في نفس الوقت. قد تكون هذه سفينة الهولنديّ الطائر الذي تحكي عنه أوبرا فاغنر، أو قد تكون السفينة التي تُحضِر مصّاص الدماء إلى البلدة بصحبة جيشه من الفئران.

Credits
caspardavidfriedrich.org
theguardian.com

السبت، مايو 28، 2016

لوحات الفانيتا

"فانيتا" كلمة لاتينية تعني الفراغ أو الخواء، لكنّها أيضا تشير إلى معنى التشاوف أو الخيلاء والتفاخر الأجوف بالمال أو السلطة أو الجمال والزينة.
ولو بحثنا عن كلمة بالعربية تعطي نفس الدلالة لما وجدنا أفضل من العبارة التي تقول: ما الدنيا إلا متاع الغرور". والفانيتا أيضا هي نوع من لوحات الطبيعة الساكنة يريد رسّاموها أن يذكّرونا من خلالها بقِصَر الحياة وبعبثية المتع الدنيوية وبحتمية الموت.
وفي هذا النوع من اللوحات، نجد غالبا جماجم ترمز للموت، بالإضافة إلى رموز أخرى مثل الفواكه المتعفّنة والأزهار الذاوية التي ترمز للتحلّل، والشموع المطفأة والدخان والساعات والأدوات الموسيقية والساعات الرملية وغيرها من أدوات قياس الزمن.
كما يمكن أن تتضمّن هذه اللوحات كتباً، سواءً كانت مكدّسة فوق بعضها البعض أو مفتوحة على صفحة بعينها، وموادّ من الكريستال والفضّة وتماثيل صغيرة وآنيات زهور وعملات معدنية وقلائد وخواتم من اللؤلؤ تنبثق من صناديق مزخرفة. وكلّ هذه الأشياء ترمز لقصَر الحياة وفجائية الموت.
وقد اعتاد الناس في أوربّا خاصّة، ومنذ زمن طويل، على أن يستحسنوا هذه اللوحات ويقتنوها لسكونيّتها ولرمزيّتها العميقة. وهذه الفكرة لا تقتصر على الرسم فحسب، وإنّما تمتدّ أيضا لتشمل الشعر والموسيقى والأدب.
وهناك جملة أخرى باللاتينية لها دلالة دينية وتتردّد كثيرا هي "ميمنتو موري"، وتعني حرفيا "تذكّر أنك مخلوق فانٍ"، وهي فكرة ظلّت تحظى بالرواج والشعبية في أوساط الكتّاب والفنّانين المسيحيين على مرّ قرون.
والفكرة تنطوي على نصيحة للناس بأن عليهم أن يستعدّوا للموت في أيّ وقت لأنه يأتي على حين غرّة وبلا سابق إنذار. والسبب هو أن أوربّا شهدت ابتداءً من القرن الرابع عشر مجاعات متكرّرة وحروبا كثيرة مدمّرة مات على إثرها الكثيرون، بالإضافة إلى تفشّي وباء الطاعون الذي اكتسح القارّة وحصد أرواح مئات الآلاف من البشر.
كان الموت وقتها يتربّص بالجميع. ومع ذلك كان الناس يجتهدون في البحث عن التسلية والمتعة متى ما كان ذلك ممكنا. لذا انتشرت آنذاك في بعض أرجاء ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا أغاني تحمل حوارات متخيّلة بين الموت والبشر.
وإحدى أشهر تلك الأغاني كانت كلماتها تقول: إن كنت لا تستطيع أن تعود إلى الوراء لتصبح كالطفل وتغيّر حياتك للأفضل، فلن تستطيع أن تدخل ملكوت الربّ. إن الموت يسرع الخطى، فدعنا نمتنع عن ارتكاب الخطايا".
المعروف أن رسومات الفانيتا ازدهرت في هولندا على وجه الخصوص، وبالتحديد في ذروة ازدهار ما عُرف بالعصر الذهبيّ للرسم الهولنديّ. وأحد أشهر الرسّامين الهولنديين الذين برعوا في رسم الفانيتا هو إدفارت كولير الذي عاش في القرن السابع عشر.
في إحدى لوحاته المشهورة "إلى فوق"، يرسم كولير مجموعة من الأشياء مرتّبة فوق طاولة مغطّاة بالدانتيل البنّيّ اللون. من بين هذه الأشياء تاج ذهبيّ مزيّن بالحرير الأحمر ومرصّع باللآليء الحمراء والسوداء والبيضاء. وعلى الطاولة أيضا هناك صندوق اسود مُحلّى بالذهب تبرز منه مجوهرات وعقود ذهبيّة وفضّيّة.
وبين التاج والصندوق بورتريه لرجل وجيه موضوع داخل إطار مذهّب صغير وبيضاويّ الشكل. وفي خلفية الصورة، هناك مزهرية ذهبيّة ضخمة وإلى يمينها كتاب مفتوح على صفحة تحتوي على نصّ لاتينيّ.
في لوحات الفانيتا المعاصرة، نجد نفس الفكرة التي تعبّر عن قلق الإنسان وحالة عدم اليقين تجاه المستقبل. والرسّام المعاصر يعزّز هذه الفكرة بتوظيفه لأشياء معيّنة كالمرايا والمزهريات الزجاجية والشموع والعظام والجماجم والكتب، بالإضافة إلى منتجات التجميل الحديثة والعبوات البلاستيكية التي تُظهر ميل الإنسان وافتتانه بالسلع الاستهلاكية.
وعندما تتأمّل لوحات الفانيتا وتتمعّن في رمزيّتها، لا بدّ أن تتذكّر رسومات الفنّان الألمانيّ كاسبار فريدريش. كانت رؤية هذا الرسّام سابقة لعصره، لكن الناس في زمانه لم يقدّروا فنّه ولم يحتفوا به كما ينبغي.
مناظر فريدريش المتعدّدة عن الطبيعة الشتوية لم تكن عن الحياة في الشتاء، بل كانت عن الشتاء نفسه؛ عن وحشته وجبروته وعن الإحساس الذي يثيره بالخواء والقفر والعزلة.
أيضا تمتلئ لوحاته بصور الأشجار والجذوع العارية التي تسكنها الغربان والبوم بجانب المقابر والأديرة والأطلال.
في تلك اللوحات أيضا، كان فريدريش يعبّر، وبطريقته الخاصّة، عن مضيّ الزمن والطبيعة المؤقتة للحياة وعن حالته الذهنية الخاصّة.

