:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، نوفمبر 13، 2024

أيّام في حياة دوستويفسكي


كثيرا ما نميل الى رسم صور ذهنية للكتّاب الذين نقرأ لهم. وأظنّ أن الصورة التي يقدّمها فيلم "26 يوما في حياة دوستويڤسكي" هي أقرب ما تكون لصورة الكاتب كما انطبعت في ذهني عن شخصه وكتاباته. وليس من المبالغة القول إن هذا الفيلم يُعتبر هديّة مثالية للذين يقدّرون الكاتب الروسي الكبير وفنّه.
المعروف أن سيرة حياة دوستويڤسكي كانت موضوعا للعديد من الأفلام، خاصّة الروسية. لكن ما يميّز هذا الفيلم بالذات أن المخرج، واسمه ألكسندر زاركي، تعمّد فعل شيء مختلف عندما قدّم دوستويڤسكي على سجيّته ودون تضخيم أو توقير مبالغ فيه، لكن بمراعاة واحترام.
أما أداء الممثّل الذي جسّد شخصية دوستويفسكي، واسمه أناتولي سولونيتسين، فيقصر عنه الوصف بالكلمات، وهو في الحقيقة لم يكن يمثّل بل تقمّص الشخصية بعمق وإتقان.
أفلام السيرة تتناول عادةً حياة الشخص من ميلاده وحتى وفاته. لكن مخرج هذا الفيلم اختار أن يركّز على تلك الفترة القصيرة المذكورة في عنوان الفيلم، والتي كانت أكثر فترات حياة دوستويڤسكي صعوبةً وقتامةً.
في ذلك الوقت من عام 1866، كان ما يزال كاتبا غير معروف نسبيّا. وكان على وشك إكمال روايته "المقامر". كما كان مثقلا بالديون التي لم يتمكّن من سدادها. كان أيضا يعاني من الاكتئاب الذي هاجمه بعد فقدان زوجته وموت شقيقه الذي كان مقرّبا منه كثيرا.
والفيلم يعيد بناء الرواية لإظهار أوجه التشابه بين وقائعها وحياة الكاتب نفسه. فبطل "المقامر" شخص مهووس بالقمار ومستعدّ للمخاطرة بكلّ شيء من أجل علاقة حبّ استغلالية ولإشباع إدمانه القهري للعبة الروليت.
ودوستويڤسكي المهووس بالمقامرة والذي خسر كلّ أمواله في رحلة إلى كازينو ومنتجع في ألمانيا، يقامر بعمله في عقد يوقّعه مع ناشر محتال. وقد وضع هذا الناشر دوستويڤسكي أمام خيار صعب، فإمّا أن يسلّمه مخطوطة روايته قبل نهاية شهر نوفمبر من ذلك العام أو سيكون من حقّ الناشر أن يحصل على حقوق نشر الرواية بشكل قانوني.
ودوستويڤسكي لا يستسلم لذلك الشرط التعاقدي المجحف ويرى فيه محاولة ابتزاز واضحة. ويقرّر أن عليه أن يكتب بجدّ ونشاط ليكمل الرواية ويسلّمها قبل الموعد النهائي. ولتسريع وتيرة عمله، يبادر للاستعانة بكاتبة اختزال. ومع مرور الوقت، يكتشف أنه يحتاج إلى صحبة المرأة أكثر من خدماتها الفنّية. وفي الوقت القليل المعطى له، ينجح فعلا في إنهاء الرواية قبل الموعد المحدّد، وتنشأ بينه وبين مساعدته علاقة حبّ، وسرعان ما تصبح زوجته وصديقته المخلصة.


