:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، سبتمبر 24، 2023

محطّات


  • هذا العالم، الذي أنت على وشك الدخول إليه والتواجد فيه، لا يتمتّع بسمعة طيّبة. لقد ظلّ جغرافيّاً أفضل منه تاريخيّاً؛ ولا يزال جذّاباً بصريّا أكثر منه اجتماعيّا. إنه ليس مكانا لطيفا، كما ستكتشف قريبا، وأشكّ في أنه سيصبح أجمل عندما تغادره. ومع ذلك، فهو العالم الوحيد المتاح. إذ لا يوجد بديل، وإذا وجد، فليس هناك ما يضمن أنه سيكون أفضل من هذا.
    إنه غابة وصحراء ومنحدر زلق، ومستنقع - بالمعنى الحرفيّ للكلمة. ولكن ما الذي يمكن أن يكون أسوأ من ذلك، مجازيّاً أيضا. ومع ذلك، وكما قال روبرت فروست: أفضل طريق للخروج هو دائما العبور من الوسط". لكنه قال أيضا في قصيدة مختلفة: أن تكون اجتماعيّا يعني أن تكون متسامحاً".
    حاول ألا تعير اهتماما كبيرا لأولئك الذين سيحاولون جعل حياتك بائسة. سيكون هناك الكثير من هؤلاء. عانِ منهم إذا لم تتمكّن من الإفلات منهم. ولكن بمجرّد الابتعاد عنهم، امنحهم أدنى قدر ممكن من الاهتمام. وقبل كلّ شيء، حاول ألا تروي القصص عن معاملتهم الظالمة لك. تجنّب ذلك بغضّ النظر عن مدى تقبّل القريبين منك لهذا.
    الحكايات من هذا النوع تزيد من وجود خصومك. على الأرجح سيعتمدون على كونك تحبّ الكلام والتحدّث عن تجربتك للآخرين. لا يوجد فرد يستحقّ أن يمارَس ضدّه الظلم. إن نسبة واحد إلى واحد لا تبرّر الجهد المبذول، بل الصدى هو المهم. هذا هو المبدأ الأساسي لأيّ مضطِهد. لذلك، إسرق الصدى أو احتفظ به، بحيث لا تسمح لحدث ما، مهما كان مزعجا أو بالغ الأهمية، أن يستولي على وقت أطول ممّا استغرقه حدوثه.
    ما يفعله خصومك يستمدّ أهميّته أو نتيجته من طريقة ردّ فعلك. لذلك، اندفع عبرهم أو تجاوزهم كما لو كانوا أضواءً صفراء وليست حمراء. لا تطل الانشغال بهم عقليّا أو لفظيّا، لا تفتخر بمسامحتك إيّاهم أو نسيانهم. مارس النسيان أوّلاً. وبهذه الطريقة ستوفّر على خلايا دماغك الكثير من الإثارة غير المفيدة.
    وبها أيضا ربّما يمكنك إنقاذ حتى هؤلاء الأغبياء من أنفسهم، لأن احتمال النسيان أقصر من احتمال الغفران. لذا غيّر القناة، لا يمكنك إخراج هذه الشبكة من التداول، ولكن على الأقل يمكنك تقليل أثرها. الآن، من غير المرجّح أن ترضى الملائكة عن هذا الحل، ولكن، مرّة أخرى، لا بدّ أن يتأذّى الشياطين، وفي الوقت الحالي هذا هو كلّ ما يهمّ حقّا.
    لا أستطيع التكهّن بمستقبلك، ولكن من الواضح جدّا لأيّ عين مجرّدة أن هناك الكثير مما يحدث لك. أقلّ ما يمكن قوله هو أنك ولدت، وهذا في حدّ ذاته نصف المعركة، وتعيش في ظل وطن؛ هذا البيت الذي يقع في منتصف الطريق بين الكابوس والمدينة الفاضلة.
    *من وصايا جوزيف برودسكي

  • كلّما كانت الموجة أكبر، تعيّن علينا الغوص بشكل أعمق. فالشفاء يتأتّى من الغوص العميق في الظلام. هذا هو المكان الذي نحتفظ فيه بأعمق نقاط ضعفنا وأدقّ أسرارنا.
    تأخذ قصصنا حياة خاصّة بها، وفي كثير من الأحيان تقودنا إلى خارج المسار. نسعى إلى التحقّق من صحّة ما نعتقد أننا عليه دون أن نعرف ونقبل من نحن حقّا.
    إن البقاء في المياه الضحلة هو الطريق الأقلّ مقاومةً. يجب علينا أن ندخل المحيط ونغامر بالخروج إلى الأعماق لتحقيق النموّ الحقيقي. هذا هو المكان الذي يصبح فيه الأمر حقيقيّا، حيث يتعيّن علينا إمّا أن نسبح أو نموت.


