:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، ديسمبر 29، 2016

فنّ الطبيعة

من وقت لآخر، تستوقفك بعض الصور على الانترنت التي تظهر فيها مجموعة من الحجارة ذات الأشكال والألوان المختلفة والبديعة المكدّسة فوق بعضها البعض في تناسق ونظام لا يخلو من إبداع وجمال.
هذا النوع من التشكيلات الصخرية أو الحجرية أصبح اليوم فنّا قائما بذاته، وهناك مسابقات عالمية تقام سنويّا لاختيار أفضل تنسيق. وقد أصبح لهذا الفنّ جمهوره ومعجبوه وظهرت بعض أسماء لأشخاص برعوا فيه وأصبح يشار إليهم بالبنان.
وتكديس الحجارة بهذا الشكل الجماليّ أو ذاك يعتمد في الأساس على براعة الشخص في إحداث التوازن المطلوب بحيث يشيّد الشكل الذي يريد. لكن لا توجد خدع أو حيل معيّنة يمكن توظيفها للمساعدة في تحقيق التوازن. كما يُشترط عدم استخدام لواصق أو مغناطيس أو أسلاك أو طين أو دعائم من أيّ نوع. الغراء الوحيد المسموح به هو التحايل الذهنيّ على الجاذبية بحيث تفقد تأثيرها.
ولكي يتحقّق التوازن ينبغي أوّلا البحث عن حجر ثلاثيّ ذي نتوءات أو أطراف بارزة لاستخدامه كقاعدة تنبني فوقها بقيّة الأحجار. لكن هناك من يفضّل استخدام حجارة مستديرة على أساس أن التعامل معها ومَوضعتها أسهل من التعامل مع الحجارة المضلّعة، كما أنها توفّر فرصة اكبر للإبداع.
وتتبدّى مهارة البنّاء بقدر ما ينجح في إيهام الناظر إلى عمله بانعدام الوزن، أو بعبارة أوضح عندما تبدو الحجارة المكدّسة وكأنها بالكاد تلامس بعضها البعض.
والحجر الثلاثيّ الذي يُوظّف كقاعدة هو عنصر مادّي أساسيّ في العملية، لكن هناك أيضا عناصر غير مادّية يصعب التعبير عنها بالكلمات. لكن يمكن تلخيصها في ملكات معيّنة كالتأمّل والصمت والصبر والمثابرة التي تقود في النهاية للعثور على نقطة الصفر المطلوبة لتشييد تشكيل جميل ومبدع.
إذن هو فنّ يعتمد على المزج بين عمل اليد والعقل معا. وهو نقيض لحيل السحر التي تعتمد على خفّة اليد والإيهام، فالساحر يحاول أن يجعل الخداع يبدو وكأنه حقيقة، بينما مشيّدو التشكيلات الصخرية يقدّمون حقيقة تبدو مستحيلة أو متعذّرة الوقوع.
في البداية يحتاج الفنّان إلى سطح ثابت ويدين مدرّبتين ونوعيات مختلفة من الحجارة التي عادة ما تُجلب من على الشاطئ ويتعيّن أن تكون ناعمة وذات ألوان جميلة. ثم يبدأ بوضع حجر كبير وثابت ومستوٍ يكون هو الأساس بحيث يعطي مجالا واسعا للبناء فوقه ويوفّر مركزا ثابتا للجاذبية.
وعلى البنّاء أيضا أن يواظب على اختبار مركز الجاذبية وأن يتذكّر انه كلّما أضاف حجرا، كلّما شكّل ذلك ضغطا متزايدا على الحجارة التي تحته. وهناك من يفضّل وضع الحجارة الكبيرة فوق الحجارة الأصغر، مع المثابرة على تقليب الحجارة على عدّة وجوه بحيث يصل إلى الوضع الأنسب.
وبعد أن يكتمل بناء التشكيل، كثيرا ما يعمد بعض الفنّانين إلى زخرفته بأوراق وأغصان الشجر وبتلات الأزهار وحتى بقطرات الماء.
ويمكن أن تستغرق عملية إحداث التوازن المطلوب وإتمام التشكيل ثلاثين دقيقة، لكنّ التشكيلات الحجرية الأكثر تعقيدا يمكن أن تستغرق ساعات طويلة مع عدّة محاولات متكرّرة.
قد يبدو هذا الفنّ بلا غاية أو هدف. لكنه يمكن أن يكون مسليّا وممتعا لأنه لا يخلو من تحدٍّ وحتى روحانية. كما يمكن القول انه نوع من النحت ومن الممارسة التأمّلية التي يمكنك من خلالها أن تخلق شيئا ما مدهشا من شيء عاديّ جدّا. كما انه يساعدك على أن يكون لك عقل ميكانيكيّ وعلى أن تُحسن تطويع يديك للعمل على شيء يتطلب براعة وإتقانا.
وبعض الفنّانين يفضّلون ترك تشكيلاتهم في عين المكان كي يراها اكبر عدد من الناس، لكنها يمكن أن تنهار في أيّة لحظة بفعل طائر مارّ أو هبّة نسيم خفيفة، مع أنها تعيش بعد ذلك في الصور لفترات طويلة.
ويُرجّح أن أصل هذه الفكرة قديم جدّا، إذ كان من عادة القدماء والمغامرين أن يقيموا حجارة على طول الدروب التي يسلكونها كي يستدلّوا بها على طريق العودة إلى أماكن سكناهم. كما أن محبّي الطبيعة والتأمّل والمعلّمين الروحانيين كانوا يجدون في عملية تكديس الحجارة ملاذا يريحهم من عناء الجهد والعمل المتواصل.
ورغم الشعبية المتزايدة لهذا الفنّ، إلا أن له معارضين، وهم غالبا من حركات حماية البيئة الذين يعتبرون تحريك الحجارة من أماكنها الطبيعية نوعا من التخريب لأنه يتلف الحياة النباتية ويزعج الطيور والحيوانات الصغيرة. ويضيفون بأن الطبيعة تأخذ آلاف السنوات حتى تتطوّر وأن العبث بمحتوياتها من شأنه أن يعطّل ذلك التطوّر ويفسد التناغم بين كائناتها.

Credits
hypermodern.net

الجمعة، ديسمبر 23، 2016

! قصّة رسّام مسّه الشيطان


سيرة حياة هذا الرسّام عبارة عن أحجية احتار الناس طويلا في فكّ طلاسمها. هو لم يسافر أبدا في حياته، لكن لوحاته سافرت كثيرا بعد موته ووصلت إلى أبعد الأماكن في العالم. وهو لم يمشِ كثيرا في هذا العالم، لكنه بالتأكيد مشى طويلا في عالم العقل والخيال.
اسمه الأصلي جيرون فان آكن، لكن الاسم الذي أصبح يُعرف به هو هيرونيموس بوش. والمؤرّخون لا يعرفون ماذا يفعلون به أو بفنّه. مواطنه الرسّام البيرت ديورر زاره في بلدته في الأراضي المنخفضة، لكنه لم يقل عن الرجل شيئا، ربّما لأنه هو نفسه لم يعرف ماذا يقول.
وإلى اليوم، لا أحد استطاع تفسير فنّ هيرونيموس بوش. ولو تمعّنت في لوحاته عن قرب لوجدتها مزدحمة بصور وتفاصيل صغيرة وكثيرة كأنها آتية من عالم آخر: سمكة تفترس رجلا عاريا له ساقا ضفدع ويرتدي حذاءين مدبّبين، رأس يمشي على ذراعين، وحش يغتصب إنسانا، جسد عارٍ وملطّخ بالدم فوق حافّة سكّين ضخمة، طائر له أذنا كلب ويرتدي قبّعة على شكل علبة، سمك يسبح في الهواء، وبشر لهم رؤوس كالفاكهة.
يُلقّب بوش أحيانا بـ "دانتي الفنّانين" ويوصف بالناقد الذي يفضح فساد وطمع وخداع المجتمع. وقد استخدم العديد من الرموز والأيقونات، لدرجة انه أصبح بالنسبة للبعض متصوّفا أو زعيم طائفة أو ساحرا يمزج رسوماته بشفرات غامضة. وبعض النقّاد يصفه بأنه الشعلة التي أطلقت الحركة السوريالية في القرن العشرين والتي أنجبت عظماء مثل سلفادور دالي الذي تأثّر به. كما تأثّر به بيتر بريغل الأب الذي رسم عددا من اللوحات بنفس أسلوبه، مثل انتصار الموت و"سقوط الملائكة المتمرّدين".
كان ليوناردو دافنشي قد فرغ من رسم الموناليزا بالقرب من نهاية حياة بوش. وقد أصبحت هذه اللوحة مشهورة جدّا، ليس لأنها أجمل لوحة، وإنما بسبب ابتسامتها الأسطورية ولأنها أصبحت إعلانا عن فجر علم النفس الحديث في الفنّ وربّما في الحياة نفسها.
بعض المؤرّخين يقولون إن الطبيعة التي كان يرسمها هيرونيموس بوش هي لرجل مجنون أو شخص واقع تحت تأثير المخدّرات. وهناك من يرجّح أن تلك الرسومات أنتجها خيال رجل نقل نفسه إلى واقع آخر ألهمه رسم شرور البشر والعالم.
ترى هل كان بوش رمزا لفنّ القرون الوسطى، أم كان أوّل فنّان في عصر النهضة الشمالية؟ أيّا كان الحال، فإنه كان رسّاما نادرا. وهو لم يترك سوى عشرين لوحة، معظمها اليوم في مجموعات خاصّة. ويقال أن بعض صوره أكملها أفراد عائلته أو مساعدوه بعد موته.
هناك شفرة معقّدة للصور والإشارات الدينية للجنّة والنار والعنف الايروتيكي في لوحات بوش، ما يجعل من فنّه مجالا للخطيئة والتسامي. صوره المذهلة لمبانٍ تلتهمها النيران تبدو مثل مناظر قصف مدينة زمن الحرب. وهو يصوّر ما بعد الحياة على هيئة أنبوب اسطوانيّ ضخم. هذه هي الجنّة كما يمكن أن يتخيّلها كاتب قصص خيال علميّ.
كان من بين معجبيه الكبار الملك الاسباني فيليب الثاني الذي اشترى بعض رسوماته لتزيّن قصر الاسكوريال في مدريد. وأشهر أعماله، أي حديقة المباهج الأرضية ، يبدو أن فيليب كان يفضّلها وقد سجّلها ضمن مقتنياته عام 1593 هي وأربع لوحات أخرى للرسّام.
"حديقة المباهج الأرضية" تتألّف من ثلاثة أجزاء، وهي اليوم من مقتنيات متحف برادو الاسباني. والمتحف يعتبرها، عن حقّ، المعادل الآخر للموناليزا. والمؤرّخون الهولنديون يأتون لزيارتها كأكاديميين عديمي الفاعلية وكمحاربين مهزومين يحاولون أن يلقوا نظرة على الغنائم التي خسروها.
واللوحة تحكي قصّة خلق العالم وخلق البشر، ثم الخطيئة الأرضية فالطرد من الجنّة. اللوح الأيمن يصوّر الجحيم وفيه نرى نموذجا واضحا لرسومات الفنّان التي تنتمي لعالم آخر، واللوح الأوسط يصوّر البرزخ وهو عبارة عن طبيعة وضع فيها الرسّام أشياءه، بينما الأيسر يصوّر جنّات عدن وفيه نرى حيوانات تعيش جنبا إلى جنب مع البشر. والغريب أن الموت يوجد في الجنّة أيضا، ويُرمز إليه بصورة قطّ يحمل فارا وأسد يفترس غزالا.
كان هيرونيموس بوش بارعا في قدرته على التصوير والتخيّل؛ تخيُّل ما لا يستطيع احد تخيّله، مثل طبيعة الناس الذين يعيشون في الجنّة والنار وكيف يبدون هناك. تصويره للنار ضمّنه الخطايا السبع المميتة، حيث نرى امرأة واقعة في براثن وحش يحدّق في مرآة. السبب هو أنها ارتكبت خطيئة التباهي والخيلاء.


كان بوش شخصا أخلاقيّا بطريقة عنيفة، وقد اجتهد في تصوير كيف أن "الجنس البشريّ الملعون" يستحقّ الجحيم. ومثل معظم الأخلاقيين الثوريين، كان يصوّر العقاب والنار بطريقة أفضل من تصويره للجنّة، مع أن هذه اللوحات تتضمّن دعابة مبالغا فيها.
استخدامه لصور الشياطين وأنصاف البشر والآلات قد يكون الغرض منه إثارة الخوف والرهبة في محاولاته لتصوير شرور البشر. ويبدو انه كان يعتقد أن الشرّ يحصل في العقول وليس في العالم الواقعي.
لكن بوش في الرسم غير محظوظ لأنه لا يحتلّ سوى مكان صغير بين نظرائه من الفنّانين، ربّما لأن قليلين فقط هم من تناولوا أو رغبوا في تناول لوحاته.
وحتى اليوم ليس معروفا من أين استمدّ عناصر أو أفكار لوحاته. كما انه لا يُعرف عن حياته الشخصية سوى القليل. لكن معروف أنّه ينحدر من عائلة من الرسّامين الهولنديين من أصول ألمانية. ونعرف أيضا أنه توفّي في عام 1516 عن 65 عاما. وكان هو وزوجته منتميين لطائفة دينية محافظة تُدعى "التوّابين".
وتاريخ هذه الطائفة يشير إلى انه كان لأفرادها طقوسهم الخاصّة التي تُؤدّى في العلن أو خلف أبواب موصدة. وبعض المصادر التاريخية من تلك الفترة تذكر أن أفراد هذه الطائفة كانوا يجلدون ويعذّبون أنفسهم لأنهم كانوا يشعرون أن هذا العالم شرّير وفاسد ومن خلق الشيطان.
وأعضاء الحركات التائبة كانوا كثيرا ما يُخضِعون أجسادهم، التي يرونها كسجن شيّده الشيطان، لأقصى درجات التعذيب في محاولة لتكييف العقل لرفض ملذّات الجسد. والكثير من تلك الممارسات هي نتاج تجارب الخروج من الجسد التي يتبرّأ فيها العقل من الجسد.
وسنجد صدى لبعض هذه الأفكار والممارسات في الخطايا السبع التي رسمها بوش في لوحاته كثيرا. ولهذا السبب وغيره ذهب البعض للقول انه كان عضوا في جمعية تُدعى "الأرواح الحرّة" أو "أبناء آدم"، وهي طائفة مهرطقة وسرّية أخرى كانت تمارس العري والإباحية في محاولة لإعادة خلق براءة الجنّة.
إذن قد لا يكون بوش مجرّد ناقد اجتماعيّ، لكنه ناقد للعالم وللبشر ككلّ. ونحن جميعا برأيه شياطين، وهذه هي بالضبط الطريقة التي رسمنا بها.
ترى هل كان مسيحيّا تقيّا يستخدم سورياليّته كوسيلة لإخفاء نقده للمجتمع، أم انه كان يستخدم النقد لإيصال رسالة أعمق؟
خذ مثلا لوحته "زواج في قانا" التي يراها البعض دليلا على أفكاره الغامضة. في هذه اللوحة هناك مذبح وثنيّ في خلفية الغرفة، لكن لا علامة على وجود أتباع للمسيح، فقط هناك الطعام الذي يُقدّم في الزفاف والذي يتضمّن إوزّة!
هل رَسَم الإوزّة كي يشير إلى شعار الطائفة التي ينتمي إليها؟ الشخص الذي يقف أمام المذبح هو ساحر يشير بعصا إلى الأطباق التي يحملها خادمان إلى الحفل. والإوزّة التي في الطبق تنفث النار ورأس الغزال ينزّ سُمّاً.
كلّما رسم بوش أكثر، كلّما أصبحت الشفرات على وجوه شخصياته أكثر غرابة. المسيح وفيرونيكا هما الشخصان الوحيدان اللذان يبدوان بملامح إنسانية في لوحة "حمل الصليب". ولا أحد ممّن هم حولهما يمكن أن يكون إنسانا حقيقيّا.
ترى هل كان هيرونيموس بوش من خلال رسوماته الغريبة يرتاد أرضا جديدة لوحده؟ أم هل أصابه مسّ من الشيطان جعله يشطح بأفكاره بعيدا عن عالم الواقع والعقل؟
بعض مناظره لا يمكنك وصفها إلا بأنها عنيفة ومذهلة، ويمكن أن تجعل عينيك تتقافزان دهشة وانزعاجا. لكن أكثر شيء مدهش فيها هو أن تعرف متى رُسمت. إنها لا تأتي من القرن العشرين أو التاسع عشر أو حتى الثامن عشر، بل إن عمرها خمسمائة عام.
لذا يصحّ أن يقال أن هذا الرسّام جاء، وأكثر من أيّ فنّان آخر، عبر عملية شبيهة بطيّ الزمن، بمعنى أن لوحاته تبدو حديثة وسوريالية حتى قبل ظهور دالي بخمسة قرون. ومثل دالي ودافنشي، يمكن أن يقال عن بوش انه احد مبتكري العالم الحديث.

