:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، أغسطس 24، 2024

خواطر في الأدب والفن

  • كان رينيه ماغريت رسّاما تأمّلياً وشاعراً فنّاناً يعبّر عن حالات فكرية داخلية وعن نفسه من خلال التلاعب بالصور. كما كان إنسانا منعزلاً وهادئاً ومتواضعاً، ولم يكن يكترث كثيراً بالمجد الذي عاش من أجله العديد من زملائه السورياليين.
    وقد ظلّ دائما يسعى، من خلال فنّه، إلى إيجاد حلول لمشاكل معيّنة تطرحها أنواع مختلفة من الأشياء. وأوضحَ الرسّام مفهومَ هذه الطريقة الفلسفية في محاضرة ألقاها في أنتويرب في بلجيكا عام 1938، وصف خلالها حلما رآه ذات ليلة. وعندما استيقظ من الحلم نظر إلى قفص طيور كان في غرفته.
    وفي حالته تلك شبه الواعية، لم يرَ الطائر الذي كان في القفص، بل رأى بدلاً منه بيضة. وكان ذلك "سوء فهم رائعا" حسب وصفه، لأنه سمح له بإدراك سرّ شعري جديد ومدهش، مردّه على وجه التحديد التقارب بين الكائنين، أي القفص والبيضة.
    في عام 1953، رسم ماغريت إحدى أشهر لوحاته واسمها "غولكوندا". وفيها يصوّر مشهدا سورياليّا لمجموعة من الرجال المتماثلين الذين يرتدون معاطف سوداء وقبّعات عريضة وهم "يهطلون" من السماء، وخلفهم مبانٍ متطابقة ذات أسطح من القرميد البنّي. لكن يمكن أيضا ان يكون الرجال واقفين أو ساقطين أو صاعدين أو ثابتين في الهواء، أي أن طبيعة حركتهم غير مؤكّدة.
    معنى اللوحة غير واضح. لكن قيل إنها تتحدّث عن الخط المشوّش أحيانا الذي يفصل بين المجتمع والفردانية. أما اسمها، أي غولكوندا، والذي اختاره صديق لماغريت، فهو اسم مدينة قديمة في حيدر أباد بالهند. كانت المدينة عاصمة لدولتين متعاقبتين واشتهرت قبل 400 عام بوفرة مناجم الألماس فيها، لدرجة أن اسم غولكوندا في القاموس صار مقترنا بالغنى والثروة الطائلة.
    كما ازدهرت فيها الفنون وخاصّة الخط وصناعة الأقمشة والمجوهرات، وأيضا الرسم الذي يخبرنا الكثير عن ثقافة هذه المدينة وما جاورها. كان الرسم يتضمّن صورا لأشخاص ونباتات وأزهار، بالإضافة إلى لوحات لنساء يرقصن وهن يرتدين الملابس الهندية الكلاسيكية والمجوهرات النفيسة.
    ومن خلال تسمية اللوحة باسم هذا المكان، يضيف ماغريت طبقة أخرى من الغموض ويدعو المتلقّي إلى التفكير في أهمية الثروة والأشياء المادّية في العالم الحديث. ويبدو أن اسم غولكوندا أصبح معروفا في أوربّا بفضل التجّار الأوربيين الذين تردّدوا عليها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
    وكان من عادة ماغريت أن يختار للوحاته أسماء شاعرية أو غامضة دون أن يكون هناك بالضرورة ارتباط أو علاقة بين الاسم ومضمون اللوحة.
    قيل ان ماغريت استلهم فكرة "غولكوندا" من سلسلة من الصور الفوتوغرافية لجنود يهبطون بالمظلات أثناء الحرب العالمية الأولى. لكنه حوّل المشهد إلى صورة لرجال أعمال بسبب ما عُرف عن انبهاره بالبرجوازية وعبثية الأعراف المجتمعية.
    فكرة الرجال ذوي القبّعات المستديرة تظهر بشكل متكرّر في أعمال الفنّان، ويستخدمها كرمز للتماثل بين افراد المجتمع. وتكرار الأشخاص في اللوحة يشير الى فقدان الهوية الفردية وسط بحر من المتماثلين.
    ومثل العديد من لوحات ماغريت، تتعمّد اللوحة طمس الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال، ما يستدعي تفسيرات شتّى. البعض رأى في اللوحة تعليقا على ميكنة الإنسان "أي تحويله الى آلة"، بينما رأى فيها البعض الآخر نقدا للرأسمالية والنزعة الاستهلاكية.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • الريكونكويستا (Reconquista) مصطلح اسباني يعني استعادة أو استرداد أراضي اسبانيا من العرب. أما في أذهان العرب فتقترن الكلمة بسقوط الأندلس وإنهاء الوجود العربي والإسلامي في إسبانيا وبدء حقبة محاكم التفتيش.
    ويَفترض المصطلح أن الإسبان خاضوا سلسلة من حروب المقاومة لطرد العرب من إسبانيا بدأت منذ دخلوها في القرن الثامن الميلادي. لكن بعض المؤرّخين يعترضون على هذا المصطلح، مذكّرين بأنه لم يظهر إلا في نهاية القرن التاسع عشر لاعتبارات سياسية وقومية إسبانية. إذ لم يكن هناك أصلا شيء يتعيّن استعادته، فالعرب كانوا في شبه الجزيرة الأيبيرية على مدى ثمانية قرون.
    وكثير من الإسبان والعرب كانوا قد وصلوا إلى درجة عالية من التعايش والتمازج الاجتماعي والثقافي، بحيث لم يعد ينظر معظم الإسبان إلى المسلمين كمحتلّين. وكانت هناك دائما تحالفات تكتيكية مستمرّة بين الممالك المسيحية والإسلامية في إسبانيا.
    وبعض الملوك المسحيين لم يكونوا مهتمّين بخوض "حرب مقدّسة" ضدّ المسلمين، لأن تلك الممالك كانت تتقاتل فيما بينها طوال الوقت، وبالتالي فإن فكرة الريكونكويستا أو الاسترداد غير مقنعة ويسهل دحضها.
    اللوحة إلى فوق تصوّر مرحلة مهمّة وأخيرة مما يسمّى حروب الاسترداد، إذ يتخيّل الرسّام الإسباني مانويل غونثالث السلطان "أبو عبدالله الصغير" وهو يغادر مع عائلته قصره في غرناطة للمرّة الأخيرة بعد أن سلّم مفاتيح المدينة لملك وملكة قشتالة.
  • ❉ ❉ ❉

