:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يوليو 25، 2024

في الغابة/2


  • المفكّر والفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو الذي قضى فترة من حياته في وسط غابة يقول: ذهبت إلى الغابة لأنني كنت أرغب في أن أعيش حياة مدروسة، وأن أواجه فقط الحقائق الأساسية للحياة، وأرى ما إذا كان بمقدوري تَعلُّم ما يجب أن تعلّمني إيّاه الحياة، ولكيلا أكتشف عندما يحين موعد موتي أنني لم أعش. أن تضيع في الغابة في أيّ وقت هي تجربة مدهشة ولا تُنسى."
  • الدخول إلى عالم الفنّان الفرنسي هنري روسو يشبه الدخول إلى أعماق غابة يوحي شكلها بالمتاهة، حيث تتكشّف أنواع القصص والدراما المختلفة من خلف الأغصان والنباتات والأشجار. كان هذا الرسّام يرى العالم كغابة ويعبّر من خياله عن العالم كما يراه. وكان دائما يقول: لا شيء يجلب لي السعادة أكثر من تأمّل الطبيعة ورسمها".
  • دستويفسكي يشير في فقرة من روايته الأشهر "الإخوة كارامازوف" إلى لوحة يصفها بالمذهلة للرسّام إيفان كرامسكوي، تظهر فيها غابة في الشتاء ورجل يقف بمفرده على الطريق بثياب رثّة وحذاءين باليين. ثم يعلّق على اللوحة بقوله: هناك أشخاص كثر يعيشون في هذا العالم، ليسوا بالسيّئين أو الأشرار، لكن لا فائدة منهم أيضا".
  • باولو اوتشيللو رسّام إيطالي عاش في القرن الرابع عشر. وأشهر لوحة له صوّر فيها رحلة صيد في غابة ليلية لعدد من أثرياء فلورنسا مع حاشيتهم وخدمهم. وقد ملأ الرسّام اللوحة بصور لفرسان مع خيول وكلاب. في زمن اوتشيللو، كان الصيد هو الرياضة المفضّلة للعائلات الموسرة. ولطالما ارتبطت طقوسه بالزواج، إذ كانت مطاردة الحيوانات وصيدها هي الصورة المجازية للسعي في طلب المحبوب وخطب ودّه.
  • جيم كوربيت عالم طبيعة إنغليزي قضى سنوات طويلة في الهند في بدايات القرن الماضي وكتب كثيرا عن غابات تلك البلاد وعن جمال وتنوّع حياتها الفطرية. يقول واصفا غابة:
    اللون الأزرق الفولاذي للبِركة المحاطة بأشجار السرخس حيث يرتاح الماء قليلاً قبل أن يتدفّق فوق الصخور والحصى ليأخذ أنفاسه مرّة أخرى في بركة أخرى أكثر جمالا من تلك التي تركها للتوّ، وميض طائر الرفراف الملوّن وهو يكسر سطح الماء ويُسقط وابلا من الماس من أجنحته وهو يرتفع بزقزقة مبهجة بينما سمكة صغيرة فضّية مثبّتة بقوّة في منقاره القرمزي، النداء اللحني الواضح للغزلان المرقّطة إذ تُبلِغ أهل الغابة أن النمر، الذي تظهر آثار أقدامه مبلّلة على الرمال حيث عبَر النهر قبل بضع دقائق، يبحث عن عشائه."
  • "مكتبة المستقبل" مشروع ثقافي عالمي يعتمد على أشجار غابة. وقد تمّ بموجب المشروع تكليف عدد من الروائيين العالميين الأحياء بأن يكتب كلّ منهم مخطوطة رواية، على ألا تُطبع وتُنشر إلا بعد 100 عام من الآن.
    ولهذا الغرض زُرعت 1000 شجرة صنوبر في غابة بأوسلو على أن تُقطع الأشجار بعد 100 عام وتُحوّل إلى ورق تُطبع عليه مخطوطات الكتب التي يُرجّح ألا يكون مؤلّفوها على قيد الحياة في ذلك الوقت.
    ومن الروائيين الذين فرغوا بالفعل من كتابة مخطوطات رواياتهم وسلّموها لأمانة المكتبة كلّ من النرويجي كارل كنوسغارد والتركية اليف شفق والكندية مارغريت ايتوود.