Credits
museodelprado.es
tuinderlusten-jheronimusbosch.ntr.nl/en

السبت، ديسمبر 17، 2016

كرمنجان: ملكة الجبال


قيرغيزستان هي إحدى جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت محكومة من روسيا. مساحتها تعادل مساحة انجلترا واسكوتلندا معا. لكن سكّانها لا يتجاوز عددهم الستّة ملايين نسمة.
والقيرغيز، تاريخيّا، هم شعب من البدو الرحّل كانوا يعتمدون التاريخ الشفهيّ لقرون. لكن في أوساط المتعلّمين منهم، ظلّ الخطّ العربي هو المستخدم منذ بدايات القرن الماضي.
وكثيرا ما يستخدم القيرغيز كلمة ملحمة في أحاديثهم، وأشهر ملاحمهم اسمها "ملحمة مناز" على اسم احد أبطالهم القوميين، وعمر هذه الملحمة أكثر من ألف عام وتتألّف من نصف مليون سطر.
لكن هناك ملحمة أخرى يعتزّ بها القيرغيز كثيرا، بطلتها امرأة صعدت من النسيان فجأة لتصبح قوّة سياسية لعبت دورا مهمّا في توحيد قيرغيزستان في القرن التاسع عشر.
إسم هذه المرأة كرمنجان. وعنها وعن حياتها وكفاحها ظهر مؤخّرا هذا الفيلم الذي يوضّح لماذا ثقافة القيرغيز تزخر بالقصص الملحمية مثل أرضهم نفسها.
الفيلم يحكي قصّة هذه المرأة، كما انه يصوّر آسيا الصغرى كمنطقة عانت من الاضطرابات على مرّ قرون وأنهكتها جيوش جنكيز خان ثمّ تيمورلنك بالإضافة إلى غيرهما من الغزاة.
في ذلك الوقت، كان القيرغيز منقسمين إلى أربعين قبيلة متنافرة في السهوب الواسعة وسلاسل الجبال النائية.
كانت كرمنجان امرأة ذكيّة، ويقال أنها كانت في شبابها تؤلّف أشعارا بالفارسية وتذيّلها باسم مستعار هو "زينات".
وقد ولدت هذه المرأة، واسمها الأصليّ ايلينا، لعائلة بسيطة تنتمي إلى قبيلة مونغوشي التي كانت معترفا بها من قبل الشعوب الثلاثة الأخرى، أي بخارى وكوكند وروسيا.
في طفولتها، لم تكن كرمنجان تختلف عن غيرها من الأطفال، إلى أن تنبّأ لها احد العرّافين بقدَر غامض وبأنها ستصبح زعيمة على شعبها.
وعندما بلغت مرحلة النضوج، طلب يدها من أهلها احد الزعماء القبليين هناك. لكن عندما أساء ذلك الزعيم معاملتها، هربت من الزواج الذي أكرهت عليه وعادت إلى منزلها جالبة "العار" على أسرتها المسلمة والمحافظة.
الزوج الذي أجبرت على الزواج منه يروي القرغيز قصصا كثيرة عن قسوته وتسلّطه، من قبيل انه كان يثقل كاهل الناس بالضرائب ويقتل خصومه بصلبهم وتسمميهم واختطافهم.
كان هروب كرمنجان من بيت الزوجية يُعدّ انتهاكا للقيم الأبوية والتقاليد العشائرية. كما أن قرارها التالي بأن تتزوّج من الرجل الذي كانت تحبّه كان، هو أيضا، تحدّيا للتقاليد القبلية الراسخة هناك منذ القدم.
استعادت كرمنجان اعتبارها عندما تزوّجها عليم بك، وهو زعيم قبليّ آخر كان يقاسمها الطموح بأن تتوحّد قبائل القيرغيز وتشكّل معا تحالفا يمكن أن يصدّ الغزاة الذين يهدّدون الحدود.
كان عليم بك حاكما على مقاطعة انديجان في خانة كوكند. وقد كان رجلا ذا نبل ومروءة، وكان يقف مع فكرة توحيد القيرغيز واستقلال خانة كوكند عن روسيا القيصرية.
كان عليم يعمل تحت لواء الأمير مظفّر الذي كان وقتها حاكما على خانة بخارى. وفي نفس الوقت كان يحكم خانة كوكند بما فيها خانة آلاي التي تنتمي إليها كرمنجان وقبيلتها.


وقد بارك مظفّر فكرة عليم بك بتوحيد القبائل ووعده بأن يقف معه ويدعمه إلى أن يتحقّق ذلك الهدف. لكن ابن مظفّر الأكبر كان له رأي آخر، إذ كان يطمح بأن تبقى السلطة مركّزة في عائلته. لذا أرسل سرّا ودون علم والده مجموعة من المجرمين لتغتال عليم بك. وفعلا تمّ له ما أراد عندما تمكّن رجاله من قتل عليم بك أثناء صلاته بينما كان في طريقه لمصالحة قبائل الشمال وعقد سلام معها.
بعد مقتل عليم بك، سارع الأمير مظفّر لزيارة كرمنجان لتعزيتها بمقتل زوجها، ثم ابلغها قراره بتعيينها أميرة على منطقتها في خطوة غير مسبوقة لأنها اعترفت بامرأة، ولأوّل مرّة، كقائد وزعيم. كما بادر مظفّر للانتقام من قتلة صديقه عليم بك بمن فيهم ابنه الذي خطّط ودبّر تلك المؤامرة.
غير أن تعيين كرمنجان كحاكم جاء في توقيت سيّئ، فخانة كوكند كانت تمرّ آنذاك بفترة انحدار وضعف، بينما كان الجيش الروسيّ يشقّ طريقه إلى وسط آسيا.
وكانت بلاد المرأة، أي خانة آلاي، أوّل محطّة في طريق الجيش الغازي. وكان عليها أن تقرّر إمّا السلام أو خوض الحرب، فاختارت الخيار الأول حقنا لدماء شعبها وعائلتها.
قرار كرمنجان كان حكيما عندما أقنعت زعماء القيرغيز بألا يحاربوا أقوى جيش وقتها، لأن التصدّي لعدوّ يفوقهم عددا وعدّة لن يؤدّي إلا إلى إبادة شعبها وتدمير بلدها. كما أنها لم تحارب لإنقاذ ابنها من الإعدام، بل حضرت تنفيذ الحكم وفضّلت عدم التضحية بمستقبل قومها من اجل إنقاذ ابنها.
كان الروس قد حكموا بإعدام ابنها بعد أن قتل جنودا رُوسا بسبب إهانتهم لزوجته عندما قصّوا خصلات من شعرها أثناء بحثهم عن مفتاح لصندوق رفض هو أن يفتحه.
وكانت عظمة كرمنجان تكمن في أنها قدّمت مصالح الناس على مصلحتها الخاصّة. كما أن تضحيتها بولدها سهّلت أمامها مهمّة التفاوض على حكم ذاتيّ معقول يحافظ على وحدة القبائل. وقد اعتُبرت تلك الخطوة الأساس القوميّ الذي بُنيت عليه الدولة في ما بعد.
في الفيلم تُصوّر كرمنجان كزعيمة وطنية ومدافعة عن حقوق النساء. لكن عيب الفيلم انه يقفز من مرحلة لأخرى، سنواتٍ وأحيانا عقودا، دون أن يشير إلى مرور الزمن وما حدث أثناء تلك القفزات.
لكن المخرج استطاع الإمساك بالطبيعة الخضراء الجميلة لآسيا الوسطى وثقافة الناس هناك، من الملابس الزاهية إلى الأجواء والطقوس المرتبطة بالأعراس والمآتم وغيرها من المناسبات.
المشهد الذي يظهر في بداية الفيلم، أي المرأة التي تُرجم حتى الموت لخيانتها زوجها، يقول بعض النقّاد والمؤرّخين انه ليس من تقاليد القيرغيز. ولو حدث مثل هذا الشيء فإن قبيلة المرأة تذهب إلى الحرب ولا ترجم المرأة.
في الفيلم ومن وقت لآخر، تظهر لقطة لنمر متحفّز وسط الطبيعة. وهو يظهر في كلّ مرّة تستدعي فيها البطلة القوّة والعزيمة، كما انه رمز للحرّية والشجاعة، علاوة على أن بعض القيرغيز يظنّون أنهم ينحدرون من سلالة النمور.
من بين الرسائل المهمّة التي يتضمّنها الفيلم أن المرأة يمكن أن تكون زوجة وأمّا وزعيمة للشعب في الوقت نفسه.
لنتذكّر أن كرمنجان عاشت في نهاية القرن التاسع عشر، أي أنها تتفوّق، زمنيّا ومن حيث الأسبقية، على انديرا غاندي وبنازير بوتو وغيرهما من النساء اللاتي تسلّمن دفّة الحكم في بلدانهن.
وقد عاملها الروس باحترام، بل ولقّبوها بملكة شعب آلاي. كما أكبروا فيها قرارها بحقن دماء شعبها وقدّروا تسامحها مع الثقافات والأديان المختلفة في آسيا الوسطى.
في بعض مشاهد هذا الفيلم، كثيرا ما تمتزج الحقيقة بالخيال. لكن علينا أن نتذكّر أن قصّة كرمنجان ونضالها ودورها الكبير في توحيد بلدها ترك أثره بوضوح على مستقبل القرغيز. وليس مصادفة أن قيرغيزستان هي الدولة المسلمة الوحيدة في وسط آسيا التي انتخبت منذ سنوات رئيسا لها امرأة هي روزا اوتونبيفا.
يمكن مشاهدة الفيلم كاملا على هذا الرابط .

Credits
hollywoodreporter.com

الأحد، ديسمبر 11، 2016

عالم رائع

كم أننا، نحن البشر، محظوظون بأن نكون جزءا من هذا العالم الرائع الذي نتقاسم العيش فيه مع ملايين المخلوقات الجميلة الأشكال والألوان.
هذا الطائر "فوق" ذو الألوان الزاهية والمتناغمة هو احد الطيور التي طالما أثارت اهتمام وفضول العلماء. اسمه الوروار، سريع الحركة وبارع في المناورة، تذكّرنا إيّاه إحدى أغاني فيروز المشهورة، آكل للعسل، وله صوت جميل، ويعيش في ثلاث قارّات، غالبا في الغابات وبالقرب من منابع المياه.
والوروار طائر غير عاديّ وطيرانه أشبه ما يكون بالمعجزة. ويمكن القول انه ثمرة للخطّ التطوّري بين ما كان يُعتبر ذات يوم زواحف، وبين مجموعة من الديناصورات آكلة اللحوم، وهي نوع من الوحوش ذوات الأقدام التي كانت موجودة على الأرض منذ ملايين السنين عندما كان البشر مجرّد ومضة سريعة في تاريخ التطوّر.
وفي الواقع، فإن كلّ الطيور هي سليلة الديناصورات! أي أن رحلة الديناصور لم تنته قبل 65 مليون سنة، بل تسلّلت بعض من جيناته من خلال المحرقة التي نجمت عن النيزك الذي ضرب الأرض آنذاك.
وهذه الجينات ما تزال تعيش وتتنفّس بيننا. ولو نظرت خارج نافذتك ليلا، فهناك احتمال أن ترى واحدا من أحفاد الديناصورات وهو يرفع صوته بالنقيق في مكان غير بعيد منك.
ولو بحثت في محرك غوغل عن "الأركيوبتركس"، فستكتشف ما اكتشفه علماء الحفريات في سبعينات القرن التاسع عشر، من أن خليّة صغيرة على شجرة الحياة التطوّرية يمكنها أن تحافظ على استمرارية الحياة دهوراً طويلة.
كلّ ما هو على الأرض من مخلوقات تدلّ على عظمة الخالق ومعجزة الخلق. وبين كلّ هذه الأعداد المهولة من النباتات والحيوانات والطيور التي تزيّن سطح وسماء هذا الكوكب الصغير، فإننا نحن البشر لسنا أكثر من جزء صغير وسريع الزوال من متاهة الحياة المعقّدة هذه.
في عام 1981 كتب العالم ريتشارد دوكينز يقول: كلّ شيء على هذه الأرض يناسب مكانه تماما. ومثل لعبة ضخمة، فإن كلّ شيء مصمّم للحياة. الشمس تشرق ثم تغيب، والهواء مُعدّ للتنفّس، والمياه تدعم الحياة، والأشجار تنمو، والمطر يهطل، وما ارتفع شيء إلى فوق إلا وعاد إلى أسفل".
من الصعب أن نصدّق كم نحن محظوظون بأن نأوي إلى النوم على أصوات أوركسترا من نقيق الضفادع ونستيقظ على أصوات جوقة من العصافير المغرّدة. وعندما ينتهي اجلنا على الأرض، فإننا نتمنّى لكلّ إنسان يعيش على وجه هذا الكوكب، بمن فيهم أبناؤنا وأحفادنا، أن يشعروا بنفس هذه البهجة التي لا تُوصف وأن يقدّروها حقّ قدرها.
إن أكثر من يقدّر هذه المنحة العظيمة هم الشعراء والكتّاب والفنّانون والنحّاتون والمغنّون والفلاسفة الذين يفهمون ما فهمته ريتشيل كارسون عندما أشارت ذات مرّة إلى أن الإحساس بالدهشة لا يقلّ أهمّية عن إحساسك بأنك تعرف".
إن الأشخاص الحالمين هم أولئك الذين يخطّطون حياتهم بحيث يعيشون دون أن يفسدوا أو يدمّروا الثرة الطبيعية للأرض، مقابل تلك الفئة من البشر الذين يعتقدون أن البشرية يمكن لها البقاء على قيد الحياة، بغضّ النظر عن حالة التدمير التي تتعرّض لها الغابات والأنهار والهواء.
ولو توقّف الإنسان عن التسبّب في مزيد من الأضرار للبيئة، فإن حالة الانقراض الوشيك التي تهدّد الكثير من الطيور والمخلوقات يمكن وقفها، فالطبيعة تعيد بناء نفسها تلقائيا من خلال نظم الإصلاح الذاتيّ التي تتولّى المهمّة.
وما سيحدث بعد ذلك هو أن الأنواع المتضائلة ستتكاثر، والغابات ستتجدّد، والأنهار والبحيرات ستطهّر نفسها. وبعد ذلك لن يمضي وقت طويل حتى تصبح المناطق المتضرّرة من عالمنا الرائع، ومرّة أخرى، ملاذات آمنة للحياة.

Credits
sanctuaryasia.com

الثلاثاء، ديسمبر 06، 2016

رحلة في عالم فيرمير


مايكل وايت شاعر وأستاذ جامعيّ أمريكيّ، عايش ظروفا عائلية صعبة بعد وفاة زوجته الأولى وطلاقه من الثانية، فحزم أمتعته وتوجّه إلى أمستردام على أمل أن يلتمس فيها بعض العزاء.
وبينما كان يزور متحف ريكس لمعاينة لوحات رسّامه المفضّل رمبراندت، وجد نفسه وجها لوجه أمام فيرمير، فتملّكه الشغف وأصبح مهجوسا بمناظر الأخير لدرجة انه قرّر أن يطوف متاحف العالم باحثا عن لوحاته.
ومحصّلة هذه الرحلة الطويلة هي هذا الكتاب الذي يمكن وصفه بأنه قطعة أثرية تذكّر بقصّة غرامية. انه ليس عن الرسم، بقدر ما هو عن الحبّ. وجزء منه هو وصف للرحلة، والجزء الآخر عبارة عن تأمّلات في معنى الفنّ.
في الكتاب يتحدّث المؤلّف عن قصّته الشخصية كشاعر، وكيف أصبحت لوحات فيرمير بالنسبة له مصدرا للسلوى والنسيان، كما يتحدّث عن زوجته الراحلة ووفائه لها.


قبل عشر سنوات عشتُ تجربة فريدة مع الرسم، وكنت قد مررت في ذلك العام بحالة من الاكتئاب والحزن جرّاء وفاة زوجتي الأولى ثم طلاقي من زوجتي الثانية. وبصراحة لم يكن في حياتي شيء على ما يرام، وساورني شعور قويّ بالهرب لأضع محيطا ورائي. لذا قرّرت أن آخذ أوّل طائرة إلى أمستردام.
وبحكم أنّني شاعر، لم يكن لديّ أيّة فكرة عن الفنّ. لكن كنت اعرف على الأقلّ أن رمبراندت هو رسّامي المفضّل. وقد ذهبت إلى متحف ريكس وأنا انوي أن استلقي في ضوء كلّ لوحة من لوحات رمبراندت التي سأجدها هناك. لكن في طريقي قرّرت أن آخذ نظرة عجلى على معرض فرعيّ صغير كان يعرض أربع لوحات ليوهانس فيرمير.
وأنا امشي إلى داخل الصالة الصغيرة، أتذكّر بوضوح أنني شعرت بقشعريرة تسري في جسدي، كما كتبت في ما بعد في مذكّراتي بعنوان "أسفار مع فيرمير". وعندما وقفت مباشرة أمام اللوحات، خاصّة "خادمة الحليب" و"الزقاق الصغير" و"امرأة بفستان ازرق تقرأ رسالة"، وجدت أن اللوحات صغيرة بشكل لم أتوقّعه. لكن تأثيرها عليّ كان قويّا جدّا، لدرجة انه كان من الصعب عليّ أن أتحرّك أو أتنفّس.