  • كان بناء القلاع والحصون على قمم الجبال والمنحدرات الشاهقة مسألة تتعلّق بالبقاء أوّلا. ويقال إن النورمانديين أو الرومان كانوا أوّل من بنوا القلاع العالية. في البداية كانت تُشيّد من الخشب، ثم من الحجر لأنه أقوى ويدوم لفترة أطول.
    وعادةً ما تتكوّن القلاع من مجموعة من المباني المحاطة بسور ضخم. وكانت الأسوار تُبنى فوق تكوينات صخرية غير منتظمة لمنع العدوّ من حفر أنفاق تحتها، ما يزيد من صعوبة وصول المهاجمين إليها. كان الارتفاع يعادل الأمان، لأنه يوفّر حماية آمنة ضدّ القبائل المارقة أو المحاربين المغامرين.
    ومن الأمثلة المشهورة على القلاع المحصّنة جيّدا قلعة روكاسكالينيا الواقعة على منحدر صخري من البازلت يُطلّ على وادٍ، وعلى خلفية من جبال ماجيلا في أبروتسو بإيطاليا. الجرف البازلتي الذي بُنيت عليه القلعة يُعتبر أعجوبة جيولوجية. فقد تكوّنت أرضه بفعل تيّارات البحر التي غطّت المنطقة منذ أكثر من 20 مليون سنة.
    وللطين المتصلّب المحيط بالقلعة أشكال مذهلة وألوان مختلفة، تتراوح ما بين الرمادي والأخضر والأزرق والأحمر، بسبب وفرة الحديد والنحاس في المنطقة. الاسم، أي روكاسكالينيا، يعني قلعة ذات درج خشبي، وربّما جسر متحرّك، وكانت تلك هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى القلعة من القرية الموجودة أسفلها. وقد أضيف المنحدر في عام 1705. وعندما رُمّمت القلعة بالكامل على مدار 10 سنوات بدءا من عام 1985، شيّدت البلدية درَجاً يؤدّي مباشرة إلى القرية.
    وقد تأسّست القلعة عام 1160 م، على أيدي اللومبارديين المتحدّرين من شمال إيطاليا والذين احتلّوا أبروتسو بشكل دائم بدءا من عام 600 م. وكان للقلعة وظيفتان: السيطرة على المنطقة، والدفاع عنها ضدّ الوافدين إلى ساحل البحر الأدرياتيكي من غير المرغوب فيهم.
    ولم يُعرف الكثير عن القلعة حتى عام 1599 م، عندما اشترى بارون يُدعى فينتشنزو كورفي إقطاعية مونتيسكالينا مقابل عشرة آلاف دوكاتي، وقام بترميمها لتلبية احتياجات حرب بالأسلحة الناريّة. وقد تعاقب على امتلاك القلعة كثيرون، كان آخرهم شخص يُدعى بومبيو فيليبو الذي باعها إلى نبيل يُدعى دون نيكولو ناني.
    ولم يكن مُلّاك القلعة كلّهم طيّبين. فقد قرّر أحدهم، ويُدعى كورفو دي كورفيس، الملقّب بالبارون الغُراب، إجبار رعاياه على الركوع لغُراب وضَعه في قفص على طول الطريق الوحيد المؤدّي إلى القرية. كما سنّ البارون قانونا غريبا ينصّ على أن جميع العرائس المتزوّجات حديثا في إقطاعيّته ملزمات بالنوم معه في ليلة زفافهن.
    وقد أثار قرار البارون دي كورفيس هذا غضب كاهن الرعيّة الذي احتجّ ضدّه بشدّة. فأمر البارون حرّاسه بمعاقبته، فطعنوه عند مدخل القرية. وأثناء محاولته الهرب، إتّكأ بيده الملطّخة بالدم على جدار صخريّ وترك بصمته هناك. وحاول الكثيرون إزالة بصمة اليد تلك من على الصخور، لكنّها - كما قيل - كانت تعود كما كانت، وظلّت مرئية حتى يناير 1940 عندما انهار البرج الذي كانت تقع فيه غرفة النوم.
    أما البارون المتهتّك فتقول بعض الروايات أنه تعرّض للطعن بخنجر مسنون حتى الموت، إمّا على يد عروس أو بيد زوجها الغيور. ومثل بصمة الراهب الحمراء، يقال إن روح البارون المعذّبة ما تزال تخيّم على المكان.
    ظهرت قلعة روكاسكالينيا مرّتين على الشاشة: الأولى كمكان لتصوير أحداث الدير في رواية "اسم الوردة" لأمبيرتو ايكو. والثانية في فيلم إيطالي اسمه "حكاية الحكايات" من بطولة سلمى حايك. في الفيلم الأخير، تظهر القلعة المعلّقة بين السماء والأرض كخلفية لمجموعة من الحكايات الخرافية التي كُتبت في أوربّا باللغة النابولية ما بين عامي 1500 و1600.

  • Credits
    renemagritte.org
    castelloroccascalegna.com

    الخميس، أغسطس 22، 2024

    جيلو عن بيكاسو وماتيس


    على مدى عقود، ربطت هنري ماتيس وبابلو بيكاسو علاقة صداقة مميّزة بدت في بعض الأحيان وكأنها محكومة بالغِيرة المتبادلة. كانا على طرفي نقيض في كلّ شيء، من الأساليب الفنّية إلى الطبائع والتفضيلات الشخصية وخلافها، لكنهما كانا يقدّران عالياً إبداع كلّ منهما. وذات مرّة شبّه ماتيس علاقتهما بمباراة في الملاكمة، بينما اعترف بيكاسو بأنه لو لم يكن بيكاسو، لتمنّى أن يرسم مثل ماتيس.
    في سنواته الأخيرة، كان ماتيس طريح الفراش. وقد شكا غير مرّة أن بيكاسو لم يكن يزوره كثيرا. وعندما توفّي في نوفمبر 1954، اتصلت ابنته ببيكاسو على الفور، لكنه لم يردّ على المكالمة أو يعيد الاتصال، بل ولم يحضر الجنازة أبدا. وقد رأى كثيرون في تصرّف بيكاسو قلّة ذوق منه وعدم احترام. وبالنسبة للبعض، بدا الأمر وكأن بيكاسو لم يستطع قبول حقيقة وفاة صديقه ومنافسه القديم.
    الرسّامة الفرنسية فرانسواز جيلو كانت إحدى زوجات بيكاسو. وقد عاشا معا سبع سنوات بدءا من عام 1946. وكان صديقهما المشترك هنري ماتيس الذي كان يعيش قريبا منهما وكانا يزورانه بانتظام. في كتابها بعنوان "ماتيس وبيكاسو: صداقة في الفن"، تتحدّث جيلو عن بعض جوانب تلك العلاقة.
    هنا بضع فقرات مترجمة من الكتاب..

