:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، مايو 10، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • پابلو پيكاسو اسم مرادف للإبداع الفنّي. والناس يتذكّرونه بمساهماته الثورية في عالم الفن. وبعيدا عن أعماله الرائدة، هناك قصّة أسطورية تجسّد، ليس فقط براعته الإبداعية، بل أيضا فهمه للقيمة الحقيقية للخبرة الفنّية.
    ذات يوم، كان پيكاسو يرسم على منديل في مقهى في پاريس. وكان من عادته أن يرسم أيّ شيء كي يسلّي نفسه في مثل تلك اللحظات. وكانت هناك امرأة تجلس بالقرب منه وتنظر الى ما يفعله بترقّب بعد أن عرفته. وبعد لحظات قليلة، أنهى بيكاسو قهوته ثم طوى المنديل الذي كان يرسم عليه بينما كان يهمّ بمغادرة المكان.
    لكن المرأة استوقفته وقالت له: هل يمكنني الحصول على هذا المنديل الذي كنت ترسم عليه للتوّ؟ سأدفع لك ثمنه". وطلب پيكاسو من المرأة مليون فرنك مقابل المنديل المرسوم. غير أنها صُدمت من هذا المبلغ الباهظ لأنه لم يَلزمه أكثر من بضع دقائق من الرسم. وبدا لها أن قيمة تلك الصورة مبالغ فيها ولا تتناسب مع الوقت الذي استغرقته.
    لكن پيكاسو ردّ بعبارة أصبحت شهادة دائمة على رحلته الفنّية وعلى إتقانه، عندما قال للمرأة: يا عزيزتي! لقد استغرق الأمر منّي عمرا كاملا حتى أتمكّن من رسم هذا الاسكتش البسيط". ثم وضع المنديل في جيبه وغادر المقهى.
    وبتلك العبارة البسيطة والعميقة، جسّد بيكاسو جوهر تطوّره الفنّي. فهو لم يكن يطلب مجرّد مكافأة على الرسم على منديل، بل كان يطلب تقديرا لسنواته وممارسته ومنظوره ومسيرته الإبداعية وتجاربه وآلاف الإخفاقات الصغيرة ومثابرته التي مكّنته من امتلاك المهارة اللازمة لإبداع تلك التحفة الفنّية الصغيرة في دقائق معدودة.
    طبعا لا يُعرف إن كانت هذه القصّة حقيقية أم لا. لكنها ليست بعيدة تماما عن الروايات التي قدّمها أولئك الذين عرفوا هذا الفنّان عن قرب. فقد كان شخصا استعراضيا وكوميديّا راقيا. وكان يستمتع بردود الفعل التي كان يثيرها حضوره في أيّ مكان. كما كان معروفا أيضا بتوزيع بعض رسوماته البسيطة على عمّال وعاملات المقاهي ممّن يستحقّونها.
    هذه القصّة توفّر أكثر من مجرّد حكاية ساحرة، فهي تقدّم درسا قيّما في إدراك القيمة الفنّية للعمل والفنّان. وردُّ پيكاسو يوضح أن الإتقان الحقيقي لا يكمن في الوقت اللازم لإبداع شيء ما أو الجهد المبذول لإنجازه، بل في محصّلة حياة كاملة من التعلّم والنموّ والخبرة والتجربة والشغف والسعي الدؤوب نحو التميّز والتجاوز.
    ولم يكن طلب پيكاسو لذلك المبلغ الكبير تعبيرا عن الغطرسة أو الجشع، بل كان بمثابة تذكير بأن الخبرة تُبنى على ساعات وأشهر وسنوات لا حصر لها من الممارسة والدراسة والتحسين المستمرّ لمهارات الفرد.
