:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أغسطس 20، 2020

مخطوطات قرآنية نادرة


كلمة (manuscript) أي مخطوطة، مشتقّة من اللاتينية وتعني "مكتوب باليد". والكلمة تشير إلى المجهود اليدويّ الذي يبذله الكاتب في استنساخ النصوص.
والمخطوطات تتضمّن عادةً أدلّة عن تاريخ التقنيات والأساليب المتّبعة في إعدادها، مثل تحضير الورق والحبر والألوان وأوراق الذهب والفراشي والأقلام وتخطيط الصفحات والرسوم والزخارف والتجليد وخلافه.
في هذا الموضوع نتوقّف عند ثلاث مخطوطات تُعتبر بحقّ تحفاً فنّية عظيمة ونادرة. وما يميّزها أنها مخطوطات للمصحف الشريف. وسنشير إلى كلّ مخطوطة بالاسم الذي أصبحت تُعرف به في المتاحف والمزادات. الأولى هي مخطوطة المصحف التيموريّ، والثانية مخطوطة مصحف روزبيهان، والثالثة مخطوطة المصحف الفاطميّ.
ومن الواضح أن أحد الأهداف من وراء إخراج هذه المصاحف النادرة بهذا الشكل هو استثارة ردّ فعل جماليّ في نفس وعين الناظر وإثراء التجربة الشعورية في الإمساك بالمصحف الشريف وتصفّحه.
ولنبدأ أوّلا بالمصحف التيموريّ الذي بيع في المزاد مؤخّرا بمبلغ سبعة ملايين جنيه استرليني. هذا المصحف زُيّن بطريقة رائعة وكُتبت آياته على ورق ملوّن من زمن حكم سلالة مينغ الصينية.
ويُرجّح أن مخطوطته كُتبت في بلاط أمير تيموريّ، إما في أفغانستان أو إيران. وقصّته تعكس التاريخ الغنيّ للهدايا الدبلوماسية والتبادل الثقافيّ بين الصين والعالم الناطق بالفارسية وقتها.
الخصائص الجمالية لهذه المخطوطة مذهلة، فكلّ ورقة من أوراقها التي تربو على الـ 500 مصبوغة بألوان غميقة قوامها الأزرق والفيروزيّ والكريمي والأخضر.
والورق نفسه مصنوع بطريقة لا يُعرف عنها اليوم سوى القليل، لكنّها تعتمد على مزج الصفحات بالرصاص الأبيض لإنتاج ورق بنعومة الحرير. كما أن كلّ صفحة مزخرفة بالذهب مع صور لأشجار وأزهار تشعّ وهجاً أخّاذا.
ورغم أن الورق الملوّن استُخدم في العالم الإسلامي طوال قرون قبل ذلك، إلا أن الورق الصينيّ المستخدم في هذا المصحف له جاذبية خاصّة، بسبب لمعانه ونسيجه الحريريّ وألوانه الحيّة وتصاميمه الغرائبية.
والحقيقة انه ليس فقط النسيج المخمليّ هو ما يجعل هذا الورق متميّزا ومرغوبا فيه، بل هناك أيضا نطاق الألوان المكثّفة في هذا المصحف، بما فيها الأزرق والزهري واللافندر والأصفر والأخضر وغيرها.
والكثير من صفحات المصحف مزيّنة إما بالذهب أو بموتيفات صينية مثل أزهار المشمش وعناصر المعمار والطبيعة. وكلّها تذكّر بالأنماط التي يمكن رؤيتها على حرير المينغ والبورسلان الصينيّ الأبيض.
ويشير مصدر صينيّ من القرن الرابع عشر إلى أن صنع الورق المشمّع ارتبط بمدينة تشاوسنغ على ساحل بحر الصين الجنوبيّ. ويُعتقد أن رُزَماً من هذا الورق اُحضرت من الصين من قبل مبعوث أرسله السلطان التيموري شاه روك إلى هناك حوالي عام 1420.
وقبل اكتشاف هذا المصحف، كانت هناك ستّ مخطوطات أدبية وأربعة مصاحف أخرى صُنعت من ورق صينيّ. وأحد المصاحف موجود في معهد ديترويت للفنّ، بينما يوجد آخر في متحف باسطنبول.
المصحف التيموريّ هو مثال مذهل عن الابتكارات الفنّية التي أبدعتها ورش الفنّانين في كلّ من الصين وبلاد فارس في القرن الخامس عشر. كما انه يوفّر دليلا عن العلاقات الثقافية والدبلوماسية التي كانت تربط صين أسرة المينغ بفارس التيمورية.
كان التيموريون قد حكموا معظم إيران وآسيا الوسطى في القرن الخامس عشر. كانوا رعاة للفنون، فأسّسوا مكتبات ملكية (أو كتاب خانة) في سمرقند وهيرات، وأنتجوا مصاحف رائعة كي يُظهروا من خلالها صلاحهم وتقواهم. وكُتبت هذه المصاحف بخطوط منثنية وذُهّبت بزخارف وموتيفات وأنماط تفتن العين بجمالها الأخّاذ.