    ❉ ❉ ❉

    كان هنري ماتيس ملك الألوان. وكان لقائي الأوّل به في فبراير 1946 بصحبة بيكاسو، عندما كان يعيش في منزله في فونس بفرنسا. توقّعت أن يكون منزله مشرقا، ولكن تمّ إغلاق المصاريع حتى تسمح بدخول أقلّ كميّة من الضوء. وكانت تلك مفاجأة كاملة لي. في الغرفة الأولى عندما دخلنا، كان هناك قفص كبير للطيور. قلت في نفسي: الطيور الصغيرة المسكينة لا يُسمح لها برؤية الشمس!".
    دائما ما يكون عكس ما نتوقّعه مثيرا للاهتمام.
    لكنّي بدأت أفهم، فقد كان ماتيس خائفا في وقت ما من أن يصبح أعمى. ولذلك كان يحمي بصره بالظلام. ومن الغريب أنك ترى الأشياء بشكل أفضل في الظلام الدامس لأنك تراها واحدا تلو الآخر عند ظهورها.
    قادتنا سكرتيرة ماتيس وعارضة الأزياء ليديا إلى غرفته. كان جالسا في سريره مرتدياً سترة خضراء. وكانت السترة متطابقة مع أشياء معيّنة على الحائط خلفه، مثل قطعة خشب صينية أرجوانية اللون. وأحد الأشياء الخاصّة بماتيس هو أنه عندما يكون هناك لون أخضر فإن اللون الأرجواني يرافقه دائما. كان من اللافت أن نرى أنه يعيش بالطريقة التي يرسم بها، فعندما تدخل بيته تصبح في قلب عالمه.
    قدّمني بيكاسو اليه كرسّامة شابّة. لكنه أخفى عنه حقيقة ارتباطي به. قال لي ماتيس الذي لم يكن غبيّا على الإطلاق: أستطيع أن أرسم لك صورة. ستكون بشرتك زرقاء شاحبة وشعرك أخضر داكن". وعندما غادرنا قال بيكاسو: ما هذه الجرأة التي عنده كي يعرض عليك أن يرسمك؟ وماذا عنّي؟" في ذلك الوقت، لم يكن بابلو قد رسم لي أيّ لوحة بعد. قلت: كيف تعتقد أن ماتيس يمكن أن يعرف أنك مهتم بي، بما أنك لم ترسم لي صورة من قبل؟".
    في وقت لاحق من ذلك العام، رسم ماتيس صورة لي. أخذ قطعة صغيرة من الورق الأخضر، ثم قطعة أرجوانية مائلة للحمرة، وقطعة أرابيسك كبيرة ووضعها في المنتصف. ثم أخذ بعض الورق الأسود وصنع أرابيسك آخر. ثم صنع واحدا أصغر. وقال: وهذه فرانسواز، وهي على ركبتيها تصلّي".
    تساءل بابلو: الصلاة من أجل ماذا؟" كان ينفر من الدين لأنه كان ملحداً ومؤيّداً صريحاً للحزب الشيوعي. وبابتسامته الساحرة، عرف ماتيس بالضبط كيف يستفزّ بيكاسو. لقد كان مثل مصارع الثيران الذي يستفزّ ثوراً! عرف ماتيس أن بيكاسو قال من وراء ظهره بعض الأشياء ضدّه. كانت هناك صداقة بينهما، لكن كانت هناك أيضا مناوشات صغيرة. وبدا وكأنهما في كثير من الأحيان يختبران صبر كلّ منهما على الآخر.

    ❉ ❉ ❉

    ❉ ❉ ❉

    ذات مرّة قال ماتيس إنه سعى إلى خلق فنّ مريح مثل الكرسي المريح. وبسبب هذه المقولة سخر منه بيكاسو لسنوات. وكان ماتيس يستسلم، مثل كثيرين غيره، لتعليقات بيكاسو الساخرة وحافظ دوماً على موقف أبويّ تجاه الفنّان الأصغر منه سنّاً. وفي لقاءاتهما، كان الطرف النشط هو بابلو والطرف السلبي هو ماتيس. وكان بابلو يسعى دائماً إلى استفزاز ماتيس، ولكن في النهاية كان ماتيس هو الذي ينتصر.
    لم يكن التنافس بينهما في الرسم، ولكن من الناحية الإنسانية. كان تنافسا بين الشمال والجنوب. كان بيكاسو من الأندلس، وماتيس من أقصى شمال فرنسا. ذات يوم قال ماتيس تعليقا مضحكا: نحن مثل القطبين الشمالي والجنوبي". أجاب بيكاسو: نعم أنت على حق، لأن القطب الجنوبي أكثر برودة". وبالرغم من أن القطب الشمالي والقطب الجنوبي متضادّان، فإن المناظر الجليدية المحيطة بهما لا يمكن التمييز بينها.
    كان أوّل لقاء للإثنين، بيكاسو وماتيس، عام 1906 في منزل غيرترود وليو ستين المفتوح أيّام السبت في باريس. في ذلك الوقت، لم يكن بيكاسو يتحدّث الفرنسية جيّدا. ولم يكن باستطاعته شرح لوحاته. وفي نفس الوقت، كان ماتيس في ذروة قوّته. وقد أخبرني بيكاسو أنه شعر بالإرهاق قليلاً من السهولة التي شرح بها ماتيس خياراته الفنيّة.
    وفيما بعد قال بيكاسو لكاتب سيرته الذاتية: يتعيّن عليك أن تكون قادراً على تصوّر كلّ ما كنت أفعله أنا وماتيس في ذلك الوقت جنباً إلى جنب. لم يسبق لأحد أن نظر إلى لوحة ماتيس بعناية أكثر منّي، ولم يسبق لأحد أن نظر إلى لوحاتي بعناية أكثر منه".
    كان الاثنان مثل جبلين متقابلين. وكان كلّ منهما يعلم أن الآخر يفعل الشيء الوحيد الذي لا يستطيع فعله بنفسه.
    بالنسبة لماتيس، كان اللون أساسيّا، فقد استخدمه لبناء الفراغ نفسه. أما بالنسبة لبيكاسو، فكان اللون مجرّد زخرفة، والشكل يأتي أوّلاً. لوحاته هي في الأساس أسود ورمادي وأبيض. لكن بالنسبة لماتيس، اللون هو الذي يخلق المساحة. وكلا النهجين جيّدان، لكنهما ليسا نفس الشيء. ومن خلال المبالغة في الأشكال، يخلق بيكاسو منظورا، بينما كان لمنهج ماتيس علاقة أكبر بالفيزياء ومبدأ المنشور (prism).
    عندما عرفت ماتيس، كان يعمل على القصاصات (cutouts). وبعد أن أجرى عملية جراحية لسرطان الأمعاء في عام 1941، أصبح مريضا جدّا وكان من المتوقّع أن يموت. لكنه عاش 13 سنة أخرى. وقد أطلق على تلك الفترة اسم فترة السماح.
    ووصف عمله على القصاصات، بأنه نحت بالألوان. كانت الأشكال حادّة إلى حدّ ما، ما جعل الألوان أقوى. وكان يعمل في السرير بمقصّ كبير. كانت ليديا وفتيات صغيرات أخريات يأخذن القطع التي يقطعها. وكان يشير بعصا الخيزران ويوجّههن إلى مكان وضعها الذي كان يتغيّر عدّة مرّات أحيانا.
    إن الناس كثيرا ما يعتقدون أن مقابلة فنّان ستغيّر كلّ شيء. والحقيقة أن ما يهم حقّا هو الحوار الذي تقيمه مع عمله. وقد ظلّت علاقتي بلوحات ماتيس على حالها، بل أصبحت في الحقيقة أكثر قوّة.
    وما جذبني إليه في الأساس هو رغبته في إيجاد أقوى وأبسط طريقة للتعبير من خلال زيادة اللون إلى أقصى حد. كان بيكاسو لا ينظر إلى شيء عندما كان يرسم، في حين كان ماتيس يحبّ دائما أن يكون هناك نموذج بالقرب منه وأن يلمسه بيده.
    وأتذكّر أن ماتيس قال لي عن بيكاسو: يتعيّن علينا أن نتحدّث إلى بعضنا البعض بقدر ما نستطيع. فعندما يموت أحدنا، ستكون هناك بعض الأمور التي لن يتمكّن الآخر من التحدّث عنها مع أيّ شخص آخر".
    وبعد أن تركت بابلو عام 1953، لم أرغب في رؤية ماتيس مرّة أخرى. كنت أعرف ما سيقوله لي. كان سيقول: حتى لو كان بيكاسو شخصا صعبا أو يستحيل العيش معه، يجب عليك أن تتحمّليه وتبقَي معه لأن تأثيرك عليه كبير". لكن التأثير ليس القوّة، بل ما يقف وراءها.