    ظلّ پيكاسو ينتج فنّا طوال حياته وعاش حتى التسعينات من عمره، واستمرّ في الإنتاج حتى أيّامه الأخيرة. ولو كان هدفه الشهرة أو جني ثروة طائلة في عالم الفن، لكان قد تجمّد في مرحلة ما من رحلته ولسيطرَ عليه القلق أو شكّ في نفسه. وسبب نجاحه الكبير هو نفس السبب الذي جعله يكتفي في شيخوخته برسم صور بسيطة على المناديل أثناء احتسائه القهوة بمفرده.
    إننا كثيرا ما نقلّل من قيمة ما نقدّمه لأننا نعتقد أنه أمر مألوف أو أنه بسيط أو سهل. لكن الحقيقة هي أننا اكتسبنا، على مدى زمن طويل، المهارات والمعرفة والخبرة اللازمة لجعله بسيطا أو سهلا. لذا تذكّر ألا تستهين بتجاربك ومعرفتك التي راكمتها على مرّ السنين وألا تقلّل أبدا من قيمة ما تفعله.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في عالم اليوم، ينمو العشب باتجاه السماء وتطارد الزواحف الشمس أثناء النهار والقمر أثناء الليل. الريح نهر شفّاف والمطر نيزك بارد. وقلبي لا ينعم بالسلام أبدا. مشيتُ في آخر حقل لعبّاد الشمس كان على وشك أن يُهجر، متذكّرا الأساطير المؤلمة والرائعة المتعلّقة بأصل البشرية. ومع ذلك، قد لا يهتمّ هذا الكوكب بما إذا كان البشر سيبقون على قيد الحياة أم لا.
    تتوالى السحب في السماء مثل الأنهار، والهواء عند الغسق يكون مشرقا كسائل. حتى لو كنتُ هنا عشرة آلاف مرّة، فإن حواسّي لن تتعب على الإطلاق ولسوف يكون الشعور بالوحدة مثاليّا. الليل والنهار في البرّية مختلفان بالتأكيد. يجب أن يكون هناك فرق بين ضوء وظلام الحقل يقدَّر بسنوات ضوئية. الأرنب فقط هو الذي يستطيع التحرّك بحرّية بين الاثنين، ومسار الأرنب فقط هو الذي لا يُعيقه شيء.
    في أرض الشمال الشاسعة، من أواخر الصيف إلى أوائل الخريف، كلّ قرية غنيّة بما يكفي لمنافسة بلد. الذهبيّ والأزرق في حالة جمود على هذا الكوكب القديم. الأشخاص الذين يسيرون بين هذين اللونين يشعرون فجأة أنهم نظيفون تماما. الشعور بالأمان يأتي من الظلام. العالم الخارجي مشرق للغاية، حتى في الليل. كلّ شيء مكشوف دون أيّ غطاء أو عائق. قبل أن تشرق الشمس، يكون العالم كلّه مثل حلم، إلا أن القمر هو الحقيقي. وبعد شروق الشمس، يصبح العالم كلّه حقيقيّا، إلا أن القمر يكون مثل حلم.
    كانت والدتي تتفاخر في القرية بأنني أكتب. لكن أهل القرية لم يروا إلا أنني أطارد الطيور في أنحاء القرية بشعر أشعث ووجه متّسخ طوال اليوم، وقد أبدوا جميعهم تشكّكهم في كلام أمّي. وبينما كانت تتحدّث إليهم، استدارت ورأتني أعدو على طول الخندق وأصرخ وألوّح بعصا أثناء ركضي. كان الأمر غير لائق حقّا وشعرت بالحرج. وفي وقت لاحق، صدّق شخص قصّة الكتابة تلك.
    إن أعظم قوّة في الأرض ليست الزلزال، بل نموّ جميع الأشياء. على بعد 30 كيلومترا أسفل النهر، بُنيت قرية جديدة لرعاة الماشية. لا يوجد شيء اسمه بيت. فقط تَحفر حفرة في الأرض، تضع دعائم وتبني سقفا وتعيش تحته. هذه حياة بسيطة، ومريحة. لم يُجبر هؤلاء الناس على المجيء الى هنا، بل أتوا طواعيةً لأنهم يحبّون الحياة، محاطين بآلاف الجبال والأنهار وشغوفين بجمال هذه الأرض.