"خادمة الحليب" بشكل خاصّ بدا أنها تثير نوعا من الوخز والإلحاح الذي استمتعت به حتى وإن كان مزعجا. وعلى الفور وخلال ثوان قليلة، عرفت أنني سأكتب عن فيرمير. وككاتب، لم اشعر أبدا بمثل ذلك اليقين أو الاقتناع من قبل، ولم اشكّ فيه أبدا. كانت هناك قوّة غريبة لا يمكن تفسيرها، كانت تناديني لأكتب، واستجبت لها.
لوحة خادمة الحليب تصوّر امرأة ممتلئة الجسم تصبّ الحليب في وعاء من الفخار. وهي تقف في منتصف عالمها الخاصّ، الذي هو عبارة عن مطبخ بجدران من الجصّ، مع قشور متناثرة من كسر الخبز على الأرضية. عينا المرأة مسبلتان بلطف إلى أسفل وكأنها ملتهية بعالم آخر. ويبدو أنها تنظر خلسة إلى حافّة الحياة، أو في مرآة، وتدير حوارا ساحرا في تلك اللحظة.
وما فعلته بعد ذلك هو أنني خطوت إلى خارج المتحف وجلست على أوّل مقعد رأيته، ثم رسمت خطّ سير يسمح لي بزيارة معظم لوحات فيرمير في العالم خلال العام التالي.
وقد قرأت وبحثت وسافرت ثم كتبت عن رحلاتي. كنت أريد أن أدوّن انطباعاتي عن الفنّ طالما أنني استطيع ذلك. وأوّل شيء فعلته بعد عودتي إلى الوطن هو أنني كتبت قصائد عن لوحات فيرمير التي رأيتها، مستخدما المذكّرات الكثيرة التي خربشتها أثناء وقوفي في المعارض.
وبعد أن كتبت بضع قصائد عن الرحلة، مدينةً مدينة ومتحفاً متحفا، قمت بتضمين الكتاب لقاءات عشوائية أجريتها مع غرباء ووصفا لوجبات لا تُنسى الخ، ظنّا منّي أن ذلك سيضيف إلى الكتابة شيئا من الدراما والإحساس بالفورية. وفي نهاية المطاف ومع تراكم الصفحات، أصبح الكتاب عبارة عن مذكّرات شخصية.
أن تصبح مهجوسا بفيرمير ليس بالشيء الجديد طبعا. فكلّ شخص، بدءا من بروست إلى تريسي شيفالييه، شعروا بجاذبيّته الغريبة. وأنت تتأمّل في شخوصه، سيُخيّل إليك كما لو أنهم منتزَعون من رواية ساحرة عن الحبّ المفقود والرغبة والشفاء.
كان فيرمير في زمانه شخصية مهمَلة، لكن نجمه سطع بقوّة في السنوات الأخيرة، خاصّة بعد المعرض الكبير الذي أقيم لأعماله في الولايات المتحدة عام 1995، والذي قيل إن نجم فيرمير طغى بعده على نجم البطل الهولنديّ العظيم رمبراندت.


عندما أنهيت الكتاب، اتصلت بإحدى دور النشر فوافقت على نشره بعد أن اخترت له عنوان "أسفار مع فيرمير". وبهذه الطريقة حقّقتُ شيئا من حلمي كشاعر. والآن وأنا اتأمّل هذه الحلقة المذهلة من حياتي، أحاول أن احدّد ما الذي اجتذبني في فيرمير لكي اكتب عنه هذا الكتاب دون أيّ تدبّر أو تفكير أو تخطيط مسبق؟!
في عصرنا الحاضر ومع افتتاننا بالواقع وبما نسمّيه قصص الخيال العلميّ، نجد أنفسنا ملفوفين داخل عالم فيرمير الغامض، خاصّة ما يشاع أحيانا من انه كان يستخدم الأدوات البصرية في لوحاته.
في لوحة جندي وفتاة مبتسمة ، يرسم الفنّان امرأة ترتدي غطاء رأس ابيض ووجهها يلمع في الضوء المتسرّب من النافذة. يدها ممدودة باتجاه جنديّ يجلس قبالتها ويحتلّ معظم مقدّمة الصورة وظهره إلى الناظر. عينا المرأة مثبّتة على الرجل وتعبيراتها تنمّ عن سعادة. غير أن اللوحة ترفض أن تقدّم تفسيرا لما يجري.
وفي لوحة "خادمة نائمة"، يرسم فيرمير خادمة بملابس ثمينة تجلس عند طاولة بمفردها، عيناها مغمضتان ورأسها مسنود إلى يدها وخلفها باب موارب يؤدّي إلى غرفة فارغة.
في تلك الغرفة، كان هناك رجل وكلب. لكن فيرمير رسم فوقهما وأزال أيّ اثر لهما. الغياب يتردّد في زوايا هذه الغرفة مثل سؤال يلفّه السكون والصمت، لحظة من لحظات الحياة التي تستعصي على التفسير. هل هي نائمة حقّا كما يوحي المشهد؟ أم أنها تتظاهر بالنوم لمصلحة الرجل الذي لم يعد موجودا في اللوحة؟!
وفي لوحة "امرأة تُوقف عزفها فجأة"، يرسم الفنّان امرأة تجلس إلى طاولة وأمامها نوتة موسيقية. لكن انتباهها يتحوّل عن الموسيقى فجأة لتنظر إلى المتلقّي بتعبيرات غامضة.
أعمال فيرمير تتضمّن مثل هذه الخيوط السردية الفاتنة، لكنها تظلّ في النهاية مجرّد خيوط. وهذه الحالات السردية هي دائما عن الفقد العاطفي وتجدّد الأمل.
إن الفكرة القائلة بأن صور فيرمير قد تكون نوعا من حيل الصالون الفانتازية وأنها تقليد للطبيعة بفضل تقنية الغرفة المظلمة، وهي نظرية شعبية روّج لها كلّ من ديفيد هوكني وفيليب ستيدمان، لم تسهم سوى في صقل الأسطورة أكثر وجعلها أكثر جاذبيّة ولمعانا.


وهناك أسرار وألغاز أخرى في فنّ فيرمير يلعب فيها النازيّون ومزوّرو الفنّ وأعمال الدراما الغامضة أدوارا مهمّة. لكن اتّضح أن لا شيء من هذه الأمور كان وثيق الصلة بحالتي، فاهتمامي منذ البداية كان ذا طابع شخصيّ للغاية.
ومن هذه المسافة في الزمن استطيع أن أقول إن الحالة التي مررت بها بسبب قصّة الطلاق ووفاة زوجتي الأولى كانت دافعي الأوّل للاهتمام بفيرمير والكتابة عنه. وأعتقد أن لوحاته هي قبل كل شيء عبارة عن تشريح للحياة الداخلية والحميمة للناس.
وبسبب ظروفي الشخصية، كانت تلك اللوحات على مقاسي تماما. فقد جعلتني اشعر بأشياء لم اشعر بها طوال سنوات وبلورت مفهومي للحبّ والعواطف والتي تأكّدت أكثر أثناء زياراتي لمتاحف لاهاي ونيويورك ولندن.
إنني أتصوّر انه ليس من مهمّة الخبراء أو النقّاد أن يشرحوا لنا كيف كان فيرمير يخلق تأثيراته الغامضة وكيف استخدم فهمه العميق لأسطح الأشياء وللكيفية التي يعمل بها الضوء. يكفي أن تقف أمام لوحة من لوحاته لتدرك انك أمام شخص آخر حقيقيّ وحيّ يعرفك بأفضل ممّا تعرف نفسك ويحدّد لمشاعرك آفاقا ومسارات جديدة.
وإذا كانت لقاءاتي مع فيرمير نقطة تحوّل لي على المستوى الشخصي، فربّما يمكنني القول أيضا أن كوني شاعرا غنائيّا قد يساعد في توضيح ما يجري داخل فنّه الغنائي.
إن نساء فيرمير الغامضات وديكوراته الداخلية المشحونة سيكولوجيّا تتيح نوعا من المقابلة التي تختفي فيها اللوحة بالكامل ولا يعود المتلقّي يرى فيها سوى نفسه. وهذا هو سرّ فيرمير الحقيقيّ ومصدر الغموض والفتنة في لوحاته.

Credits
michaelwhitepoet.com

السبت، ديسمبر 03، 2016

قصص وملاحم


كثيرا ما تتضمّن قصص الملاحم بحثا ومغامرات وروّادا يناضلون في محاولتهم الذهاب إلى ما هو أبعد من الحالة الراهنة، ولأيّ سبب نبيل. غلغامش، مثلا، كان يبحث عن الخلود. وإينياس أنجز قدَرَه بتأسيس إمبراطورية جديدة في لاتيوم. وأخيل حارب من اجل الأخوّة ولينتقم من موت صديقه. وأوديسيوس حاول الإبحار إلى ما وراء الشمس الغاربة، وطوال الطريق ظلّ يحلم بالعودة إلى "إيثيكا" أو الوطن.
تقاليد الملاحم وُلدت منذ القدم لتتحدّث عن توق الإنسان ورغبته الفطرية في أن يتجاوز مكانه وأن يسافر إلى ما وراء الحدود المقيّدة له على هذه الأرض.
العالم الفيزيائيّ كارل ساغان كتب في مقدّمة مؤلّفه "الكون" يقول: البشر المولودون من غبار النجوم يقطنون الآن ولبعض الوقت عالما يُسمّى الأرض، وقريبا سيبدءون رحلة العودة إلى الوطن".
ومثل اوديسيوس، فإن البشر في حالة بحث أبديّ عن وطن، أي عن أصولنا؛ عن مكان يملك الإجابات على تساؤلاتنا ويهدّئ من مخاوفنا.
غير أن إيثيكا البشر ظلّت متمنّعة ومراوغة. هذه الإيثيكا الأبدية، سواءً كانت بالمعنى الدينيّ مثل الجنّة والنيرفانا والموشكا، أو بالمعنى الأدبيّ مثل لاتيوم أو يوتوبيا أو عدن، كانت وما تزال الهدف النهائيّ للبشرية الباحثة، وحتى لنقّاد ما بعد الحداثة والحركات النسوية.
والملاحم الأدبية تحدّثت عن هذا البحث منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، وهو بحث لم يكلّ أو يملّ، فقط غيّر أشكاله وأساليبه بينما الإنسانية تبدأ الآن في استكشاف الكواكب الأخرى.
غير أن بعض النقّاد يرون أن القصيدة الملحمية كجنس أدبيّ أنجزت نموّها منذ زمن طويل وأصبحت قديمة ولا علاقة لها سوى "بالماضي التليد". وهذا الماضي لا ارتباط له بالخطاب المعاصر، كما أن عقل القارئ الحديث لا يمكنه الدخول إلى الماضي الملحميّ، فنحن اليوم منقطعون عن أزمنة الملاحم وهي تظلّ مجرّد ذكرى بعيدة وماض مثالي.
إن فكرة وجود عدد من الآلهة يقرّرون مصير البشر ويمثّلون تهديدا دائما لبعضهم البعض وللخليقة، ثمّ في النهاية يلوذون بالسماء حيث يعيشون هناك حياة أبدية على هيئة مجموعات نجمية أو أبراج، تبدو فكرة غريبة على كلّ الثقافات هذه الأيّام.
كما أن الأديان المعروفة اليوم تناقض فكرة تعدّد الآلهة، بل إنها حتى ترفض الحضارات القديمة على أساس أنها وثنية وضدّ التوحيد.
لكن روح الملاحم ما تزال تعيش معنا إلى اليوم وتؤثّر على المتلقي المعاصر من خلال قصص الخيال العلميّ التي يمكن من خلالها أن نفهم تقاليد الملاحم ونفهم أنفسنا كبشر بشكل أفضل.
روايات الخيال العلمي تضع عقل الإنسان في مواجهة مع أسئلة الذات والمصير. فيلم "حرب النجوم" مثلا هو عبارة عن قصّة ملحمية، من حيث أن الملايين شاهدوه وأنه يتضمّن صورا وأفكارا وموتيفات عن مخلوقات مختلفة، كما أن الفيلم يحمل بصمة مبتكره.
ملحمة الاوديسّا، التي تعني حرفيّا الرحلة الطويلة إلى الوطن، هي ككلّ الملاحم تقريبا عبارة عن قصّة عودة، وهي تسأل: هل يمكن للإنسان أن يعود إلى وطنه، خاصّة بعد سنوات طويلة من الحرب الدامية؟ والملحمة تحاول أن تعيد النظام بعد فوضى الحرب التي تُوجّت بسقوط طروادة.
في نهاية الملحمة يتعلّم اوديسيوس أن أفضل مكان له هو حيث تكون زوجته وعائلته، أي الوطن.

Credits
literature.org

الجمعة، نوفمبر 25، 2016

الأوقات الثمينة للدوق

"الأوقات الثمينة للدوق" هو عنوان أهمّ مخطوطة ملوّنة من أوربّا القرن الخامس عشر. وهي عبارة عن كتاب يحتوي على زخارف ورسومات نفيسة رسمها الإخوة لامبور بين عامي 1412 و 1416 بناءً على تكليف من راعيهم دوق دو بيري.
و المخطوطة توضّح بالرسم الأنشطة المختلفة التي يقوم بها بلاط الدوق وفلاحوه في كلّ شهر من أشهر السنة.
وقد تُركت المخطوطة ناقصة عند وفاة الإخوة الثلاثة في عام 1416 خلال موجة الطاعون التي ضربت أوربّا في بداية القرن الخامس عشر.
كانوا وقتها دون الثلاثين، وهذا كان متوسّط العمر الطبيعي للإنسان في القرون الوسطى. لكن على الرغم من حياتهم القصيرة، إلا أنهم استطاعوا أن ينتجوا عددا من الأعمال الفنّية الرائعة من بينها هذه المخطوطة التي تُعدّ الأشهر.
كان الإخوة لامبور بارعين جدّا في رسم المنمنمات، ولهذا السبب ذاعت شهرتهم كثيرا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. ومعظم التراث الذي تركوه تمّ نسيانه مع مرور الوقت، إلى أن اشترى دوق "امالي" احد أعمالهم.
وقد تعهّدهم بالرعاية دوق دو بيري. وقصّتهم أصبحت مرتبطة بعهد ذلك الأمير الموسر والمتنفّذ والذي كان بنفس الوقت راعيا ومشجّعا للفنون.
وعلى الأرجح قضى احدهم بعض الوقت في ايطاليا لدراسة فنّ عصر النهضة، وخاصّة طريقة رسم المناظر الطبيعية والحوافّ الزخرفية.
وهذه المخطوطة، كما سبق، تتضمّن رسومات عن أنشطة الدوق وعن الأعمال المختلفة التي يقوم بها العمّال والفلاحون الذين يعملون في خدمته. وفي خلفية معظم هذه الصور، تظهر قلاع وأراض تخصّ دوق دو بيري، وأحيانا أجزاء من داخل قصره.
واللوحات مليئة بالتفاصيل المتعلّقة بأنشطة كلّ شهر. في شهر يناير، مثلا نرى الدوق جالسا في قصره بثيابه الزرقاء وهو يتبادل الهدايا مع ضيوفه لمناسبة رأس السنة الجديدة. الطاولات مغطّاة بالحرير والأشياء الثمينة التي ترمز إلى ثراء الدوق وذوقه.
المخطوطة التي تصوّر شهر فبراير تأخذ الناظر إلى فصل الشتاء القارس. الضوء يسقط على طبيعة ثلجية، بينما نرى في الخلفية بلدة مغطّاة بالجليد مع مزارع وحماره. وفي الوسط نرى فلاحا آخر يقطع الأخشاب، بينما يلتمس ثالث ملجئاً يقيه من البرد. وفي المقدّمة نرى عائلة من الفلاحين يُدفّئون أنفسهم في بيت خشبيّ صغير.
وفي مايو، نرى نبلاء يركبون الخيول في موكب، وفي الخلفية مقرّ إقامة الدوق في باريس.
في ابريل يظهر شابّان، رجل وامرأة، وهما يتبادلان الخواتم. وفي يونيو نرى بعضا من مشاهد الحصاد. وفي أغسطس الصيد بالصقور. وفي سبتمبر حصاد العنب. وفي أكتوبر حراثة الحقول. وهكذا.
وفي بعض هذه اللوحات مناظر لفرسان يبرزون من القلعة ويتأهّبون للذهاب إلى المعركة.
الرسّامون الثلاثة كانوا جزءا من هذه الطقوس. وقد استخدموا لإنجاز هذه الصور فُرَشا رائعة وطلاء رسم ثمين.
الفنّ القوطي، وهو الفنّ الذي ارتبط بتلك الفترة، كان يركّز على الأنماط الزخرفية. وهذا واضح من الملابس التي يرتديها الأشخاص. ولكن حتى الأشجار أيضا تخلق أشكالا زخرفية. والأشخاص أنيقون وبأطراف طويلة.
تمّ العمل على هذا الكتاب على مدار قرن كامل تقريبا. إذ بعد وفاة الإخوة لامبور في العام 1416، كلّف دوق دو سافوي الرسّام جان كولومب بإتمام مهمّتهم وإكمال الرسومات.
وهناك شيء ربّما يفاجئ المتلقّي المعاصر ويثير فضوله، وهو إدخال الأبراج الفلكية في الكتاب. ففي رأس كلّ صفحة، هناك علامة فلكية. والسبب هو أن النجوم كانت مرتبطة بمواقيت الزراعة. وحتى الأطبّاء في القرون الوسطى كانوا يعتقدون أن صحّة الناس لها علاقة بالأبراج التي ولدوا فيها. أما الكنيسة فكانت تلجأ للأبراج لحساب مواقيت الصيام.