  • الرسّام الروسي إيفان شيشكين من القرن التاسع عشر له لوحة جميلة ولا يخلو اسمها من شاعرية: أمطار في غابة الصنوبر" (فوق). الصورة تثير إحساسا بالألوان الزاهية وبالسماء الأكثر إشراقا. والرسّام يخلق شعورا حقيقيّا بالعالم، حيث الطبيعة ليست طيّبة أو شرّيرة.
    وهو يقودك في السير على طريق، ومن السهل عليك بعدها أن تقتفي خُطاه. كما انه يمنح الناظر انطباعا بأن السماء تمطر. كان شيشكين يُلقّب بـ "شاعر الغابات الملحمية الروسية" لإمساكه بمواسم الغابات وتعبيره عن أمزجة الطبيعة المتغيّرة.


  • غابات السنديان ترتبط بعدد من ثقافات العالم. في أساطير الشمال الأوربّي، السنديان هي الشجرة المقدّسة لإله الرعد الإسكندنافي تور. واليونانيون اعتبروها مقدّسة لأنها شجرة زيوس كبير الآلهة. وتعيش السنديانة لقرون وأحيانا لألف عام. ومن أشهرها تلك التي زرعها الملك الانغليزي جون وعاشت 800 عام وعاصرت حكم 35 ملكا.
    أما أشهر شجرة سنديان على الاطلاق فتقع وسط غابة شيروود بإنغلترا. ويقال إن عمرها ألف عام وأنها نفس الشجرة التي كان يلجأ إليها روبن هود ورجاله الخارجون عن القانون. ومن المعروف أن السنديانة تدعم النظام البيئي وتخدم الكائنات التي تتغذّى عليها.
  • الروائي روبرت لويس ستيفنسون مؤلّف "جزيرة الكنز" يقول: لا تسيطر الغابة على قلوب البشر بسبب جمالها، بل بسبب ذلك الشيء الدقيق؛ تلك النوعية من الهواء المنبعث من الأشجار القديمة، والتي تعمل بشكل رائع على تغيير وتجديد الروح المتعبة."
  • الفنانّة فريدا كالو رسمت نفسها وصراعها مع الألم كثيرا. في إحدى أشهر لوحاتها التي رسمتها بعد عملية جراحية في العمود الفقري إثر حادث سيّارة، صوّرت الفنّانة المكسيكية نفسها بجسد غزالة تعدو في غابة مهجورة وفارغة وجسدها دامٍ ومثقل بالجراح من أثر السهام المنغرسة فيه. والمنظر يُوصل إحساسا بالعزلة واليأس.
  • في هنغاريا ووسط غابات كثيفة وجبال عالية يقوم متنزّه يقال إنه أحد أفضل الأماكن على الأرض للتحديق في النجوم وتصويرها. كما أنه جنّة للطيور النادرة. السماء هناك تصبح في بعض الليالي صافية جدّا، لدرجة أن أجراما سماوية مثل مجرّة المثلّث يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة.
  • الكاتبة ليزا كليباس تُورد وصفا بديعا لغابة حُوّل جزء منها إلى حديقة لقصر ضخم. تقول:
    كانت الغابة المحيطة بالحديقة عميقة وكثيفة، لدرجة أنها تبدو بدائية المظهر، في حين بدت الحديقة التي تبلغ مساحتها 12 فدّانا خلف القصر مثالية للغاية بحيث لا يمكن أن تكون حقيقية.
    وكانت هناك بساتين ومروج وبرَك ونوافير. كانت حديقة ذات أمزجة متعدّدة، تتراوح ما بين الهدوء والصخب الملوّن. حديقة منضبطة، كلّ خصلة من عشبها مجزوزة بدقّة، وزوايا سياج الصناديق مقصوصة لتصبح حادّة مثل السكّين.
    بدون قبّعة أو قفّازات، ومشبعة بإحساس مفاجئ بالتفاؤل، تنفّست أنابيل بعمق من هواء الريف. دارت حول حافّة الحدائق المتدرّجة في الجزء الخلفي من القصر واتبعت درباً مرصوفا بالحصى يقع بين أسرّة مرتفعة من الخشخاش وأزهار الراعي.