الممثّل سولونيتسين نجح كثيرا في تقديم شخصية دوستويڤسكي ببراعة متناهية. فهو لا يشبهه بالملامح فقط، بل يجسّد أيضا بعضاً من سمات الكاتب الكبير كما يتخيّلها قرّاء رواياته، أي الشخص العصابي والعاطفي والكئيب والمتواضع والغاضب والساخر والعفوي والعطوف والمتقلّب.. الخ.
وقد فاز سولونيتسين بجائزة الدبّ الفضّي لأفضل ممثّل من مهرجان برلين السينمائي الدولي الحادي والثلاثين عام 1981 عن لعبه دور دوستويڤسكي. وتَصادفَ ذلك مع مناسبة الذكرى المئوية الأولى لوفاة الكاتب الكبير في فبراير 1881.
كان أداء سولونيتسين لدور دوستويڤسكي هو دوره ما قبل الأخير قبل وفاته. وقد اشتهر في الغرب بأدواره في العديد من أفلام اندريه تاركوڤسكي، مثل "سولاريس" و"ستوكر" و"المرآة"، بالإضافة الى لعبه الدور الرئيسي في فيلم "أندريه روبليڤ".
في كتابه "النحت في الزمن"، يذكر تاركوڤسكي أن سولونيتسين هو ممثّله المفضّل ويمتدح قدرته على تنفيذ أفكاره كمخرج بأفضل صورة. كان لدى الاثنين كيمياء مشتركة وشكّلا ثنائيّا فريدا من نوعه، وأنتج تعاونهما بعض أهم روائع السينما الروسية. وكان يشعر بالغيرة عندما يضطرّ ممثّله المفضّل للعمل مع مخرجين آخرين. لكن كلّما فكّر في إخراج فيلم جديد، كان يصرّ على أن يكون سولونيتسين جزءا منه.
وعندما فكّر تاركوڤسكي في صنع فيلم مقتبس من رواية دوستويڤسكي المشهورة "الأبله"، أبدى سولونيتسين استعداده لإجراء جراحة تجميلية كي يبدو أكثر شبهاً بالكاتب الكبير. وكان يُفترض أن يلعب سولونيتسين الدورين الرئيسيين في كلّ من فيلمي "نوستالجيا" و"التضحية". لكنه توفّي قبل إنتاجهما متأثّرا بسرطان الرئة في عام 1982 عن عمر يناهز 47 عاما. وكان قد أُصيب هو وتاركوفسكي بالمرض بعد تعرّضهما لموادّ كيميائية سامّة في موقع تصوير فيلم "ستوكر".
الكثير من روايات دوستويڤسكي تحوّلت الى أفلام سينمائية، مثل "الجريمة والعقاب"، و"الاخوة كارامازوف"، و"رسائل من تحت الأرض"، و"الليالي البيضاء"، و"المقامر" وغيرها.
كما كان لفلسفته وأفكاره الوجودية تأثير كبير على أعمال بعض أبرز صنّاع السينما المعاصرة. ويظهر هذا التأثير بوضوح في أفلام مثل "حافّة السكّين" لإدموند غولدنغ، و"لصوص الدرّاجات" لفيتوريو دي سيكا، و"المترصّد" لأندريه تاركوفسكي، و"الختم السابع" لإنغمار بيرغمان، و"الأبله" لأكيرا كوروساوا وغيرها.