الثلاثاء، نوفمبر 22، 2016

كلام في الموسيقى


الموسيقى لها فوائد صحّية عديدة. يمكن للموسيقى، مثلا، أن تخفّف التوتّر وتريح الأعصاب إذا ما اختيرت بعناية. وهذا طبعا ليس اكتشافا جديدا، بل تؤكّده التجارب العلمية من قديم.
لكن أحيانا يتعيّن علينا أن لا نعود إلى مفضّلاتنا الموسيقية، لأنها قد تثير في دواخلنا ذكريات حزينة أو غير سارّة كان من الأولى أن نتجاوزها وأن ننساها.
روبرت شومان، المؤلّف الموسيقيّ الألماني، كتب في العام 1838 مجموعة جميلة من المعزوفات الموسيقية المؤلّفة للبيانو أسماها مشاهد من زمن الطفولة .
وهي، كما يوحي اسمها، عبارة عن مشاهد متتالية من القصص والذكريات التي ارتبطت في ذهن المؤلّف بزمن طفولته.
أوّل قطعة من هذه المجموعة اختار لها عنوان عن أرض غريبة وأناس غرباء ، وفيها يرسم صورة فاتنة عن التفاهم والعطف من خلال عيني ومشاعر طفل.
المعزوفة هادئة، وشومان يتذكّر من خلالها زمن البراءة في طفولته وصباه. كما انه يريد أن يذكّرنا أن هناك أوقاتا تكون فيها عقولنا هادئة، وبأنه عاش في شبابه بعد ذلك حياة اتّسمت بالاضطراب وعدم الاستقرار عندما كبر وشقّ طريقه في الحياة.
وهناك أيضا مقطوعة أخرى ضمن هذه المجموعة يتّسم لحنها، هي أيضا، بالرقّة والتأمّل الحزين اسمها الشاعر يتحدّث .
لكن يجب أن نتذكّر أن الموسيقى والأغاني أحيانا لا تتضمّن بالضرورة معاني حقيقية، بل يمكن أن يكون لها معانٍ مختلفة من شخص لآخر تبعا لاختلاف الزاوية التي ننظر من خلالها إلى العمل الموسيقيّ.
ويمكن أن تتضمّن الموسيقى، والأغاني استطرادا، دروسا من الحياة. بالنسبة إلى الأغاني العربية خصوصا، صحيح أنها تركّز في معظمها على مشاعر كالغيرة والهجر ونوعية الشعور الذي يثيرانه في النفس. لكن الصحيح أيضا أن هناك مقاطع من كلمات بعض الأغاني يمكن أن تختصر قصصا بحالها وأن تلامس الحالة الإنسانية بعمق. ومثل هذه المعاني المكثفة نجدها خاصّة في الكثير من أغاني فيروز التي كتبها الرحابنة.
وهناك أيضا موسيقى تتحدّث عن الصور والذكريات السعيدة. وأحيانا تستمع إلى كلمات أغنية ما فتندهش من مدى قدرتها على أن تعبّر عن مشاعر حميمة بطريقة مباشرة وقويّة.
وبالمقابل هناك أغانٍ تبعث الإحساس بالضياع أو فقدان الاتجاه. وهذا النوع من المشاعر كثيرا ما يرافق الإنسان في بحثه عن حقائق الأشياء والحياة. وهي عملية تصاحب الإنسان طوال حياته.
وهناك من هذه الأغاني ما تتضمّن أفكارا قاتمة تُشعِرك بأن العالم كلّه قد توقّف عند لحظة واحدة. ومع ذلك وبرغم سوداوية الكلمات، إلا أنها بديعة وتوفّر مثالا عظيما عن فنّ الكلمات الجميل.

الأربعاء، نوفمبر 16، 2016

التذهيب: روحانية وعراقة


التذهيب كلمة عربية مشتقّة من الذهب، وتعني حرفيا تغطية شيء ما بالذهب. وفنّ التذهيب هو فرع من فنّ المنمنمات وجزء من فنّ تصميم الكتب. ويتضمّن رسم أنماط وأشكال جميلة من النباتات والأزهار والأشكال الهندسية على هوامش وحوافّ الكتب الدينية والعلمية والثقافية وكذلك المجموعات الشعرية.
في البداية، استُخدم الذهب المذاب في هذا الفنّ، وهذا هو السبب في تسميته بالتذهيب. لكن في ما بعد استُخدمت مع اللون الذهبيّ ألوان أخرى كالأزرق السماويّ والأخضر والقرمزي والفيروزي. ورغم دخول ألوان أخرى عليه إلا أن التذهيب ظلّ محتفظا باسمه القديم.
بعض المصادر تشير إلى أن التذهيب كفنّ بدأ في إيران، إذ يقال انه يعود إلى العصر الساساني، وقيل إلى الحقبة الاخمينية التي كانت سلالة قويّة اشتهر ملوكها برعايتهم واهتمامهم بالفنون.
وكتاب الافيستا الفارسيّ هو مثال على استخدام التذهيب لتزيين المخطوطات الدينية القديمة. ويقال أن ماني، النبيّ الفارسيّ القديم من القرن الثالث قبل الميلاد، زيّن كتابه المقدّس مستخدما الذهب والمنمنمات.
واليوم يمكن العثور على بعض جذور هذا الفنّ بوضوح في فنون فارس ما قبل الإسلام، خاصّة تحت حكم الساسانيين، متمثّلة في أعمال البلاط واستخدام أنماط من الأزهار والنباتات والمضلّعات النجمية.
إذن بدايات التذهيب تشير إلى انه كان يُستخدم لتزيين صفحات العنوان والعناوين الفرعية والحواشي في الكتب المقدّسة والقصائد الملحمية. لكن في فترة تالية ظهرت عناصره في السجّاد الفارسي والموزاييك أيضا.


لكنّ لهذا الفن جذورا في أفغانستان أيضا، وهذا واضح من التصاميم التي تزيّن دواوين الشعر وتلك المنقوشة على البلاط الذي يزيّن الأضرحة في مزار شريف وغيرها من مدن أفغانستان.
وبعد ظهور الإسلام، استُخدم التذهيب لتزيين المصحف الشريف ثم استخدمه الحكّام العرب والمسلمون، ليتحوّل من ثمّ إلى فنّ إسلامي. وجزء من هذا الفنّ عبارة عن رياضيّات والجزء الآخر فنّ. وفي الغالب لا ترى فيه صورا أو رسوما لأشخاص.
ومثل الرسم، فإن للتذهيب مدارسه الخاصّة من حيث الأفكار والفترات التاريخية. هناك مثلا التذهيب السلجوقي والبخاري والتيموري والصفوي والقاجاري .. إلى آخره.
والاختلافات بين كلّ مدرسة وأخرى واضحة في طريقة وضع وتوظيف الأشكال والأنماط. على سبيل المثال، التذهيب في مدرسة بخارى يمكن تمييزه بسهولة عن المدارس الأخرى، لأنه يستخدم اللون الأسود وغيره من الألوان القاتمة، بينما لا تستخدم المدارس الأخرى هذه الألوان.
وكلّ فترة من الفترات التي مرّ بها فنّ التذهيب تعبّر عن روح الناس الذين عاشوا في ذلك الوقت. في القرن الرابع مثلا كان التذهيب بسيطا، ثم صار أكثر تماسكا في القرنين الخامس والسادس، وأصبح معقّدا وباذخا جدّا في القرنين التاسع والعاشر للهجرة.


أعمال التذهيب في القرون الماضية تثبت بوضوح تأثير التذهيب الفارسي على البلدان الأخرى مثل الهند والإمبراطورية العثمانية والبلدان العربية. فقد انتقل الفنّانون الفرس إلى الهند في الفترة الصفوية المبكّرة وأسّسوا هناك مدارس رسم إيرانية وهندية. والأعمال الفنّية التي ظهرت إبّان الحقبة المغولية في الهند تتميّز بجمالها وروعتها وتشير إلى أنها استمرار لمدارس الرسم الهندية والإيرانية.
الأتراك العثمانيون كانوا هم أيضا بارعين في التذهيب. والفنّانون الإيرانيون هم من نقلوا هذا الفنّ إلى هناك وأنشئوا له مدارس مستقلّة.
الأوربّيون أيضا لديهم أسلوبهم الخاصّ في التذهيب والذي يختلف تماما عن التذهيب الإيراني والتركي والعربي والهندي. وكانوا يستخدمون أغصان العنب وأوراق الأشجار الملوّنة في التذهيب، وفي بعض الأحيان كانوا يضيفون الطيور والحيوانات والوجوه البشرية والمناظر الطبيعية.
وتجدر الإشارة إلى أن التذهيب يستخدم إطارات مختلفة من المربّعات المستطيلات والدوائر، وكلّ واحد من هذه الأنواع له سماته الخاصّة والجميلة.
الفنّانون القدامى كانوا يستخدمون الألوان الطبيعية المستخلصة من اللازورد والنحاس وغيرها من الموادّ. ولأنها كانت طبيعية فإنها كانت تروق للناس. كما كانوا يستخدمون فُرَشا مصنوعة من الشَعر الطبيعي ويمضون ساعات طوالا كي يبلغوا أعلى درجات الإتقان.


والتذهيب يتطلّب عملا مضنيا وطويلا يمكن أن يستغرق عشرات الساعات لإنجاز قطعة صغيرة. ومجرّد ارتكاب خطأ صغير من شأنه أن يُتلف الصفحة، ويتعيّن على الرسّام بعدها أن يبدأ عمله من نقطة الصفر.
اللون الذهبيّ كان يحظى دائما باحترام البشر الذين طالما اعتقدوا أن له علاقة قويّة بالشمس والسماء، وهذا هو السبب في استخدامه لتزيين الكتب الدينية. واللون الذهبيّ أيضا هو لون الأفكار السامية والحكمة والاستنارة والمعرفة والروحانية ورمز الوفرة والرخاء والمكانة والقيمة والأناقة والترف. ومنذ القدم كان الناس يؤمنون بتأثير الشمس على الذهب، بل ويعتقدون بأن الذهب يأتي من الشمس وأن له خصائص روحانية.
ومع انتشار الإسلام إلى البلدان الأخرى، ظهرت فكرة كتابة وتزيين القرآن الكريم بالذهب. ومع تطوّر الأنماط والتصاميم والتقنيات الموظّفة في التذهيب، أصبح له جماليّاته الخاصّة.
في معظم الحالات، يبدأ التذهيب بخلق نمط رئيسيّ في منطقة الرسم ثم تكراره. ويتعيّن على الفنّان أو المذهِّب أن يرسم أوّلا بضعة منحنيات وأشكال لولبية وفق نسق معيّن.
وهذه المجموعة الأولى من المنحنيات والأشكال هي الجزء الأساسيّ من العمل. ويمكن للفنّان بعد ذلك أن يستخدم أنماطا تجريدية متداخلة وسلسلة من الدوّامات والتصاميم الزهرية كعناصر زخرفية في التذهيب.
الجدير بالذكر أن التذهيب شهد تراجعا على مرّ قرون، لدرجة انه أصبح على وشك الانقراض. لكن بفضل بعض الفنّانين المخلصين تمّ إحياء الشغف بهذا الفنّ واستعادة بعض من أمجاده الغابرة كشكل من أشكال التعبير. وعودته إلى دائرة الاهتمام مجدّدا هو عمل من أعمال السلام والوحدة وتجديد الارتباط بتقاليد عريقة من الإيمان والجمال التي هي جزء من التراث الإسلامي والإنساني.

Credits
patterninislamicart.com

الخميس، نوفمبر 10، 2016

الإطار في الفنّ والحياة


الإطار الذي توضع بداخله لوحة أو صورة هو نوع من الفنّ. وهو يحقّق أكثر من غرض، إذ يوفّر حماية للأطراف الهشّة من الصورة ويضفي عليها لمسة جمال ويحافظ عليها ويجعل طريقة عرضها أسهل.
ولتوضيح أهمّية الإطار، انظر إلى صورة اعتدت أن تراها داخل إطار، ثم تخيّلها بدون الإطار الذي تعوّدت أن تراها فيه. بالتأكيد ستبدو ناقصة بطريقة ما. وأفضل من وصف أهمّية الإطار للصورة هو فان غوخ الذي قال مرّة إن لوحة بلا إطار كروح بلا جسد.
واختيار الإطار المناسب لصورة ما لا يقلّ أهمّية عن اختيار الصورة نفسها. وأحيانا لا يتعلّق الأمر بما في داخل الإطار، بل بالفراغ الذي يحيطه.
الإطارات الفنّية أجسام حقيقية ذات تاريخ فتّان من حيث الشكل والأسلوب. بعضها يمكن أن يكون غالي الثمن، وبعضها يمكن أن يكون بسيطا حتى لا يصرف الاهتمام عن ما بداخله.
ذات مرّة، أعجب نابليون بإطار باهظ الثمن رآه على لوحة، فأمر بأن يُصنع مثله لجميع اللوحات الموجودة في اللوفر والتي تصوّر أحداثا من تاريخ الإمبراطورية. وأغلى إطار فنّي ظهر حتى اليوم بيع بسبعين ألف دولار، وقد صمّمه صانع أثاث في كوريا.
الإطارات قديمة جدّا وقصّتها جزء من قصّة الفنّ نفسه. وتاريخيّا، يُعتبر المصريون القدماء أوّل من صنع إطارا لصورة. وكان ذلك في القرن الثاني الميلادي عندما اكتُشف بورتريه لمومياء داخل قبر قديم في الفيّوم. وكان البورتريه محاطا بإطار مزخرف من الخشب.
ومنذ ذلك الوقت لم تتغيّر الإطارات كثيرا إلى أن ظهر هذا الفنّ في أوربّا في القرن الثاني عشر. وقد تولّى تصميم الإطارات في البداية صنّاع الأثاث. وتطوّرت هذه الصناعة لتعكس الأذواق وتتوافق مع الأحداث التاريخية وتفضيلات الأساليب والمدارس الفنّية المختلفة.
وبعض مدارس الفنّ كانت تتّبع قواعد صارمة ودقيقة في اختيار الإطارات الفنّية. الانطباعيون كانوا يفضّلون الإطارات البسيطة. وموندريان يقال انه لم يكن يرسم شيئا غير الإطارات. وويسلر كان يصمّم إطاراته بنفسه.
وفي عصر النهضة ظهرت أنواع كثيرة من الإطارات، وكانت تتميّز ببساطتها وتعدّد ألوانها والموادّ المصنوعة منها. وقد استُخدمت في البداية للأيقونات الدينية، وكانت تتضمّن الذهب واللآليء. وكثيرا ما كانت أوراق الأشجار تُحفر على خشب الإطار لإعطائه لمحة زخرفية.
وتقليديا وحتى اليوم، ظلّت الإطارات تُصنع من الخشب غالبا، وأحيانا من الفضّة والبرونز والألمنيوم وغيرها. ويعود الفضل لرموز عصر النهضة مثل ميكيل انجيلو في استكشاف كيف أن الإطار يُعتبر شكلا فنّيا بحدّ ذاته لارتباطه بالعمل الفنّي وبموضوع اللوحة.
لكن في كتب الفنّ، غالبا ما يكون الحديث عن اللوحة وليس الإطار. بل حتى الكتب التي تتحدّث عن تاريخ الإطارات لا يتجاوز عددها اليوم الستّة أو السبعة على أكثر تقدير.
ومن الأشياء الغريبة أن الإطارات ليست لها حقوق ملكية، أي أن بمقدور أيّ احد أن يقلّد أو يستنسخ أيّ إطار يعجبه دون أن يتعرّض للمساءلة.
وبعض الرسّامين يفضّلون صنع إطارات لوحاتهم بأنفسهم. وقد يقوم مالك العمل الفنّي بتغيير الإطار تبعا لذوقه الفنّي. لكن من شأن هذا أن يطمس تاريخ العمل ومن ثمّ يؤثّر على قيمته.
وفي منتصف القرن التاسع عشر، بدأت المتاحف وأصحاب المجموعات الفنّية الخاصّة اهتمامهم بالأصالة التاريخية للأعمال الفنّية، بما في ذلك الإطارات المستخدمة لها.
ومع ظهور التصوير الفوتوغرافي في نفس تلك الفترة، أي في منتصف القرن التاسع عشر، بدأت الطبقة الوسطى في أمريكا وأوربّا تصميم إطارات مصنوعة منزليّا للأعمال الفنّية التي تملكها. وقد ارتبط ذلك ومنذ البداية بالهندسة المعمارية، أي أن الإطار يُصمّم كجزء من الديكور العام، بحيث يتوافق مع الباب والنوافذ وغيرها من التفاصيل.
ترى ما الذي يتغيّر عندما نضع لوحة أو صورة داخل إطار؟ الإطار لا يوفّر دعما وحماية للصورة فحسب، وإنّما وفي كثير من الأحيان يضيف إليها مضمونا ومعنى. صحيح أن الصورة نفسها تظلّ كما هي، لكننا نضفي عليها أهمّية خاصّة بوضعها داخل مكان مميّز وخاص.
إطارات الصور تحيلنا إلى التفكير في الإطارات المختلفة التي نستخدمها في حياتنا، والتي هي أيضا عبارة عن سلسلة من الإطارات.
ترى كيف يمكن أن تبدو حياة كل منّا لو أننا لا نفكّر بشكل مختلف تبعا لنوعية الإطار الذي نضعه حولنا؟ بيتك، ملابسك، ذوقك، طريقة كلامك، القصائد والكتب التي تحبّ قراءتها والموسيقى التي تفضّل سماعها وتعود إليها من وقت لآخر، العمل، العائلة، المكتب، البيت، الزواج، أطوار العمر المتعاقبة، كلّها إطارات تنتظم حياة كلّ منّا وهي تعني لنا أشياء كثيرة وتعلّمنا كيف نحمي أنفسنا ونزيّن عالمنا.
كيف يمكن أن تكون حياتنا لو أننا لا نضعها في سلسلة من الإطارات؟ كيف يمكن للغة أن تؤطّر التجربة، وللقصيدة أن تؤطّر المعنى، وللكتاب أن يعبّر عن زمان ومكان معيّنين؟