    خارج الباب، كانت هناك رمال صفراء ورياح وثلوج لا نهاية لها. ومهما كان الاتجاه الذي تسير فيه، فلن تتمكّن من الوصول إلى الطريق حتى بعد أسبوع. ثم يجب عليك أن تسحب حقيبة أكبر منك. وبالإضافة إلى ذلك، هناك ذئاب. لم يكن أمامي من خيار سوى ابتلاع خيبتي.
    السماء دائما مرتبطة بالأرض بشكل وثيق، زرقاء داكنة، رتيبة ولا تتغيّر. أشرقت الشمس على العشب فتوهّج بشكل استثنائي. كان أجمل العشب في ذلك الوقت هو نوع من العشب الأبيض النحيف يقف منتصباً في الشفق.
    مشيتُ لفترة طويلة جدّا، وكان المكان هادئا للغاية. وعندما استدرت، ظهر فجأة قطيع أغنام على بعد عشرات الأمتار خلفي، وهو يدفن رأسه في الأرض بصمت ويتغذّى على العشب الجافّ. في النهاية، هذه برّية رتيبة، فارغة، صامتة وصعبة. حتى أصغر الزخارف هنا لا يمكن إلا أن تبدو مكثّفة ورائعة. في فصل الشتاء، كنّا ندعو الأغنام الضعيفة والمريضة والعجول حديثة الولادة إلى مخابئنا للعيش معنا وقضاء ليال طويلة وباردة. وفي أحد الأيّام، سقط هاتفي المحمول من حقيبة الظهر المعلّقة على الحائط إلى الأرض وظلّ عِجل يمضغه بصمت طوال الليل.
    هل تشعر الأغنام؟ هل تفهم ما ينتظرها؟ هذه هي الحياة التي تكبر أمام من يُذبح. الشخص الذي ذبح شاة، التقطها بنفسه من مرعى ربيعي ووضعها في كيس تمّ إعداده منذ فترة طويلة، ثم ربطها بعناية في الجزء الخلفي من سيّارته وأخذها إلى المنزل. لطالما كان يأخذ هذه الغنم بدأب الى الجبال والسهول ليختصّها بالعشب الأكثر خصوبةً وعُصارة.
    وعندما كانت تضيع، كان يتحدّى المطر ويخرج ليبحث عنها مرارا وينظّفها ويعالج جروحها الملتهبة. وفي موسم البرد، كان يقودها إلى البرّية الجنوبية المفتوحة والدافئة. هل تتذكّر الأغنام هذا؟ أيّ قسوة تسكن قلبه إذ يقرّر الآن ذبحها؟ ربّما تكون هذه هي الطريقة التي تسير بها الحياة، كلّ شخص يسلك طريقه في النهاية، لذا كن فقط في سلام. قالت كاتبة كازاخية: أنت لا تموت بسبب خطاياك، ونحن لا نعيش لنموت جوعاً".
    في الأماكن التي لا يذهب إليها سوى عدد قليل من الناس، هناك دائما شعور بالوحدة والعزلة. في صحراء غوبي مثلا، يمكنك المشي لساعة دون أن تقابل إنساناً، بل يمكن أن تمشي لسنوات دون أن ترى شخصا واحدا، لا شيء في كلّ الاتجاهات. الوقوف على الأرض أشبه بالعودة إليها وحيداً بعد دهور. نعتقد أننا أذكياء وأقوياء بما يكفي لتحمّل كلّ الصعوبات في هذا العالم. لكننا لا نستطيع منع الحروب والانتهاكات والكوارث الطبيعية.
    ربّما يكون الرعاة الكازاخيون في المناطق البدوية في الشمال هم آخر الشعوب البدوية الأنقى في هذا العالم. هذا المكان النائي مليء بالصحاري الشاسعة وغير مأهول. ليس هناك صخب ولا مدن ولا بشر يأتون ويذهبون، وكلّ ما تراه هو أبسط حالات الحياة.