  • كان أفلاطون يعتقد أن الجنود يجب ألا يقرءوا قصائد عن التسامح قبل المعركة لئلا تأخذهم شفقة أو رحمة بالعدو أثناء القتال. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل ينبغي على الناس الترفيه عن أنفسهم بالفنّ الذي يجعلهم حزانى ومكتئبين؟
    الفنّ المحبِط أو الباعث على الحزن يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على العالم. خذ مثلا لوحة إيليا ريبين "إيفان الرهيب يقتل ابنه" من عام 1885، وكذلك صور وليام براس لمعسكرات الاعتقال الألمانية. كلا الفنّانين يصوّران الى أيّ حدّ يمكن أن تقودنا أقسى الدوافع البشرية وتلهمنا في النهاية لنكون بشرا أفضل.
    وهناك أيضا الفيلم الياباني "أسوق سيّارتي" من عام 2021 والمقتبس عن رواية لأنطون تشيكوف. الفيلم يناشد مشاهديه بأن يتحمّلوا الألم الذي لا مفرّ منه والمعاناة التي ستُلقى في طريقهم، بدلاً من الاستسلام لها.
    ومؤخّرا تساءل كاتب عن سبب احتلال الحزن مكانة بارزة في الفنّ أكثر من مساحة السعادة. وضرب مثلا بلوحة هنري واليس (1856) التي يصوّر فيها الشاعر الرومانسي تشاتيرتون بعد انتحاره في سنّ السابعة عشرة بتناوله الزرنيخ. وفي حين أن هناك أدلّة على أن تشاتيرتون لم ينتحر أبدا، فإن إضفاء الطابع الرومانسي على موته دفع العديد من الشباب الإنغليز الغاضبين في زمانه إلى الاقتداء به.
    وحدث نفس الشيء مع رواية غوته "أحزان فيرتر"، حيث يطلق البطل الشابّ النار على نفسه هربا من مثّلث حبّ. وقد ألهمت هذه الرواية الصادرة عام 1774 العديد من حالات الانتحار، لدرجة أنه أشير الى هذه الظاهرة باسم "تأثير فيرتر Werther Effect"، وهو مصطلح ظهر بعد حالات انتحار متكرّرة.
    ويرتبط "تأثير فيرتر" ارتباطا وثيقا بأسطورة الفنّان المعذّب، ما يشير إلى وجود علاقة بين الذكاء والإبداع والمرض العقليّ. وهناك اعتقاد شائع حول أشهر فنّان معذّب، أي فان غوخ، وهو أن جنونه كان مصدر موهبته.
    لكن كتابات فان غوخ ترسم صورة مختلفة. فهو كان فنّانا موهوبا، ليس لأنه كان مريضا عقليّا، وإنما على الرغم من ذلك. وقد ساعده الرسم، أثناء احتجازه في ملجأ بعد قطع أذنه، على التمسّك بعقله الذي كان يتآكل بشكل مطّرد. وكتب مرّة في إحدى رسائله: آه لو كان بإمكاني العمل بدون هذا المرض الملعون، ما الأشياء التي كان من الممكن أن أفعلها".
    ويعتقد غالبية المعالجين اليوم أن هناك بالفعل صلة بين الصحّة العقلية والإبداع. ومع ذلك، فهي ليست تلك التي تقدّمها أسطورة الفنّان المعذّب. وبينما لا يبدو أن الاكتئاب يساعدك على صنع الفنّ أو تقديره، إلا أنه يساعدك في تخفيف أعراض الاكتئاب. ولهذا السبب يُعتبر الفنّ حاجة أساسية للإنسان.