    وسرعان ما أصبح الجوّ معطّرا بشذى الزهور، حيث كان الدرب موازيا لجدار حجريّ جافّ مغطّى بأوراق من الأزهار الوردية والكريمية. وأثناء تجوالها البطيء، عبرت أنابيل بستانا من أشجار الكمّثرى القديمة التي نحتتها عقود من الزمن وحوّلتها إلى أشكال رائعة."
  • في منمنمة شرقية ذات تفاصيل وألوان رائعة رُسمت حوالي القرن السادس عشر الميلادي، نرى مشهدا لغابة ليلية تجري على أرضها مسابقة للصيد بين ثلاثة رجال يمتطون الخيل ويهاجمون مجموعة من الأسود والظباء والطيور. ويُرجّح أن هذه اللوحة رُسمت في الأصل لتزيّن غلاف كتاب أو ديوان شعر.
  • هيرسينيا اسم غابة عمرها أكثر من ١١ ألف عام، كانت في الماضي تمتدّ عبر أراضي عدّة دول اوربّية، أهمّها ألمانيا. وقد تحدّث عنها القائد الروماني يوليوس قيصر في أحد كتبه فقال إنها من الاتساع بحيث يحتاج الإنسان لـ ٩ أيّام لقطعها بالعرض.
    كما أشار إلى أنواع من الحيوانات والنباتات الغريبة التي رآها من قُدّر لهم الذهاب إلى هناك. ويتفق قيصر مع كلّ من أرسطو وهيرودوت وبليني الأكبر في أن هذه الغابة التي تردّد اسمها كثيرا في كتب القدماء قد تكون الموطن الأوّل لحيوان اليونيكورن الأسطوري أو حيوان آخر قريب الشبه به.

  • Credits
    poets.org
    jimcorbett.in
    georgiaokeeffe.net

    الأربعاء، يوليو 24، 2024

    في الغابة/1


    حتى مع استمرار تقلّص مساحات الغابات في العالم، يبدو الأدباء والكتّاب والفنّانون ميّالين أكثر فأكثر إلى تصوير الغابات كواحات للخلاص وملاذات للتحرّر من قيود وآفات الحضارة المعاصرة.
    أبطال القصص الخرافية غالبا ما يجدون طريقهم إلى الغابة. هناك يضيعون ثم يجدون أنفسهم، ويكتسبون فكرة عمّا يجب القيام به. والغابة دائما هائلة وغامضة. لا يمكن أن يفرض أحد سلطته عليها على الإطلاق، لكنها تملك القدرة على تغيير الحياة وتغيير المصائر.
    الغابة، هذا الفضاء البرّي يمثّل حدود قدرة الإنسان، وهو مكان يمكن أن يحدث فيه أيّ شيء.
  • في ملحمة غلغامش، يسافر الأبطال إلى غابة الأرز لمحاربة الوحوش. وغابة ميركوود لتولكين، المستمدّة من الأساطير الإسكندنافية، تُعتبر غابة سحرية خطرة للغاية، لدرجة أنه حتى الآلهة كانت حذِرة من دخولها. ودانتي يبدأ رحلته الشعرية الملحمية في غابة معتمة وغامضة، حيث يضلّ طريقه. كان الرومان يعتقدون أن المدخل الى الهاوية المؤدّية الى الجحيم يمرّ عبر غابة.
  • وفي ملحمة فرجيل، يقرّر البطل اينياس الذهاب إلى العالم السفلي ليرى طيف والدته الراحلة. وفي الطريق يقابل عرّافة توافق على مرافقته في الرحلة. ويذهب الاثنان إلى مكان فيه بحيرة عميقة تحيطها غابة مظلمة يُفترض أنها تقود إلى عالم الموتى. الرسّام وليام تيرنر تخيّل ذلك المنظر واستبدل البحيرة الأسطورية ببحيرة حقيقية.
  • أسطورة الرجل الذئب تفترض أن بعض البشر، وبفعل قوى خفيّة وشرّيرة، يتحوّلون في الليل إلى ذئاب تعوي وتتجوّل في الغابات والجبال بحثا عن فرائس. فإذا ما بزغ الفجر تخفّفوا من شخصياتهم الذئبية وعادوا إلى طبيعتهم البشرية.