Credits
arthistory.net

الأحد، أبريل 13، 2014

عودة إلى البدايات

قبل القرن التاسع عشر، كان موقف الإنسان تجاه المحيط أو البحر نفعيّا أكثر منه جماليّا. كان البحر يُصوّر على انه خطير وطارد وقبيح وغير صالح للتمثيل الأدبيّ أو الفنّي. وكانت المحيطات تُستكشف كوسيلة للوصول إلى أراض بعيدة. ولم يكن هناك سوى اهتمام قليل بالمياه نفسها.
كانت الفكرة الشائعة عند الكثيرين هي أن البحر العميق نادرا ما يترك انطباعا. وحتى المستكشفون العابرون للمحيطات كانت وجهتهم الأراضي وليست المحيطات. كانوا يستخدمون البحر فقط كطريق سريع للوصول إلى اليابسة التالية.
العلم الحديث في بداياته كان يعرف عن السماء أكثر ممّا كان يعرفه عن المحيطات. وكان هناك اهتمام باستخراج ثروات البحار، وخاصّة الأسماك، اكبر من الاهتمام بالمياه نفسها. وكلّ ما يكمن تحت السطح، أي في الأعماق، كان يُنظر إليه على أنه هاوية بلا قرار ومنطقة ميّتة ومظلمة ومجهولة لا يمكن اختراقها، كما أنها تحاصر وتحبس كلّ ما يغرق هناك تحت السطح ولا تكشف عن أسرارها أبدا.
كانت روايات البحر الخيالية والرسومات المبكّرة فقيرة على نحو مستغرب عندما يتعلّق الأمر بالمحيطات نفسها. والتركيز كلّه تقريبا كان على السفن ومهارات الرجال الذين يشرفون عليها، وكان البحر نفسه يعامل كفكرة ثانوية.
وما يمكن تسميته بالاكتشاف الثاني للبحر، أي ابتداءً من أواخر القرن الثامن عشر وطوال القرنين التاسع عشر والعشرين، أنتج توسّعا هائلا في المعرفة العلمية والإنسانية عن البحر كشيء حيّ ثلاثيّ الأبعاد له تاريخ وجغرافيا وحياة مستقلّة وقائمة بذاتها.
والآن تتوفّر كنوز دفينة من الكتابة والرسم والموسيقى التي يمكن وضعها تحت لافتة ما يُسمّى اليوم بعلم المحيطات. كما أن هناك الآن تحوّلا في الاهتمام من الأرض إلى البحر في العديد من المجالات.
علم الآثار مثلا انتقل إلى قبالة الشواطئ كاشفا عن جوانب لم تكن معروفة سابقا عن عصور ما قبل التاريخ كانت قد فُقدت بسبب ارتفاع مستويات البحر.
والأنثروبولوجيا، أو علم الإنسان، الذي كان قد بدأ في الجزر أصبح الآن يركّز على البحار وما بينها. والتاريخ البحريّ، الذي كان ذات مرّة يتناول ما يحدث فوق سطح الماء، بات الآن يهتمّ بالحياة في المحيط نفسه. وهو الآن يندمج بسرعة مع علم الأحياء البحرية، ليصبحا شكلا لا يمكن تمييزه عن التاريخ الطبيعي.
وما كان ذات مرّة مجرّد حفرة زرقاء في التاريخ البيئي بدأ الآن يمتلئ بالدراسات عن أنواع معيّنة من الأسماك والثدييات البحرية. وحتى في الفترة القليلة الماضية، بدأنا استكشاف تاريخ تيّارات المحيطات والمدّ والجزر وحتى الأمواج، أي الظواهر التي كان يُعتقد في الماضي أنها ثابتة لا تتغيّر، تماما كـ "البحر الأبديّ" نفسه.
إن إضفاء سمة تاريخية على المحيطات هو واحد من الاتجاهات الأكثر إثارة للاهتمام في علم المحيطات. وهذا يعني أن التاريخ لم يعد يتوقّف عند حافّة الماء. البحر المتوسّط كان محطّ اهتمام كلّ المؤرّخين القدماء. والآن أصبح تاريخ المحيطين الأطلسي والهادئ جزءا من الدراسات الحديثة.
قصص البحر وأغانيه واللوحات البحرية ليست بالشيء الجديد، غير أنها لم تخضع للتدقيق الأكاديمي سوى في الآونة الأخيرة. والمناظر البحرية التي كانت في الماضي جزءا صغيرا من تاريخ الفنّ، كانت تركّز أساسا على السفن والمرافئ. وقد تطوّرت عندما رسم فنّانون روّاد من القرن التاسع عشر من أمثال وليم تيرنر وايساك ليفيتان وغوستاف كوربيه ووليم هودجيز وكاسبار فريدريش وشارل مالفروي وإيفان ايفازوفسكي وكلود مونيه ووينسلو هومر ضوء وحركة البحر على القماش في ما يسمّيه بعض النقّاد بالمناظر البحرية النقيّة.
وقد تناول خبراء الأدب المقارن كيف ظهرت قصص البحر المعنيّة أصلا بآليّات الإبحار في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكيف أصبحت تركّز على المحيط نفسه محوّلة إيّاه إلى فضاء يمكن من خلاله تخيّل الحداثة.
الرواية الحديثة ولدت في البحر مع روبنسون كروزو، ووصلت إلى مستوى جديد من التطوّر الميتافيزيقي مع موبي ديك، ثمّ استمرّت تتقدّم للأمام مع روايات الخيال المائي لجول فيرن.

غير أن العصر الحديث أنجز ما لم ينجزه عصر آخر، أي اكتشاف العمق الزماني والمكاني للبحر. وأصبحنا نعرف أن الماء أنتج جميع أشكال الحياة على الأرض، بما في ذلك حياتنا نحن البشر. كما قوّض علم الآثار التسلسل الزمني المحدود الذي فرضه الإنجيل، عندما أعاد موطن الإنسان العاقل الأصلي، أي أسلافنا المباشرين أو الهومو سابيانز كما يُسمّون، إلى الشاطئ الأفريقي الذي بدأ منه البشر استيطانهم السريع للعالم.
والمفارقة هي أن الأمم عندما ابتعدت عن البحر كمكان للعمل، بدأ الكتّاب والرسّامون توجيه اهتمامهم بالكامل إلى البحر نفسه. وقد حوّلوه، وكما لم يحدث من قبل، إلى مكان للترفيه الروحي والجسدي وأضفوا عليه مسحة سموّ وأعطوه مكانة ثقافية جديدة وقوة جمالية أعلى. وأصبح المحيط في ما بعد ينبوعا للصور والاستعارات. وكان حطام السفن هو الرمز الأكثر بروزا واستمرّ يؤثّر في الثقافة الغربية إلى يومنا هذا.
وحتى عندما بدأت أعداد أولئك الذين يذهبون إلى البحر من اجل كسب لقمة العيش تتضاءل بشكل كبير، ظهرت سلسلة لوحات توماس كول الأربع المشهورة بعنوان رحلة الحياة عام 1842 لتأسر المخيّلة الشعبية. وصار الناس وبشكل متزايد يصفون حياتهم بأوصاف بحريّة ويفضّلون أن يمثّلوا حالتهم العامّة في العالم من منظور الرحلة البحرية، على الرغم من حقيقة أنهم يعيشون على اليابسة.
أما الطبيعة البكر التي كانت قد بدأت تتقلّص مساحتها في المجتمعات الصناعية فقد وجدت لها ملاذا في المحيطات، بينما انتقل الغموض الذي كان مرتبطا بالأراضي المجهولة إلى الأعماق. ولم يكن مستغربا أن التسامي الذي ارتبط سابقا بالجبال والغابات أصبح الآن مرتبطا بالمياه الفطرية أو الطبيعية.
يقول احد المؤرّخين: خلال القرن التاسع عشر، دخل المحيط عقول ومنازل وأحلام وأحاديث الناس العاديّين". وقد فعل ذلك من خلال فنّ المناظر البحرية وأدب المغامرة وتعلّق الناس بالأصداف البحرية وبطلاسم الطبيعة.
لقد بدأ الناس في العودة إلى البحر بحثا عن نوعيّة كانوا يشعرون أنهم يفتقدونها في البيئة الصناعية الجديدة، أي ذلك الشيء المسمّى البرّية. الرغبة في تجربة الطبيعة الفطرية نشأت في القرن الثامن عشر بين مجموعة صغيرة من الكتّاب الأوروبّيين الذين كانوا يرون في قوّة البحر الرهيبة محفّزا عاطفيّا وذهنيّا قويّا. الشعور بالرهبة الذي كان المتديّنون يربطونه في الماضي بالقوى الغيبية الخارقة انتقل الآن إلى الطبيعة نفسها.
احد الكتّاب من تلك الفترة كتب يصف الرعب الذي تثيره العواصف بقوله: من بين جميع الكائنات التي رأيتها في حياتي، لا شيء يؤثّر على الخيال مثلما يؤثّر البحر أو المحيط". وكتب آخر انه يفضّل البحر على اليابسة كمنشّط للعقل والروح. ولم يكن يعرف هذا أفضل من جول فيرن الذي كتب يقول: العقل البشريّ يجد سروره في الرؤى الكبرى للكائنات الخارقة. والبحر هو البيئة الوحيدة التي يمكن فيها لهذه الكائنات أن تنتج وأن تتطوّر".
ومثل هذه الأفكار نجدها مبثوثة في مئات، وربّما آلاف الأعمال الروائية التي يتمحور موضوعها حول البحر أو المحيط لكتّاب مثل هيرمان ميلفيل وكلايف كسلر وجون شتاينبك ودانيال ديفو وبيتر بينشلي ولويس ستيفنسون وغيرهم.
الأحلام والكوابيس التي سبق وأن أسقطت على المناظر الطبيعية البرّية أصبحت تُستثمر الآن في المناظر البحرية. وحتى عندما أصبحت المحيطات كائنات أو موضوعات للعلم، فإنها أنتجت أساطير جديدة. وقد تمّ إحياء فكرة اتلانتيس، القارّة المغمورة، من قبل عالَم حديث يشعر بالقلق بشأن بقائه. وانجذب البحر إلى مركز الوعي الجماعي الغربيّ.
البحر كامن في مخيّلة بلايين البشر. ومنهم من لن يختبروا مياهه أبدا. وقد توصّلنا إلى معرفتنا عنه من خلال العلوم الإنسانية بقدر ما عرفنا عنه من خلال العلم. ومعظم لقاءاتنا معه تتمّ من مسافة بعيدة ومن خلال الرسوم والقصص التي تعود إلى فترة طفولتنا. وهو حاضر إلى الأبد في أحلامنا وكوابيسنا. وغالبا ما يكون منظر بحريّ أو صورة ايقونية هي التي تغرينا وتستدرجنا نحو شاطئ ما.
وحتى عندما تضاءل الارتباط الفعليّ بالبحر، فإن حضوره الرمزيّ والمجازيّ ازداد. وكانت أمواج المدّ وما تزال تذكيرا بالطفولة والشباب، والجزر رمزا للشيخوخة، بينما الأفق يحكي عن المستقبل وعن الأبدية.
من جهة أخرى، بات البحر رمزا للخلود. وهو يوفّر سُلواناً لأولئك الذين فقدوا إيمانهم بالحياة الأبدية، وصاروا يرون فيه دليلا على حركة الطبيعة الخالدة ووعدا دنيويّا باستمرارية الحياة. .