    عندما يهبط الليل، أشعر ببرودة الأرض تخرج من بين الشقوق وبالرياح تهبّ من شمال المحيط الهنديّ عبر آلاف الجبال والأنهار. ثم يغمرني أعظم صمت في العالم. وعندما تتفتّح زهور عبّاد الشمس وتتحوّل غابات البتولا وأكوام القشّ إلى اللون الذهبي، فإن هذا العالم يرعى بنفس الوقت ملايين الكائنات الحيّة بأشكال مختلفة ومتنوّعة. لذا من فضلك، حاول أن تحبّ العالم أنت أيضا! لي جوان

  • Credits
    museupicassobcn.cat/en
    worldhumanitiesreport.org

    الخميس، مايو 08، 2025

    أسفار الرومي/6


    "في داخلك ينبوع، فلا تتجوّل بدلو فارغ".

    في 29 نوفمبر 1244، ظهر شخص غريب في قونية. كان في حوالي الستّين من عمره، يرتدي عباءة مصنوعة من لباد أسود خشن ويلفّ حول رأسه عصابة. وقد اختار أن يقيم في أحد النُزل التي يديرها صنّاع الحلوى وبائعو الأرز داخل منطقة السوق، غير بعيد عن مدرسة الرومي. كان اسمه شمس الدين أو شمس التبريزي.
    عشرات السنين من السفر المضطرب في جميع عواصم العالم الإسلامي أكسبت "شمس" لقب "باراندي" أو "الطائر". وقد اختار البقاء متنكّرا بهيئة تاجر، حتى أنه وضع قفلا ضخما على بابه للتلميح إلى أنه يحمل بضائع ثمينة تحتاج إلى حماية، مع أن ما بالداخل لم يكن سوى حصيرة من القشّ.
    قال شمس أن العناية الإلهية هي التي دفعته إلى السفر إلى قونية للبحث عن الرومي، الذي سمع عن ذكائه وبلاغته وإخلاصه وموهبته. وما كاد الرومي يراه حتى نزل عن بغلته، تاركا حاشيته وأعرافه الاجتماعية. ولم يكن اللقاء بأقلّ أهمية بالنسبة لشمس الذي قال: لقد أصبحتُ بركة راكدة، وقد حرّكتْ روحُ مولانا روحي فبدأت المياه تتدفّق بفرح وثمر".
    سريعاً أدرك شمس، الأكبر سنّاً والأكثر حكمةً، بريق إمكانيات الرومي الحقيقية. كان يكبر جلال الدين بعشرين عاما، وكان الرومي قد أصبح بالفعل مرشدا ومعلّما روحيّا. ووضع شمس أمام الرومي مجموعة من التحدّيات، وطالبه أوّلا أن يضع كتبه جانبا ويتوقّف عن تلاوة مقاطع منها. وقال له: أين صوتك؟ أجبني بصوتك!".
    كان الرومي يقتبس الكثير من الأمثال أو القصائد والحكايات. وكان شمس منزعجا من تأمّل الرومي في صفحات مخطوطات والده. وذات مرّة اقتحم المكان بينما كان الرومي يقرأ، وصاح: لا تقرأ! لا تقرأ كلمات أبيك بعد الآن!". كما استنكر شمس شِعر شاعر الرومي العربيّ المفضّل من أيّام دراسته في حلب، المتنبّي. كان الرومي مولعا بقراءة أشعار المتنبّي في المساء "هذا لا يستحقّ القراءة. لا تقرأه مرّة أخرى أبدا!".
    تجاهل الرومي تحذيرات شمس تلك. وفي إحدى الليالي، كان جلال الدين يقرأ للمتنبّي، ثم نام ورأى في الحلم "شمس" وهو يمسك بالمتنبّي من لحيته ويسحبه. ثم التفتَ شمس إلى جلال الدين وقال له: هذا هو الرجل الذي تقرأ كلماته!" وتوسّل المتنبّي لجلال الدين بصوت خافت وقال: أرجوك حرّرني من يدي شمس ولا تقرأ أشعاري بعد اليوم!".