    Credits
    francoisegilot.com

    الثلاثاء، أغسطس 20، 2024

    رسائل من الجبال/2


    في هذا الجزء، يواصل تشارلز لانمان سرد المزيد من القصص عن مغامراته واكتشافاته ولقاءاته الكثيرة مع السكّان الأصليين وانطباعاته عن بعض المعالم الجغرافية والأشخاص الذين رآهم أثناء رحلاته في مناطق جبال ألليغيني.

    ❉ ❉ ❉

  • إحدى الشخصيات الأخرى المثيرة للاهتمام في مناطق الجبال كان عجوزا هنديّا من الشيروكي إسمه ساتاواها، أو عضّة الخنزير. وهو رجل يزيد عمره عن المائة عام ويعيش في كوخ خشبي صغير، بابه منخفض جدّا لدرجة أنه يتعيّن عليك أن تزحف إليه زحفا على يديك وركبتيك.
    وفي الوقت الذي اكتمل فيه نقل الجزء الأكبر من شعب الرجل إلى أقصى الغرب، استُدعي مجموعة من الضبّاط لاصطحاب رفاقه. وعندما رأى العجوز الجنود وهم يقتربون، تناول بندقيّته المحشوّة وحذّرهم من محاولة وضع أيديهم عليه، لأنه سيقتلهم بالتأكيد. كان حازما وكبير السنّ للغاية، حتى أن رئيس الجند قرّر أخيرا تركه وشأنه.
    كان العجوز يعيش حياة ناسك ويعتمد بشكل أساسي على صدقة شخص أو اثنين من جيرانه الهنود، رغم أنه يقال إنه حتى الآن يستطيع قتل غزال أو ديك رومي. ويقول إنه يستطيع أن يتذكّر الوقت الذي عاشت فيه أمّة الشيروكي على شواطئ المحيط العظيم، أي الأطلسي، ولم يكن بعد قد رأى وجه رجل أبيض واحد قط.
  • كنت في زاوية أمامية من الشرفة، وأغلقت الكتاب عندما كانت الشمس تغرب خلف الجبل. كانت السماء مكتسية بلون فضّي ناعم وخالية من السحب، وكان المشهد بأكمله يغمره جوّ ساحر. ولم يكن هناك نسيم يتحرّك في الوادي، وكانت ظلال الأشجار الباردة ضعف طول الأشجار نفسها. وكان أوّل ضجيج كسَر صمت المشهد صوت بطيء وطقطقة بعيدة على طول الطريق. وعندما نظرت في ذلك الاتجاه اكتشفت عربة كبيرة مغطّاة تجرّها سبعة خيول ويقودها رجل. لا أعرف من أين جاء أو إلى أين كان ذاهبا، لكن مرّت عشرون دقيقة قبل أن يختفي عن ناظري.
    وفي إحدى المرّات، سمعت خشخشة قويّة من إحدى أشجار الحُور الضخمة، ورأيت نزاعا رهيبا بين عدد كبير من طيور الزرزور المقيمة والغريبة. وبعد أن توقّفت عن الضجيج، سمعت زقزقة طيور السنونو وهي تنقضّ على الحشرات التي تطفو في أشعّة الشمس بعيدا فوق الوادي الأخضر. ثم سمعت ضحكات وأصواتا متداخلة، وإذ بمجموعة من عشرة زنوج عائدين من الحقول، حيث كانوا يحصدون التبن أو يزرعون الذرة.
    ثم لفت انتباهي صهيل وضربات خيل، ورأيت جوادا رائعا يحاول الابتعاد عن سائس زنجي كان يقوده على طول الطريق. ثم جاء رنين الجرس الناعم وخوار الماشية مرتجفا في الهواء. وسرعان ما ظهر قطيع من الأبقار عبر التلال البعيدة. ثم غابت الشمس خلف التلال وطار صقر ليليّ وحيد عالياً في الهواء وكأنه ذاهب للترحيب بنجمة المساء التي ظهرت خلف برج المراقبة الأزرق. وأخيراً، جاءت عشرات النساء من حظيرة الأبقار وهنّ يحملن دلاء حليب ممتلئة فوق رؤوسهن. وبعد ذلك، ولساعة طويلة، سيطرت أرواح الهدوء والشفق على الوادي بالكامل، ولم يطرق أذنيّ أيُّ صوت عدا همهمات أجنحة الحشرات.
  • في المنطقة المجاورة مباشرة لهذا المكان، يمكن رؤية تلال هندية غامضة تزيّن كلّ وديان هذه الأرض تقريبا. وبحسب بعض القبائل في الجنوب، فقد صنع هذه التلال عِرق منقرض من البشر، وكان يستخدمها الشيروكيون سابقا كمكان مناسب فحسب.
    كما ساد اعتقاد بأن كلّ هندي في العصور القديمة كان يُحضِر إلى مكان معيّن لحاء شجر صغير ممتلئ بالتربة التي يزرعها كتقدير للروح العظيمة التي أرسلت لهم في المقابل حصادا وفيرا. ويزعم البعض أن هذه التلال كانت مدافن للمحاربين والصيّادين العظماء. ويزعم آخرون أنها كانت تُبنى كغنائم أو حصون، أو كأماكن تُقام عليها الطقوس الدينية الأكثر قداسة.
    ويشيع اعتقاد بين قبيلة شيروكي أن هذه التلال كانت تحتوي في الماضي على نوع من النار المقدّسة. ولم يُعرف من قبل أن هنديّا شوّه أحد هذه التلال، كما أن رؤية رجل أبيض وهو يشوّهها أمر يجعلهم غير سعداء. الشيء الوحيد الذي يمكن تأكيده هو أن بناة هذه التلال غير معروفين، وكلّ ما يستطيع حتى الحكماء من الجيل الحالي فعله هو النظر إليها في صمت ورهبة.
  • أكتب الآن من كوخ خشبي يقع على نهر كاتاووبا وفي أحد أجمل الوديان. لم أتعرّض لحادثة واحدة مثيرة للاهتمام أثناء رحلتي من آشفيل إلى بيرنزفيل، وهي مسافة تزيد عن 40 ميلاً، ولم أحظَ إلا بمنظر جبليّ واحد جعلني أستمهل حصاني.
    لكن المنظر الذي أشرت إليه كان يشمل كامل محيط الجبل الأجرد؛ أحد أعلى الجبال في هذا الجزء من البلاد. يوجد على القمّة البعيدة لهذا الجبل نبع ماء كبير جدّا وبارد كثيرا. وفي جواره مباشرةً كهف صغير وأطلال كوخ خشبيّ ارتبط بإنسان فريد يُدعى ديفيد، كان قد اتخذ من هذا العالم العلوي موطنا له ذات يوم.
    ظهر هذا الرجل لأوّل مرّة في هذه المقاطعة منذ حوالي 50 عاما. ولا يُعرف موطنه الأصلي ولا شيء عن حياته المبكّرة. وبعد فترة وجيزة من وصوله الى الجبال، وقع في حبّ ابنة أحد المزارعين، لكن الفتاة رفضت الاقتران به.
    وقد شعر بخيبة أمل جرّاء رفض الفتاة له ثم اختفى فجأة. وبعد فترة عُثر عليه يقيم في الجبل الأجرد في الكهف المذكور آنفا. هنا عاش حياة عزلة، ويقال إنه ألّف كتابا عن الحب. كان ديفيد قد ألّف كتاباً فريداً عن الدِين، وآخر ادّعى أنه أطروحة عن الحكم البشري. وفي العمل الأخير نصّب نفسه مالكا أوحد للجبل، وأعلن للعالم أن كلّ من سيصبح جاراً له لا بدّ أن يخضع للقوانين التي سنّها بنفسه.
    كانت أفعال ديفيد البارزة في حياته قليلة ومتباعدة، ولكنها سيّئة السمعة عموما. فبعد بضع سنوات من إعلانه استيلاءه على الجبل، بعثت إليه سلطات المقاطعة رسولاً وطالبته بضريبة رأس مال قدرها 75 سنتا. فردّ بأنه سيهتمّ بالأمر في يوم المحكمة التالي، وقبلوا كلمته. وفي اليوم المذكور حضر الرجل في الموعد المحدّد، ولكن بدلاً من دفع المال، رشق نوافذ المحكمة بالحجارة وطرد القضاة والمحامين والعملاء جميعا من القرية، ثم عاد إلى مسكنه الجبلي حاملاً بندقيته.

