بعد وفاة احد زملائنا المشتركين، جاء اتصال من ابنه يلحّ فيه بضرورة الإسراع في توظيب أمتعة والده وأشيائه الشخصية تمهيدا لشحنها إلى بلده.
وقد ندبتُ أنا لهذه المهمّة على الرغم من أنني لم أكن اعرف الرجل بما فيه الكفاية بحكم فارق السنّ ونوعية التخصّص.
بدأت بالمكتبة. كان الراحل معروفا بشغفه الكبير بالقراءة وحرصه على اقتناء الكتب بانتظام. وبدأتُ في جمع الكتب من فوق الأرفف ورصّها في كراتين.
لحظتها خامرني إحساس بالحزن والضيق. كنت وأنا ألمس الكتب التي تركها وراءه كمن يباشر عملية تفريغ عالم صغير يخصّ شخصا آخر.
كتب، عناوين وأسماء كثيرة تبدو بلا نهاية: جويس، اورويل، سارتر، ديورانت، لوركا، ديكارت، تولستوي، ووردزوورث، شتاينبك، بورخيس، مارلو، همنغواي، اليوت، طاغور، داروين، كونراد، برونتي، مونتسكيو، وولف، بروست، ارسطو، نيرودا، غوته، كولريدج..
وبينما أنا مستغرق في النظر إلى تلك الأسماء، تذكّرت كلّ الكتب التي سبق لي وأن قرأتها. وتساءلتُ عن جدوى ونفع كل تلك القراءة. روايات، قصائد شعر، مذكّرات، سيَر شخصية، تاريخ، فلسفة.. إلى آخره.
الغريب أنني كلما فكّرت في تلك الكتب، كلّما أصبحت اقلّ تذكّرا لمضامينها.
كلّ ما أتذكّره مجرّد ِنتَف وأجزاء صغيرة. جملة من قصّة أو رواية هنا، وصف ما لشخصية هناك، بيت شعر، سطر من جمال خاصّ ما يزال يسكن زاوية قصيّة من الذاكرة.
وخيّل إليّ أن هذا الذي بقي ليس بالشيء الكثير مقارنة مع كل تلك الملايين من الكلمات والعبارات والصور.
مال كثير ووقت أكثر استثمرناه، وما زلنا، في الكتب.
الآن ذهبت الكلمات وتلاشت المشاهد. لم يبقَ من متعة القراءة سوى انطباعات سريعة وصور عابرة.
وأظنّ أن هذا يشبه، إلى حدّ كبير، الحياة نفسها. دقائق، ساعات، وأيّام لا تعدّ ولا تحصى من الوجود الثمين. التفاصيل تتوارى ويصبح أكثرها نسيا منسيّا.
ولا يبقى في النهاية سوى الإحساس بها. هذا كلّ ما يبقى. مجردّ ظلّ لحياة كان لها وجود ثم تبدّدت، مثل الأزهار التي تذوي وتجفّ في الصيف ولا يبقى منها سوى بعض الشذى الذي لا يدوم طويلا. "مترجم"
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .
الاثنين، أبريل 06، 2009
حياة في الكُتُب
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)