Credits
link.springer.com

الأربعاء، سبتمبر 11، 2013

روح الإنسان

هل ما نراه في هذه اللوحة بورتريه شخصيّ؟ دراسة سيكولوجيّة؟ تصوير لحالة ذهنية عن الوحدة والخواء؟ أم محاولة من الرسّام للامساك بجمال الطبيعة؟
لو كان الرسّام يريد حقّا تصوير جمال الطبيعة لما حجب جانبا من المنظر بتضمين اللوحة رجلا يقف في منتصفها. الطبيعة في هذا المشهد صعبة ووعرة: منحدرات عميقة وخطرة، ضباب كثيف وسماء بيضاء باردة في الأفق. وهناك أيضا انطباع عن طقس عاصف جدّا. أي أننا أمام مكان غير مريح بالمرّة، بل وخطير جدّا على سلامة الإنسان. وبالتأكيد لا احد يرغب بالمجيء إلى هنا. مثل هذا المكان المخيف والمملوء بالخطر يمكن للإنسان بالكاد أن يبقى فيه للحظات على أقصى تقدير. لكنّ الرجل يبدو صامدا كما لو انه يستطيع الوقوف حيث هو والتأمّل في هذا المكان إلى الأبد.
لأن صور كاسبار ديفيد فريدريش تركّز على الطبيعة أكثر من البشر، فإن لها ملمحا متساميا وصالحا لكلّ زمان ومكان. عالما صوره، الداخليّ والخارجيّ، يبدوان متوحّدين. وهذا كان إنجازا عظيما للعصر الرومانسي الذي كان فريدريش، بصوره التأمّلية والمثيرة للذكريات، أحد أعلامه الكبار.
والغريب أن هذا الفنّان شقّ طريقه في الرسم بقوّة رغم ما يقال من انه لم يكن مولعا كثيرا أو موهوبا في رسم البشر. وقد وجد حلا بسيطا لهذه المشكلة بأن صار يرسمهم من الخلف أو جانبيّا.
لكن كان هناك جانب أكثر عمقا في فنّه. فالطبيعة والكون كانا أهمّ موضوعين بالنسبة له. لذا ركّز على أن يقيم حوارا مع المتلقّي من خلال مناظر الطبيعة التي كان يرسمها.
اللوحة فوق هي أشهر أعمال فريدريش على الإطلاق واسمها مسافر "أو متجوّل" فوق بحر الضباب. وهي عند بعض مؤرّخي الفنّ المثال الأشهر والأكثر وضوحا عن رومانسية القرن التاسع عشر. وفيها يقف رجل على طبيعة صخرية ويطلّ على منظر من الغيوم والضباب الكثيف.
هذا المنظر، وغيره من مناظر فريدريش الطبيعية والمعروفة، تمثّل ذروة الرسم الألماني خلال الحقبة الرومانسية. والكثيرون يرون في هذه اللوحة صورة مجازية عن التوق الوجودي واللامبالاة أو عدم اليقين، وأحيانا عن حالات التشوّش والفوضى. وقد اختيرت غلافا لأحد كتب نيتشه ولكتب ومجلات ودواوين شعر لا حصر لها.
كما لم تغب اللوحة عن صنّاع الأفلام السينمائية التي تتحدّث عن الكوارث البيئية وعن الحروب بين الكواكب أو عن المستقبل المجهول الذي ينتظر البشر. بإمكانك، مثلا، أن تحصي ما لا يقلّ عن أربعة من أفلام الخيال العلمي صُمّمت ملصقاتها بوحي من هذه اللوحة.
كانت الطبيعة الألمانية دائما مصدر إلهام كبير لـ فريدريش. وكان يحرّك مشاعره الجمال الذي كان يجده في وطنه. كما كان يستهويه تصوير الجبال والأشجار والضباب الكثيف فوق سطح البحر.
وكان من عادته أن يقصد منطقة الجبال الممتدّة على طول الحدود بين ولايتي بوهيميا وساكسونيا في جنوب شرقي ألمانيا وجمهورية التشيك، للتأمّل والرسم. وقد رسم العديد من الاسكتشات التمهيدية لهذه اللوحة في عين هذا المكان. ثم عاد إلى البيت بكومة كبيرة من هذه الرسومات، وبدأ رسم اللوحة الأصلية في محترفه.
وعلى الرغم من أن اللوحة مركّبة من عدّة مناظر طبيعية مختلفة من تلك المنطقة، إلا أن المنظر كلّه يبدو متناسقا ومقنعا. وبعض قمم الجبال التي تظهر غارقة في الضباب يمكن تحديد أماكنها اليوم على الطبيعة. لكنّها في حقيقة الأمر تقع في أماكن مختلفة من سلسلة الجبال تلك. وبالتالي فإن المنظر الرائع الذي تراه في هذه اللوحة لا وجود له في الواقع.
البشر هم جزء من الطبيعة. وهم بنفس الوقت منفصلون عنها. ومن خلال جلبهم إلى الصور، فإن فريدريش يخلق مستوى آخر من الوعي. والتائه المجهول في هذه اللوحة يجعل الصورة تتكلّم بينما يقف في وسط المشهد تماما مديرا ظهره للناظر.
لاحظ التباين الحادّ بين مقدّمة الصورة وخلفيّتها. هنا رجل، أو بالأصحّ صورة ظلّية داكنة لرجل، يقف وحيدا أمام طبيعة ضبابية. يمكنك الإحساس بوجود الأرض إلى أسفل رغم انك لا تراها بوضوح.
اللوحة بأكملها هي عن هذا الرجل. وأنت مدعوّ لتحديد من يكون. طبعا يمكن أن يكون أيّ شخص، مع أننا نعرف من لوحات أخرى أن فريدريش له نفس هيئة هذا الرجل. لكنّه هنا يحصر نفسه ورؤيته إلى الداخل، في حين أن الملابس الداكنة تدعم بقاءه مجهولا.
انه يقف في تأمّل، مفتونا بضباب البحر ومفكّرا في المستقبل الغامض، كما لو أننا إزاء تجربة دينية وروحية مثل تلك التي تحدّث عنها "إيمانويل كانت" في فلسفته المستنيرة. وفريدريش يضفي غموضا على الشخص برسمه من الخلف. والمتلقّي غير متأكّد فيمَ يفكّر الرجل وما هي طبيعة استجابته للطبيعة التي ينظر إليها. وبفصل الشخص عن الناظر، فإن الأخير يركّز أكثر على جمال البيئة المحيطة بدلا من التفكير في دور الرجل في الطبيعة.