  • Credits
    vangoghgallery.com.nl

    الأحد، سبتمبر 17، 2023

    محطّات


  • بينما كانت أحزانه تتعمّق وأفكاره الانتحارية تزداد سوءاً، رسم فنسنت فان غوخ شجرة السرو هذه قبل أشهر من انتحاره. وفي ما بين عامي 1888 و 1890، أي خلال الفترة الأخيرة من حياته، ركّز على رسم هذه الأشجار التي يُنظر اليها كرمز للموت، ولطالما ارتبطت منذ القدم بالمقابر وبرهبة ما بعد الحياة ووفّرت موضوعا خصبا للفنّانين والشعراء.
    واعترافا بأشجار السرو التي رسمها فان جوخ واعتبارها رموزا مهمّة في الأعمال الفنّية، قام شاعر القرن التاسع عشر الفرنسي غابرييل أورييه بوضعها في سياق الدافع المجازيّ للرسم الرمزيّ. وصاغ أورييه ردّا وصفيّا بديعا على صور فان غوخ يقول فيه: هذه الأشجار ملتوية مثل عمالقة في معركة، كما أن ارتفاعها مأساوي وقوّتها لا تُقهر وتتحدّى الأعاصير والبرق والطبيعة الخبيثة الى الأبد."
    كان أورييه قريبا من فان غوخ، وقد ساعده على إدراك الرمزية المحتجبة والمروّعة لهذه الأشجار.
    والعديد من اللوحات التي تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر تقدّم شجر السرو كرمز للمرض والموت. الأشجار التي رسمها أرنولد بوكلين في لوحته المشهورة "جزيرة الموتى"، على سبيل المثال، لا تترك سوى القليل للخيال.
    وإلى أن رسم فان غوخ لوحته "ليلة مرصّعة بالنجوم"، كانت أشجار السرو تؤدّي أدوارا صغيرة. وعندما رسمها، وضعها في الخلفية وبعيدا عن الجوانب. وهذه هي الطريقة التي تُزرع بها. كانت هذه الأشجار تقف سدّاً منيعاً يحمي الحقول والحدائق ويحرس الأرياف من خطر رياح الشمال العاتية.
    رسم فان غوخ أشجار السرو في لوحته الآنفة الذكر في يونيو من عام 1889، وتظهر ثابتة وواقية وتلامس السماء. وكأعمدة رأسية، كانت ندّاً رائعا للسحب الرشيقة. في رسالة إلى شقيقه ثيو، قال الفنّان إن أشجار السرو جميلة من حيث الخطوط والنسَب، مثل المسلّة المصرية".
    لكن فان غوخ أصرّ على جعل أشجار السرو وسيلة للتفرّد الفنّي. لوحته أشجار السرو (يونيو 1889) تجسّد نهجه الفريد هذا، إذ رسم الشجرة كما لو انها عامود دخان متجمّد يلتفّ لأعلى بضربات ملتوية من فرشاة الرسم، وباستخدام نفس الأسلوب الذي رسم به تدفّق وميض السحب والحقول المحيطة. كان الأسلوب نتاج مشاعر فان غوخ العميقة تجاه الطبيعة، حيث الطاقات الكامنة في هذه الأشجار تتفاعل مع بعضها البعض وتتّحد في نشوة مع ديناميكية الرياح والتلال والقمر.
    كتب فان غوخ لأخيه ثيو عن الانطباع الذي يثيره فيه مرأى أشجار السرو التي كانت تحيط به، فقال إنها البقعة المظلمة في منظر طبيعيّ مشمس". والظلام الذي أدركه فان غوخ يعكس الروابط التقليدية لأشجار السرو بالموت والخلود، وهي مفاهيم مهمّة لفنّان يبحث عن اليقين وسط تقلّبات الحياة.
    وغالباً ما كانت هذه الأشجار تُزرع في المقابر وتُستخدم أخشابها في صنع التوابيت. وفي الكتابات الكلاسيكية لمؤلّفين مثل أوفيد وهوراس، يرد ذكر هذه الأشجار في سياق الثكل والفجيعة. واستمرّت هذه الارتباطات على مرّ القرون، وعادت إلى الظهور في مسرحيات شكسبير وروايات فيكتور هوغو، وهما المؤلّفان اللذان عرفهما فان غوخ وأعجب بكتاباتهما.
    وكان يقدّر أن هذه الأشجار عمرها قرن وأكثر، وبالتأكيد كان يعرف ارتباطها بالولادة الجديدة والخلود والموت. ومنذ البداية، ربطها بالنجوم والقمح، وهذان كانا من بين استعاراته المجرّبة والصحيحة عن الخلود ودورات الحياة الأبدية.