  • في القصص الخيالية الحديثة، مثل المستذئب ومصّاص الدماء وبياض الثلج وهاري بوتر وغيرها، تكون الغابة محطّة أساسية في رحلة البطل ومكانا للخطر والاحتمال والمغامرة. وأحيانا تُصوّر على أنها حالمة ومصدر للأمل. لكن يمكن أن تكون الغابة أيضا مكانا للوحوش والشياطين الداخلية والقرناء والأشباح التي كثيرا ما تُربط بالجزء البدائي من الانسان.
  • وفي الأساطير الألمانية القديمة، تشكّل الغابة بوّابة مفتوحة على عالم غامض تسكنه مخلوقات غريبة لا تظهر إلا ليلا. لوحة الرسّام كاسبار دافيد فريدريش "رجلان يتأمّلان القمر" تعكس هذه الفكرة تماما. فالقمر يبدو مثل عين تكشف أسرار الغابة الخضراء المظلمة للرجلين اللذين يراقبانها من نقطة عالية وهما مختبئان خلف شجرة.
    الغابات تشكّل حوالي 30 بالمائة من مساحة أراضي ألمانيا. وعبر تاريخهم، كان الألمان يتخيّلون وطنا تغطّيه الغابات من أقصاه إلى أقصاه. وهم يرون في الغابة طبيعة وطنية وأسطورة قومية ومستودعا قويّا للذكريات التاريخية.
  • الفنّان الايطالي ساندرو بوتيتشيللي اختار غابة أسطورية متخيّلة ليضع فيها شخصيات لوحته الأشهر "الربيع" التي رسمها في فلورنسا في القرن الخامس عشر.
    وقد أحصى بعض علماء النبات أكثر من 400 نوع من النباتات في اللوحة، منها حوالي 200 زهرة. ولأنها تتضمّن صور شخصيات مثل فينوس ربّة الجمال والملهمات الثلاث وفلورا ربّة الربيع التي ترتدي ثوبا مشجّرا، فقد شاع انطباع بأن اللوحة صورة مجازية عن الزواج.
  • بابلو نيرودا، شاعر تشيلي، يقول واصفا رحلة له ذات يوم في غابة من غابات بلاده:
    أسفل البراكين وبجوار الجبال المغطّاة بالثلوج ووسط البحيرات الضخمة، تقع الغابة التشيلية العطرة والصامتة والمتشابكة الأشجار.
    أمّة من الطيور ووفرة من أوراق الشجر. تغوص قدماي في الأوراق الميّتة. يفرقع غصين هشّ. ترتفع أشجار الراولي العملاقة بكلّ خشونتها. وعلى ارتفاع شاهق، يمرّ طائر في الغابة الباردة، يرفرف بجناحيه، ويتوقّف في الأغصان التي لا شمس فيها. أنفاس عذبة تداعب وجهي، بينما يختفي قوس قزح اللامع مثل البرق.
    ويضيف: أمُرّ عبر غابة من السرخس أطول منّي بكثير. ومن عيونها الخضراء الباردة، تتساقط ستّون دمعة على وجهي. وفي الأسفل، تنزلق المياه البلّلورية فوق الغرانيت واليشَب، وتمرّ فراشة مشرقة كالليمون، ترقص بين الماء وأشعّة الشمس. وفي الأعلى، تتدلّى نقشات حمراء من أزهار اللاباجيريا مثل قطرات من شرايين الغابة السحرية.
    ثعلب يقطع الصمت مثل وميض ويرسل رعشة عبر الأوراق. صرخات مسموعة بالكاد لبعض الحيوانات الحائرة من بعيد. لكن الصمت هو قانون مملكة النباتات. إن أيّ شخص لم يرَ الغابة التشيلية لا يعرف هذا الكوكب. لقد خرجتُ من هذا المشهد الطبيعي الذي يمتزج فيه الطين بالصمت، لأتجوّل وأغنّي في هذا العالم".


  • الرسّامة الأمريكية جورجيا اوكيف كانت ترى في جبل باديرنال والغابة والبحيرة المحيطة به مصدر إلهام روحي وفنّي لها. كانت تنظر كلّ يوم الى تلك الطبيعة الفخمة من نافذة بيتها في نيومكسيكو وترسمها. وقد قالت عن الجبل مرّة: هذا جبلي، وقد أخبرني الربّ أنني إذا رسمته بما يكفي فسيصبح ملكي". وعندما ماتت، وتنفيذا لوصيّتها، نُثر رمادها فوق الجبل كشهادة على الآصرة الوجدانية والفنّية التي كانت تربطها به.