هذه اللوحة تحتفظ بحضور قويّ جدّا من خلال حجمها الكبير. ولأنها رُسمت بمثل هذه العناية الكبيرة، فإنها تفتح نافذة على عالم آخر. عندما تتأمّلها قليلا، ستشعر بأنك تسقط فيها أو ترتفع إليها. وبإمكانك أيضا أن تترك العنان لعينيك لتتجوّلا فيها وأن تتنفس الهواء وتشعر بوخز الرياح الباردة التي بداخلها.
السماء تبدو بلا نهاية، على الرغم من أنها محجوبة بغيوم متناثرة هنا وهناك. الفنّان رسم غيوما بطبقات متعدّدة باستخدام طلاء غير شفّاف. كما استخدم طبقات شفّافة من الورنيش ليحصل على هذه الإنارة العظيمة والضوء الطبيعي.
عندما تقف أمام اللوحة الأصلية، ستشعر بتغيّرات اللون المثير للدهشة وبلمعان الغيوم والسماء الناتج عن مزج العديد من الأصباغ كالأزرق والأبيض ودرجات الرمادي والزهريّ والبنفسجيّ وحتى الأصفر.
من الواضح أن فريدريش كان يفكّر في تفاصيل صوره لفترات طويلة. أحيانا كانت عملية الخلق تستمرّ عدّة سنوات، ولهذا السبب لم تكن حياته ميسورة من الناحية المالية.
التوليف في اللوحة يبدو بسيطا. لكن هناك منطقا رياضيا وراءه. الصخرة التي في المقدّمة تشكّل مثلّثا يقف المسافر على قمّته، وهذا هو السبب في أن الشخص يقع في مركز الاهتمام. وبسبب الصورة الظلّية لمعطفه الذي يبدو داكنا مثل الأرض التي يقف عليها، فإن الرجل يصبح، من الناحية البصرية، امتدادا للأرض.
البعض فسّر هذه الصخرة كرمز للإيمان بالله أو بقوّة علوية متسامية. وهو معنى معقول ووارد. وأنت تتملّى في هذا المنظر، يمكنك أن تدرك عظمة وبهاء الطبيعة والخلق كما تتجلّى في روح إنسان. عقل الرجل ومشاعره ربّما تبلغ عنان السماء التي فوقه، ومع ذلك هو ما يزال مرتبطا بالصخرة حيث يقف. وبهذه الطريقة يصبح رمزا للإنسان في الكون. انه مشدود إلى الأرض ومنفصل عن نفسه. وهو لا يستطيع رؤية المظهر الكامل والحقيقيّ للعالم المحيط لأنه مغطّى بالضباب. كما انه يواجه المحن والأخطار، مثل المكان العاصف والشديد الانحدار الذي يقف في وسطه.
ولكن عندما يكون قلبه عامرا بالسلام والطمأنينة، فإنه يصبح قادرا على الاتصال بالخالق. وإذا كان هذا الرجل ينظر ويراقب بهدوء واهتمام، فإنه يستشعر وجود المقدّس في كلّ شيء يراه من حوله. وهذا هو ما كان يفعله كاسبار ديفيد فريدريش عندما يراقب عن كثب العالم الخارجيّ ويصوّر تفاصيله بدقّة.
البعض يرى أن المسافر في الصورة هو فريدريش نفسه. الرجل الذي يقف متأمّلا هذه الصخور الضبابية لديه نفس شعر فريدريش الأحمر. لكنّ هناك نظرية أخرى تقول إن الرجل هو حارس غابات من هذه المنطقة يُدعى فريدريش فون غوتهارد. وهو هنا يرتدي بزّة خضراء من تلك التي يرتديها عادة الحرّاس المتطوّعون في الغابات. ويُرجّح أن يكون هذا الرجل قد قُتل في حادث عام 1813م. وعليه قد تكون اللوحة بمثابة تحيّة له أو إحياء لذكراه.
في هذا التوليف، يستخدم فريدريش ألوانا أكثر إشراقا من المعتاد. وهو يرسم السماء بمزيج من الأزرق والورديّ، بينما تتردّد أصداء هذين اللونين أيضا في الجبل والصخور التي تتراءى عن بعد. كما انه يرسم الشخص في معطف أخضر داكن، وهو زيّ ألمانيّ بامتياز.
الضوء في اللوحة يبدو أنه آت من تحت الصخور ليضيء الضباب بطريقة أو بأخرى. والصخرة التي يقف عليها المسافر تحتفظ بصورتها الظلّية، مع أن تفاصيلها الأخرى، خاصّة عند القدمين، تبدو ملاحظة ومرئيّة.
ثمّة رأي يقول إن الرسّام تزوّج حوالي الوقت الذي رسم فيه اللوحة، وهو عامل ربّما ولّد في نفسه تقديرا متجدّدا للحياة البشرية وللعلاقات الإنسانية.
ومثل غالبية أعمال فريدريش، فإن اللوحة لم تنل التقدير الذي تستحقّه في زمانه. لكن بعد موته، اكتسبت اهتماما كبيرا. والسبب هو انه كثيرا ما أسيئ فهم الرسّام في عصره. كان فريدريش يناضل لكي يفهم النقّاد والجمهور فنّه. لكنه استمرّ يرسم وفقا لقناعاته الفنّية الخاصّة وليس لكي يحصل على استحسان أو ثناء من احد. وقد نال قدرا كبيرا من النجاح في أخريات حياته، بل لقد وجد زبائن جددا من أفراد العائلة الملكية في روسيا.
وعلى الرغم من أن العديد من النقّاد ما زالوا غير قادرين على فهم الاستعارات الرمزية التي كان فريدريش يودعها مناظره الطبيعية، إلا أن أعماله اليوم تحظى باحترام كبير. وخلافا لمعظم الفنّانين، لم يجد فريدريش الكثير من الإلهام في أعمال الفنّانين الكبار الذين سبقوه، واهتمّ أكثر بما علّمه إيّاه أساتذته في مراحل تعليمه النظامي.
وهذا هو السبب في أن فريدريش أصبح يتمتّع بأسلوب فريد من نوعه. صار بمقدوره أن يحوّل المناظر الطبيعية من مجرّد غابات إلى أرض للعجائب، حيث يرمز كلّ فرع من شجرة إلى شيء أكبر وأكثر عمقا. الأشجار لم تعد أشجارا فقط، وإنّما مخلوقات خشبية جميلة تمثّل الإيمان الذي لا يتزعزع بالله. وأشعّة الشمس لا تلقي ضوءها على الأرض فحسب، وإنّما تُظهر نور الخالق وهو يضيء على الخليقة.
كانت الرومانسية تتعامل مع مواضيع محدّدة من قبيل تمجيد الإنسان لنفسه ودوره في الطبيعة والألوهية الموجودة في الطبيعة وكذلك العاطفة. وهذه السمات كانت تناسب كثيرا أفكار فريدريش المثالية.
لكنّ المؤسف أن استقبال الجمهور لأعماله أصبح فاترا عندما تقدّمت به السنّ. حتى رعاته فقدوا الاهتمام بعمله في الوقت الذي كان يجري فيه استبدال الرومانسية بأفكار جديدة وأكثر حداثة.
وعندما توفّي لم يكن هناك احد يطلب أو يهتمّ بلوحاته. كان النقّاد يعتقدون أن رسوماته شخصيّة أكثر ممّا ينبغي، ومن هنا صعوبة فهمها. غير أنهم كانوا يتجاهلون حقيقة مهمّة، وهي أن هذا العامل بالذات هو ما يجعل من فريدريش فنّانا أصيلا ومتفرّدا.
ومع ذلك، لم تغب المعاني المجازية التي كان فريدريش يضمّنها لوحاته عن الفنّانين الرمزيين والسورياليين الذين أتوا في ما بعد، وأصبح هؤلاء يشيرون إليه كمصدر إلهام مهمّ لأعمالهم.

الخميس، يناير 12، 2012

رحلة إلى شُطآن الليل

في العالم القديم، كان الليل يمثّل عنصرا مخيفاً. أحيانا كان يرمز للخوف، وأحيانا أخرى للغموض. وقد استمرّت هذه الفكرة طوال قرون. لكن أصبح للّيل أهمية خاصّة عند الرومانسيين. كانوا يربطونه بالأفكار المتسامية والنبيلة بما يتضمّنه من ذلك المزيج الفاتن من عناصر الجمال والغموض وقوى ما فوق الطبيعة.
الرؤى المرتبطة بالليل تغيّرت على مرّ العصور. الرسّامون الواقعيون كانوا يرسمونه في طبيعة نقيّة. وكانت رسوماتهم تثير أجواءً من التأمّل والاستبطان الحزين. الفنّانون الحداثيون رسموا الليل انطلاقا من الطبيعة الحضرية وحياة المدن وما تضجّ به من ضروب المتعة والتسلية.


الفنّان الروسي من أصل يوناني ارشيب كوينجي رسم الليل في واحدة من أكثر اللوحات شهرة في تاريخ الرسم والتي اكتسب الرسّام بفضلها شهرة أسطورية. اسم اللوحة ليلة مقمرة على ضفاف نهر الدنيبر. وقد رسمها في العام 1882م.
عندما عرض الرسّام هذه اللوحة لأوّل مرّة في سانت بطرسبيرغ اصطفّ الناس في طوابير طويلة لرؤيتها. وقد وُضعت داخل غرفة مظلمة، بينما صُفّت حول إطاراتها المذهّبة والفخمة شموع محترقة.
في اللوحة، يصوّر كوينجي إحدى ليالي اوكرانيا الشاعرية والدافئة. القمر الفضّي يطلّ من أعلى المشهد محاطا بهالة خضراء من الغيوم. وفي أسفل المنظر يظهر شريط متوهّج من نهر الدنيبر الذي يفيض فوق مساحات واسعة من السهوب.
ربّما لم يعبّر رسّام من قبل عن سحر وجمال القمر بهذا الشكل المدهش. الصورة تثير إحساسا بالحرّية واللانهائية. فأمامنا عالم واسع مليء بالضوء. وكلّ ما في هذه الطبيعة مشرق وبهيّ. الضوء الفوسفوري الغامض يغمر كلّ شيء على الأرض.
كان على الجمهور أن يدخلوا إلى القاعة ذات الأنوار الخافتة قبل أن يتوقّفوا أمام وهج الضوء البارد المنبعث من اللوحة. بعضهم كان يظنّ أن مصدر الضوء ربّما يكون فانوسا أو مصباحا موضوعا بالجوار. المجال السماويّ الذي رسمه الفنّان فيه فخامة وجلال. قوّة الكون وضخامته تتجلّيان بأوضح صورة في هذا المشهد. التفاصيل على الأرض تتضمّن بيوتا وأشجارا كثيفة ونباتات شوكية ابتلعتها الظلمة.
هذه اللوحة استنسخت مرّات كثيرة في جميع أنحاء روسيا وتحدّثت عنها الكثير من الصحف آنذاك. وقد ابتاعها الأمير الروسي كونستانتينوفيتش الذي شُغف بها منذ رآها لأوّل مرّة. وبلغ من حبّه للوحة انه كان يأخذها معه في تطوافه عبر العالم. وقد حاول الروائي ايفان تورغينيف، الذي كان يعيش في باريس في ذلك الوقت، إقناع الأمير بعرض اللوحة في احد الغاليريهات الفرنسية، لكنه رفض.
لوحات ارشيب كوينجي تتّسم بالتصوّرات التأمّلية والفلسفية عن العالم. كما أن فيها إحساسا بعظمة الحياة. ولم يكن يهتمّ بتصوير الحالات الدراماتيكية للطبيعة، ولا حتى مظاهر الجمال فيها. كان معنيّاً أكثر بتصوير الإحساس بالكون ووحدة الوجود والتناغم ما بين الطبيعة والإنسان.
الألوان الفوسفورية في اللوحة تستحضر مشاعر متسامية وتثير التأمّل عن طبيعة الحياة على الأرض وعن عالم السماء التي تبدو وهي تتحرّك في إيقاع بطيء. وبعض لوحات الرسّام الأخرى تصوّر عوالم تبدو أشبه ما تكون بالكواكب البعيدة التي لم تُكتشف بعد.