Credits
smithsonianmag.com

الأحد، نوفمبر 06، 2016

اللازوردي: اللون المقدّس


من الأشياء التي أصبحت معروفة وبديهية أن الدين يؤثّر في الفنّ. وأوضح مثال على ذلك هو النفوذ الذي مارسته الكنيسة الكاثوليكية خلال العصور الوسطى على الرسّامين بحيث لا يرسمون سوى ما يرضى عنه رجال الاكليروس.
لكن الاقتصاد يمكن أيضا أن يلعب دورا مهمّا في الرسم. وهناك أمثلة كثيرة على هذا. وأحدها يمكن أن نستخلصه من بعض الأعمال الفنّية التي جاءتنا من عصر النهضة الايطالي.
في ذلك الوقت كثرت وراجت اللوحات التي تصوّر المادونات. وفيها تظهر العذراء دائما وهي ترتدي وشاحا ازرق اللون.
ترى ماذا وراء اختيار هذا اللون في اللباس أو الموضة؟ في الواقع، ليس هناك أيّ دليل في المراجع الدينية أو التاريخية يشير إلى أن المادونا كانت تفضّل لوناً بعينه. والسرّ في اختيار هذا اللون بالذات يكمن في خطوط التجارة الصعبة والخطيرة إلى أفغانستان.
وبداية، هذا اللون الذي يظهر على ملابس المادونات ليس الأزرق وإنّما اللازوردي. واللازورد في الأساس حجر غالي الثمن وذو تاريخ عظيم. وهو من بين أفضل ما يمكن أن يدخل في صناعة المجوهرات.
وهو يبدو، وكيفما استُخدم، مثل السماء الليلية، أزرق غامق ولامع. وقد كان مشهورا منذ آلاف السنين في اليونان وروما ومصر وفارس وبلاد ما وراء النهرين.
وبعض الحضارات القديمة اعتبرته حجرا مقدّسا، لأنها كانت تعتقد أن له قوى سحرية وغامضة. ومن اللازورد يُستخلص اللون المسمّى بالالترامارين، وهو لون نفيس للغاية وباهظ السعر بسبب جماله ولمعانه الأخّاذ.
وأفضل أنواع اللازورد موجودة في جبال أفغانستان، والناس هناك يعرفونه منذ أكثر من خمسة آلاف عام. لكن هناك مخزونا منه في بلدان أخرى مثل روسيا وشيلي وايطاليا وباكستان.
ومن الناحية الفنّية هو ليس "كريستال"، بل حجر. ويقال أن من أسباب كونه غالي الثمن الاعتقاد الشعبيّ بأنه يكشف عن حقيقة الإنسان الداخلية ويزيد الوعي بالذات ويساعد المرء على التعبير عن ذاته ويوفّر منظورا أوضح عن الحياة.
وعلى المستوى الروحيّ، يقال انه يحسّن نوعية الأحلام ويعمّق إحساس الإنسان بالسلام والصفاء. وبالإضافة إلى جماله ومزاياه التاريخية والميتافيزيقية، فهو مفضّل لقدراته الشفائية. يقال مثلا انه ينفع في علاج التوحّد وآلام المفاصل والغدد والقصبة الهوائية والدورة الدموية والشقيقة، وذلك بعد تسخينه في حرارة الشمس.
وبعض المصادر تشير إلى أن الفرس سيطروا على تجارة اللازورد منذ القدم. وقد استخدموا الصبغة الزرقاء المستخلصة منه في رسم المنمنمات التي زيّنوا بها بعض كتبهم المشهورة مثل ليلى والمجنون ومخطوطة الشاعر نظامي.
الرسّامون في أوربا القرون الوسطى كانت لديهم القليل من الأصباغ الزرقاء الساطعة. وهذا النقص تمّت معالجته عندما بدأ اللون اللازوردي يصل إلى أوربّا من جبال آسيا.
وفقط الرسّامون المهمّون والموسرون هم الذين كان بإمكانهم أن يتحمّلوا سعره ويشتروه ويستخدموه في أعمالهم. وكثيرا ما كان رعاتهم يحرّصونهم على توظيف هذا اللون، خاصّة عندما يكون موضوع اللوحة دينيّا، والمكان المفضّل لاستخدامه كان رداء المادونا.
في ذلك العصر، أي عصر النهضة، كان اللازورد أغلى من الذهب. وقد وظّفه فنّانون مثل ميكيل انجيلو ودافنشي ورافائيل في لوحاتهم لأنه يضفي على الرسم هالة من القداسة والغموض. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، بدأ الكيميائيون استخلاص طرق عديدة لتخليق لون صناعيّ شبيه باللازورد الحقيقيّ. وقد نجحوا في ذلك إلى حدّ كبير، لكن يبقى للّون الطبيعي قيمته وجاذبيّته الخاصّة.

Credits
arthistory.net

الاثنين، أكتوبر 31، 2016

الولد الشرّير في فنّ الباروك/2

الصورة التي فوق هي لوحة أخرى معروفة لكارافاجيو إسمها عازف العود. ولأوّل وهلة لا تعرف إن كان العازف فيها رجلا أو امرأة. لكن نظرة إلى قميصه المفتوح ترجّح انه رجل.
في ذلك الوقت كان في روما رجال وفتيان مخصيّون، وكانوا مشهورين بجمال أصواتهم ويتمتّعون بشعبية كبيرة بين الناس، ويمكن أن يكون هذا العازف احدهم.
تأثير التغييرات الهرمونية التي تطرأ على جسد المخصيّ تتوافق مع تلك التي في اللوحة، مثل الجلد غير المشعر والوجه المتورّم.
الأزهار والفواكه المرسومة إلى يمين العازف قيل أنها لا تتوافق مع أسلوب كارافاجيو، وربّما أضافها رسّام آخر غيره. وثمّة من يقول أنها أضيفت إلى اللوحة في مرحلة لاحقة من قبل الرسّام الهولندي يان بريغل.
الذين قلّدوا كارافاجيو كانوا كثيرين. وبعضهم كانوا يعرفونه جيّدا. أحدهم كان صديقه المقرّب سبادرينو، ولوحاته تشبه لوحات كارافاجيو من حيث حسّ الدراما فيها والاستخدام السينمائيّ للضوء.
لكن من بين كلّ هؤلاء المقلّدين، كان الأكثر إثارة للاهتمام هو جيوفاني باغليوني، أوّل من كتب سيرة لكارافاجيو. كان باغليوني معجبا به في البداية لدرجة انه رسم لوحة تأثّر فيها بكارافاجيو بشكل واضح، لكنه سرعان ما انقلب على بطله.
وقصّة نزاع الاثنين توفّر صورة حيّة لشخصية كارافاجيو الناريّة، تلك النار التي أشعلت لوحاته وأفسدت حياته.
كان باغليوني أكثر تقليدية بكثير من كارافاجيو، وفي البداية كان أكثر نجاحا. وكان كارافاجيو يغار بشدّة من الفنّانين الآخرين، وخاصّة المتميّزين منهم مثل باغليوني الذي كان يعرف كيف يرضي زبائنه الأغنياء.
لذا أصبح كارافاجيو يتحدّث بالسوء عن زميله وينشر عنه الشائعات في جميع أنحاء المدينة. وقد رفع الأخير ضدّه دعوى قضائية متّهما إيّاه بالتشهير. ووقف كارافاجيو أمام المحكمة، وحاول التحايل والتملّص بطريقة أو بأخرى من التهمة. ثم اتهمه باغليوني باللواط، وهي جريمة كانت عقوبتها الإعدام، وادّعى بأن كارافاجيو حاول قتله. والذين يعرفون كارافاجيو يدركون أن هذا أمر ممكن الحدوث فعلا.
وعلى إثر ذلك هرب كارافاجيو من روما إلى نابولي، ثم إلى مالطا وصقلية. وأصبح فنّه أكثر قتامة وأكثر استبطانا.
وكان قد صنع لنفسه اسما في روما، وهي مدينة تعجّ بالفنّانين. وبعد أن فرّ هربا من تهمة القتل، واصل كثير منهم عمله من حيث توقّف.
ثم حدثت مبارزة بينه وبين شخص يُدعى توماسوني، ويُرجّح أن الخلاف بينهما كان حول امرأة هي زوجة الأخير، وانتهت المبارزة بمقتل توماسوني وفوز كارافاجيو.
وقد واجه كارافاجيو موته عندما هاجمه شخص أراد أن ينتقم منه بسبب نزاع قديم. وقام ذلك الشخص بقطع وجه الرسّام بسكّين. وتوفّي بعد ذلك الهجوم بأربعة أشهر وعمره لم يتجاوز الأربعين .
وعلى مدى السنوات العشر الأخيرة من حياته، كان كارافاجيو قد أصبح مشهورا. ومثل نجوم الموسيقى المتمرّدين، تسبّبت وفاته المفاجئة في جعله أكثر شهرة من أيّ وقت مضى.
وطوال نصف قرن، حاول عدد لا يُحصى من الفنّانين أن يرسموا مثله. ثم أصبحت واقعيّته الشديدة موضة قديمة واختفى ذلك النوع من الرسم.
ولعدّة قرون، اختفى اسم كارافاجيو نفسه من التداول. فقط في بدايات القرن الماضي تذكّره الناس من جديد واستعاد سمعته.
ولم يكن مستغربا أن يكتسب كارافاجيو الكثير من الأتباع، وهذا كان دليلا على موهبته الهائلة. ومع ذلك، فإن اللوحات التي تركها وراءه في روما أعطت انطباعا عن كونه شخصا عبقريّا.
الفنّانون الأجانب الذين أتوا إلى ايطاليا اخذوا نفوذه معهم عند عودتهم إلى أوطانهم: ريبيرا إلى اسبانيا، وروبنز إلى بلاد الفلاندرز، بالإضافة إلى كلّ من فيلاسكيز ورامبرانت اللذين يدينان له بالكثير.
لم يكن لكارافاجيو محترف أو تلاميذ، وكان يزدري الرسّامين الآخرين ويهدّد بضرب غيره من الفنّانين الذين كان يعتقد أنهم يسرقونه.
وقد كتب باغليوني يصف كارافاجيو بأنه رجل ساخر وفخور بنفسه. كان يتحدّث باحتقار عن رسّامي الماضي والحاضر بغضّ النظر عن مدى تميّزهم، لأنه كان يعتقد أنه وحده الذي استطاع تجاوزهم جميعا".
وكان كارافاجيو محقّا في كلامه، إذ لا احد من الرسّامين كان مثله أو يشبهه. هناك منهم من رسموا أشياء مثيرة للاهتمام، لكنهم جميعا يبدون على حال من الضآلة إذا ما وُضعوا إلى جواره.

Credits
caravaggio-foundation.org
theguardian.com

الأحد، أكتوبر 30، 2016

الولد الشرّير في فنّ الباروك

بعض الرسّامين إما أن تحبّه أو تكرهه. وكارافاجيو هو احد هؤلاء الذين لا تنفع معهم أنصاف المواقف أو الحلول. وأنا أتعاطف معه وأتفهّمه وأقدّر موهبته النادرة في الرسم على الرغم من عنف شخصيّته وقسوة ودموية رسوماته.
يمكن للإنسان أن يتعاطف مع شخص مثل كارافاجيو باعتبار طفولته البائسة وحالة اليُتم التي مرّ بها في صغره وفقده لمعظم أفراد عائلته بسبب الطاعون الذي اجتاح ميلانو عام 1577 عندما كان عمره ستّ سنوات.
كان كارافاجيو الولد البلطجي أو القبضاي في فنّ عصر الباروك. خناقاته ومشاغباته الكثيرة كان لها منطقها أحيانا: نادل في حانة أغضبه ذات مرّة فما كان منه إلا أن هشّم وجهه بالكأس. وشخص آخر أهانه بالحديث عنه في غيابه، فانتقم منه بمهاجمته من الخلف بسيف. وهكذا.
وقد اعتُقل الرسّام مرّات لا تُحصى بسبب مشاجراته ومشاكله. وأمضى السنوات الأخيرة من حياته هاربا ومطلوبا في جريمة قتل.
الرجل الذي قتله بطعنة في الفخذ ربّما كان مجرما منافسا. وقد صبّ كارافاجيو العنف الذي اتّسمت به حياته في فنّه. ومع ذلك فإن بعض لوحاته مليئة بالرقّة والعاطفة.
ذلك المزيج من الغضب والتعاطف هو ما جعل من كارافاجيو فنّانا مثيرا. وهذا هو السبب في أن لوحاته تبدو حديثة جدّا على الرغم من مرور 400 سنة على وفاته.
كان هناك منطق وراء العنف الذي مارسه كارافاجيو في حياته. صحيح انه كان شخصا خطيرا جدّا، لكنه لم يكن مجنونا.
وقد يكون احد أسباب عنف شخصيته وقسوته انه جرّب حياة الشوارع في مرحلة مبكّرة من عمره. وانضمّ وقتها إلى مجموعة من المجرمين والخارجين على القانون. وكان هؤلاء يؤمنون بشعار يقول: لا أمل، إذن لا خوف".
كارافاجيو نفسه كان شخصا متبجّحا وماجنا وفي حالة سُكر دائم. وفي النهاية أصبح قاتلا. وبسبب حياته المشينة والفاضحة تلك، أصبح الفنّان الأكثر شهرة وسوء سمعة من بين جميع فنّاني عصره.
قدّيسوه قذرون وشُعث الرؤوس، وأشراره ضحايا. وهو لم يكن مهتمّا بالحيل الفنّية، بل كان هدفه الوحيد هو رسم الحقيقة.
لوحاته الجريئة والمملوءة بالظلال والدراما دفعت بالرسم في اتجاه جديد وأكسبته الكثير من المعجبين بعد فترة طويلة من نهاية حياته القصيرة والعنيفة.
قيل انه كان يرسم بسرعة غريبة، لدرجة انه كان بإمكانه أن ينجز لوحة في أسبوعين فقط. وقد ترك خمسين لوحة هي محصّلة اشتغاله بالرسم طوال ثلاثة عشر عاما فقط.
وكلّ لوحاته خلفياتها قاتمة. ولم يوقّع منها سوى لوحة واحدة هي قطع رأس يوحنّا المعمدان. وبعض أشهر لوحاته يمكن رؤيتها على العملات الورقية الايطالية القديمة.
كان كارافاجيو يختار للوحاته الدينية أشخاصا من الناس العاديّين الذين كان يلتقيهم في الشوارع والحانات في روما مطلع القرن السابع عشر.
وقد اشتهر خاصّة بالاستخدام الكثيف للضوء والظلّ أو ما يُعرف بأسلوب الكياروسكورو، غير أن سرده الدراميّ هو الذي غيّر مسار الفنّ حقّا.
وكان كارافاجيو يستطيع أن يمسك باللحظة الأساسية في أيّ قصّة. ويمكننا أن نفهم سرّ إعجاب بعض مخرجي الأفلام به مثل بازوليني ومارتن سكورسيزي الذي قال: لو عاش كارافاجيو اليوم لكان احد أفضل صانعي الأفلام". ويمكنك أن ترى نفوذه في بعض أفلام سكورسيزي مثل الإغراء الأخير للمسيح.
هناك عنصر مهمّ في فنّ كارافاجيو وهو انه كثيرا ما كان يرسم نفسه في لوحاته. وقد رسم نفسه كـ غولاياث أو طالوت في لوحته الموسومة داود مع رأس طالوت .
كما انه يظهر في لوحته بعنوان باخوس المريض . كان هو مريضا عندما رسم تلك اللوحة. وقد رسم وجهه المنعكس في مرآة. في ذلك الوقت كان يعاني من الملاريا وكان قد غادر المستشفى للتوّ. شفتاه المزرقّتان وعيناه الباهتان ونظراته الواهنة تعكس حالته الصحّية.
في لوحته عشاء في ايموس (فوق)، يرسم كارافاجيو المسيح بملامح أكثر شبابا ودون لحية، بعد أن ظهر لأتباعه بعد موته بحسب الرواية الإنجيلية.
للحديث بقيّة.