Credits
dostoevsky.org
theseventhart.info

الاثنين، نوفمبر 11، 2024

لفافة طويلة زرقاء وخضراء


"ألف ميل من الأنهار والجبال" هو اسم هذه اللوحة "أو بالأحرى المخطوطة أو اللفافة" المشهورة لمناظر طبيعية رسمها الفنّان الصيني وانغ شيمانغ في أوائل القرن الثاني عشر خلال حكم أسرة سونغ.
وتُعتبر اللوحة من أفضل وأشهر تُحف الفنّ الصيني نظراً لجاذبيّتها الفريدة وأهميّتها الثقافية الكبيرة. وبفضل حجمها الكبير وضربات فرشاتها المعقّدة ودلالاتها الغنيّة، توفّر اللوحة نظرة معمّقة لطبيعة الصين وثقافتها القديمة.
والصورة بأكملها مرسومة على هيئة لفافة يدوية طولها أكثر من 17 قدما وتستخدم منظورات وزوايا بصرية متعدّدة لإتاحة رؤية بانورامية لمنظر طبيعي موسّع ومفصّل لجبال وأنهار وغابات وقرى.
النقّاد يعتبرون هذه اللوحة أحد أعظم الإنجازات في تاريخ رسم المناظر الطبيعية الصينية. وقد أثّرت على أجيال متعدّدة من الفنّانين، واحتُفل بها باعتبارها كنزا وطنيّا للصين. وربّما يكون الأمر الأكثر روعة من اللوحة هو حقيقة أن من أبدعها كان شابّا لم يتجاوز عمره العشرين عاما عندما رسمها. ومن المؤسف أنه توفّي في ظروف غامضة بعد عامين من رسمه لها.
وتشير دقّة الرسم في اللوحة إلى أن الفنّان نشأ في جنوب الصين، لأن السكّان الأصليين فقط هم من يعرفون تضاريس المنطقة بهذه الدقّة. ويمكن تقسيمها إلى ستّة أقسام، وكلّ منها مرتبط بعنصر طبيعي: البحيرات والقوارب والبيوت الريفية والأجنحة والجسور والشخصيات، لكن التركيز في كلّ قسم ينصبّ دائما على الجبال الشاهقة والمذهلة.
وكثيرا ما تقارَن اللوحة بالسيمفونية، من حيث أنها مقسّمة إلى مقدّمة وصعود وتطوّر وذروة ثم هبوط فنهاية. والجبال في الصورة تمتدّ لمئات الأميال "في الواقع" وبمستويات عالية ومنخفضة تعكس إحساسا قويّا بالإيقاع والنظام. وبحسب ناقد، تشبه تجربة رؤية هذه الصورة راكبا يسافر في قطار ويراقب المناظر الطبيعية التي تمرّ أمامه من خلال نافذة عربته.
وبسبب حجم اللوحة الكبير وتفاصيلها الدقيقة، فإنه لا بدّ من رؤيتها عدّة مرّات على مسافات متعدّدة. في البداية يتعيّن النظر اليها من مسافة بعيدة لملاحظة عظمتها الشاملة، ثم النظر اليها من مسافة قريبة لملاحظة سماتها الرائعة، ثم من مسافة متوسّطة لملاحظة تأثيرها العام وفخامتها وتفاصيلها الدقيقة.
كانت رحلة اللوحة طويلة ومرّت بالعديد من التجارب. فبعد أن أكملها الرسّام وانغ شيمانغ، قدّمها إلى الإمبراطور هوي سونغ من أسرة سونغ، الذي أعجب بها بشدّة ثم أهداها إلى وزيره المفّضل. وفي وقت لاحق، أصبحت اللوحة جزءا من المجموعة الإمبراطورية.
ويقال إن الإمبراطور نفسه كان رسّاما وخطّاطا ماهرا. وقد اكتشف موهبة الفنّان الصبيّ غير العادية وتولّى شخصيّا تعليمه. وعند بلوغه الثامنة عشرة من عمره، كان قد تعلّم أحدث تقنيات الرسم وبدأ في تطوير أسلوبه الفريد. وعلى مدى ستّة أشهر، كرّس نفسه لرسم هذه المناظر الطبيعية الشاسعة والمترامية الأبعاد والتي لا يزال يُذكر بها حتى اليوم.
وخلال مسيرته الفنّية القصيرة، نجح شيمانغ في التقاط روح البلاط. في تلك الفترة ونتيجة لمحاصرة الصين من قوى معادية كالمغول في الشمال والنانتشاو في الجنوب، تراجع المجتمع الصيني إلى الداخل وأصبح الفنّ يعكس، أكثر، المشاعر والشواغل الداخلية.