الفنّان الاسباني اليسيو ميفرين روج رسم في واحدة من أشهر لوحاته بعنوان طبيعة ليلية منظرا للقمر وقد غطّته هالة من الغيوم. المنظر الطبيعي كلّه غارق في الليل. والمشهد يشعّ جوّا من السلام والسكون العميق. روج رسم أكثر من لوحة حاول من خلالها التقاط جوهر الليل والمعاني والمشاعر المرتبطة به، بالإضافة إلى السمات الخالدة للطبيعة.
كان ميفرين روج إنسانا ذا طبيعة هادئة ومتأمّلة، كما تشي بذلك لوحاته الجميلة عن الليل والطبيعة البحرية ومناظر الغروب. كما كان أيضا مفتونا برسم الحدائق، ومنها حدائق ارانهويز المشهورة في مدريد. غير انه سجّل في بعض لوحاته الأخرى مقدّمات سقوط وانهيار اسبانيا كقوّة استعمارية أمام القوّة الصاعدة للولايات المتحدة.
وقد كرّس الفنّان كلّ حياته تقريبا للرسم. ولوحاته تُظهر مهارته العالية في استخدام الفرشاة الفضفاضة والألوان الناعمة وفي مزجه بين الأسلوبين الانطباعي والرمزي.


السفن الغارقة والعواصف البحرية والليالي المقمرة والحالمة، تلك هي بعض سمات لوحات الفنّان الروسي من أصل ارمني ايفان ايفازوفسكي.
السنوات التي قضاها ايفازوفسكي خارج روسيا أسهمت إلى حدّ كبير في تشكيل موهبته الفنّية. فقد تعرّف في المتاحف الأوروبية على روائع الرسم العالمي، ما أدّى إلى إثراء مخيّلته الفنّية. كما ألهمته الطبيعة الايطالية السخيّة رسم صور عظيمة مثل سلسلة لوحات خليج نابولي.
في سنواته الأولى كرسّام، اظهر ايفازوفسكي قدرة كبيرة في ملء أعماله بالضوء وفي تجسيد إحساسه العميق بالخطّ واللون والتوليف. ويُعتقد أن مناظره البحرية المضاءة بنور القمر هي أكثر الأعمال غنائية في فنّ هذا الرسّام الكبير.
ايفازوفسكي بدأ رحلته مع الرسم في سبعينات القرن قبل الماضي. وأسلوبه الرومانسي المبكّر في تمثيل العواصف القويّة والصباحات الجميلة وتأثيرات البرق والغيم تحوّلت في ما بعد إلى دراسات أكثر عمقا للطبيعة.
في روما، درس الفنّان أعمال كبار الرسّامين. كما رسم لوحات من الطبيعة، وأخرى من الذاكرة. وكان النجاح حليفه دائما. كما كان له معجبون كثر، بينما بدأ الفنّانون الشباب يقلّدون أسلوبه في رسم الطبيعة الليلية والبحرية.
كان ايفازوفسكي مراقبا دقيقا للطبيعة. كما كان يتمتّع بذاكرة رائعة وموهبة استثنائية في الارتجال، لدرجة انه كان يستطيع رسم لوحة بأكملها في يوم واحد.
وقد قال ذات مرّة ملخّصا فهمه للإبداع: إن الشخص الذي لا يتمتّع بالذاكرة التي تحفظ حالات الطبيعة ربّما يصلح لأن يكون ناسخا ممتازا. لكنه لن يصبح فنّانا حقيقيا. الفرشاة لا تستطيع الإمساك بالعناصر الحيّة. ومن غير المتصوّر أن ترسم البرق أو هبوب الرياح أو رذاذ الأمواج والمطر من الطبيعة مباشرة. إن موضوع اللوحة يتشكّل في ذاكرتي كما يتشكّل موضوع القصيدة في ذهن الشاعر".
في إحدى لوحات سلسلة خليج نابولي، يرسم ايفازوفسكي منظرا ليليا مليئا بالتفاصيل. على سطح الماء تظهر مجموعة من القوارب والسفن الشراعية الراسية في الميناء. ومن بين غلالات الغيوم يلوح من بعيد ضوء القمر المنعكس على الأمواج الهادئة، وأعمدة من الدخان المنبعث من بركان فيزوف. الرسّام استخدم في اللوحة طبقات من الألوان الزرقاء والخضراء والداكنة.
لوحات ايفازوفسكي التي رسمها في ايطاليا كانت من أفضل أعماله. وقد أثار بعضها ردود فعل قويّة في عاصمة الفنون الجميلة آنذاك. لوحة الفوضى، أو خلق العالم "كما تُسمّى أحيانا"، قيل عنها إنها عمل إعجازي ولا يشبه أيّ عمل فنّي آخر. وقد اشتراها البابا غريغوري السادس عشر وأمر بتعليقها في متحف الفاتيكان الذي يضمّ مجموعة من أروع وأشهر اللوحات العالمية.
خلال إقامته في ايطاليا، قابل ايفازوفسكي الرسّام الانجليزي وليام تيرنر الذي أعجب كثيرا بلوحة خليج نابولي في ليلة مقمرة لدرجة انه ألّف عنها قصيدة ذات جرس حزين وأهداها إلى ايفازوفسكي.
في القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت فكرة الليل رائجة على نطاق واسع في الرسم الأوربّي بشكل عام. ومن أشهر الفنّانين الآخرين الذين رسموا الطبيعة الليلية كلّ من فان غوخ وايرت فاندر نير وكاسبار ديفيد فريدريش وايفغيني شيبانوف وجون غريمشو وإدوارد هوبر ورمبراندت وإيساك ليفيتان وغيرهم.