  • بعض كتب الأدب والقصص الشعبية تورد قصصا عن "أطفال الغابات" الذين يتربّون ويعيشون في كنف حيوان في البرّية (غزالة أو قرد أو ذئبة مثلا). ومع الأيّام يتعلّمون مهارات المشي على أربع والبحث عن غذاء والصراخ كالحيوانات وما إلى ذلك.
    ومن الأمثلة المشهورة على طفل الغابة رومولوس مؤسّس روما الذي يقال انه تربّى وعاش في رعاية ذئبة، وموغلي الذي ابتكر حكايته الكاتب الانغليزي كيبلنغ، وإنكيدو بطل ملحمة غلغامش الذي عاش مع السباع وتطبّع بطباعها إلى أن روّضته امرأة، وحيّ ابن يقظان الذي أرضعته وربّته غزالة، وأخيرا الطفلة التي رعتها نعامة في الصحراء الكبرى وأصبحت تتصرّف مثل قطيع النعام الذي عاشت معه، فتسابقهم وتأكل أكلهم وتعيش مثلما يعيشون.
    ويبدو أن ابتكار مثل هذه القصص وانتشارها يعكس حنين الإنسان إلى حياة أسلافه الذين عاشوا في البراري والغابات منذ أقدم الأزمنة. وهناك سبب آخر يتمثل في أن شخصيات هذه القصص تنجح في عبور الخط الفاصل بين الإنسان والحيوان، بين الطبيعي وغير الطبيعي وبين الحضاري والفطري.
    وربّما هناك عامل آخر هو افتتان الإنسان بالوحش الذي بداخله، وإعجابه بالفكرة القديمة عن "الهمجيّ النبيل" الذي لم تلوّثه الحضارة الحديثة وظلّ محتفظا في داخله بنقاء وطيبة الإنسان الأوّل.
  • في كتب ومخطوطات وقصص القرون الوسطى، راجت في أوربّا حكايات عن كائن سُمّي بمخلوق الغابات. وهو وحش شبيه بالإنسان، يغطّي الشعر كامل جسده. وأحيانا يُشبّه بـ إنكيدو غلغامش، من حيث انه لا يمكن ترويضه إلا على يد امرأة تقيّة.
  • الفنّان البلجيكي رينيه ماغريت رسم لوحة ذات تفاصيل نحتية أسماها "الغابة"، وفيها نرى تمثالا نصفيّا لرجل يستند على قاعدة اسطوانية بنّية اللون، وفي الخلفية ستارة وجدار. لكن ليس في اللوحة ما يدلّ على الاسم، باستثناء أن ملامح وجه التمثال تنبثق عنها فروع شجرة.
  • جون موير داعية البيئة الشهير الذي قضى معظم حياته في الغابات كتب ذات مرّة يقول: في الغابة سيتدفّق سلام الطبيعة إليك كما يتدفق ضوء الشمس إلى الأشجار. وستهبك الرياح نضارتها، والعواصف طاقتها، بينما تتساقط همومك مثل أوراق الخريف."
  • الرسّام الصيني الطاويّ القديم تشنغ تشي رسم 800 لوحة لغابات الخيزران. كان يرى فيها نموذجا لما يمكن أن يفعله الإنسان الحكيم. وكتب على إحدى تلك الصور بيتا من الشعر يقول مخاطبا فيه أشجار الخيزران: لتقفي أمام الجبال بصلابة، ولتقاومي العواصف بشموخ، ولتكوني أكثر قوّة بعد كلّ امتحان".
    كانت رسالة الشاعر موجّهة ظاهريا لتلك الأشجار. لكنه كان طبعا يخاطب الإنسان في كلّ مكان. الفلسفة الطاوية احتفت بهذه الأشجار منذ القدم وتناولت صفاتها الرمزية. فعيدان الخيزران مفرغة من الداخل، لكن ذلك الفراغ هو مصدر قوّتها وبقائها. فهي تنحني بمرونة أمام العواصف، ثم لا تلبث أن تقف من جديد بعد زوال الخطر. ولهذا ينصح الفيلسوف لاو تسو الإنسان بأن يكون مرنا وقويّا كالخيزران.