  • يروي شمس التبريزي القصّة التالية عن نفسه:
    اعتُبرتُ دائما شخصا غير كفؤ منذ طفولتي. ويبدو أن لا أحد كان يفهمني. قال لي والدي ذات مرّة: لستَ مجنونا بما يكفي لنضعك في مستشفى المجانين، ولست منعزلا بما يكفي لنضعك في صومعة. ولا أعرف ماذا أفعل معك."
    فحكيت له قصّة، قلت: ذات يوم وُضِعت بيضة بطّ تحت دجاجة. وبعد أن فقست البيضة، خرج فرخ البطّ يتجوّل مع الدجاجة الأمّ حتى وصلا إلى البركة. ذهب فرخ البطّ مباشرة إلى الماء وغمر نفسه فيه. وبقيت الدجاجة تنقر بفارغ الصبر على الأرض. والآن يا أبي العزيز، لقد مشيتُ إلى المحيط ووجدت فيه منزلي، ولا يمكنك إلقاء اللوم عليّ إذا اخترتَ أنت البقاء على الشاطئ".
    الدرس المستفاد من هذه القصّة: هل ترقى إلى مستوى إمكاناتك، أم تعيش حياة متواضعة بلا أحلام ولا طموحات؟ هل ترضى بمجرّد البقاء على الشاطئ، أم أنك جريء بما يكفي للمخاطرة بدخول الماء وخوض تحدّيات الحياة الكثيرة؟


  • على مدى قرون، استمرّ الفنّانون في تجاوز حدود الواقع ليقدّموا للمتلقّي أعمالاً فنّية مذهلة. وكانت تقنيات مثل الخداع البصري trompe l’oeil مفتاحاً لهذه الجهود، من الحيوانات العملاقة المرسومة على الأرصفة أو الجدران باستخدام المنظور، إلى الرسومات المثبّتة على ألواح وما إلى ذلك.
    وكلّما أتقن الفنّانون الاساليب القديمة وطوّروها، فإن فكرة الخداع البصري ستستمرّ في إثارة إعجاب الجماهير وتجعلنا جميعا نتساءل عمّا هو حقيقي وعن ماهيّة الصورة المرسومة على سطح مستوٍ.
    رسّام فنّ الشوارع الهولندي يان دي مان ومواطنه فنّان الغرافيتي دير فيد أخذا جدارا عاديّا في أوتريخت، وقاما بتحويله إلى ثلاثة أرفف من الكتب التي تبدو أكبر مما هي عليه في الواقع.
    من مسافة جيّدة، يبدو المنظر حقيقيّا. ومع ذلك، فما نراه ليس سوى مثال على الخداع البصري. وما نظنّ أنه كتب وأرفف ما هي الا جدار مسطّح ومحكم الإغلاق. أي اننا ننظر إلى ملصق، صورة، تحاكي جدارا به فجوات وكتب غير حقيقية.
    لو رأى أفلاطون هذا المنظر لانتقده لمحاولته خداعنا بدفعنا للاعتقاد بأن في الجدار كتبا حقيقية، ولربّما اتهم المصمّم بمحاولة إعطائنا معرفة زائفة تختلف عن الوجود الحقيقي للشيء.