الاثنين، يونيو 13، 2011

الطبيعة في لوحات فريدريش

الرسّام الرومانسي الألماني كاسبار ديفيد فريدريش ولد عام 1774م، وكان احد كبار أنصار الطبيعة الرمزية في الرسم الأوربّي.
درس فريدريش في أكاديمية كوبنهاغن قبل أن يستقرّ في دريسدن. كما سافر كثيرا في أرجاء ألمانيا. ومناظره الطبيعية جميعها مستوحاة من طبيعة الشمال الألماني. وتتضمّن تصويرا جميلا للأشجار والتلال والموانئ والضباب الصباحي وغيرها من تأثيرات الضوء الذي يعتمد على الملاحظة اللصيقة للطبيعة.
وما يميّز أعمال فريدريش هو تحويله الطبيعة إلى معان رمزية، وغالبا دينية. ومناظره، التي تصوّر أودية ومساقط مياه غامضة وقمم جبال خطرة وبحاراً شاسعة من الثلج، تخلو غالبا من البشر. والطبيعة في هذه الصور ليست كريمة أو معطاءة، بل تبدو كما لو أنها تهديد مخيف ومستمرّ لاستقرار وطمأنينة الإنسان.
ومع ذلك، يُنظر إلى بعض لوحات فريدريش المشهورة كتعبير عن لحظات من التصوّف الديني. فقد رسم عددا كبيرا من الصور التي تهيمن فيها الصُلبان على الطبيعة. لكن التركيز الأساسي هو على الطبيعة ذاتها.
حتّى بعض لوحات فريدريش غير الرمزية بوضوح تحتوي على معان ورموز داخلية تدلّ عليها كتاباته لبعض أصدقائه. مثلا لوحته المسمّاة كنيسة في غابة السنديان تُظهِر منظرا طبيعيا تبدو فيه أطلال كنيسة مغمورة في الثلج. هذه اللوحة يمكن النظر إليها ظاهريا باعتبارها منظرا شتائياً كئيباً.
لكن اللوحة، من وجهة نظر الرسّام، تمثّل مؤسّسة الكنيسة التي تعصف بها حركة الإصلاح الديني. كما أنها تشير إلى تغيّر وتحوّل الأشياء على الأرض. وعلى مستوى آخر، كان الرومانسيون يجدون في هذه اللوحة استدعاءً أو تذكيرا بالأطلال والموت.
فريدريش كان يحبّ هذا النوع الخاصّ من الصور. وقد كرّر هذه الفكرة عديدا من المرّات في لوحاته.
لوحته الأخرى المسمّاة مقبرة دير في الثلج تُصوّر طللا ضخماً لدير قوطي في منتصف فصل الشتاء. الأشجار المحيطة بالدير عارية من أوراقها تماما، مثلما أن البناء نفسه يبدو بلا سقف وليس هناك مبان ملحقة به.
ومن الواضح أن الدير مهجور منذ زمن طويل. كما أنه تحوّل إلى مقبرة. ويمكن للمرء أن يرى علامات وشواهد القبور في مقدّمة اللوحة.
بالنسبة إلى كاسبار فريدريش، فإن هذا المنظر يمكن أن يرمز إلى عدّة أشياء دفعة واحدة. فهو يرمز إلى أفول الكنيسة القديمة التي كانت في ما مضى صرحا كبيرا للإيمان.
كما أنه يرمز للطبيعة التي تستعيد مكانها القديم. فأشجار السنديان تنمو الآن في نفس المكان الذي كان يقوم فيه الدير والحدائق المزروعة ذات زمن.
وعلى مستوى ثالث، يمكن اعتبار اللوحة رمزا للموت. فالأشجار تبدو بلا حياة، تماما كالدير.
كان فريدريش يميل إلى رسم مَشاهده في منتصف العام، عندما تتحوّل الظلال والضباب إلى أشياء ساكنة وغامضة.
وهو لم يكن يتوقّع من الجمهور أن يفهم ما كان يرمي إليه في لوحاته. ورغم انه كان شخصا محافظا جدّا وغير ميّال لانتقاد المجتمع أو الدين، إلا أن فهمه لأهداف الفنّ جعلته شخصا غريبا وغير منتمٍ. لذا أساء الناس فهمه معظم سنوات حياته.
والواقع أن فريدريش لم يكن يحظى في زمانه بتلك الشعبية الجماهيرية الكبيرة. ومع ذلك استمرّ يتبنّى النظرة التعبيرية في الفنّ وظلّ يرسم صورا جميلة بدا أحيانا أن مواضيعها شخصية وخاصّة.
لاحظ في الصورة التي فوق، مثلا، كيف انه بالرغم من قدراته غير العادية في تمثيل الأشجار إلا أنه لم يركّز على مظاهرها الجمالية فحسب.
ولسوء الحظ، فإن هذه اللوحة تعرّضت للتلف إثر غارة جويّة زمن الحرب العالمية الثانية. وكلّ ما تبقّى منها اليوم هو هذه الصورة الفوتوغرافية لها بالأسود والأبيض. لكن بسبب موضوعها، فإن غياب اللون ليس بالأمر المؤثّر كثيرا. وهي تسمح لنا برؤية كيف أن فريدريش أعاد معالجة لوحة غابة السنديان بحيث أعطاها معنى أكثر رمزية.
وما فعله الرسّام في اللوحة الثانية بحيث تبدو مختلفة عن النسخة المبكّرة هو انه أضفى على الأشجار فيها طابعاً من العظمة والفخامة. الأشجار هنا لا تبدو متطفّلة كما في اللوحة الأولى، بل تقف مثل أعمدة عملاقة تحرس المكان المقدّس وتوفّر له الحماية.
وحجارة المقبرة هي الأخرى تحوّلت إلى رهبان يمشون باتجاه الدير. طبعا الدير لم يعد هناك. والرهبان أيضا لم يعودوا موجودين، وإن كانت أشباحهم ما تزال تخيّم على المكان.
هذه اللوحة المعبّرة يمكن اعتبارها تأمّلا في تحوّل الأشياء على الأرض وسيرورتها وانتقالها من حال إلى حال.

الاثنين، يوليو 12، 2010

جماليّات الحزن


أحد الملامح القديمة في الفنّ الغربي هو تحويل الحزن والكآبة إلى فرح وطاقة للانطلاق والإبداع. والهيئة الأكثر شيوعا في الحالات التي تتناول موضوع الكآبة والحزن هي صورة إنسان، رجل أو امرأة، يضع يده على خدّه وهو مستغرق في التفكير والتأمّل الحزين.
الفلاسفة والأدباء منذ القدم ينظرون إلى الحزن على انه دعوة خلاقة للإنسان كي يرتفع فوق ذاته ويستغلّ إمكانياته. وهناك من يعتقد أن الحزن يجعل الشخص أكثر إنسانية وشفافية وأكثر إحساسا بإيقاعات الحياة المختلفة من فرح وترح ورجاء ويأس وحياة وموت.. إلى آخره. وهناك أيضا من يرى أن الإنسان لا يصبح مكتمل الإنسانية إلا من خلال المعاناة والحزن. الحزن يمكن أن يلهم الإنسان ويقوّي مخيّلته ويجعله أكثر ارتباطا بالعالم من حوله.
الشاعر البريطاني جون كيتس تحدّث كثيرا عن فائدة الألم. قال ذات مرّة: الحزن لا يمكن تجنّبه، وهو ليس ضعف إرادة ولا مرضا نفسيا بحاجة إلى علاج". كيتس اكتشف أيضا أن الحزن يلهم الأفكار العظيمة. "ما يجعلنا نحزن هو معرفتنا بأن كلّ شيء مصيره إلى زوال. لكن عندما نحسّ بدنوّ الموت فإننا ندرك كم هو جميل هذا العالم".
الموسيقي الألماني فريدريك هاندل كان يعاني في نهايات حياته من حالة من الحزن وذبول الصحة ووهن الجسد بعد أمجاده الموسيقية الكثيرة. وفجأة أحسّ بالنشاط والحيوية عندما كُلف بتأليف موسيقى المسيح التي أصبحت أعظم أعماله الموسيقية والتي ولدت من رحم الحزن والمعاناة.
الرسّامة الأمريكية جورجيا اوكيف كانت دائما تقاوم الإحساس بالكآبة والحزن. غير أن الحزن هو الذي أشعل روحها وجعلها ترسم أفضل لوحاتها عن الأشياء المظلمة في وهج الصحراء وتحت الغيوم الثقيلة والداكنة. تنظر إلى لوحاتها المشهورة فتحسّ بأن فيها شيئا غريبا يشبه صمت وقدسيّة العظام التي كانت ترسمها.
وهناك من يميّز بين الحزن والكآبة. الحزن قد يُشعِر الإنسان باليأس والإحباط. والكآبة نوع من الحزن لكنّه يخلو من التشاؤم واليأس. كما أن لا علاقة لها بالاكتئاب.
أرسطو ناقش الكآبة كثيرا عندما درس مشاكل الإبداع الفنّي. وفرويد قرنها بالنرجسية والهوَس. الكآبة فيها مساحة كبيرة للتأمّل. وهي تتعلق بالناس والأمكنة، من قبيل حبّ صديق أو الاشتياق لمكان ما قريب من نفوسنا أو مكان سبق وأن عشنا فيه وما زلنا نحتفظ له بذكريات عزيزة. الكآبة تتضمّن متعة وفيها حبّ وشوق وتطلّع. كما أن فيها نوستالجيا، لأنها تثير الحنين إلى الذكريات القديمة والأفكار والتخيّلات عن الفقد والغياب.
بعض مشاهد أفلام سكورسيزي وطبيعة الرسّام الألماني كاسبار ديفيد فريدريش وألحان شوبان فيها نوع من الحزن المتسامي الذي يخلو من اليأس أو الإحباط.
عندما تستمع إلى بعض مقطوعات شوبان تستطيع أن تلمس فيها حزنا ومعاناة. وغالبا ما تعبّر الموسيقى الحزينة عن نفسها من خلال الإيقاع البطيء الذي يثير حالة من التوق والاستبطان الحزين. وهو انفعال معقّد جدّا يستثير بدوره صراعا داخليا يستعصي على التوصيف البسيط.