  • وفي العديد من الثقافات التي تُوصف بالبدائية، تتطلّب التنشئة القبلية قضاء الفرد فترة طويلة بمفرده في الغابات أو الجبال كي يتصالح مع العزلة ويتكيّف مع أخطار الطبيعة وليكتشف من هو حقّا بدل أن يفرض عليه المجتمع من هو وماذا سيكون مستقبلا.
  • الاثنين، يوليو 22، 2024

    أغاني طاغور


    ذات ليلة، رأى أحد مُلّاك الأراضي الهنود في المنام ثلاث عشرة نخلة متساوية الطول، وقد نمت كلّها في مكان ظليل، بينما كانت الشمس تشرق على مكان آخر مليء بالأعشاب الخضراء. وبينما كان الرجل يتأمّل المنطقة المغمورة بضوء الشمس، رأى نخلة جديدة تنمو في الأرض وتتطاول ثم تطرح ثمرا مختلفا أنواعه، بينما أناس كثيرون يتحلّقون حول النخلة ويأخذون من ثمارها العجيبة.
    ولما استيقظ الرجل من حلمه ذهب إلى أحد الكهنة كي يفسّر له الحلم. فقال له: النخلات الـ 13 هي مجموع بناتك وأبنائك، وأمّا النخلة الـ 14 التي نمت في بقعة مشرقة فمولود ستُرزق به قريبا وسيكون له شأن عظيم. ولكن إيّاك أن تضعه في البقعة البعيدة عن النور، أي في نفس مسار الحياة الذي تضع فيه أبناءك الآخرين. ولا تعلّم ابنك القادم الفلاحة وجني المحاصيل كبقيّة أولادك، بل إهتمّ بتعليمه وتثقيفه لأنه سيكون متميّزا كثيرا وسيستفيد من علمه وأدبه خلق كثير. ولا تحدّث أحدا بحلمك هذا مخافة الحسد، كما تعلم".
    وبعد سنوات، أخبر الرجل ابنه رابندرانات طاغور بذلك الحلم بعد أن كبر. وظلّ طاغور يتفاءل بالرقم 14 طوال حياته. وألّف أوّل قصيدة له وهو في سنّ الـ 14. كما كان يحتفظ بقفص فيه 14 طائرا من طيور الزينة. وكان من عادته أن يفتح لها باب القفص كلّ صباح، فتطير وتحلّق في السماء بضع دقائق ثم تعود إليه طائعة.
    كان تأثير رابندرانات طاغور (1861-1941) على عقل الهند وأجيالها الصاعدة المتعاقبة هائلاً. ولم تكن اللغة البنغالية فقط، أي اللغة التي كان يكتب بها، بل إن جميع اللغات الحديثة في الهند آنذاك قد تشكّلت جزئياً من خلال كتاباته.
    ولم تقتصر مسيرته المهنية التي امتدّت لأكثر من 60 عاماً على توثيق نموّه الشخصي وتنوّعه فحسب، بل عكست أيضاً التقلّبات الفنّية والثقافية والسياسية التي شهدتها الهند في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين.
    كانت البيئة الفنّية التي عاش فيها طاغور وجمال الطبيعة والشخصية الوقورة لوالده من بين المؤثّرات الأولى التي شكّلت حساسيّته الشعرية. في كتابه "حياتي" يتذكّر الشاعر بداياته الأولى فيقول: كان أغلب أفراد عائلتي يتمتّعون بموهبة ما، بعضهم كانوا رسّامين وبعضهم شعراء وبعضهم موسيقيين. وكانت الأجواء في منزلنا مشبعة بروح الإبداع".
    وفي نفس الكتاب يتحدّث طاغور عن الطبيعة، مَدرسته المفضّلة، فيقول: كان لديّ إحساس عميق منذ الطفولة بجمال الطبيعة وبالرفقة مع الأشجار والسحب وبالتناغم مع اللمسة الموسيقية لهواء الفصول. وكلّ هذه العناصر كانت تتوق إلى التعبير، وبطبيعة الحال كنت أرغب في منحها تعبيري الخاص".