من الصحيح أيضا القول بأن اللوحة تصوّر التعايش المتناغم بين البشر والطبيعة، وتجسّد بيئة إنسانية مثالية يسودها التكامل بين السماء والبشر كما تعكسه الثقافة الصينية عادة في لوحات المناظر الطبيعّية. وقيل إن اللوحة هي تعبير عن صورة العالَم المسالم. كما أن المناظر الطبيعية الجبلية الممتدّة بلا انتهاء هي تأكيد على هدوء ورزانة العلماء وسبل عيش الناس. أما المياه الصافية والأمواج الزرقاء فرمز للسكينة والسلام.
وهذه المفاهيم الجمالية تنسجم بشكل سلس مع لوحات الطبيعة الصينية التي تعكس الادراكات والمنظورات البيئية. وتُظهِر اللوحة وحدة الطاويّة والفنّ وتجسّد جوهر الإقامة والترويح عن النفس، ما يسمح للناس بالمشي والنظر المتأمّل والاستمتاع بمحيطهم وخلق بيئة معيشة مثالية.
والتفكير التأمّلي الذي تثيره اللوحة يتناغم مع الأفكار الطاويّة التي تروّج للسلام والنظام. وبالنسبة للإمبراطور الذي كان ممارسا ومروّجا للطاوية، فإن اللوحة هي أرض طاويّة خيالية بتصويرها لريف مسالم ومزدهر وهادئ.
الموادّ المستخدمة في اللوحة بسيطة: حبر أسود وأصباغ أرضية على لفافة حرير طويلة. ومع ذلك، فإن بساطة الموادّ المستخدمة تزيد من تعقيد تركيبها. في البداية رسم الفنّان المسوّدة الأولى بالحبر. ولتعزيز تناغم المشهد أضاف اللون الأخضر الحجري المصنوع من الفيروز والملكيت. ثم أضاف اللون الأخضر مرّة أخرى لتعزيز التأثير البصري الثلاثي الأبعاد.
الألوان الزاهية وضربات الفرشاة الرائعة هي من عناصر جاذبية اللوحة. وهذه التركيبة المتناغمة يُنظر اليها على أنها تمثيل لرفاهية الدولة في الزمن الذي رُسمت فيه. وقد استخدم الفنّان اللونين الأزرق والأخضر الفاتحَين على خلفية صفراء داكنة، وهو أسلوب نموذجي لرسم ما يُعرف بـ "المناظر الطبيعية الخضراء والزرقاء" التي راجت في تلك الفترة.
ويستخدم هذا النوع من المناظر أصباغا معدنية لإضفاء تأثير زخرفيّ مبالغ فيه بعض الشيء. ورغم أن اللون الأزرق والأخضر هما الغالبان، إلا أن هناك أيضا استخداما لدرجات اللون الأحمر الدقيقة للتأكيد على عمق وعظمة المناظر الطبيعية.
اللون الأزرق اللازوردي النابض بالحياة يهيمن على قمم الجبال، بينما يغلب اللون الملكيتي الأخضر على الوديان، واللون البنّي الباهت دلالة على الجبال. وهذا الترتيب المشعّ يعزّز اللون على طول المنظر بحيث يصبح التركيز على الضوء والظلّ والملمس بدلاً من الخطوط العريضة والأشكال. وعلى الرغم من مرور قرون على رسم اللوحة، إلا أنها ما تزال تحتفظ بوضوحها وثراء ألوانها وأصباغها النادرة.
رسم وانغ شيمانغ هذه اللفافة الضخمة عندما كان في الـ 18 من عمره. وكان وقتها يعمل أمينا لمكتبة الإمبراطور. وأنجز هذا الشابّ الموهوب عمله في 6 أشهر أثناء إقامته في العاصمة. ويُعتقد أنه توفّي في سنّ مبكّرة، أي في حوالي العشرين من عمره. وقد جعلته وفاته المبكّرة من الفنّانين العظماء الذين رحلوا قبل أوانهم.
كانت حياة شيمانغ أقصر من حياة أغلب نظرائه في الغرب الذين ماتوا في سنّ الشباب، مثل جورجيوني (33 عاما) ورافائيل (37 عاما) وكاراڤاجيو (39 عاما). وقد انتشرت أساطير كثيرة حول السبب الحقيقي للوفاة. قيل مثلا انه مات من الإرهاق. وقيل إنه أُعدم لسبب ما بعد أن وشى به البعض بسبب غيرتهم منه.
ومن الواضح أن الرسّام لم يحظَ بالقدر الكافي من الاحتفاء والاهتمام، والسبب هو أنه لم يبقَ له أيّ عمل معروف آخر حتى اليوم غير هذه اللوحة. وهناك من يقول ان مسيرته الفنّية مجهولة وضائعة، وهي مجرّد خيال لما كان من الممكن أن يكونه.
في عام 1953، أصبحت لوحة "ألف ميل من الأنهار والجبال"، وما تزال، جزءا من مجموعة متحف قصر بيجين "أو متحف المدينة المحرّمة".

Credits
sinocultural.com