    ❉ ❉ ❉


  • ❉ ❉ ❉

    وبعد عدّة أشهر من هذا الحادث، كان يستمتع بتشويه الماشية التي كان يصادفها فيما أسماه "مزرعته"، ويقال إنه كان معتادا على اختبار قوّة بندقيته بإطلاق النار على مَزارع جيرانه. ومع ذلك، كان الحدث الأبرز في حياة ديفيد هو إطلاقه النار على رجل يُدعى هيغينز وقتله بدم بارد في وضح النهار. وكان العذر الوحيد الذي قدّمه لارتكاب هذه الجريمة هو أنه عثر على المغدور يصطاد الغزلان في قطعة الأرض التي كان يدّعي أنها ملكه.
    وقد قُدِّم ديفيد للمحاكمة وبُرّئ على أساس أنه مجنون. وعندما تُلي قرار براءته، غضب بشدّة. ولما أُطلق سراحه انطلق إلى كوخه وهو يتمتم باللعنات. كان ذلك الرجل من أشدّ الناس تمرّدا على القانون. ومع مرور الوقت، جرت عدّة محاولات لقتله.
    وبعد أن عاش في الجبل 20 عاما، قرّر أخيرا التخلّي عن حياته المنعزلة، واستقرّ في إحدى المستوطنات على الجانب الذي يقع على الطرف الآخر من الجبل الأجرد بولاية تينيسي. هناك، ولمدّة عامين تقريبا، عمل بانتظام في ورشة حدادة. ولكن بعد أن نشب خلاف بينه وبين أحد زملائه في العمل، أقسم أنه سيطلق عليه النار في غضون خمس ساعات، وبدأ في البحث عن بندقيته.
    وكان الشخص المختلف معه يُدعى تومبكينز، وبعد أن تشاور الأخير مع أصدقائه حول المسار الذي ينبغي له أن يسلكه نظرا للتهديد الذي وجّهه إليه خصمه، نُصح بأن يأخذ القانون بيديه. فنفّذ هذه النصيحة، وعندما رأى ديفيد وهو يسير على طول الطريق وبندقيته في يده، أطلق تومبكينز النار على قلبه فقتله. ولم يُعرف مكان دفنه أبدا. وكان الرأي العام يقف إلى جانب قاتله الذي لم يُستدعَ قطَ للمحاسبة عن جريمة القتل "الدفاعية" التي ارتكبها.
  • أود أن أتحدّث الآن عن زعيم هنديّ مشهور ويستحقّ أن نعتبره من بين النجوم اللامعة في أمّة الشيروكي. هذا الزعيم هو يونا غوسكا، أو الدبّ الغارق، المتوفّي عام 1838 عن 75 عاما. عندما طُلب من قبيلة شيروكي الانتقال إلى غرب المسيسيبي عام 1809، التمس الزعيم من الرئيس جيفرسون السماح له بالبقاء مع أتباعه بين جبال موطنهم الأصلي. واستجاب الرئيس لطلبه.
    لكنه قبل ذلك كان يرفض بإصرار كلّ دعوة من الحكومة للهجرة. وكان مستعدّا لبذل دمه ودماء جميع محاربيه في الدفاع عن حقوقهم. وعندما بلغ من العمر حوالي 60 عاما، أصيب بمرض حادّ انتهى بغيبوبة. لكنه تعافى وعندما استعاد وعيه، أخبر مرافقيه أنه ذهب إلى أرض الأرواح، وتواصل مع أصدقائه الذين ماتوا منذ زمن طويل وأنهم جميعا كانوا بأسعد حال. كما ذكر أن الروح العظيمة تحدّث معه وأخبره أن وقته لم يحن بعد لمغادرة هذا العالم وأنه يجب أن يعود إلى شعبه.
    كانت شهرة يونا غوسكا كخطيب مفوّه واسعة النطاق مثل شهرة أمّته بأكملها. وعندما دعاه جنود الحكومة ذات مرّة للانتقال غربا، حتى بعد أن أصبح هو وشعبه مواطنين، كتب رسالة الى كبير موظفي الحكومة يقول فيها: ما يزال الرجل الأبيض يسير نحو غروب الشمس، وأنا أعلم أنه لن يرضى أبداً حتى يصل إلى شاطئ المياه العظيمة.
    وأضاف: إن من الحماقة أن تخبرني أن البيض لن يزعجوا الشيروكي الفقراء في الأرض الغربية. إن طبيعة الرجل الأبيض ومصير الهنود تحكي قصّة مختلفة. وإن عاجلاً أو آجلاً، لا بدّ أن تحكم حكومة واحدة هذه القارّة بأكملها، وسوف يصبح الشعب الأحمر، إن لم يتناثر كأوراق الخريف، جزءاً من الأمّة الأميركية. أما عن وعود الرجل الأبيض بالحماية، فقد أخلفها في كثير من الأحيان، وهي أشبه بالقصب في ذلك النهر.. كلّها أكاذيب.
    وأردف قائلا: لقد اعترفت ولاية كارولينا الشمالية بحقّنا في هذه الأراضي، وضمنت الولايات المتحدة هذا الحق. ولكن كلّ هذا لم يمنع الحكومة من الاستيلاء على أراضينا بالقوّة. ولم يكتفوا بذلك، بل باعوا بقرة الهندي الفقير وبندقيته لإجباره على مغادرة بلاده. فهل هذا ما يسمّيه الرجل الأبيض العدالة والحماية؟ كلا، لن نذهب إلى الغرب. لقد أردنا أن نصبح من أبناء كارولينا الشمالية، وقد قبلتنا الولاية على هذا الأساس، وأصدرت قانوناً لحمايتنا، وسنستمرّ في زراعة الذرة في هذه الأرض بالذات.
    وأضاف: لقد كان شعب كارولينا دائما لطيفا جدّا معنا، ونحن نعلم أنهم لن يضطهدونا أبدا. تقولون إن الأرض في الغرب أفضل بكثير مما هي عليه هنا. هذه الحقيقة ذاتها هي حجّة لصالحنا. يجب أن يكون لدى الرجل الأبيض أرض غنيّة للقيام بأعماله، لكن يمكن للهنود أن يكونوا سعداء بأرض أفقر.
    وأضاف: يجب أن يكون لدى الرجل الأبيض أرض مسطّحة حتى يعمل محراثه بسهولة، لكننا نستطيع أن نتدبّر أمورنا حتى بين الصخور. لن نفعل أبدا ما تريدون منّا فعله. أنا لا أحبّكم بسبب طيبتكم المزعومة. وأنصح شعبي دائما بإبقاء ظهورهم إلى الأبد باتجاه غروب الشمس، وألا يغادروا أرض آبائهم مطلقا. وأقول لهم أنه يجب عليهم أن يعيشوا كمواطنين صالحين؛ وألا ينسوا أبدا لطف كارولينا الشمالية، وأن يكونوا دائما على استعداد لمساعدتها في وقت الحرب. "
    عندما كان يونا غوسكا على فراش الموت، استدعى رؤساءه ومحاربيه إلى جانب سريره، وتحدّث إليهم مطوّلاً عن أهمية الاعتراض على فكرة هجرتهم إلى الغرب، وطلب منهم أن يُقسموا له بأنهم لن يتخلّوا أبدا عن قبور آبائهم، أو قبره الذي تحيط به اليوم كومة من الحجارة كعلامة تُميّزه.