    وكان هناك شاعر آخر يقرؤه الرومي هو المعرّي؛ السوريّ الكفيف والحزين كالخيّام. لكن حتى شمس نفسه كان معروفاً بترديده بعض أبيات المعرّي من حين لآخر، مع أنه كان يكره الخيّام بشدّة "بسبب كلماته المختلطة والمظلمة".
    ولإضاءة قلب الرومي، شعر شمس بالحاجة إلى تحريره، ليس فقط من كتابات والده وشعر المتنبّي، ولكن أيضا من كلّ اللغة والفلسفة التي كانت أساس شهرته في بداية شبابه. ورأى شمس في الكلمات والمنطق "حجابا" يخفي الرومي عن الحقيقة.
    وفي إحدى المرّات، أمر شمس الرومي بشراء إبريق من النبيذ وحمله إلى المنزل أمام أعين الجميع قائلا له: إذا أردت أن تتحرّر من قيود التقاليد فعليك أن تتخلّى عن سمعتك الطيّبة!".
    وبتوجيهٍ من شمس، أصبح الرومي ممارسا شغوفا للسماع، أي الاستماع العميق والرقص الدائري. وأيقظت الموسيقى إلهامه. وخلال جلسات السماع، كان يرتجل قصائده التي كان أصدقاؤه يدوّنونها على عجل.
    كان شمس يفهم "السماع" بمعنى مختلف تماما. فبالنسبة له، لم يكن محور الاهتمام النصوص العلمية، بل الموسيقى والشعر اللذين اعتبرهما وسيلة للوصول إلى الكشف والنشوة الروحية. وكان شمس والرومي يرافقان الموسيقيين ويقضيان ساعات لا تُحصى في الاستماع إلى عزفهم. وكان ذلك بمثابة تحدّ للسلطات الدينية المحافظة التي كانت تعتبر الموسيقى في أحسن الأحوال إلهاءً، وفي أسوأها إثماً.
    وقد أصبح "السماع" يعني أيضا الرقص الدائري، وهو ممارسة عبادية مرهِقة ومبهجة علّمها شمس لجلال الدين. وفي "السماع"، يدور الراقص بعكس اتجاه عقارب الساعة حول محور ساقه اليسرى، مستديرا إلى الأبد نحو القلب. وبتوجيه ذراعيه الممدودتين وكفّه اليمنى نحو السماء واليسرى نحو الأرض، يصبح الراقص بمثابة قناة بين السماء والأرض، منخرطا في احتضان كامل للخلق.


    كان الرومي يتوق إلى التحرّر من هذا العالم الخانق واللوذ بصديق ورائيّ متحرّر من همومه وصادق وحميم. وكان يشعر بما يدعو إليه في خطبه: التحرّر من قوقعة الذات الضيّقة والاتحاد بحبّ لا حدود له مع الله". وقد تحقّق له ذلك عندما التقى "شمس". كان الأخير مفكّرا حرّا وباحثا مستقلّا وصوفيّا ضليعا. وكان يتمتّع بلسان حادّ وحبّ جارف للموسيقى.
    وقد اعتبر البعض "شمس" فظّا ومجدِّفا، ووجد آخرون في صدقه دافعا للتجدّد. لكن شمس لم يكن يبدي اهتماما بالأتباع. ذات مرّة قال: لقد ظلّوا يصرّون على اتّخاذي معلّما. وعندما هربت تبعوني إلى النزل. قدّموا لي الهدايا، لكنّي لم أعرها اهتماما وغادرت". وكما سئم الرومي من الشهرة، ملّ شمس من الوحدة "لقد مللت من نفسي، أردت أن أجد شخصا يشاركني هذا القدر من الإخلاص، شخصا ذا عطش عميق".