ولنتحوّل الآن للحديث عن المخطوطة الثانية، وهي ما تُعرف بمصحف روزبيهان.
في نهاية القرن السادس عشر، كانت هناك إمبراطوريتان إسلاميتان كبيرتان في حالة حرب لمدّة عشرين عاما: الفرس الصفويون بقيادة الشاه تاهماسب والترك العثمانيون بقيادة السلطان سليمان القانوني. ورغم أن تلك الحرب كانت تخاض للسيطرة على الأرض، إلا أنها كانت ملوّنة بالتنافس المذهبيّ. فسليمان كان يرى في نفسه مدافعا عن الإسلام السنّي، بينما أراد تاهماسب أن يؤكّد على تمسّكه بالإسلام الشيعي.
لكن في نهاية الأمر، كان الرجلان مسلمين. فعندما توفّي سليمان القانوني عام 1566، أي بعد مرور 11 عاما على إبرام معاهدة أماسيا للسلام، أرسل تاهماسب وفدا من لدنه مع أربعة وثلاثين جملا محمّلة بالهدايا النفيسة للسلطان الجديد. وكان من بينها مصاحف ذات جمال استثنائي.
كان القرآن الكريم وما يزال رمزا لتوحيد المسلمين. لكن الاهتمام الكبير بتصميمه وإخراجه في أحسن صورة كان يتضمّن رسالة أخرى، وهي أن الشيعة مسلمون كالسنّة وأنهم يكرّمون كلام الله ويوقّرونه بطريقتهم.
ويعتقد بعض المؤرّخين أن مخطوطة القرآن المعروف بـ "مصحف روزبيهان" والموجودة اليوم في متحف مكتبة تشيستر بيتي في دبلن، كانت موضوعة داخل إحدى الحقائب التي حملتها الجمال كهديّة من الشاه إلى حاضرة القسطنطينية.
ورغم انه لا يُعرف من أمر بكتابة وتصميم ذلك المصحف، إلا انه من المرجّح انه خرج من شيراز حوالي عام 1550. أما الخطّاط الذي وقّع اسمه على المخطوطة فلم يكن سوى روزبيهان محمّد الشيرازي الذي عُرف بمهارته الكبيرة في فنّ الخط. وكانت عبقريته هو والمذهّبين المجهولين الذين عملوا معه هي التي أبدعت هذا العمل الفنّي المدهش.
جامع الفنون الأمريكي تشيستر بيتي كان مفتونا بهذا المصحف عندما رآه أوّل مرّة. ويُرجّح انه اشتراه في نهاية عشرينات القرن الماضي من تاجر كتب في اسطنبول. وفي الخمسينات احضر المصحف وضمّه إلى مكتبته الجديدة في دبلن.
لكن لأن بعض الألوان في المصحف أصبحت شاحبة وبعض الصفحات ملتصقة بعضها ببعض، فقد اتّخذ المالك الجديد قرارا بفصل الأوراق وإعادة الألوان إلى سابق عهدها. وأُنجزت تلك المهمّة بعد أربع سنوات من العمل المتواصل.
الاهتمام بالتفاصيل يعكس دقّة روزبيهان الذي استخدم في المصحف خطوطا مثل المحقّق والثلث والنسخ. وقد رُشّت على الصفحات ذات الخطوط الكبيرة ألوان ذهبية وزهرية قبل أن يكتب عليها. وعلى حوافّ خطّ النسخ رُسمت تصاميم وأنماط زهرية ثريّة الألوان.
ولا بدّ وأن المصحف الذي يضمّ حوالي ستّة آلاف آية تطلّب صبرا رهيبا لإتمام كتابته وتزيينه. وفي النهاية أنجز الخطّاط والفنّيون الآخرون عملا عظيما من أعمال الفنّ ومصدر ابتهاج لأيّ شخص يقلّب صفحاته.
وقد ساد اعتقاد بأن هذا المصحف المتفرّد كان يُقرأ في المناسبات الشرفية الخاصّة فقط. وشهرته تأتي أوّلا من اسم الخطّاط الذي كتبه. ولكن هناك أيضا الجودة والزخرفة التي نهض بها فريق كامل من الفنّانين والحرفيين المجهولين الذين جعلوا من هذا المصحف مميّزا عن بقيّة المخطوطات التي ظهرت في القرن السادس عشر.
كان روزبيهان خطّاطا لامعا. وهذا المصحف هو ولا شكّ تحفته بلا منازع. مع أن هناك خمسة مصاحف أخرى تحمل توقيعه.