  • Credits
    gutenberg.org

    الاثنين، أغسطس 19، 2024

    رسائل من الجبال/1


    ولد تشارلز لانمان في ميشيغان في يونيو من عام 1819. وبدأ حياته في الصحافة، ثم درس الرسم مع فنّاني مدرسة هدسون في نيويورك وتتلمذ على يد الرسّام آشر دوراند. كما ربطته صداقة بالكاتب المشهور واشنطن ايرفنغ.
    وقد سافر لانمان، المهتم بالتاريخ الطبيعي، في أرجاء أمريكا وألّف كتبا عن رحلاته من أشهرها هذا الكتاب بعنوان "رسائل من جبال ألليغيني"، الذي وثّق فيه رحلته عام 1849 في تلك الجبال التي تمتدّ لما يقرب من 500 ميل عبر وسط بنسلفينيا وميريلاند وغرب فرجينيا وجنوب غرب فرجينيا.
    كانت جبال ألليغيني والتلال المحيطة بها موطنا للبشر منذ آلاف السنين. وعاشت في الجزء الجنوبي من السلسلة شعوب أصلية كثيرة لبضع مئات من السنين، قبل وصول المستوطنين الأوروبيين الى المنطقة ابتداءً من القرن الثامن عشر. لكن يبدو أن غالبية الشعوب الأصلية انقرضت، إما بسبب انتشار الأمراض المستوردة أو بسبب الحروب مع الاوربيين ومع مجموعات محلية أخرى.
    كتاب لانمان يتناول العديد من القصص عن مغامراته واكتشافاته ولقاءاته الكثيرة مع السكّان الأصليين وانطباعاته عن الكثير من المعالم الجغرافية والأشخاص الذين رآهم خلال رحلاته.