    فتح شمس قلب الرومي. روحه الجريئة وفهمه العميق للتصوّف وإرشاده السخيّ في الممارسات الروحية كالصيام والإنشاد والسماع مكّنت الرومي من الارتقاء من المفاهيم إلى التجارب المجسّدة لموت الأنا، والاتحاد والنشوة الإلهية، وهي حالات جوهرية في التصوّف.
    ورغم أنهما لم يُمضيا معا سوى عامين، إلا أن تأثير شمس لم يضعف أبدا. استمرّ الرومي في تأليف القصائد بقيّة حياته، وأحيانا كان أصدقاؤه يدوّنون كلماته. وقد قال في مدح شمس: لقد حطّمتَ قفصي وجعلتَ روحي تغلي وحوّلتَ عِنَبي إلى نبيذ!". وهكذا أصبح الواعظ الرصين شاعرا منتشياً.
    ألّف جلال الدين الرومي حوالي 65,000 بيت شعري جُمعت في كتابين: المثنوي، وهو قصيدة تعليمية سردية في أبيات مقفّاة، وديوان شمس التبريزي، وهو مجموعة ضخمة من الرباعيات الغنائية والغزليات.
    وشعره زاخر بقفزات مذهلة من الصور والأفكار والمديح والنقد والاعترافات والدعوات. وفي أشعاره يتجلّى اهتمامه بالإنسانية والتزامه الجوهري بتحرير الإنسان من خلال الحبّ. كما يصف تحوّله الشخصي ويشجّع القارئ على أن يحذو حذوه، متسائلا عن منظومة القيم التي تضع اللصوص على الدرجات العليا وتعطي الأولوية للكسب المادّي على التواصل الروحي وتؤيّد السيطرة على الآخرين بدلا من الرضا المتبادل.
    وفي شعر الرومي أيضا، يتجسّد هذا الحبّ الكبير بمختلف الطرق. أحيانا يكون الحبّ ماء الحياة، قوّة تتدفّق من أعماق الروح، تسقي الأرض في دواخلنا وفيما بيننا وتُنبت حدائق بدلا من ساحات المعارك. وأحيانا يكون الحبّ نارا تحرق السرديات والإسقاطات الأنانية التي تحجب إحساسنا بالترابط وتُبقينا منفصلين. "الحبّ جدول ومحيط بلا شاطئ، نبيذ وخبز، معلّم وصديق، شعلة تملأ المنازل بالنور. الحبّ يتحدّانا، يوقظنا من سباتنا، ينير أعيننا العمياء، يأتي من العدم ليغسل ثقل الأيّام".
    تقول الأسطورة إن "شمس" اختفى ذات يوم في ظروف غامضة. ولا يُعرف سبب اختفائه أو ما حلّ به حقّا حتى اليوم. قيل، مثلا، أنه بسبب قربه من الرومي والتغيير العميق الذي أحدثه في حياته، فقد حسده الكثيرون وكرهوا علاقتهما. وقيل انه قُتل على يد بعض أتباع الرومي الغيورين ممّن استاءوا من تأثيره على معلّمهم بعد أن استثمروا فيه الكثير، ولم يكن هناك متّسع لمعلّم آخر في ذلك المكان.
    لكن لأنه لا توجد أدلّة كافية تشير إلى أن شمس قُتل بالفعل، فقد تكون هذه قصّة مختلقة وبلا أساس أو سند تاريخي. وهناك من يقول ان "شمس" غادر إلى موطنه طواعيةً ليخفّف التوتّرات المتزايدة داخل مجتمع الرومي. فبعد أن انتهى عمله مع الرومي، حان وقت عودته بعد أن لم يبقَ المزيد ممّا يمكن أن يُقال أو يُفعل. وربّما لأنه لم يكن ممكنا تفسير اختفائه، نُسجت حكايات خيالية كثيرة لإضفاء هالة من الغموض عليه.