  • بدأ المعلّم الحكيم الذي لم يبقَ على تقاعده سوى أشهر يومه بطرح سؤال على طلاب صفّه. قال: هذا اختبار لكلّ منكم. بينما انت نائم، حلمت بنمر ضخم يطاردك. وإذ تحاول الهرب، ترى نمرا آخر قادما إليك من الأمام. تلتفت إلى هذا الجانب وذاك، لكن أينما نظرت ترى حيوانا شرسا يتبعك. كيف يمكنك الهروب والنجاة بنفسك من هذا الخطر؟"
    وصمت جميع الطلبة ولم يجد أيّ منهم ردّاً مناسبا.
    وأخيراً قال المعلّم: هناك إجابة واحدة فقط: إستيقظ!"
    هذه القصّة تتعلّق كلّها بالاستيقاظ. عندما يستيقظ المرء، يدخل إلى عالم من الواقع جديد تماما، ومختلف عن عالم الأحلام. وما كان يمثّل مشكلة كبيرة في حالة الحلم، غالبا ما يصبح أمرا عاديّا في حالة اليقظة.
    ومعظم الناس، رغم أنهم لا يعرفون ذلك، نائمون. يولدون نياماً، ويعيشون نياماً، ويتزوّجون أثناء نومهم، وينجبون أطفالا أثناء نومهم، ويموتون أثناء نومهم دون أن يستيقظوا أبدا. إنهم لا يفهمون مطلقا روعة وجمال هذا الشيء المسمّى بالوجود الإنساني.
    المفارقة الغريبة أنه رغم أن كلّ شيء في هذا العالم في حال من الفوضى والتشوّش الذي يفضي الى الخوف من المستقبل، إلا أن كلّ شيء مقدّر بحساب، وما يبدو سيّئا للإنسان قد يكون له جانبه الحسن في سياق خطّة الله الشاملة للكون. لكن من المؤسف أن معظم الناس لا يتمكّنون من رؤية هذه الحقيقة لأنهم نائمون.

  • Credits
    vangoghmuseum.nl

    الأربعاء، سبتمبر 13، 2023

    محطّات


  • كثيرون هم الذين لديهم شغفُ بالأماكن القديمة والرثّة قليلاً، حيث الرائحة المتربة والعذبة لمرور الزمن ما تزال عالقة في الهواء، مع كلّ الأشياء الأخرى المهجورة والمنسوجة بالقصص والأسرار.
    المنازل والقصور والقلاع المهجورة تتمتّع بجمال حزين وشاعري. وحالتها المنعزلة والصامتة والمتحلّلة بشكل خفيف تجعلها أكثر جاذبية للعين، لأن كلّ نافذة مكسورة، وكلّ صدع أو شرخ في حائط، وكلّ واجهة متشقّقة ومغطّاة بالأعشاب وربّما حتى بالورود، وكلّ ورقة حائط ممزّقة، وكلّ كوب خزفيّ، وكلّ ساعة أو سرير متروك في المكان يحكي قصّة حياة كانت مزدهرة ذات يوم بين جدران أربعة.
    الغموض والرومانسية يكتنفان كلّ ما قد يبدو عاديّا في الأماكن المهجورة، دفتر ملاحظات، تذكرة قطار، حذاء قديم الخ. كلّ شيء يبدو ثمينا وغامضا.
    وربّما لهذا السبب قال أحد الكتّاب إن الناس يحبّون الأماكن والاشياء القديمة لأنها عادةً تتضمّن بداخلها قصصاً وحكايات.

  • "فنّ الاستطالة Elongation art" يُقصد به اللوحات التي تحتوي على شخصيات مرسومة بأشكال ممدودة أكثر بكثير ممّا هي عليه في الواقع. والاستطالة شكل من أشكال الفنّ التجريدي الذي غالباً ما يصوّر الأشكال الممتدّة للأشخاص أو الأشياء التي في الطبيعة.
    ومن بين الفنّانين الذين ابتكروا فنّ الاستطالة رسّام أوائل القرن العشرين أميديو موديلياني، الذي اشتهر باستخدامه للاستطالة في صوره للأشخاص. وهناك أيضا فنّان عصر النهضة الإيطالي بارميجيانينو الذي اشتهر بلوحته "المادونا ذات العنق الطويل".