الثلاثاء، أكتوبر 25، 2016

فنّ الأشياء المكسورة


كينتسوكوروي كلمة يابانية تعني إصلاح الأواني المكسورة ولحمها أو ترميمها بالذهب المذاب وأحيانا بالفضّة أو البلاتين. والفكرة المرتبطة بهذا الفنّ هي أن الجمال يكمن في الأشياء المكسورة أو المعطوبة، بمعنى أن الإناء يصبح أكثر جمالا لأنه انكسر. كما أن الكسر ليس نهاية الأشياء بالضرورة، بل يمكن أن يكون بداية لبعثها إلى الحياة من جديد.
وهذه الفكرة تذكّرنا، مع الفارق، بما يقال أيضا عن التماثيل القديمة المكسورة، أي تلك التي تظهر بلا اذرع أو أنوف، وكيف أن جمالها الحقيقيّ يكمن في أنها معيبة أو غير كاملة.
والكينتسوكوروي، أو الكينتوجي كما يُسمّى أحيانا، ليست له دلالات روحية معيّنة، لكنه نوع من تقبّل الأشياء المعيبة التي قد تبدو، برغم العيوب، أكثر جمالا من هيئتها الأصلية. انه يقول لنا لا تصلحوا الشيء بإخفاء عيوبه، بل بإظهارها بحيث يبدو أكثر قيمة وقوّة وجمالا ممّا كان قبل الكسر، أو على الأصحّ لأنه كُسِر.
صحيح أن قطعة الرخام أو السيراميك أو الخزف عندما تنكسر تتعرّض لبعض التلف ويلحق بها صدوع وتشقّقات قد تكون واضحة أحيانا، لكن إصلاحها ولحمها بالذهب أو الفضّة هو بحدّ ذاته احتفاء بالقطعة وتحسين لها وكأننا بذلك نمنحها حياة جديدة.
فنّ الكينتسوكوروي عمره حوالي خمسمائة عام. وعقلية اليابانيين المعروفين بتفكيرهم الايجابي كانت تعتبر أن الكسر والجبر الذي يلحق بآنية هو جزء من ماضيها أو تاريخها الذي لا يجب إخفاؤه، وأن هذه الصدوع أو العيوب هي مجرّد رمز لحدث حصل في حياة الإناء أكثر من كونه سببا في تلفه.
وأصل هذه الفكرة يعود إلى القرن الخامس عشر، عندما بعث احد حكّام اليابان بإبريق شاي مكسور إلى الصين لإصلاحه. لكن عندما أعيد الإبريق بعد أن أُصلح بدا قبيحا، الأمر الذي دفع الحرفيين اليابانيين للبحث عن طريقة إصلاح أخرى تكون أكثر فنّا وجمالا.
وكان فضولهم وحماسهم إيذانا بولادة هذا الفنّ. ويقال أنهم كانوا مسرورين كثيرا بهذا الابتكار لدرجة أنهم اخذوا يهشّمون الأواني الغالية الثمن عمدا كي يصلحوها بالذهب والفضّة.
هذه الفلسفة التي تجد الجمال في الأشياء المكسورة والمعيبة تقابلها عند الغربيين فكرة تعتبر أن الأشياء المكسورة هي نقود ضائعة ومن ثمّ ينبغي التخلّص منها برميها بعيدا.


أما اليابانيون فيؤكّدون على إصلاح هذه الأشياء مع الحرص على إظهار آثار التشقّقات والكسور فيها لأنها تضفي على الشيء جاذبية جمالية وقيمة فنّية أكبر. وهذا المفهوم الذي يؤكّد على نقاط الضعف والنقص في الأشياء أصبح له في ما بعد تأثير كبير على فنّ الحداثة.
وجزء من شعبية هذا الفنّ، أي الكينتسوكوروي، يمكن أن تُعزى إلى انه يمثّل صدى لأحداث حياتنا كما انه رمز للحالة الإنسانية بشكل عام، لأنه يتناول الإصلاح والولادة من جديد. كما انه يوحي بأن الحظوظ السيّئة في الحياة وأخطائها الكثيرة يمكن تجاوزها والسموّ بها بنفس الطريقة.
وهناك نقطة أخرى، وهي أن الأشياء الجديدة واللامعة والكاملة لا تتضمّن عادة قصصا يمكن أن تقال أو تُروى. القصص نجدها في الشقوق التي يتسرّب منها الضوء. وما تراه أنت جرحا قد يكون النافذة التي يدخل منها النور إلى روحك"، بحسب ما يقوله لنا الشاعر الصوفيّ جلال الدين الرومي.
فكرة الكينتسوكوروي تتضمّن أيضا معنى رفض الاستسلام. كما أنها تتحدّث عن القبول والتسامح، وعن أهمّية التعلّم والنموّ، وعن القوّة التي تكمن في الضعف، وعن الأمل والجمال.
وعلى مستوى آخر فإننا، نحن البشر، نشبه هذه الأواني. فكلّنا مكسورون بدرجة ما، لكنّنا لا ندرك ذلك. وكإنسان، فإن جروحك ثم شفاءك من تلك الجروح، كلّ ذلك جزء لا يتجزّأ من ماضيك ومن هويّتك.
ولهذا عليك ألا تتخلّص من شيء عندما ينكسر وألا تحرص على إصلاحه بإعادته إلى نفس حالته الأصلية لكي تخفي عيوبه. وبدلا من ذلك حاول أن تملأ الفراغات بشكل جماليّ وأن تتقبّل عدم الكمال، ليس لأن الكمال يستحيل بلوغه، وإنما أيضا لأنه من الصعب تعريفه. وحتى الأشكال المثالية التي تحدّث عنها الفلاسفة كثيرا غير موجودة في عالم الواقع.
أن تكون مكسورا يعني أن تصبح أكثر جمالا. هذه باختصار هي الرمزية التي ينطوي عليها هذا الفنّ. وهي تذكير لنا بأننا نصبح أكثر جمالا عندما ندرك نقاط ضعفنا ونسمح لها بأن "تُملأ"، أي أن تُرشّد.
إن الضعف أحيانا هو مصدر قوّتك. وضعفك هو ما يجعلك في كثير من الأحيان أكثر قوّة وجمالا. هناك أناس كثر حزانى ومحبطون في هذا العالم لكثرة ما أصابهم من خيبات ومشاكل، ومع ذلك لم يتأثّر حسّهم الإنسانيّ ولا درجة تعاطفهم مع الإنسان في كلّ مكان.
شيء آخر يعلّمنا إيّاه فنّ الكينتسوكوروي وهو أن علينا أن لا نخاف من تجارب الحياة وأن نتقبّل المخاطر والفشل بصبر وشجاعة. وعندما تصبح الأمور صعبة علينا أن نجد "ذهبنا" كي نصلح أنفسنا ونستفيد من أخطائنا.

Credits
psychologytoday.com

الخميس، أكتوبر 20، 2016

حكايات الشتاء


قصص الخلق في معظم الحضارات القديمة تتّفق على أن الشتاء إنما يأتي إلى العالم لمعاقبة البشر.
بورياس، إله رياح الشمال الباردة الإغريقيّ، كان يجسّد الشتاء. وفي أساطير شمال أوربّا فإن ثلاث سنوات من التجمّد تسبق نهاية العالم. التصاوير الضخمة عن كيف أن جيش نابليون العظيم هزمه "الجنرال ثلج"، أي شتاء روسيا القارس البرودة، هي المعادل الحديث لتلك السيناريوهات القديمة عن نهاية العالم.
أما الرؤية المضادّة فتصوّر الشتاء على انه بهجة المواسم ورمز لصفاء ونقاء الطبيعة. إذ يمكننا مثلا أن نمتّع أعيننا بمناظر الريف المغطّى بالجليد، مع صور لمتزلّجين يغمرون أنفسهم في مياه البرك والأنهار المتجمّدة.
وفي منتصف القرن السادس عشر، شهدت مناطق شمال أوربّا ولادة فنّ مناظر الشتاء النقيّة. وعلى الأرجح لم تكن مصادفة أن تلك الفترة عُرفت بالعصر الجليديّ الصغير، لأنها اتسمت بدرجات الحرارة المنخفضة بشكل استثنائي.
وفي أواخر القرن الثامن عشر تمّ إحياء المناظر الطبيعية التي تصوّر فصل الشتاء. وفي البداية أُضفي عليها طابع رومانسي. وكانت معارض الشتاء المبكّرة عبارة عن مناظر طبيعية من المدرسة الانطباعية ومن الفنّ الهولندي.
البحث عن شيء ما في الطبيعة غير المضيافة كان هَمّ نخبة صغيرة من الناس. كان هؤلاء يتمتّعون بالدفء وبوفرة الطعام، لذا كانوا قادرين على أن يرفّهوا عن أنفسهم بالتزلّج والسفر والرياضات الشعبية.
لوحة بيتر بريغل الأب صيّادون على الثلج ربّما تكون أشهر صورة للشتاء في الفنّ الأوربّي. لكن هناك لوحات أخرى لا تقلّ أهمّية لهندريك ايفركامب وروبنز ويان شتين ووليم تيرنر وغويا وفريدريش ومونيه وفان غوخ ومونك وبيسارو وغيرهم.


  • بيتر بريغل الابن، طبيعة شتوية مع فخّ للطيور، 1601
    هذا هو أوّل منظر مستقلّ عن الشتاء في الفنّ الأوربّي. وعلى عكس "صيّادي بريغل" المشهورين، فإن هذه اللوحة لم تكن جزءا من سلسلة عن الفصول. وليس فيها إشارة إلى قصّة دينية أو تاريخية أو أسطورية. وهذا أمر مثير للاهتمام، لأنه ولزمن طويل كان رسم الطبيعة يُستخدم حصريّا كخلفية إمّا لقصص دينية أو لمشاهد الآلهة القديمة أو كتصوير للأحداث التاريخية المهمّة.
    ومع ذلك، نرى هنا فقط سكّان قرية يمتّعون أنفسهم باللعب على ضفاف نهر متجمّد. لاحظ التفصيل في المقدّمة إلى اليمين: تحت شجرة عالية تمّ نصب فخّ للطيور عبارة عن باب مسنود على عصا. وقد فُسّر هذا في كثير من الأحيان باعتباره رمزا للفخّ الذي ينصبه الشيطان ليسرق أرواح البشر. لكن قد لا يكون هذا خطر ببال بريغل حقّاً، ربّما أراد فحسب أن يصوّر مشهدا عاديا للحياة في إحدى القرى.


  • يان دي هيم، حياة ساكنة، 1650
    رسومات الحياة الساكنة من القرن السابع عشر نادرا ما كانت تحتوي على إشارات إلى فصل معيّن من السنة. وليس من السهل تحديد الشتاء في هذا النوع من الرسم. ومع ذلك من السهل أن ترى أن هذه اللوحة للرسّام الهولندي يان دي هيم تركّز على الشتاء والأغذية المسموح بها خلال فترة الصوم.
    الشعار في أعلى يسار اللوحة يقول: تذكّر، هذه الأشياء مسموح بها أثناء الصوم. لكن الصوم لا يعني شيئا إذا لم تمتنع عن الخطايا والشرّ والشهوة. وإلا فإن روحك لن تُنقذ".
    إذن الصيام لوحده لا يكفي بحسب ما تقوله لنا الموعظة. لكن الرسّام صوّر الأطعمة المسموح بها بطريقة جذّابة: المعجّنات والمكسّرات واللوز والفواكه المجفّفة، وخاصّة التين.
    لاحظ غصن الحمضيات على المائدة إلى اليسار. انه يضمّ فواكه ناضجة وغير ناضجة وكذلك براعم زهور. الحمضيات كانت تُعتبر رمزا للتغيير، وكانت ترافق طقوس التجدّد مثل فترات الامتناع عن الأكل.


  • كلود مونيه، الغراب، 1869
    رسم مونيه هذا المنظر الشتويّ في وقت متأخر من ستّينات القرن قبل الماضي. وقد رسمه في الهواء الطلق. في ذلك الوقت اعتُبرت اللوحة استثنائية لدرجة أن صحفيا آنذاك كتب بإعجاب مقالا يمتدح فيه "مونيه الشجاع" بقوله: كان الجوّ باردا جدّا لدرجة انه حتى بعض الحجارة كانت تنشطر إلى جزأين بفعل التجمّد. رأينا آثار أقدام ثمّ حامل لوحة ثمّ رجلا يرتدي ثلاثة معاطف وعلى يديه قفّازان ووجهه شبه متجمّد. هذا الشخص هو السيّد مونيه الذي كان منهمكا في دراسة ورسم آثار الثلج".
    بدأ الفنّان رسم اللوحة خارج البيت، لكنه أكملها في ما بعد في محترفه. وقد استخدم ألوانا قليلة كي يمسك بالمزاج الحميم والحالم: الثلوج الكثيفة على السياج، والشمس التي تلقي بظلالها على الأرض المغطّاة بالثلج. وقد سُمّيت اللوحة على اسم طائر العقعق "وهو طائر من فصيلة الغراب" الذي حطّ على البوّابة. الألوان الخفيفة المتوهّجة اُعتبرت جريئة جدّا لدرجة أن لجنة التحكيم في صالون 1869 رفضت اللوحة. لكن اليوم يُحتفل بها كواحدة من أفضل المناظر الانطباعية المبكّرة.


  • كازيمير ماليفيتش، الصباح في قرية بعد عاصفة ثلجية، 1912
    كان ماليفيتش واحدا من الفنّانين الطليعيين الأكثر نفوذا في روسيا. وهو هنا يرسم فلاحين بسطاء في قرية بعد عاصفة ثلجية.
    ولد ماليفيتش لعائلة فقيرة جدّا من أربعة عشر طفلا في قرية قرب كييف. وقد عرف الحرمان المرتبط بالشتاء الروسيّ من تجربة شخصية. ومع ذلك فهو في اللوحة لا يصفه كممثّل للواقعية، وإنما للمستقبلية التكعيبية، وهي احد الأساليب الطليعية في الرسم الروسي.
    ماليفيتش يخلط الألوان القويّة للبدائية الروسية مع عناصر التكعيبية التي ابتكرها بيكاسو وبراك، ومع المستقبلية التي أتى بها رسّامون ايطاليون مثل بوتشيوني وجياكومو باللا.
    تفكيك الأشخاص والمنازل والطبيعة وتحويلها إلى أسطح بسيطة هو من سمات التكعيبية. وكلّ العناصر جرى تمثيلها بنفس الأسلوب، كالأسطح والتلال المغطّاة بالثلج. لكن حركة وإيقاع التوليف تحمل شيئا من سمات المستقبلية مثل أكوام الثلج على ممرّ القرية.
    في عام 1927 أُدرجت هذه اللوحة ضمن المعرض الاستعادي الذي نُظّم لماليفيتش في بعض عواصم أوربّا والذي أدّى إلى تكريس شهرته العالمية.


  • جوزيف بوسارد، الانسحاب من موسكو، 1835
    كان انسحاب الفرنسيين من موسكو عام 1812 من بين أكثر الحوادث مأساوية في حروب نابليون. وقد انتظر القائد الفرنسيّ طويلا قبل أن يعلن عن انسحابه في التاسع عشر من أكتوبر من ذلك العام.
    كان جيشه مجهّزا فقط لحملة صيف قصيرة، لذا كان الجند يفتقرون للأحذية والأغطية. ولم تكن الخيول مهيّئة للقتال في الثلج كما لم تعد قادرة على سحب قطع المدفعية والعربات.
    الرسّام الفرنسي فرناند بوسارد رسم الكارثة مركّزا على مصير اثنين من الجنود. وكلاهما يبدوان منهكين بينما انهار الحصان من شدة الإعياء وتناثرت على الأرض قطع البنادق المكسورة، كما يمكن أيضا رؤية كمّامة وعجلة خلف جثّة الحصان.
    ومع ذلك فإن ما أدّى إلى هزيمة الجيش الفرنسيّ ليس الشتاء بقدر ما كان الأخطاء الإستراتيجية والمشاكل اللوجستية الكبيرة. غير أن البرد استُخدم من قبل أجهزة الدعاية الفرنسية كذريعة أو كسبب رئيس للهزيمة.