ولننتقل الآن للحديث عن المخطوطة الثالثة، وهي ما تُعرف بالمصحف الفاطميّ أو المصحف الأزرق.
كان بعض مؤرّخي الفنّ قد أشاروا من قبل إلى أن هذا المصحف خرج إمّا من شيراز أو من اسبانيا الإسلامية. لكن الدراسات التي أجراها المؤرّخ البارز م. بلوم أكّدت أنه يعود إلى الدولة الفاطمية (909 - 1171)، وأنه كُتب في حوالي القرن العاشر الميلادي في تونس، وتحديدا في مدينة القيروان.
ويُعتبر هذا المصحف احد أكثر قطع الفنّ الإسلامي شهرةً واحتفاءً. وثمّة احتمال بأن الفاطميين الذين حكموا مصر وسوريا وأسّسوا مدينة القاهرة أرادوا أن يكون المصحف وقفاً لجامع القيروان في بداية ذلك القرن.
وقد استُخدم فيه الذهب والفضّة بسخاء. واختيار الأزرق أو النيليّ، المستورد غالبا من الهند، مع الذهب والفضّة ربّما كان محاولة لتسجيل موقف سياسيّ ودينيّ ولمنافسة المخطوطات الرومانية التي كانت تُصبغ عادة باللون الأرجواني الثريّ.
ويُلاحَظ أن المصحف كُتب بالخطّ الكوفيّ المغربيّ المذهّب ودون تنقيط. ومعظم صفحاته موجودة في تونس، لكن بعضها الآخر متوزّعة على متاحف العالم وبعض المجموعات الفنّية الخاصّة. وقبل عشر سنوات، بيعت صفحة واحدة منه في مزاد بلندن بسعر قياسيّ هو 530 ألف جنيه إسترليني.
تقول موظّفة في متحف المتروبوليتان الذي يقتني بعض صفحات من المصحف الأزرق: انأ لست مسلمة ولا اعرف العربية. لكني اعرف أن المصحف الأزرق مكتوب بالخطّ الكوفي. وقد جذبني إليه اللون الأزرق الغامق والأحرف الذهبية. وكثافة هذا اللون تقول إننا إزاء قطعة فنّية ذات مضمون روحانيّ عميق".



وقبل الختام، أشير في عجالة إلى مخطوطتين أخريين للمصحف الشريف وتستحقّان أن تُذكرا في هذا الموضوع لقيمتهما المتحفية والجمالية.
الأولى لمصحف كُتب كلّه بالذهب، ويمثّل نموذجا في الكتابة الإبداعية بالخطّ الكوفيّ. وللأسف لا تتوفر معلومات كافية عن هذا المصحف باستثناء انه كُتب في حوالي القرن الثامن الميلادي في عهد دولة الأغالبة في شمال أفريقيا أو أثناء حكم العبّاسيين. والمصحف هو اليوم من مقتنيات متحف كليفلاند للفنّ في الولايات المتّحدة.
أما المخطوطة الثانية فلمصحفٍ يعود إلى حوالي القرن التاسع الميلادي. ويُحتمل انه جاء من احد بلدان المشرق أو شمال أفريقيا. وهو مكتوب بالخطّ الكوفي الذهبيّ مع نقاط حمراء وخضراء وزرقاء لضبط التشكيل ونهايات الآيات. وهذه المخطوطة مملوكة لمجموعة ناصر خليلي الفنّية في لندن.

Credits
christies.com
chesterbeatty.ie