    ❉ ❉ ❉

  • كلمة "ناكوتشي" الهندية تعني "نجمة المساء"، وقد أطلق هذا الاسم على فتاة من قبيلة شيروكي تميّزت بجمالها وتعلّقها الغريب بالزهور والطيور في واديهم. وقد توفّيت في عامها الخامس عشر في ساعة الشفق ذات يوم صيفي. وفي المساء التالي لدفنها، ظهرت نجمة حديثة الولادة في السماء.
    كان أقاربها يصفونها بانها جميلة كالنجمة، وقد أصبحت الآن الأكثر إشراقا بين كلّ النجوم التي تطلّ على العالم، وهكذا أصبحت ذكراها خالدة مدى الدهر. وأُطلق اسمها "أي ناكوتشي"، على الوادي الذي عاشت فيه، وأصبحت بقعة الأرض التي يُقال إنها دُفنت فيها مغطّاة اليوم بالأزهار والنباتات من كل نوع.
  • نهر ناكوتشي عبارة عن مجرى مائيّ صافٍ وبارد وخلّاب. ومنذ اللحظة التي يتخلّى فيها عن كونه "جدولا" ويتحوّل الى "نهر"، يبدأ في الالتفاف عبر وادٍ يبلغ طوله حوالي 10 أميال ويفقد نفسه بين التلال غير المستكشفة.
    ولأن التلال المحيطة بالنهر ليست عالية، فإنه يتميّز بجماله أكثر من أيّ صفة أخرى. وهو مزروع على نطاق واسع، وتسعد العين أحيانا بمناظر الأكواخ هنا وهناك التي توحي بأفكار الرضا والسلام. ويوجد مرج واسع ترعى فيه الخيول والأبقار بهدوء. ومن التلال المجاورة يتناهى إلى أذني رنين الجرس المتكرّر ليخبرني أن الأغنام أو الماعز تعود من جولاتها الصباحية في الغابات الباردة.
  • قضيت الليل في مكان يسمّى "تيسانتي" في كوخ مزارع فقير استقبلني بحفاوة بالغة. كانت أسرته مكوّنة من تسعة أبناء وثلاث بنات، ولم يسبق لأيّ منهم أن خرج من منطقة البراري. ورغم أن الأب رجل ذكي للغاية، إلا أنه أخبرني أنه لم يتلقّ أيّ تعليم وأنه بالكاد يستطيع قراءة فصل واحد من الكتاب المقدّس.
    كما أبلغني أن أطفاله ليسوا بأكثر تعليما منه، وبدا أنه يأسف بشدّة لعدم قدرته على أن يوفّر لهم التعليم الذي يحتاجونه. وأضاف: لطالما رغبت في أن أعيش على طريق عام حتى تتمكّن بناتي من رؤية رجال من حين لآخر، لأن من المقدّر لهن ألا يلتقين برجال في مجتمعهنّ الصغير".
    شعرت بالأسف على الرجل الطيّب، وسعيت جاهدا إلى توجيه انتباهه بعيدا عن نفسه وظروفه الصعبة إلى الريف المحيط بهم. وقد أخبرني أن الجبال قابلة للزراعة حتى قممها وأن منتجات مزرعته هي الذرة والقمح والشعير. كما أخبرني أن البلاد مليئة بالحيوانات البرّية كالغزلان والديك الرومي والدببة، وأحيانا النمور.
    وقال إن بعض الجبال مغطّاة بشجر الجوز ونوع غريب من شجر البلّوط، وأن السناجب الرمادية وفيرة للغاية في تلك الجبال. كما أبلغني أن الجداول مليئة بالأسماك الصغيرة، وتأكّدت فيما بعد أنه كان يقصد سمك السلمون المرقّط.
    وأثناء حديثي مع صديقي هذا، وقبل غروب الشمس بساعة أو نحو ذلك، فوجئنا بنباح كلابه. وعندما نظرنا إلى الطريق الضيّق الذي يمرّ بجوار منزله، رأينا ظبية جميلة المظهر تهرب باتّجاهنا. وفي ذروة رعبها، استدارت المسكينة فجأة وتسلّقت سياج الحديقة، ولحقت بها الكلاب الى مكان قريب كانت زوجة مضيفنا تزرع فيه بذورا، فأمسكَت المرأة على الفور بعمود فاصوليا، وبضربة واحدة قتلت الظبية.
    وخلال لحظات كان زوجها يضع سكّينه على رقبة الحيوان، وعاد الاثنان إلى مسكنهما، وكأن شيئا لم يكن. وكان هذا أوّل غزال تقتله امرأة فيما أعلم. وعندما انتهزت الفرصة لأثني على كلاب صديقي، قال إن أحدها كان "عدّاءً قويا لأنه تتبّع غزالا لثلاثة أيّام وثلاث ليال".
    وبعد أن وضعت في اعتباري رحلاتي المستقبلية بين الجبال، سألت رفيقي عن الثعابين في تلك المنطقة بعد أن لاحظت كثرتها. فقال: من بين كلّ قصص الثعابين التي سمعتها، لا أعتقد أنك سمعت قطّ عن قتال ثعابين. لقد شهدت على بعد ميل من هنا معركة ضارية بين ثعبان أسود وثعبان جَرَسي. وقد أمسك أحدهما بالآخر من مؤخّرة رأسه ولفّ جسده حوله وكأنه ينوي خنقه حتى الموت. كان الشجار عنيفا وانتهى بمقتل الجرَسي".
    غادرت مسكن صديقي الجبلي بعد الإفطار مباشرة في صباح اليوم التالي، ولم أتجاوز تلك العتبة الشاحبة مرّة أخرى.

