ويذكر الكاتب ي. م. بيرنز أن الإغريق كانوا يعتقدون أن مؤهّلات آلهتهم العقلية أعلى بكثير من مؤهّلات البشر. ومع ذلك، لم يُنظر إليها على أنها معصومة من الأهواء البشرية، بل هي مدفوعة بالانتقام والخداع والغيرة. فهي دائما تعاقب المذنب وتُنزل المصائب على أيّ بَشريّ يجرؤ على إهمال عبادتها أو احتقار طقوسها. وكثيرا ما نسمع عن زيارات الآلهة للبشر ومشاركتها ضيافتهم.
وآلهة الاغريق ترتبط بالبشر وتتزاوج معهم، ويُطلَق على ذريّة هذه الزيجات اسم أبطال أو أنصاف آلهة، ويشتهرون عادةً بقوّتهم وشجاعتهم العظيمة. ومع وجود العديد من أوجه التشابه بين الآلهة والبشر، إلا أن الآلهة تميّزت دائما بالخلود. لكنها لم تكن محصّنة من الهزيمة، فكثيرا ما سمعنا عن إصابتها بجروح وتعرّضها للعذاب.
ولم تكن الآلهة تعرف حدودا للزمان أو المكان، فكانت قادرة على نقل نفسها لمسافات هائلة بسرعة الفكر. كما امتلكت القدرة على إخفاء نفسها وعلى اتخاذ أشكال بشر أو حيوانات بما يناسبها. كما كان لديها القدرة على تحويل البشر إلى أشجار أو أحجار أو حيوانات وغير ذلك، إمّا عقابا لهم على آثامهم أو كوسيلة لحمايتهم من خطر وشيك. وكانت ملابس الآلهة تشبه تلك التي للبشر، لكنها أفخم وأرقّ ملمساً. وكانت أسلحتها تشبه تلك التي يستخدمها البشر، فنسمع عن الرماح والدروع والأقواس والسهام وغيرها ممّا تستخدمه الآلهة.
وكان لكلّ إلهة عربة جميلة تجرّها الخيول أو غيرها من الحيوانات السماوية، وتنقلها بسرعة عبر البرّ والبحر حسب رغبتها. وقد عاشت معظم هذه الآلهة على قمّة جبل الأوليمب، وكان لكلّ منها مسكنها الخاص، وكانت تجتمع كلّها في مناسبات احتفالية في قاعة واحدة، حيث كانت تحيي ولائمها على أنغام القيثارة. وشُيّدت معابد فخمة لتكريمها، حيث كانت تُعبد بجلال بالغ. وقُدّمت لها هدايا سخيّة، كما قُدّمت على مذابحها الحيوانات بل والبشر أحيانا.
ويشير بيرنز الى انه في بعض الأساطير اليونانية نلتقي ببعض الظواهر العصيّة على التفسير. فنسمع مثلا عن عمالقة مخيفين يقذفون الصخور ويقلبون الجبال ويثيرون الزلازل التي تبتلع جيوشا بأكملها. ويمكن تفسير هذه الأفكار برأيه بالتشنّجات المروّعة والمفاجئة للطبيعة التي كانت تحدث في عصور ما قبل التاريخ.
ومثل هذه الظواهر اليومية المتكرّرة، التي نعلم اليوم أنها نتيجة لقوانين طبيعية مألوفة، كانت بالنسبة لليونانيين الأوائل موضوعا للتكهّنات الخطيرة، وكثيرا ما كانت تثير الفزع. فعندما كانوا يسمعون هدير الرعد ويرون ومضات برق قويّة مصحوبة بسحب سوداء وسيول مطرية، كانوا يعتقدون أن إله السماء العظيم غاضب فيرتجفون من غضبه. وإذا ثار البحر الهادئ فجأة وارتفعت الأمواج كالجبال العالية واصطدمت بالصخور بعنف وهدّدت البشر بالدمار، فالتفسير الوحيد لما حصل هو أن يكون إله البحر في حالة غضب عارم. وعندما كانوا يرون السماء تتوهّج بألوان النهار التالي كانوا يظنّون أن إلهة الفجر، بأصابعها الوردية، كانت تزيح حجاب الليل المظلم جانبا، لتسمح لأخيها إله الشمس، بالبدء في مسيرته الرائعة.
ومع كلّ تجسّدات الطبيعة هذه، كانت هذه الأمّة ذات الخيال الثريّ والشاعرية الرفيعة ترى إلها في كلّ شجرة تنمو وفي كلّ جدول يتدفّق وفي أشعّة الشمس الساطعة وفي أشعّة القمر الفضّية الصافية والباردة. فمن أجل هذه الآلهة عاش الكون بأكمله وتنفّس، مأهولاً بألف شكل من أشكال النعمة والجمال.
وهذه الآلهة كانت أكثر من مجرّد إبداع خيال شاعري. كانت على الأرجح بشرا من لحم ودم تميّزوا في حياتهم بتفوّقهم على إخوانهم البشر الآخرين في مواهب معيّنة، وبعد أن ماتوا صاروا مؤلّهين من قِبَل من عرفوهم وعاشوا بينهم. ويحتمل أن تكون الأفعال المزعومة لتلك الكائنات المؤلّهة قد تمّ إحياؤها وتضخيمها من قبل الشعراء الذين كانوا يسافرون من ولاية إلى أخرى ويحتفلون بمدحها في أغانيهم، وبالتالي أصبح من الصعب للغاية فصل الحقائق المجرّدة عن المبالغات التي تصاحب التقاليد الشفوية عادةً.
ولتوضيح الصورة، يضرب الكاتب مثلا بأورفيوس، ابن أبوللو، المشهور بمهاراته الموسيقية الاستثنائية. ويقول: لو كان أورفيوس موجودا في عصرنا اليوم، فسنعتبره ولا شكّ من أعظم موسيقيّينا ونكرّمه على هذا الأساس. لكن الإغريق، بخيالهم الواسع وطلاقتهم الشعرية، بالغوا في تقدير مواهبه الغير عاديّة ونسبوا إلى موسيقاه تأثيرا خارقا على الطبيعة، الحيّة منها والجامدة. وهكذا سمعنا عن وحوش برّية روّضتها موسيقاه، وأنهار عاتية توقّفت عن الجرَيان وجبال تحرّكت من مكانها، متأثّرة بنغمات صوته العذب.
❉ ❉ ❉