وقد ظلّ دائما يسعى، من خلال فنّه، إلى إيجاد حلول لمشاكل معيّنة تطرحها أنواع مختلفة من الأشياء. وأوضحَ الرسّام مفهومَ هذه الطريقة الفلسفية في محاضرة ألقاها في أنتويرب في بلجيكا عام 1938، وصف خلالها حلما رآه ذات ليلة. وعندما استيقظ من الحلم نظر إلى قفص طيور كان في غرفته.
وفي حالته تلك شبه الواعية، لم يرَ الطائر الذي كان في القفص، بل رأى بدلاً منه بيضة. وكان ذلك "سوء فهم رائعا" حسب وصفه، لأنه سمح له بإدراك سرّ شعري جديد ومدهش، مردّه على وجه التحديد التقارب بين الكائنين، أي القفص والبيضة.
في عام 1953، رسم ماغريت إحدى أشهر لوحاته واسمها "غولكوندا". وفيها يصوّر مشهدا سورياليّا لمجموعة من الرجال المتماثلين الذين يرتدون معاطف سوداء وقبّعات عريضة وهم "يهطلون" من السماء، وخلفهم مبانٍ متطابقة ذات أسطح من القرميد البنّي. لكن يمكن أيضا ان يكون الرجال واقفين أو ساقطين أو صاعدين أو ثابتين في الهواء، أي أن طبيعة حركتهم غير مؤكّدة.
معنى اللوحة غير واضح. لكن قيل إنها تتحدّث عن الخط المشوّش أحيانا الذي يفصل بين المجتمع والفردانية. أما اسمها، أي غولكوندا، والذي اختاره صديق لماغريت، فهو اسم مدينة قديمة في حيدر أباد بالهند. كانت المدينة عاصمة لدولتين متعاقبتين واشتهرت قبل 400 عام بوفرة مناجم الألماس فيها، لدرجة أن اسم غولكوندا في القاموس صار مقترنا بالغنى والثروة الطائلة.
كما ازدهرت فيها الفنون وخاصّة الخط وصناعة الأقمشة والمجوهرات، وأيضا الرسم الذي يخبرنا الكثير عن ثقافة هذه المدينة وما جاورها. كان الرسم يتضمّن صورا لأشخاص ونباتات وأزهار، بالإضافة إلى لوحات لنساء يرقصن وهن يرتدين الملابس الهندية الكلاسيكية والمجوهرات النفيسة.
ومن خلال تسمية اللوحة باسم هذا المكان، يضيف ماغريت طبقة أخرى من الغموض ويدعو المتلقّي إلى التفكير في أهمية الثروة والأشياء المادّية في العالم الحديث. ويبدو أن اسم غولكوندا أصبح معروفا في أوربّا بفضل التجّار الأوربيين الذين تردّدوا عليها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وكان من عادة ماغريت أن يختار للوحاته أسماء شاعرية أو غامضة دون أن يكون هناك بالضرورة ارتباط أو علاقة بين الاسم ومضمون اللوحة.
قيل ان ماغريت استلهم فكرة "غولكوندا" من سلسلة من الصور الفوتوغرافية لجنود يهبطون بالمظلات أثناء الحرب العالمية الأولى. لكنه حوّل المشهد إلى صورة لرجال أعمال بسبب ما عُرف عن انبهاره بالبرجوازية وعبثية الأعراف المجتمعية.
فكرة الرجال ذوي القبّعات المستديرة تظهر بشكل متكرّر في أعمال الفنّان، ويستخدمها كرمز للتماثل بين افراد المجتمع. وتكرار الأشخاص في اللوحة يشير الى فقدان الهوية الفردية وسط بحر من المتماثلين.
ومثل العديد من لوحات ماغريت، تتعمّد اللوحة طمس الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال، ما يستدعي تفسيرات شتّى. البعض رأى في اللوحة تعليقا على ميكنة الإنسان "أي تحويله الى آلة"، بينما رأى فيها البعض الآخر نقدا للرأسمالية والنزعة الاستهلاكية.
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
ويَفترض المصطلح أن الإسبان خاضوا سلسلة من حروب المقاومة لطرد العرب من إسبانيا بدأت منذ دخلوها في القرن الثامن الميلادي. لكن بعض المؤرّخين يعترضون على هذا المصطلح، مذكّرين بأنه لم يظهر إلا في نهاية القرن التاسع عشر لاعتبارات سياسية وقومية إسبانية. إذ لم يكن هناك أصلا شيء يتعيّن استعادته، فالعرب كانوا في شبه الجزيرة الأيبيرية على مدى ثمانية قرون.
وكثير من الإسبان والعرب كانوا قد وصلوا إلى درجة عالية من التعايش والتمازج الاجتماعي والثقافي، بحيث لم يعد ينظر معظم الإسبان إلى المسلمين كمحتلّين. وكانت هناك دائما تحالفات تكتيكية مستمرّة بين الممالك المسيحية والإسلامية في إسبانيا.