  • انظر حولك. في العالم المعاصر، كلّ شخص يبدو في حالة لهاث وكأن احدى قدميه في الهواء. وقد يظنّ المرء أننا جميعا في حالة عبور. لا أحد له وجود ثابت. وليس هناك عادات مناسبة ولا قواعد تحكم أيّ شيء. ليس لدينا حتى منازل. لا يوجد شيء يربطنا بعضنا ببعض. ولا شيء يثير تعاطفنا.
    لا شيء يدوم. لا شيء يستمرّ. كلّ شيء يمضي، ويتدفّق بعيدا دون أن يترك أيّ أثر، سواءً في الخارج أو في دواخلنا. في بيوتنا نحن كالضيوف، وبالنسبة لعائلاتنا نحن مثل الغرباء، وفي مدننا نبدو مثل البدو المترحّلين.
    ذكرياتنا لا تعود إلى أبعد من أمس. ونحن، كما كنّا دائما، غرباء عن أنفسنا. نتحرّك عبر الزمن بطريقة فريدة. ومع تقدّمنا نفقد الماضي إلى الأبد. وهذه ليست سوى نتيجة طبيعية لثقافة تتكوّن بالكامل تقريبا ممّا نستورده أو نتوارثه. لا يوجد بيننا تطوّر داخلي، ولا تقدّم طبيعي؛ الأفكار الجديدة تكتسح الأفكار القديمة، لأنها ليست مستمدّة من القديم ولكنها تتساقط علينا من حيث لا نعرف.
    نمتصّ كلّ أفكارنا الجاهزة، وبالتالي فإن الأثر - الذي تتركه الحركة التقدّمية للأفكار في العقل فيمنحه القوّة - لا يشكّل فكرنا. نحن ننمو، لكننا لا ننضج؛ نتحرّك ولكن في طريق متعرّج، أي لا يؤدّي إلى الهدف المنشود. نحن مثل الأطفال الذين لم يتعلّموا أن يفكّروا بأنفسهم، وعندما يصبحون بالغين، لا يكون لديهم شيء خاص بهم. كلّ معارفهم موجودة على سطح وجودهم. وأرواحهم ليست بداخلهم.


  • هل تؤمن بالصُدَف أو تزامن الأحداث أو الظروف دون وجود ارتباط سببي واضح بينها؟
    المعالج النفسي النمساوي كارل يونغ أخبرته إحدى مريضاته أثناء جلستها معه ذات يوم أنها حلمت بحشرة يعسوب ذهبي في الليلة السابقة لزيارتها له. وفي منتصف تلك الجلسة مع يونغ، اصطدم يعسوب ذهبي حقيقيّ بنافذة المكتب الذي كانا يجلسان فيه. ولم يكن الأمر عاديّا ولا مألوفا بالنسبة للمكان أو الطقس.
    وفي ما بعد، تحدّث يونغ عن الحادثة بشكل معمّق في سياق ما أسماه "بالصدفة ذات المغزى" والتي كما قال لا يمكن تفسيرها بالعلم أو علم النفس. وتساءل: من أين تأتي الصدفة وما سبب حدوثها وهل هي ذات مغزى أم أنها عشوائية تماما؟
    وتوصّل الى أن التزامن في المكان والزمان قد يعني شيئا أكثر من مجرّد كونه صدفة، أي أن الترابط الغريب للأحداث الموضوعية له علاقة بالحالات الذاتية النفسية للشخص. وأضاف أن الصُدَف تحدث عندما نجد حالتنا الداخلية منعكسة في العالم الخارجي".
    وجادل يونغ بأن الحدث النفسي "أي حلم اليعسوب في القصّة" والحدث الماديّ المتزامن "أي اليعسوب الحقيقي على النافذة" هما شيئان "من نفس النوع"، ما يجعلهما يتزامنان أو يتطابقان. وهذه نظرية مثيرة للاهتمام، مع أن العديد من علماء النفس غير راضين عنها لافتقارها إلى الدليل العلمي.
    ويرى عالم آخر أن ميلنا إلى رؤية الأنماط في كلّ مكان يعني أننا في بعض الأحيان نكتشف حقائق رائعة عن العالم. أما أريانا هافينغتون فترى أن الصُدَف، مهما كانت غير قابلة للتصديق، تثير فضولنا حول طبيعة الكون وكل ما لا نعرفه أو لم نفهمه بعد.
    ولا يتعيّن علينا أن نعرف ما تعنيه الصُدف، ولا أن نقفز إلى بعض الاستنتاجات الكبيرة عندما نواجهها. لكنها بمثابة تذكيرات متفرّقة للحفاظ على إحساسنا بالدهشة والتوقّف بين الحين والآخر لنسمح لأنفسنا بأن نكون حاضرين في اللحظة ومنفتحين على لغز الحياة.

  • Credits
    suite101.com