    ❉ ❉ ❉


  • ❉ ❉ ❉

  • في العصور القديمة كان يقيم في وادي ناكوتشي شخص يُدعى كوستوياك أو "الرامي الماهر"، وهو زعيم من قبيلة شيروكي كان مشهورا بشجاعته ومَكرِه. وكان من بين ألدّ أعدائه تشونيستا، أو"الكلب الأسود"، وهو زعيم من قبيلة تينيسي. في تلك الأيّام كان هناك فتاة من قبيلة أخرى تقيم في السهول. كان أبوها زعيم عشيرة، وكانت مشهورة بجمالها في جميع أنحاء البلاد.
    وكان من بين من تقدّموا لطلب يدها العديد من الخُطّاب منهم كوستوياك وأربعة محاربين آخرين. وكانت سعيدة بالابتسام لكلّ منهم بينما تخلّت عن الآخرين، ومن بينهم زعيم تينيسي تشونيستا. وعند عودته إلى بلده، هدّد الأخير كوستوياك بأنه إذا نجح في الحصول على يد الفتاة، فسوف تُباد قبيلة شيروكي عن بكرة أبيها.
    كانت مزايا الزعماء الأربعة المتنافسين متساوية، ولم يتمكّن والد الفتاة من تحديد من سيمنح ابنته. كان كوستوياك هو المفضّل عندها، ومن أجل تأمين الزواج منه، اقترحت الفتاة على والدها أن تقبل المحارب الذي يستطيع اكتشاف مكان مياه السافانا وتينيسي بين الجبال. وأعطى الأب موافقته، وبدأت عملية بحث كبرى.
    وفي نهاية اليوم الأوّل، كان كوستوياك قد عاد ومعه خبر اكتشافه لوادٍ ضيّق يُطلق عليه اليوم اسم "بلو ريدج"، حيث يتلاقى النهران العظيمان ويبدآن رحلتهما. وبمرور الوقت، اقتنع والد الفتاة بأن قصّة كوستوياك حقيقية، ولذلك زوّجه الفتاة التي كان يحبّها منذ وقت طويل.
    وقد غضب تشونيستا من هذا الخبر فجمع محاربيه وشنّ حربا على قبيلة شيروكي بأكملها. وكانت "الروح العظيمة" صديقة لكوستوياك فانتصر وقتل تشونيستا بيده ودمّر أشجع محاربيه وأصبح في النهاية مالكا لنصف وادي تينيسي.
    تزوّج كوستوياك من الفتاة وعاشا بسعادة معا. وبعد سنوات تعرّضت قبيلة الزوج الى غزو من قبيلة أخرى. وقُتل هو وزوجته في المعركة ودُفِنا بكلّ شرف في الوادي. ولتخليد فضائلهما العديدة، أقامت قبيلتاهما حول رفاتهما مجموعة من التلال التي تزيّن الآن جزءا من الوادي الذي عاشا فيه.
  • نهر توكواه هو مجرى مائي صغير للغاية، ولا يتميّز في معظمه بأيّ صفة أخرى غير تلك التي توصف بها آلاف الجداول الرقراقة الأخرى في هذه المنطقة. لكن في مساره نحو المحيط، يقوم بقفزة واحدة أعطته سمعته. وبسبب هذه القفزة، أطلق عليه السكّان الأصليون اسم توكواه أو الجميل.
    ولكي تتصوّر هذا الشلال، تخيّل جرفا شديد الانحدار من الصخور الرمادية والوعرة يبلغ ارتفاعه 187 قدما، مع بحيرة هادئة صغيرة محاطة بكتل منحدرة من الغرانيت والأشجار الطويلة الظليلة. ومن النتوءات البارزة لهذا الجرف في الأعلى، بين عينيك المقلوبتين والسماء، يأتي جدول متدفّق بهدوء.
    وبعد أن يثِب وثبةً مبهجة، يندفع الى الأسفل متحوّلا إلى وابل من الرذاذ الثقيل وتتناثر قطراته على نطاق أوسع وفي ضباب خفيف على الحجارة الناعمة المغطّاة بالطحالب التي تقع تحته مباشرة. وعلى طول جوانب هذه الهاوية، تلتصق خصلات صغيرة من الطحالب والنباتات الدقيقة والمتسلّقة، وتتباين بشكل جميل مع الغرانيت الصلب. وفي أيّام الصيف وبسبب المطر المتساقط، تأتي نسيمات باردة منعشة باستمرار من أسفل الهاوية.
  • ترتبط بشلال توكواه قصّة هندية مشهورة. فقبل وقت قصير من الثورة، خاض الشيروكيون حربا مريرة ضدّ قبيلة قويّة من الهنود الذين كانوا يقطنون منطقة بوتوماك. وخلال إحدى معاركهم الضارية، أسرَ الشيروكيون 12 من أعدائهم وأحضروهم إلى بلادهم مقيّدين.
    كانوا ينوون التضحية بالأسرى كما قيل. ولكن نظرا لأنهم أرادوا أن تكون المراسم مهيبة بسبب أهمية الأسرى، فقد تقرّر تأجيل التضحية بهم حتى القمر التالي. في تلك الأثناء، خرج الشجعان من قبيلة شيروكي للقتال مرّة أخرى، بينما تُرك الأسرى الذين أصبحوا الآن مقيّدين بشكل أكثر أمانا في كوخ كبير بالقرب من توكواه، تحت وصاية امرأة عجوز اشتهرت بوطنيّتها المتوحّشة.
    وبينما كان الأعداء التعساء يرقدون في كوخ العجوز، وَزّعت عليهم إمدادات ضئيلة من الطعام والماء. فتوسّلوا إليها أن تطلق سراحهم وعرضوا عليها رشاوي كبيرة، لكنها تمالكت نفسها وظلّت وفيّة لأمانتها. وذات صباح، صاح صبيّ هندي على باب كوخ العجوز وأخبرها أنه رأى مجموعة من أعدائهم في وادٍ مجاور، وأنه يعتقد أن من المحتمل أن يكونوا في طريقهم الى القرية.
    واستمعت المرأة الى هذه الأخبار في صمت، ثم عضّت شفتيها في حنق وتحدٍّ. وعند عودتها إلى حجرتها، وجّه السجناء لها نداءً آخر للحرّية، وسعدوا برؤية ابتسامة ارتسمت على وجهها أخيرا. وأخبرتهم أنها استجابت لطلبهم وستسمح لهم بالهروب من مصيرهم الموعود، ولكن يجب أن يكون ذلك بشروط معيّنة.
    كان أوّل تلك الشروط أن يسلّموها جميع متعلّقاتهم الشخصية التي ستدفنها تحت الحجرة. كما يجب أن يغادروا في منتصف الليل. ولم ترغب في أن يعرفوا طريق العودة إلى الحجرة، فطلبت أن تكون عيونهم معصوبة، وأن يوافقوا على أن تقودهم مسافة ميلين عبر غابة كثيفة، إلى أن يصلوا الى برّية مفتوحة حيث ستطلق سراحهم.
    وافق السجناء بسرور. وبينما كانوا يجرَّدون من أرديتهم وأسلحتهم، غطّت سحابة ثقيلة السماء فوقهم، منذرةَ بعاصفة. وفي منتصف الليل، انطلق هدير رعد عالٍ وأضاء السماءَ وميض برق خاطف. وفكّر الأسرى وفكّرت المرأة أيضا وقرّروا أن الليل والعمل المدروس مناسبان بشكل رائع. ووضعت العجوز أربطة جلدية حول عيون أسراها، وبعد أن قطعت الأربطة التي كانت تقيّد أقدامهم، أمرتهم باتباع المكان الذي ستقودهم إليه. وهكذا قادتهم المرأة إلى حرّيتهم الموعودة.
    كان الطريق وعرا ومتعرّجا، لكن لم ينطق أحد منهم بكلمة. وعندما وصل الموكب الغريب إلى بقعة مستوية من الأرض، خطى الرجال في طريقهم بثقة الى أن وصلوا إلى جُرف توكواه. وبينما المرأة تمشي نحو الحافّة، استدارت فجأة ودفعت بالأسرى المساكين واحداً تلو الآخر في الهاوية الى أسفل. وتردّد صدى صرخة النصر العالية عبر الهواء من شفتيها. ومع أنين المحتضرين في أذنيها وضوء البرق في طريقها، عادت أدراجها إلى نزلها لترتاح، ثم في الغد لتعلن عن فعلتها القاسية.
    في قاع بركة توكواه، تتجمّع اليوم شظايا صغيرة من مادّة بيضاء تشبه حجر الصابون، يزعم الكثيرون أنها بقايا الأسرى الهنود الذين لقوا حتفهم في تلك الليلة عند سفح الهاوية.
  • كان هناك من الهنود من رفضوا بإصرار كلّ دعوة من الحكومة الامريكية لهم بالهجرة من مناطقهم. ومن بين هؤلاء هنديّ عجوز كانت لديه عائلة كبيرة وكان متديّنا. وعندما اتصلوا به لأخذه، قال إنه يريد فقط أن يطلب معروفا واحدا، وهو أن يُسمح له بإقامة صلاة أخيرة مع زوجته وأطفاله في كوخه القديم. وعندما انتهى من صلاته، جاء العجوز وقال إنه مستعدّ للرحيل.
    ولكن قبل أن يغادر دعا زوجته وأطفاله إلى جانبه، وتحدّث إليهم بأسلوب شعري ومؤثّر للغاية عن ممتلكاتهم الهزيلة ولكن المحبوبة للغاية، والتي كانوا على وشك تركها إلى الأبد. ثم تولّى قيادة موكب الجند. ودون أن ينطق بكلمة، سار إلى الأمام بخطوات ثابتة. ولم يُسمع صوت هذا الرجل مرّة أخرى حتى عبرت القافلة المسيسيبي.