    في صغره ذهب طاغور مع عائلته الى دالهوزي، وهو منتجع جميل يقع في سفوح جبال الهيمالايا. كان يتجوّل هناك بحريّة من قمّة جبل إلى أخرى، وقد أذهله جمال وعظمة الجبال. وخلال فترة إقامته في تلك البقعة، تولّى والده تعليمه وقرأ معه مختارات من الأدب السنسكريتي والبنغالي والإنغليزي. ويقال إن ذكرى تلك الرحلة الساحرة ظلّت مرافقة لحياة رابندراناث وحافزاً لإعادة تمثيل تلك التجربة النموذجية.
    في ديوانه "أغاني الصباح"، يحتفل طاغور بفرحه باكتشاف العالم من حوله. كان المزاج الجديد نتيجة تجربة صوفية مرّ بها أثناء نظره إلى شروق الشمس ذات يوم. يقول: بينما واصلت النظر، بدا فجأة أن حجابا سقط عن عينيّ ووجدت العالم غارقا في إشراق رائع، مع موجات من الجمال والفرح تتضخّم على كلّ جانب. اخترق هذا الإشراق في لحظة واحدة طيّاتِ الحزن واليأس التي تراكمت على قلبي وغمرته بفيض من النور الكوني".
    كان نشر ديوان "جيتانجالي"، أو قرابين الأغاني، الحدث الأكثر أهميّة في مسيرة طاغور في الكتابة، لأنه بعد ظهوره، فاز بجائزة نوبل في الأدب عام 1913، وهو أوّل تقدير من هذا القبيل لكاتب شرقي. وقد كتب الديوان بعد فترة قصيرة من وفاة زوجته وابنتيه وابنه الأصغر ووالده.
    يقول ابنه راثيندراناث واصفا ما حدث: ظلّ والدي هادئا ولم يزعج سلامه الداخلي أيّ كارثة مهما كانت مؤلمة. لقد منحه فقدُ أقاربه قوّةً خارقة لمقاومة المصائب الأكثر إيلاما والسموّ فوقها". كانت قصائد ذلك الديوان بمثابة بحث الشاعر عن السلام الداخلي وإعادة تأكيد إيمانه من خلال تنقية الذات وخدمة الإنسانية.


    في مقدّمته لديوان جيتانجالي، كتب الشاعر الإنغليزي وليام بتلر ييتس: لقد حملتُ مخطوطة هذه الديوان معي لأيّام، قرأتها في قطارات السكك الحديدية وفي الحافلات وفي المطاعم، وكثيراً ما اضطررت إلى إغلاقها خشية أن يرى شخص غريب كيف أثّرت فيّ". أما الشاعر إيزرا باوند فقد وصف الكتاب بأنه "سلسلة من الأغاني الروحية" وقارنه بجنّة دانتي واعتبره عمل طاغور الأكثر تميّزا.
    تقول إحدى قصائد الديوان:
    أنت! مَن تعبُد في هذه الزاوية المظلمة المنعزلة من المعبد حيث الأبواب مغلقة؟ اترك هذا الهتاف والغناء وقراءة الودع. وافتح عينيك لترى أن إلهك ليس أمامك. إنه هناك حيث يزرع الفلاح الأرض الخشنة وحيث يكسر صانع الطريق الحجارة. إنه معهم في الشمس والمطر وثوبه مغطّى بالتراب. انزع رداءك المقدّس وانزل مثلهم على التربة المغبرّة. اخرجوا من تأمّلاتكم واتركوا أزهاركم وبخوركم جانبا. ما الضرر إذا أصبحت ملابسكم ممزّقة وملطّخة؟ عندما كان الخلق جديدا وأشرقت جميع النجوم في روعتها الأولى، عقدَ الآلهة اجتماعهم في السماء وغنّوا لصورة الكمال وللفرح الخالص".
    ويضيف: مثل سحابة من شهر يوليو معلّقة بثقلها من الأمطار التي لم تهطل بعد، دع عقلي يا إلهي ينحني عند بابك تحيّة لك. دع كلّ أغانيّي تجمع نغماتها المتنوّعة في تيّار واحد وتتدفّق إلى بحر من الصمت تحيّة لك. ومثل قطيع من طيور الحنين التي تحلّق ليلا ونهارا عائدة إلى أعشاشها الجبلية، دع حياتي كلّها تأخذ رحلتها إلى موطنها الأبديّ تحيّة لك."