مرأى الأطلال أو الآثار القديمة قد يستدعي، هو أيضا، في نفوسنا شعورا بالحزن والكآبة. ربّما يكون السبب هو حقيقة أن الأطلال تعبّر عن مرور الزمن وعدم ثبات وديمومة الحياة والإحساس بالعبور والتحوّل من مرحلة لأخرى وما يثيره ذلك في النفس من مخاوف وهواجس. وكلّ هذه الحالات تكون مصحوبة بإحساس قليل أو كثير بالكآبة. رؤية الآثار الدارسة والقديمة تستثير حالات من التفكير التأمّلي والوجداني ترافقها صور لأحداث وحيوات من العصور الماضية. الصروح المهدّمة والأبنية المهجورة كثيرا ما تثير خيالنا وتدفعنا لإعادة بناء قصص متخيّلة في أذهاننا عن شكل الحياة في الماضي وعن الارتباطات ما بين الآثار والأحداث التي ترويها. هنا أيضا نجد ظلالا من المشاعر السلبية والايجابية للنوستالجيا والحنين لأزمنة وأمكنة لم تعد موجودة سوى في الذهن بعد أن انتهى وزال وجودها الفيزيائي أو المادّي.
في لوحته بعنوان الحالم، يرسم كاسبار فريدريش شخصا جالسا في نافذة دير قوطي قديم، أو بالأصحّ في أطلال ما تبقّى من ذلك الدير. داخل الدير ألوان حمراء داكنة. لكن النور الذهبيّ الساطع يفيض من وسط الصورة ليملأ الفراغ. المشهد عبارة عن تأمّل صامت والتباين ما بين الضوء والعتمة يوحي بالوحدة. لكن بنفس الوقت ما يزال هناك ثمّة إحساس بالأمل وربّما التوق.
الكآبة التي يشعر بها الإنسان أثناء لقائه بالطبيعة ليست بالأمر الطارئ أو الجديد. تخيّل نفسك، مثلا، وأنت تمشي في طبيعة مقفرة. الأرض التي تمتدّ أمامك تبدو فارغة وفسيحة تلوّنها ظلال باهتة من الرمادي مقابل سماء بنّية. الهواء ساكن وخفيف. وإذ تجد نفسك متوحّدا مع إيقاعات الفراغ الهادئ الذي أمامك، قد ينتابك فجأة مزاج تأمّلي يستثير في نفسك ذكريات وأفكارا معيّنة من زمن بعيد. تشعر بشيء من المتعة عندما تتذكّر الأوقات الجميلة من الماضي. لكنها متعة يخالطها حزن وتوق غامض.
في منتصف القرن السادس عشر، كانت الكآبة ترتبط بالإنسان المتفوّق والناضج والقادر على المشاعر العميقة. الموسيقيّ البريطاني جون دولاند عاش في ذلك الوقت وكان معاصرا لـ شكسبير. وقد عُرف ببراعته في العزف على آلة العود "أو اللوت". تستمع إلى ألحانه اليوم فتحسّ فيها بقدر غير قليل من الحزن والحنين. ومثل شكسبير، فإن موسيقى دولاند ما تزال تتحدّث إلينا من وراء أربعمائة عام.
في ألمانيا، ارتبط الفنّ والأدب والفلسفة في العصر الرومانسي بالكآبة. وقد كتب عنها ايمانويل كانت قائلا: إن المشاعر المتسامية تثير المتعة والخوف معا".
البريخت ديورر، الفنّان الألماني، رسم لوحة بعنوان كآبة يظهر فيها رجل متعطّش للمعرفة وحريص على إثراء عقله. ثم لهذا السبب، يشعر بالغربة ويعيش معزولا ومنبوذا من بقيّة البشر. هذه اللوحة وجد فيها الكاتب الأمريكي دان براون ما أثار اهتمامه عندما أشار إليها في روايته الأخيرة الرمز المفقود.
الشاعر الألماني هاينريش هايني اخذ الفكرة واستخدمها في إحدى قصائده عندما كتب يقول: لا أعرف ما الذي يؤرّقني ويثقل على عقلي طوال اليوم".
العلماء يقولون إن الكآبة ليست شيئا سيّئا أو سلبيا وأن قوّتها الايجابية هي التي منحت القوّة والعبقرية للفنّانين والفلاسفة العظام.
الكآبة والحزن كانتا وما تزالان فكرتين رائجتين في الرسم. ومن أشهر من رسموهما في أعمالهم كلّ من لوسيان فرويد ورودان وفان غوخ وغويا ووليام بليك ودي تشيريكو وإدوارد هوبر وبيتر بريغل وإدفارد مونك وإدغار ديغا وغيرهم.

Credits
contempaesthetics.org
quod.lib.umich.edu

الأربعاء، يناير 27، 2010

عوالم مثالية

في موقعَيFlickr وDeviant Art الكثير من صور الفانتازيا التي يذكّر بعضها بعالم الرومانسية القديم. بعض تلك الصور تأخذك في رحلة إلى طبيعة ساحرة ربّما لا توجد إلا في الحلم. تتأمّل بعضها فتتذكّر أجواء لوحات كاسبار فريدريش وادموند ليتون ووليام هانت وفرانشيسكو هايز، لكن في سياق عصر مختلف الظروف والملامح.
ماشية ترعى وسط مروج خضراء تحيطها جبال يلّفها الضباب وتعلوها هالات مضيئة. شوارع لقرى هادئة. نساء وفتيات يستلقين تحت أشجار وارفة الظلال ويستمتعن بأشعّة الشمس الدافئة. غابات. انهار. طيور غريبة، أكثرها غربان سُود، تطير في مواجهة قمر مكتمل يغمر بأشعّته الفضّية طبيعة شاحبة وغير مأهولة. وحوش وكائنات غريبة كأنها خارجة من عصور ما قبل التاريخ.
صحارى فارغة وشاسعة. ظلال تثير في النفس شعورا هو مزيج من النشوة والرهبة. نباتات غريبة الأشكال والألوان. امتدادات واسعة من مياه خضراء وزرقاء.
ومهما بدت بعض تلك الصور غريبة، فإنه ما يزال فيها مسحة من الرومانسية القديمة، على الأقلّ ظاهريا.
ترى، هل يمكن اعتبار هذه الموجة الكاسحة من صور الفانتازيا التي توظّف فيها التقنيات المتطوّرة للتصوير والرسم الرقمي نسخة جديدة عن الرومانسية القديمة؟
هذه الصور الحديثة تخبّئ حنين إنسان هذا العصر إلى عالم مثالي، إلى جنّة خرافية يمكن أن يجد فيها الإنسان ملاذا آمنا يؤنس وحشته ويحميه من متاعب المدنية الحديثة وما جلبته للإنسان من توتّر وتشوّش وقلق. ولو تمعّنت في الكثير من تلك الصور ستلاحظ أن الشخوص غالبا ما يعطون ظهورهم للناظر، وكأنهم يعبّرون بذلك عن ازدرائهم للواقع وعدم اعترافهم به.
الرومانسية القديمة ظهرت كردّ فعل على انتشار الحروب وتغوّل الآلة التي رافقت عصر الثورة الصناعية الأوربية. في ذلك الوقت وجد الفنّانون والشعراء في الرومانسية وسيلة للاعتراض على الواقع تخفّف عنهم الشعور بالاستلاب والغربة وعدم الأمان. وكانت تلك وسيلة احتجاج ودعوة للتغيير.
رومانسية هذا العصر الرقمي، إن جاز التعبير، يمكن اعتبارها، هي أيضا، وسيلة الفنّانين الشباب للإعلان عن مخاوفهم وضيقهم من عالم الواقع. هذا العالم الموبوء بالإرهاب والصراعات العسكرية والأزمات الاقتصادية المتلاحقة والبطالة ومشاكل البيئة، وما تنتجه هذه المشاكل والأزمات من مظاهر التوتّر والغربة والقلق. لذا فالفنّانون الرقميون يحلمون بعالم مثالي، بـ يوتوبيا عن عالم آخر مختلف يتحقّق فيه السلام والأمن والوفرة والطمأنينة المفقودة.
ومن الملاحظ أن بعضهم يعمدون إلى تزيين صورهم بأبيات شعرية مستوحاة غالبا من كلمات الأغاني والأفلام وتعبّر عما يعتمل في نفوسهم من تطلّعات وأحلام.
احدهم، مثلا، ذيّل لوحته بكلمات ذات مغزى تقول: نمشي على طريق طويل. ويتعيّن علينا أن نقطع مسافات بعيدة. الجوّ رياح ومطر وثلج. وأنا أسالك عمّا نريد كلّنا أن نعرفه: إلى أين نحن ذاهبون من هنا؟! نمشي هذه الدروب عبر مرايا الزمن. نحتاج مساحات لأحلامنا كي نغوص إلى أعماق تخيّلاتنا. اعرف أننا سنصل قريبا. فكلّ شيء ممكن. ولا نحتاج لأن نختبئ خلف ما هو خفيّ وغامض".
وكتب آخر: اشعر بأن العالم يتغيّر الآن ولن يقف احد في طريقنا. سأذهب إلى حيث يأخذني قلبي. استطيع أن افعل كلّ شيء. روحي قويّة، ولا احد يمكنه أن يعيقني أو يثنيني عن الوصول إلى ابعد نجمة في السماء. الريح والنور سيقوداني آلاف الأميال عبر المحيطات وملايين السنين عبر السموات. هل تستطيع أن تظلّ حيّا بينما أنت ضائع في البحر"؟!
وكتب ثالث قائلا: الليل بارد والسماء مليئة بالنجوم. كلّ شيء ساكن. لا توجد روح تتحرّك في ليل الغابات. فقط حارسة النهر التي تتجوّل وحيدة الآن. تبحث عن الشيء الوحيد الذي فقدته: البلّلورة السحرية التي كانت تحمي عالمها. هي تعلم أنها ستجدها إن عاجلا أو آجلا في وسط العاصفة الثلجية عندما تغفو النجوم في أحضان الليل".
ازدهار الصور الرقمية على الانترنت يمكن أن يرقى إلى مستوى الظاهرة. غير أن كثيرا من تلك الصور لا تعدو كونها مجرّد أحلام مشوّشة وتهويمات غائمة تفتقر إلى عنصر الالتزام والرغبة الواضحة والأكيدة في تغيير قيم واشتراطات الواقع.
فنّانو الرومانسية الرقمية الحديثة يبدعون صورا جميلة تناسب الجميع. وهم يتطلّعون إلى اللانهائية والحلم ويتوقون، ولا شكّ، إلى عالم أفضل. غير أنهم يبدون، من خلال صورهم، أناسا مسالمين ومستسلمين للواقع، بل وربّما مستعدّين للتعايش معه. ومن الواضح أنهم، خلافا للرومانسيين القدامى، لا يسعون إلى إغضاب احد ولا إلى التمرّد على المجتمع أو على المؤسّسات التي أسهمت في خلق هذا الواقع ودفعتهم لأن يضيقوا به ويفضّلوا عليه عالما مثاليا من صنع خيالاتهم وأوهامهم.