  • ادفارد مونك، ليلة شتوية، 1900
    الرسّام النرويجي مونك رسم مناظر عديدة للشتاء. كان مفتونا بالسماء الصافية للشتاء في موطنه الشمال أوربّي. هنا ينقل مونك أنظارنا من نقطة عالية فوق أوسلو إلى جزيرة تحت السماء الليلية.
    اللوحة تُعتبر احد أعمال الرسّام التي بلغ فيها أعلى ذرى الرمزية. وهذا يعني أن هدفه لم يكن رسم صورة واقعية عن المنظر الفعليّ، وإنّما استخدام المنظر الطبيعيّ للتعبير عن مشاعره الخاصّة. والأشكال التجريدية تحوّل هذا الليل الشتائي إلى صورة عن روح الفنّان نفسه.
    رسم مونك اللوحة خلال فترة مضطربة من حياته: علاقة صعبة انتهت بأزمة نفسية. واللوحة هي عن الشتاء بحلكته وحزنه، لكن يمكن قراءتها على أنها تعبير عن يأس مونك وإحساسه بالوحدة. لكنها في الوقت نفسه تعبّر عن شوقه لأن يتوحّد مع الطبيعة ومع الليل المزيّن بالنجوم وربّما مع الكون كلّه.
    وقد حقّق الرسّام هذا عن طريق الحدّ من التفاصيل. وبالإضافة إلى بياض الثلج والأشجار الداكنة الخضرة فإن اللوحة يهيمن عليها الأزرق الكونيّ الذي يوحّد جميع عناصر التوليف.


  • فريتز فون اود، المسير نحو بيت لحم، 1890
    في إحدى ليالي شهر ديسمبر الباردة، شقّ زوجان شابّان متعبان طريقهما ببطء على طول ممرّ موحل في محاولة للعثور على مكان يؤويهما. فقط عنوان هذه اللوحة، أي "المسير نحو بيت لحم"، يخبرنا أن ما نراه صورة مقتبسة من قصّة دينية.
    وهي تصوير معاصر لقصّة العذراء ويوسف وهما يبحثان عن مكان يقيمان فيه.
    الرسّام فريتز فون اود نقل القصّة إلى ألمانيا أواخر القرن التاسع عشر، وهو الوقت الذي كانت فيه البطالة والفقر منتشرين على نطاق واسع هناك.
    الرجل يعلّق منشارا فوق كتفه مثل يوسف الذي كان نجّارا. ونظراته مركّزة على زوجته التي تستند إلى ذراعه. وهذه التلميحات الخفيّة توحي بأن المرأة حامل.
    في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان العديد من الرسّامين يسعون لتقديم مواضيع أصيلة مستقاة من القصص الدينية. وقد اختاروا عددا من الوسائل المختلفة لتحقيق ذلك، مثل إسقاط المواضيع الدينية على الواقع الاجتماعي في ذلك العصر وتوظيف التفاصيل الآثارية الصحيحة في رسوماتهم.


  • ادوين لاندسير، إوزّ الثلج الجريح، 1833
    الرسّام الفيكتوري ادوين لاندسير اشتهر برسوماته الرائعة عن الحيوانات. ومعظم مناظره الشتوية تظهر فيها حيوانات جريحة أو تعاني من الألم كما في هذه اللوحة التي نرى فيها طائرين من نوع إوزّ الثلج في منظر شتويّ تتخلّله جبال صخرية.
    المكان هو المرتفعات الاسكتلندية التي كان الرسّام يتردّد عليها من وقت لآخر للصيد والبحث عن مصادر إلهام لرسوماته.
    في عام 1839، اصطاد لاندسير إوزّتين، وقد ألهمه ذلك الحادث بأن يرسم هذه الصورة.
    في فصل الشتاء يتحوّل ريش هذا الطائر البرّي إلى اللون الأبيض. وهذه الظاهرة سمحت للرسّام بأن يُجري دراسة وظّف فيها تدرّجات عديدة من الأبيض. وفي الوقت نفسه اظهر تعاطفه مع هذه الطيور. في اللوحة، نرى احد الطائرين بعد أن أطلقت عليه النار بينما يظهر الآخر وهو يراقب بأسى رفيقه الجريح.
    وعندما عُرضت اللوحة في لندن عام 1833 رآها احد الصحفيين فتأثّر بها وكتب مقالا ينتقد فيه صيد الطيور وقال فيه: إن معاناة هذه الكائنات البريئة تستثير الشعور بالشفقة والتعاطف في قلب الإنسان، كما أنها تثير السؤال عمّا إذا كان من حقّنا إيذاء هذه المخلوقات المسكينة لمجرّد أن ذلك يخلق لدى البعض شعورا بالمتعة والتسلية".

  • Credits
    kunsthistorisches.com

    الاثنين، يونيو 13، 2016

    الربيع في الموسيقى الكلاسيكية


    في الموسيقى الكلاسيكية مؤلّفات كثيرة تحتفل بالفصول الأربعة وبالتغيّرات التي تطرأ على الطبيعة مع مقدم كلّ فصل. وأوّل عمل موسيقيّ يخطر بالبال عند الحديث عن الفصول هو كونشيرتو الفصول الأربعة للمؤلّف الموسيقيّ الايطاليّ انطونيو فيفالدي. أيضا لا يمكن نسيان سيمفونية الرعاة التي ألّفها بيتهوفن وصوّر فيها مشاهد وأصوات الطبيعة في فصل الربيع.
    الربيع، بشكل خاصّ، له مكانة خاصّة في الموسيقى الكلاسيكية. وليس هناك من احتفل بالربيع وأجوائه وطقوسه كالمؤلّفين الموسيقيين الروس، وهي ظاهرة نجدها أيضا في الأدب والشعر الروسيّ.
  • تشايكوفسكي، مثلا، كتب كونشيرتو اسماه الفصول . هذا الكونشيرتو يتألّف من اثنتي عشرة حركة، كلّ منها مخصّص لشهر من أشهر السنة. والمؤلّف في كلّ قطعة يصوّر مشاعره وانفعالاته وتجاربه، وكذلك مشاهد الحياة المرتبطة بكلّ فصل.
    الحركة المخصّصة لشهر مارس، مثلا، وعنوانها أغنية القبّرة ، تستثير مزاجا يذكّر ببدايات الربيع. وعندما تبدأ الأرض بالظهور وسط الثلج الذي يكون قد ذاب شيئا فشيئا مع بزوغ أوّل خيوط ضوء الشمس التي تلامس وجه الطبيعة الناعسة، يبدأ غناء القبّرات معلنةً للعالم عن مقدم الربيع.
    الأغاني العذبة لتلك الطيور الصغيرة توقظ العالم من غفوته بعد شتاء طويل. ثم تظهر أولى قطرات الثلج مع بداية الحركة الثانية المخصّصة لأبريل والتي اختار لها تشايكوفسكي عنوان قطرة ثلج .
    والأزهار إذ تنمو تصوّر لنا الجمال الأوّلي للربيع، رغم أن الطبيعة ما تزال مغمورة ببعض الثلج. وقطرة الثلج هي صدى لموسيقى القبّرات، وهي تذكير صُوري بديع بأن الربيع على وشك أن يحلّ.
    هذا الكونشيرتو يتضمّن أيضا حركة بعنوان ليال بيضاء خصّصها المؤلّف لشهر مايو، وهو يأخذنا من خلالها إلى الليالي المثلجة لسانت بطرسبورغ. كان تشايكوفسكي مغرما كثيرا بهذه المدينة الشمالية التي قضى فيها شبابه وكتب فيها أشهر أعماله.
    وفي تصويره هذا للطبيعة، استطاع المؤلّف أن يمزج بين ظاهرة الليل والضوء ليصوّر من خلال هذا المزيج اللحنيّ المركّب طيفا متنوّعا من الانفعالات والمشاعر الإنسانية.
  • ريمسكي كورساكوف كتب، هو الآخر، أوبرا فلسفية موسيقية عنوانها عذراء الثلج ، هي عبارة عن احتفال بالفصول. وقصّة هذه الأوبرا تتجلّى خلال فصل الربيع عندما تمنح الطبيعة الإنسان أجمل وأبهى عطاياها.
    هذا الجمال يتجسّد في شخصية سنيغوروتشكا، عذراء الثلج ابنة الغابة والربيع. عندما تولد سنيغوروتشكا في الغابة، يتعذّر عليها فهم معنى الحبّ. والربيع، أمّ عذراء الثلج، عندما ترى ابنتها في حيرة، توافق أخيرا على أن تعطي سنيغوروتشكا الشعور بالحبّ "حتى وإن كان مؤلما" كما تقول الحكاية.
    وعندما يبدأ قلب سنيغوروتشكا في إدراك مشاعر العاطفة، فإن جمالها البارد كالثلج يبدأ في الذوبان. وكلّ مشاهد هذه الأوبرا، من احتفالات ورقصات دائرية وأغان للرعاة، مزيّنة بالموتيفات الشاعرية للطبيعة عندما تتوشّح بالأزاهير في فصل الربيع.

  • ديمتري شوستاكوفتش ألّف، هو أيضا، مجموعة رقصات "أو فالسات" يتغنّى فيها بالربيع. والموسيقى هنا تأخذ السامع بعيدا إلى عالم حديقة مزهرة في فصل الربيع.
    هذا التوليف كتبه شوستاكوفتش لفيلم بعنوان "ميشورين" يستند إلى قصّة حياة شخص يُدعى ايفان ميشورين، وهو عالم بيولوجيا روسيّ مشهور كرّس حياته كلّها للنباتات.
    وبفضل خبرة ميشورين، اُبتُكرت أنواع عديدة من أشجار الفاكهة. وهو لم يكن يحبّ في حياته شيئا أكثر من رؤية حياة جديدة وهي تنمو من بذرة وحيدة. وفالس الربيع ، وهو ثاني هذه الرقصات، ينقلنا إلى أجواء حديقة ميشورين المزهرة، حيث مئات الأشجار الجديدة تستحمّ في ضوء الشمس الذي انتظرته طويلا.
  • المؤلّف الموسيقيّ الكسندر غلازونوف كتب، هو أيضا، باليه اسماه باليه الفصول . في هذا العمل الفانتازيّ يصوّر لنا المؤلّف الربيع خفيفا ملوّنا. تسمع هذه الموسيقى فتتخيّل الطيور المغرّدة والأزهار اليانعة والنسائم العذبة وهي تحيط بك من كلّ جانب.
    بعد المشهد الأول بعنوان "طبيعة شتوية"، يظهر شخصان قصيرا القامة وبشعر بنّي وهما يغادران الغابة ويشعلان نارا من الحجر لكي يطردا الشتاء وخدمه المخلصين، أي الثلج والبرد والبرَد. وبعدها تكتسي الطبيعة بالأزهار الملوّنة وتبدأ الطيور في الظهور معلنةً عن بشائر الربيع. والفكرة الرئيسية في هذا الباليه هي الصحوة الخالدة للطبيعة وللحياة بعد انقضاء موسم الشتاء.
  • ومن أشهر المؤلّفات الروسية الأخرى التي تصوّر الربيع الكانتاتا التي ألفها سيرغي رحمانينوف بعنوان الربيع. وهذه القطعة تصوّر لنا أحداثا مثيرة ترافق بدايات الربيع، وهي عبارة عن قصص يمتزج فيها الحبّ بالخيانة والجريمة. في هذه القطعة، لا يتمّ توظيف الطبيعة كخلفية للأحداث فحسب، وإنما تُصوّر كمشارك فعليّ في كلّ ما يجري.
    الشخصية القاسية للشتاء تدفع البطل، الذي أمسك بزوجته وهي تخونه، للاقتناع بضرورة قتلها. لكن ومع حلول فصل الربيع الذي ينشر الحبّ والسلام والصبر، تتمكّن الزوجة من أن ترقّق قلب زوجها وتهدّئ من ثائرته فيصفح عنها.
    في هذه الموسيقى، لن تستمع إلى النغمات الرقيقة والدافئة للطبيعة وهي تعلن عن قدوم الربيع، لأن كانتاتا رحمانينوف تصوّر لنا الربيع قويّا ومكثّفا. لكن بإمكانك أن تسمع حفيف أوراق الشجر الذي أراد المؤلّف أن يكون تحيّته الخاصّة إلى جمال فصل الربيع.
  • ايغور سترافنسكي كتب، هو الآخر، باليه اسماه طقوس الربيع . وهذا العمل يأخذنا إلى عالم روسيا الوثنية قبل أكثر من ألفي عام. كان من عادة الروس القدماء أن يوقظوا الأرض من سباتها الشتويّ وذلك بتقديم قربان إلى الربيع، هو عبارة عن صبيّة شابّة. ويتعيّن على الفتاة المختارة أن تؤدّي رقصة طقوسية إلى أن تموت.
    رقصات ومراسم تقديس الأرض، والطقوس الفلكلورية ورقصة الموت التي تؤدّيها الفتاة، تصاحبها موسيقى تصوّر الطبيعة الربيعية في ذروة بهائها وتألّقها. والمؤلّف هنا يقدّم رؤيته للطبيعة من خلال إيقاعات قويّة وتلقائية وذات طاقة تعبيرية هائلة.
    الألحان المركّبة والإيقاعات الوافرة وغير المنتظمة تمثّل عمق مشاعر الروس الأوائل تجاه أصوات ومناظر الربيع وتأثيرها الكبير. والكثيرون يعتبرون هذا الباليه من بين أكثر المؤلّفات تعقيدا في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية.

  • Credits
    classicalarchives.com

    الخميس، يونيو 02، 2016

    عصر تولستوي وتشايكوفسكي


    يزخر الرسم الروسي بالعديد من بورتريهات الكتّاب والموسيقيين والممثّلين ورعاة الفنّ في روسيا. وبعض تلك البورتريهات يعود تاريخها إلى زمن آخر القياصرة، ثمّ الثورة والعهود التي تلتها.
    أحد الكتّاب تأمّلَ في صور هذه الشخصيات الروسية واكتشف انه يندر أن ترى واحدا منها وهو يبتسم. ربّما كان هناك اعتقاد شائع بأن البورتريه مثل الحديث المتوتّر بين الرسّام وجليسه، يمكن أن يقرّبنا من الموضوع أكثر ممّا تفعله الصور الفوتوغرافية الحديثة. وهذا أحيانا صحيح.
    في البورتريه الذي رسمه فاسيلي بيروف لدستويفسكي نقف وجها لوجه مع الروائيّ الكبير. وهو في الصورة يبدو في حالة انحناء ويرتدي جاكيتا بنّيّ اللون، نظراته منسحبة وبعيدة، بينما أصابعه متشابكة. الضوء يلمع على جبينه الفتيّ. وعلى شعره ولحيته ونظراته المتحفّظة ثمّة إحساس بالإنهاك وتركيز داخليّ مثير للاهتمام.
    كان دستويفسكي في ذلك الوقت ما يزال يعيش ذكريات اعتقاله المريرة قبل ثلاثين عاما عندما كان في الثامنة والعشرين من عمره على خلفية انتسابه لجماعة بتراشيفسكي الراديكالية. وقد سيق إلى معسكرات العمل الشاقّ في سيبيريا واُجبر على الخدمة في الجيش، وهو ما أدّى إلى انهيار صحّته وجرح روحه.
    لكنه مع ذلك استمرّ يكتب ولم تنكسر إرادته أبدا. في هذه الصورة لا يمكنك أن ترى شيئا من آثار المعاناة على وجه وعيني دستويفسكي لأن بيروف منحه خصوصية كاملة. لكن بإمكانك أن ترى وتلمس إحساسه بالأسى وبالمرارة الداخلية. في ذلك الوقت، لم يكن دستويفسكي قد كتب "الجريمة والعقاب". لكن البورتريه ينبئ عن ذلك المستقبل.
    ومن أشهر الصور الروسية الأخرى ذلك البورتريه الذي رسمه نيكولاي جي لتولستوي عام 1884، ويبدو فيه الروائيّ المشهور منحنيا على طاولته ومنكبّا على الكتابة وكأنه لا يشعر بالرسّام الذي يجلس بالقرب منه.
    وهناك أيضا لوحة ايليا ريبين التي رسمها لتورغينيف الذي يبدو في الصورة عجوزا بأنف متورّمة وشعر أشيب. كانت علاقة تورغينيف بريبين مفعمة بالثقة. نظراته القاسية تفاجئنا كما لو أننا مذنبون بنفس درجة ذنب الرسّام المتطفّل. وهذا يثبت كيف أننا يمكن أن نحكم على الصور مدفوعين بأفكارنا المسبقة عن أصحابها. كما أن هذا يطرح سؤالا عن مدى كون هذه الصورة حقيقية.
    وهناك أيضا البورتريه الذي رسمه يوسف براس لأنطوان تشيكوف. وقد رسمه الفنّان عام 1898، أي عندما كان تشيكوف في ذروة عطائه ككاتب مسرحيّ. وفي السنة التالية مُثّلت مسرحيّته "العمّ فانيا" على المسرح لأوّل مرّة.
    تشيكوف يرتدي هنا ملابس مرتّبة، مع ياقة بيضاء وبذلة رمادية. وهو يجلس كما لو انه يريد أن يحكم علينا محاولا استنطاق ما بدواخلنا، بينما يصرّ على أن لا يكشف لنا عن شيء من دخيلته.
    تشيكوف هنا لا يبدو كاتبا بقدر ما يبدو طبيبا "وهي مهنته الأصلية" يصغي باهتمام إلى مرضاه ويشخّص عللهم ويصف لهم الدواء المناسب. كان وقتها في الثامنة والثلاثين، وأمامه فقط ستّ سنوات ليعيشها.