وبعض الملوك المسحيين لم يكونوا مهتمّين بخوض "حرب مقدّسة" ضدّ المسلمين، لأن تلك الممالك كانت تتقاتل فيما بينها طوال الوقت، وبالتالي فإن فكرة الريكونكويستا أو الاسترداد غير مقنعة ويسهل دحضها.
اللوحة إلى فوق تصوّر مرحلة مهمّة وأخيرة مما يسمّى حروب الاسترداد، إذ يتخيّل الرسّام الإسباني مانويل غونثالث السلطان "أبو عبدالله الصغير" وهو يغادر مع عائلته قصره في غرناطة للمرّة الأخيرة بعد أن سلّم مفاتيح المدينة لملك وملكة قشتالة.
❉ ❉ ❉
وعادةً ما تتكوّن القلاع من مجموعة من المباني المحاطة بسور ضخم. وكانت الأسوار تُبنى فوق تكوينات صخرية غير منتظمة لمنع العدوّ من حفر أنفاق تحتها، ما يزيد من صعوبة وصول المهاجمين إليها. كان الارتفاع يعادل الأمان، لأنه يوفّر حماية آمنة ضدّ القبائل المارقة أو المحاربين المغامرين.
ومن الأمثلة المشهورة على القلاع المحصّنة جيّدا قلعة روكاسكالينيا الواقعة على منحدر صخري من البازلت يُطلّ على وادٍ، وعلى خلفية من جبال ماجيلا في أبروتسو بإيطاليا. الجرف البازلتي الذي بُنيت عليه القلعة يُعتبر أعجوبة جيولوجية. فقد تكوّنت أرضه بفعل تيّارات البحر التي غطّت المنطقة منذ أكثر من 20 مليون سنة.
وللطين المتصلّب المحيط بالقلعة أشكال مذهلة وألوان مختلفة، تتراوح ما بين الرمادي والأخضر والأزرق والأحمر، بسبب وفرة الحديد والنحاس في المنطقة. الاسم، أي روكاسكالينيا، يعني قلعة ذات درج خشبي، وربّما جسر متحرّك، وكانت تلك هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى القلعة من القرية الموجودة أسفلها. وقد أضيف المنحدر في عام 1705. وعندما رُمّمت القلعة بالكامل على مدار 10 سنوات بدءا من عام 1985، شيّدت البلدية درَجاً يؤدّي مباشرة إلى القرية.
وقد تأسّست القلعة عام 1160 م، على أيدي اللومبارديين المتحدّرين من شمال إيطاليا والذين احتلّوا أبروتسو بشكل دائم بدءا من عام 600 م. وكان للقلعة وظيفتان: السيطرة على المنطقة، والدفاع عنها ضدّ الوافدين إلى ساحل البحر الأدرياتيكي من غير المرغوب فيهم.
ولم يُعرف الكثير عن القلعة حتى عام 1599 م، عندما اشترى بارون يُدعى فينتشنزو كورفي إقطاعية مونتيسكالينا مقابل عشرة آلاف دوكاتي، وقام بترميمها لتلبية احتياجات حرب بالأسلحة الناريّة. وقد تعاقب على امتلاك القلعة كثيرون، كان آخرهم شخص يُدعى بومبيو فيليبو الذي باعها إلى نبيل يُدعى دون نيكولو ناني.
ولم يكن مُلّاك القلعة كلّهم طيّبين. فقد قرّر أحدهم، ويُدعى كورفو دي كورفيس، الملقّب بالبارون الغُراب، إجبار رعاياه على الركوع لغُراب وضَعه في قفص على طول الطريق الوحيد المؤدّي إلى القرية. كما سنّ البارون قانونا غريبا ينصّ على أن جميع العرائس المتزوّجات حديثا في إقطاعيّته ملزمات بالنوم معه في ليلة زفافهن.
وقد أثار قرار البارون دي كورفيس هذا غضب كاهن الرعيّة الذي احتجّ ضدّه بشدّة. فأمر البارون حرّاسه بمعاقبته، فطعنوه عند مدخل القرية. وأثناء محاولته الهرب، إتّكأ بيده الملطّخة بالدم على جدار صخريّ وترك بصمته هناك. وحاول الكثيرون إزالة بصمة اليد تلك من على الصخور، لكنّها - كما قيل - كانت تعود كما كانت، وظلّت مرئية حتى يناير 1940 عندما انهار البرج الذي كانت تقع فيه غرفة النوم.
أما البارون المتهتّك فتقول بعض الروايات أنه تعرّض للطعن بخنجر مسنون حتى الموت، إمّا على يد عروس أو بيد زوجها الغيور. ومثل بصمة الراهب الحمراء، يقال إن روح البارون المعذّبة ما تزال تخيّم على المكان.
ظهرت قلعة روكاسكالينيا مرّتين على الشاشة: الأولى كمكان لتصوير أحداث الدير في رواية "اسم الوردة" لأمبيرتو ايكو. والثانية في فيلم إيطالي اسمه "حكاية الحكايات" من بطولة سلمى حايك. في الفيلم الأخير، تظهر القلعة المعلّقة بين السماء والأرض كخلفية لمجموعة من الحكايات الخرافية التي كُتبت في أوربّا باللغة النابولية ما بين عامي 1500 و1600.