الجمعة، مايو 01، 2009

جولة في الناشيونال غاليري


دخلت مع جموع الزائرين إلى مبنى الناشيونال غاليري صباحا. كان الجوّ ما يزال مشبعا برائحة المطر والسماء متّشحة بغلالة كثيفة من الغيوم الرمادية الداكنة.
وكنت قبل ذلك قد مررت بأحد المقاهي المنتشرة حول المكان لأسأل عن موقع "تيت غاليري" وكم يبعد عن ذلك المكان. فقال لي شخص انجليزي وقد علت وجهه ابتسامة مهذّبة كما هي عادة غالبية الانجليز: يلزمك نصف ساعة لكي تبلغه. لكني أنصحك بزيارة الناشيونال غاليري، فهو أولا أشهر، وثانيا لأنه قريب جدّا من هنا، وثالثا لأنه يضمّ اكبر مجموعة من الأعمال الفنية في العالم، ورابعا وأخيرا لأنني شخصيا أعمل هناك".
دخلنا المبنى الرخامي ذا التصميم الفخم والأنيق. كنا مجموعة كبيرة من السيّاح. رجال ونساء من بلدان وجنسيات شتّى. هنا لا تحتاج لأن تدفع شيئا مقابل مشاهدة الأعمال الفنية. فالدخول مجّاني. لكن بإمكانك التبرّع بما تجود به ممّا يذهب لدعم أنشطة المؤسّسة الراعية للغاليري.
والواقع أن الناشيونال غاليري عبارة عن متاهة كبيرة. ممرّات فسيحة وصالات واسعة كلّ واحدة تفتح على الأخرى. والأعمال الفنية التي تمتلئ بها الصالات لا تقدّر بثمن. بعضها يعود إلى ستّة قرون. والبعض الآخر ينتمي إلى مدارس الفنّ الحديثة والمعاصرة.
وكلّ شيء في الغاليري مرتّب له جيّدا. فدرجة الضوء والعتمة محسوبة بعناية زيادة في المحافظة على اللوحات وحمايتها من عوامل البلى والتلف. وهنا وهناك تنتشر مجموعات نقاش، كلّ واحدة تتناول لوحة أو عملا ما. وقد لمحت تلاميذ صغارا بصحبة معلماتهن وهم يطرحون الأسئلة والتعليقات عن هذه اللوحة أو تلك.
وفي الحقيقة، كان من النادر أن ترى زائرا لا يحمل في يده قلما وكرّاسا يدوّن فيه بعض الملاحظات من واقع ما يشاهده أو يقرأه أو يسمعه عن كلّ عمل.
اللوحات المعروضة تتفاوت من حيث كبرها. أكبر لوحة رأيتها هي إعدام الليدي جين غراي لـ بول دولاروش. وقد شدّ انتباهي كثرة الزوّار الذين تجمّعوا لمشاهدة هذه اللوحة والتمعّن في تفاصيلها رغم عنف ومأساوية مضمونها. وربّما لا يداني هذه اللوحة من حيث الضخامة سوى لوحة مستحمّون في انيير لـ جورج سورا.
والواقع أن الذي يرى اللوحات الأصلية سرعان ما يلحظ الفرق الكبير بينها وبين النسخ الموجودة على الانترنت من حيث التفاصيل والألوان والخطوط إلى ما غير ذلك.
وليس من قبيل المبالغة إن قلت انه يندر أن تكون قد سمعت باسم رسّام ما، سواءً في الماضي أو في الحاضر، دون أن ترى له لوحة واحدة على الأقل في هذا الغاليري. من رافائيل إلى دافنشي إلى بيسارو إلى ديغا إلى رينوار إلى بوتيشيللي إلى فراغونار إلى فيلارد إلى لوتريك إلى كليمت إلى فيلاسكيز إلى غوغان إلى بيكاسو إلى سيزان إلى كورو إلى بيرنيني إلى دوميير إلى همرشوي.. والقائمة تطول.
أهمّية الناشيونال غاليري تكمن، كما سبقت الإشارة، في ضخامته وكثرة الأعمال الفنية التي يضمّها. في هذا الغاليري فقط، يمكنك أن ترى لوحات مشهورة جدّا مثل دير في غابة السنديان لـ كاسبار ديفيد فريدريش، والأحزان لـ غيوتو، وأزهار عبّاد الشمس و أشجار السرو لـ فان غوخ "الأخيرة عادت إلى الغاليري مؤخّرا بعد إعارتها لمتحف الفنّ الحديث بنيويورك"، ولوحة الجواد ويسل جاكيت لـ جورج ستبس، والبارجة تيميرير لـ وليام تيرنر، وبورتريه شخصي لـ فيجيه لابران، وعشاء في ايموس لـ كارافاجيو، وبورتريه ايزابيل دي بورسيل لـ غويا، وعذراء الصخور لـ دافنشي، وارنولفيني وزوجته لـ فان ايك، وبورتريه شخصي لـ رمبراندت، إلى غير ذلك من اللوحات المعروفة والمألوفة.
وأثناء تجوالي في صالات الغاليري توقفت كثيرا عند لوحات الرسّام البريطاني جون كونستابل. أحسست إلى حدّ ما بأنني كنت أعيد اكتشاف كونستابل الذي تثير لوحاته إحساسا بفخامة الطبيعة وسحرها. ومن حسن الحظ أن الغاليري يضمّ أكثر من لوحة للفنان منها لوحته الأشهر عربة القشّ ولوحته الأخرى التي لا تقلّ شهرة كاثدرائية ساليزبوري . اللوحة الأخيرة تأخذ الأنفاس بجمال تفاصيلها وبألوانها الرائعة وتأثيرات الضوء والظلّ فيها، ما يوحي بمهارة كونستابل الاستثنائية وبشغفه الكبير بجمال الطبيعة وبهائها. والنسخ الكثيرة الموجودة على الانترنت لهذه اللوحة لا تشبه أبدا اللوحة الأصلية ولا تنقل سوى جزء يسير من رونقها وبهائها. هذه اللوحة، مثل بقيّة لوحات كونستابل، شديدة الواقعية، لكنها واقعية ممزوجة بفنتازيا من نوع خاصّ بحيث تشعر وأنت تراها أنها صورة عن عالم آخر يموج بعناصر الحلم والدهشة.
كان مسك ختام الجولة في الناشيونال غاليري رؤية رائعة فيلاسكيز فينوس في المرآة . وقد لاحظت أن معظم من توقفوا عند اللوحة كانوا من الأسبان واللاتينيين.
ومن بعيد ونحن في ذلك المكان كانت تنساب إلى أسماعنا، رقيقة ناعمة، نغمات موسيقى استورياس "أو لييندا" للموسيقي الاسباني إسحاق آلبينيث؛ ما أضفى على المكان لمسة شاعرية إضافية.