    والحقيقة أن معظم هذه الشخصيات توفّيت في سنّ مبكّرة. ومعظمها ملامحها أوربّية أكثر منها آسيوية.
    ومن أشهر البورتريهات الروسية الأخرى لوحة فالنتين سيروف للمؤلّف الموسيقيّ رمسكي كورساكوف. والموسيقيّ يبدو هنا جالسا وسط فوضى من عشرات الكتب.
    وهناك أيضا واحدة من أقوى الصور، وهي لوحة ريبين التي رسمها للموسيقيّ المعروف موديست موسورسكي عام 1881، وقبل وقت قصير من وفاة الأخير. موسورسكي يبدو في الصورة بأنف حمراء وعينين صافيتين.
    الرسّام ايليا ريبين، بمقاربته الحسّاسة والفائقة لكلّ جلسائه الذين رسمهم، هو بطل البورتريه الروسيّ بلا منازع. كان ريبين ابنا لجنديّ من اوكرانيا. وخلفيّته ليست ممّا يثير الاهتمام.
    لكنه صنع لنفسه سمعة طيّبة في سانت بطرسبورغ التي رسم فيها أعمالا مشهورة مثل تلك اللوحة التي يظهر فيها أشخاص يجرّون قاربا. ورغم أن من كلّفه برسم اللوحة كان رجلا من عائلة الإمبراطور، إلا أنها فُسّرت على أنها هجوم على سوء معاملة العمّال وعلى الظلم الاجتماعيّ ككلّ.
    وبعد ابتعاثه إلى فرنسا التي رسم فيها تورغينيف، عاد ريبين إلى روسيا واستمرّ يرسم بنفس الأسلوب الروسيّ المتميّز.
    في لوحات ايليا ريبين مرح وتعاطف وتفهّم. كما أنها تحتوي على الكثير من الدفء، مثل لوحته التي رسم فيها عازفة البيانو الجميلة صوفي مينتر، تلميذة فرانز ليست اللامعة.
    وبراعته أيضا تتجلّى في رسمه للبارونة فارفارا فون هيلدنباندت بخمارها وقبّعتها الغريبة. وقد رسمها باستمتاع يمكن أن تشعر به من طريقته في تصوير السلسلة المتدلّية حول ذراعها وفي طيّات بلوزتها القرمزية.
    كلّ هذه البورتريهات وغيرها من صور العباقرة الروس ليست سوى جزء من المجموعة الفنّية التي راكمها تاجر الأقمشة بافيل تريتيكوف والتي أصبحت من مقتنيات المتحف الذي يحمل اليوم اسمه.
    وهناك عنصر مهمّ يمكن إضافته إلى هذه القصّة، ويتمثّل في الصداقة التي ربطت تريتيكوف والرسّام ريبين الذي لم يكن يرسم له فحسب، وإنما كان ينصحه بالاستعانة بفنّانين آخرين.
    وقد رسمه ريبين أمام مجموعته كي يتذكّره الناس بعد وفاته. وفي تلك الصورة يظهر تريتيكوف كشخص مختلف ومتحفّظ ومعروف بعاطفته العائلية ومحبّته للأدب والموسيقى والمسرح والرسم.
    كان تريتيكوف حريصا على أن تضمّ الصور في متحفه كافّة نجوم روسيا. وقد بدا إصراره واضحا من خلال قصّته مع بورتريه الموسيقيّ موسورسكي.
    كان هذا الأخير قد وصل إلى ذروة شهرته في العام 1874 عندما انتهى من تأليف أوبرا بوريس غودونوف ومتتابعة البيانو بعنوان صور في معرض . لكن بعد فراغه من كتابة هذين العملين، أدمن موسورسكي على الشراب لأيّام.
    وفي عام 1881 اُدخل المشفى لعلاجه من الإدمان. وعندما سمع تريتيكوف بأن حالته خطيرة، أرسل إليه ريبين كي يرسمه. وكان على حقّ، فما أن انتهى الرسّام من آخر جلسة رسم حتى كان موسورسكي قد مات وهو في سنّ الثانية والأربعين.
    كان ريبين يصف موسورسكي بأنه موهوب بالفطرة ومحارب قروسطيّ، مع مظهر بحّار من البحر الأسود . وهو، أي ريبين، لم يتقاضَ أجرا على تلك اللوحة، بل فضّل أن يتبرّع بأجره لإقامة نصب تذكاريّ للمؤلّف الموسيقيّ.
    هناك أيضا بورتريهان آخران مهمّان في مجموعة تريتيكوف، الأوّل للشاعر نيكولاي غوميليف المقتول عام 1921 بسبب أنشطته الثورية، والثاني لزوجته الشاعرة المعروفة آنا أخماتوفا. وقد رسمت البورتريهين الفنّانة اولغا كاردوفسكايا بأسلوب رمزيّ يذكّر بأسلوب إدفارد مونك.
    وبورتريه الشاعرة يبدو أفضل لأننا نعرف من هي. وتبدو جالسة بكبرياء، بينما تظهر خلفها سماء لامعة. وقد رُسمت أخماتوفا عام 1914 بعد حياة حافلة تعرّضت خلالها للمراقبة والمطاردة. لكن هذا لم يقتل شعرها ولم يُخرس معارضتها الشجاعة للفظاعات التي رأتها.

    Credits
    theguardian.com
    ilyarepin.org

    السبت، مايو 28، 2016

    لوحات الفانيتا

    "فانيتا" كلمة لاتينية تعني الفراغ أو الخواء، لكنّها أيضا تشير إلى معنى التشاوف أو الخيلاء والتفاخر الأجوف بالمال أو السلطة أو الجمال والزينة.
    ولو بحثنا عن كلمة بالعربية تعطي نفس الدلالة لما وجدنا أفضل من العبارة التي تقول: ما الدنيا إلا متاع الغرور". والفانيتا أيضا هي نوع من لوحات الطبيعة الساكنة يريد رسّاموها أن يذكّرونا من خلالها بقِصَر الحياة وبعبثية المتع الدنيوية وبحتمية الموت.
    وفي هذا النوع من اللوحات، نجد غالبا جماجم ترمز للموت، بالإضافة إلى رموز أخرى مثل الفواكه المتعفّنة والأزهار الذاوية التي ترمز للتحلّل، والشموع المطفأة والدخان والساعات والأدوات الموسيقية والساعات الرملية وغيرها من أدوات قياس الزمن.
    كما يمكن أن تتضمّن هذه اللوحات كتباً، سواءً كانت مكدّسة فوق بعضها البعض أو مفتوحة على صفحة بعينها، وموادّ من الكريستال والفضّة وتماثيل صغيرة وآنيات زهور وعملات معدنية وقلائد وخواتم من اللؤلؤ تنبثق من صناديق مزخرفة. وكلّ هذه الأشياء ترمز لقصَر الحياة وفجائية الموت.
    وقد اعتاد الناس في أوربّا خاصّة، ومنذ زمن طويل، على أن يستحسنوا هذه اللوحات ويقتنوها لسكونيّتها ولرمزيّتها العميقة. وهذه الفكرة لا تقتصر على الرسم فحسب، وإنّما تمتدّ أيضا لتشمل الشعر والموسيقى والأدب.
    وهناك جملة أخرى باللاتينية لها دلالة دينية وتتردّد كثيرا هي "ميمنتو موري"، وتعني حرفيا "تذكّر أنك مخلوق فانٍ"، وهي فكرة ظلّت تحظى بالرواج والشعبية في أوساط الكتّاب والفنّانين المسيحيين على مرّ قرون.
    والفكرة تنطوي على نصيحة للناس بأن عليهم أن يستعدّوا للموت في أيّ وقت لأنه يأتي على حين غرّة وبلا سابق إنذار. والسبب هو أن أوربّا شهدت ابتداءً من القرن الرابع عشر مجاعات متكرّرة وحروبا كثيرة مدمّرة مات على إثرها الكثيرون، بالإضافة إلى تفشّي وباء الطاعون الذي اكتسح القارّة وحصد أرواح مئات الآلاف من البشر.
    كان الموت وقتها يتربّص بالجميع. ومع ذلك كان الناس يجتهدون في البحث عن التسلية والمتعة متى ما كان ذلك ممكنا. لذا انتشرت آنذاك في بعض أرجاء ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا أغاني تحمل حوارات متخيّلة بين الموت والبشر.
    وإحدى أشهر تلك الأغاني كانت كلماتها تقول: إن كنت لا تستطيع أن تعود إلى الوراء لتصبح كالطفل وتغيّر حياتك للأفضل، فلن تستطيع أن تدخل ملكوت الربّ. إن الموت يسرع الخطى، فدعنا نمتنع عن ارتكاب الخطايا".
    المعروف أن رسومات الفانيتا ازدهرت في هولندا على وجه الخصوص، وبالتحديد في ذروة ازدهار ما عُرف بالعصر الذهبيّ للرسم الهولنديّ. وأحد أشهر الرسّامين الهولنديين الذين برعوا في رسم الفانيتا هو إدفارت كولير الذي عاش في القرن السابع عشر.
    في إحدى لوحاته المشهورة "إلى فوق"، يرسم كولير مجموعة من الأشياء مرتّبة فوق طاولة مغطّاة بالدانتيل البنّيّ اللون. من بين هذه الأشياء تاج ذهبيّ مزيّن بالحرير الأحمر ومرصّع باللآليء الحمراء والسوداء والبيضاء. وعلى الطاولة أيضا هناك صندوق اسود مُحلّى بالذهب تبرز منه مجوهرات وعقود ذهبيّة وفضّيّة.
    وبين التاج والصندوق بورتريه لرجل وجيه موضوع داخل إطار مذهّب صغير وبيضاويّ الشكل. وفي خلفية الصورة، هناك مزهرية ذهبيّة ضخمة وإلى يمينها كتاب مفتوح على صفحة تحتوي على نصّ لاتينيّ.
    في لوحات الفانيتا المعاصرة، نجد نفس الفكرة التي تعبّر عن قلق الإنسان وحالة عدم اليقين تجاه المستقبل. والرسّام المعاصر يعزّز هذه الفكرة بتوظيفه لأشياء معيّنة كالمرايا والمزهريات الزجاجية والشموع والعظام والجماجم والكتب، بالإضافة إلى منتجات التجميل الحديثة والعبوات البلاستيكية التي تُظهر ميل الإنسان وافتتانه بالسلع الاستهلاكية.
    وعندما تتأمّل لوحات الفانيتا وتتمعّن في رمزيّتها، لا بدّ أن تتذكّر رسومات الفنّان الألمانيّ كاسبار فريدريش. كانت رؤية هذا الرسّام سابقة لعصره، لكن الناس في زمانه لم يقدّروا فنّه ولم يحتفوا به كما ينبغي.
    مناظر فريدريش المتعدّدة عن الطبيعة الشتوية لم تكن عن الحياة في الشتاء، بل كانت عن الشتاء نفسه؛ عن وحشته وجبروته وعن الإحساس الذي يثيره بالخواء والقفر والعزلة.
    أيضا تمتلئ لوحاته بصور الأشجار والجذوع العارية التي تسكنها الغربان والبوم بجانب المقابر والأديرة والأطلال.
    في تلك اللوحات أيضا، كان فريدريش يعبّر، وبطريقته الخاصّة، عن مضيّ الزمن والطبيعة المؤقتة للحياة وعن حالته الذهنية الخاصّة.

    Credits
    arthistory.net

    الأربعاء، مايو 25، 2016

    عن الفنّ والإبداع/2


    يبدو أننا عندما نتحدّث عن "رسّامين عظام"، فنحن في الغالب نقصد الرسّامين الذين نحبّهم أو الذين نعتبرهم نحن "عظماء".
    وحتى الآن، لا توجد أداة محدّدة لقياس جدارة فنّان من عدمه، لأنه ليست هنالك معايير واضحة لذلك.
    لماذا مثلا لا يُعتبر جون ووترهاوس أو لورانس الما تاديما أو جون سارجنت أو ويليام بوغرو أو جان اوغست آنغر من الرسّامين العظماء المعترف بهم، تماما مثل فان غوخ ومونيه وبيكاسو؟
    بالمناسبة وعلى سيرة آنغر، بعض النقّاد اليوم يعتبرون لوحاته مصطنعة وباردة. ومن الملاحظ أن لا احد من شخوصه حرّ، فالجميع مكبّلون بقوانين الطبيعة وبالقدَر، وكأنهم لا يستطيعون الهرب. ومع ذلك ففي لوحاته تلك الجاذبية المتجمّدة.
    كان آنغر يريد أن يصبح رسّام تاريخ، يرسم مثل تلك اللوحات الفخمة المليئة بالشخوص التي رسمها مثله الأعلى رافائيل. وبسبب كلّ الواقعية والإيهام في فنّه، تبدو لوحاته اصطناعية وتجريدية. ولذا لم يكن مدهشا أن يُعجَب به بيكاسو وديغا ودي كوننغ وغيرهم من الرسّامين الحداثيين. وبالرغم من هذا، لا نسمع باسمه هذه الأيّام إلا بالكاد.
    النقّاد أيضا يتّفقون على انه من الأمور التي تؤثّر في كون رسّام ما عظيما هو مدى تأثيره على الفنّانين الذين أتوا بعده وعلى تاريخ الفنّ عموما. ولهذا السبب تضمّن الموضوع السابق إشارة إلى بيكاسو باعتباره رسّاما عظيما لأنه أرسى مدرسة ونهجا وترك أثرا كبيرا على أجيال من الرسّامين الذين جاؤا بعده.
    وفي المقابل، بعض الرسّامين فشلوا في أن يكون لهم تأثير، ثمّ لم يكن لهم معجبون كثر بمثل ما كان لمونيه وديغا مثلا. وهذان الاثنان كانا بارعين في الرسم الأكاديمي، لكنهما تعلّما المزيد وشيّدا فوق ما شيّده أسلافهما.
    إن جوهر أيّ عمل فنّي هو فكرة وصورة. والعمل الفنّي ليس فقط صورة جذّابة وجميلة، وإلا فإن تلك النساء الجميلات اللاتي تزيّن صورهنّ أغلفة مجلات الأزياء والموضة اليوم سيكنّ بمثل عظمة "فينوس" تيشيان مثلا وربّما أعظم.
    ولو قال احد من الناس إن يوهان شتراوس هو موسيقاره المفضّل والعظيم لكان هذا من حقّه الذي لا ينازعه فيه احد. لكن لو قال إن شتراوس أعظم من موزارت، لكان من حقّّ أيّ احد أن يعترض عليه لأن ما يقوله ببساطة غير صحيح.
    الظروف التي تحكم الفنّ والموسيقى والأدب تتغيّر مع مرور الزمن وباستمرار. وعندما تتغيّر فإن بعض الفنّانين ترتفع مكانتهم والبعض الآخر تنخفض. خذ مثلا يوهان سيباستيان باخ، هذا الموسيقيّ العبقريّ لم يُشتهر ولم يعرفه الناس إلا خلال المائتي عام الأخيرة، وكان قبل ذلك نسيا منسيّا ولا يكاد يتذكّره احد.
    ومع انتشار المدارس الفنّية الحديثة، توارى تاديما و ووترهاوس وسارجنت وغيرهم وقلّت أهمّيتهم. ونفس الشيء يمكن قوله عن الرسّامين ما قبل الرافائيليين الذين لم نعد نرى صورهم سوى في بعض أفلام الفانتازيا والخيال العلمي.
    وأخيرا، هناك رأي رائج في أوساط بعض النقّاد ومؤرّخي الفنّ يقول إن أيّ فنّان لا يمكن أن يدخل نادي المشاهير الدائم إلا إذا بقي مائتي سنة، على الأقلّ، في التداول. لكن هذا الرأي لا ينسجم مع الواقع، ومثال باخ المشار إليه آنفا يقدّم الدليل الواضح على عدم صحّته.
    للحديث بقيّة ..

    Credits
    alma-tadema.org
    jeanaugustedominiqueingres.org
    johnsingersargent.org
    bouguereau.org