    في أعقاب الجدل العام الذي بدأ بين المهاتما غاندي وطاغور في عام 1921 بسبب معارضة الشاعر لحركة اللاعنف التي قادها غاندي، عانت شعبية طاغور من انحدار حادّ ووجد نفسه معزولاً علناً بشكل متزايد. لكنه فيما بعد استعاد جزءا مهمّا من شعبيته بعد تأليفه لكلمات النشيد الوطني الهندي، والذي يُعدّ إحدى مساهماته العديدة البارزة.
    ورغم أن طاغور كان شخصية مهمّة في الحركة القومية الهندية وغالبا ما كان ينتقد الحكم الاستعماري البريطاني، إلا أن أيديولوجيته السياسية كانت معقّدة وذات تفاصيل دقيقة ومتفرّعة. لكنه مثل غاندي، كان يقف ضدّ نظام الطبقات الهندي الذي كرّس مفهوم طبقة المنبوذين.
    وفي قصائده وأغانيه ومسرحياته ورواياته وأغانيه، كان دائما يقف في صفّ الفقراء والعاجزين والمضطهدين. كما أراد تحرير العقل البشري من كلّ أنواع الأفكار الشرّيرة والمعتقدات الخاطئة.
    أملى طاغور قصيدته الأخيرة قبل ساعات قليلة من وفاته في السابع من أغسطس عام 1941. ونشرت الصحف الرئيسية في العالم بيانات نعي أشادت به ووصفته بأنه "روح البنغال" و"أعظم أديب في الهند" و"سفير الصداقة بين الشرق والغرب".
    بالإضافة الى الشعر، كان طاغور رسّاما. لكنّه لم يمارس الرسم الا بعد أن تجاوز الستّين من عمره. وقد أدهش الكثيرين بتحوّله المتأخّر إلى الرسم. في ذلك الوقت بدأ يُرفق بعض أشعاره برسومات، بعضها له هو شخصيّا، والبعض الآخر رسم فيها رجالا ونساءً كان يعرفهم.
    وكان هو أوّل رسّام هندي يعرض أعماله في أوروبّا وروسيا وأمريكا. كان أسلوبه في الرسم يتميّز بأشكال حرّة بسيطة ونوعية إيقاعية. وقد رسم الوجه الإنساني بطريقة تذكّر بالقناع أو الشخصية. كانت رسوماته غير مخطّط لها، بل تشكّلت من خلال الصُدف والقرارات الحدسية.
    وبعضها كانت عبارة عن صور لحيوانات وطيور وصفها طاغور بأنها "أضاعت فرصة وجودها دون سبب وجيه" أو "لم تتمكّن من التحليق إلا في أحلامنا". وكان كثيرا ما يستمتع بإسقاط إيماءة بشرية على جسد حيوان أو العكس.
    وفي لوحاته للطبيعة، غالبا ما كان يصورّها مغمورةً بأنوار المساء مع سماء لامعة وأشكال تتوارى في ظلال مشؤومة، ما يثير هالة من الغموض والصمت المزعج. ومن الملاحظ أن طاغور لم يطلق أسماءً على لوحاته، على الأرجح كي يحرّرها من أيّ ارتباط أدبي ويشجّع المتلقّي على استنباط فهمه الخاص لمعانيها.
    من أشهر اقتباسات طاغور وصفُه لتاج محل بأنه "مثل دمعة على وجه الأبدية"، و"عندما أرحل من هنا دعني أقل لك كلمة وداع: إن ما رأيتُه لا يُضاهى"، و"الإيمان هو الطائر الذي يشعر بالضوء عندما يكون الفجر ما يزال مظلماً".
    وأفضل ختام للموضوع قصيدة أخرى لطاغور يقول فيها:
    أنفقتُ الكثير من المال لأرى العالم
    فتجوّلت في العديد من البلدان
    وقطعتُ البحار والمحيطات
    لكن لم أفطن ابداً
    لقطرة الندى المتألّقة
    فوق سنبلة القمح
    أمام عتبة داري."

    Credits
    scotstagore.org