    وسواءً قُتل "شمس" حقّا أم لا، فقد ترك اختفاؤه الرومي حزينا مكسور القلب ودفعه إلى فترة حزن وأسى شديدين. إلا أن هذه الفترة أصبحت أيضا أرضا خصبة للتعبير الروحي والشعري العميق. وبسبب الشعور بالوحدة والفقد، أُجبر الرومي على مواجهة أعماق روحه وتوجيه أشواقه وآلامه في شعره وبدأ كتابة أشعاره الخالدة عن الله وعن الحبّ والحقيقة والحياة.
    لم يكن غياب شمس المفاجئ والغامض مجرّد نهاية، بل بداية جديدة عميقة في رحلة الرومي الاستثنائية، وترك علامة لا تُمحى على روحه وإرثه. وبفضل شمس، أصبح الرومي الشاعرَ العظيم الذي نعرفه اليوم. لماذا وصل إلى قونية تحديدا، ولماذا اختفى وكيف اختفى نهائيا، كلّ هذا سيبقى لغزا. ما هو واضح وأكيد هو أن شمس التبريزي لعب دورا مهمّا جدّا في تغيير وتنوير أحد أبرز الشعراء الصوفيين الذين عرفهم العالم.
    عاش جلال الدين الرومي حتى بلغ السادسة والستّين من عمره. ولم يعد إلى الوعظ، مع أنه ظلّ ناشطا في مجتمع قونية، يساعد في حلّ النزاعات بين سكّان المدينة ويقدّم الإرشاد والسلوان ويكتب رسائل إلى الحكّام لمساعدة الطلاب الفقراء وغيرهم من المحتاجين. وبالطبع، استمرّ في كتابة الشعر وقضى السنوات الأخيرة من حياته يكمل كتابه "المثنوي"، ويكتب المزيد من الرباعيات والغزليات لديوان "شمس التبريزي"، وينظُم القصائد حتى وهو على فراش الموت.

    Credits
    rumi.org.uk
    sufism.org
    lithub.com

    الأربعاء، مايو 07، 2025

    أسفار الرومي/5


    "لم تُخلق لتزحف في هذه الحياة. لديك أجنحة، تعلّم استخدامها وحلّق."

    في رسالة كتبها بعد هروبه بفترة وجيزة، رثى ياقوت بأسلوب مفعم بالعاطفة القصورَ والبيوت التي رآها وهي تُمحى من على وجه الأرض "كما تُمحى أسطر الكتابة من الورق، وتصبح مسكنا للبوم والغربان".
    لكن بينما كان جنكيز خان يؤسّس دولته الوحشية في آسيا الوسطى، كانت الممارسات الصوفية التي أحياها المهاجرون الخراسانيون، بمن فيهم بهاء الدين وعائلته، تقوى وتتجذّر. وأصبحت المحافل الصوفية مراكز ثقافية للتهذيب، حيث قدّم الشيوخ رسائل الأمل والتعالي والصداقة والحبّ، بالإضافة إلى الحفلات الموسيقية والشعر والرقص. الباحثة الألمانية آن ماري شيمل لخّصت ذلك التباين بقولها: شهدت تلك الفترة أفظع كارثة سياسية، وفي الوقت نفسه أعلى مستويات النشاط الديني والصوفي".
    وقد تعاملَ الرومي الأب مع الاضطرابات الناجمة عن غزو المغول، إمّا متجاهلا، أو متألّما بسبب المعاناة التي جلبها لعائلته ومجتمعه. وصاغ القضية بشكل أكثر وضوحا لدائرته من المهاجرين من خراسان بقوله: إذا كنتم خائفين من التتار فأنتم لا تؤمنون بالله".
    ولعلّه أدرك العناية والحكمة الإلهية فيما حدث، ونقل إلى ابنه هذا الفهم للأحداث المأساوية. ولم يكن اختياره لمكانه في آسيا الصغرى صدفة، فقد تنقّل واعظا متجوّلا من مدينة إلى أخرى، ومن راع إلى راع، مقتربا دائما من قونية؛ عاصمة سلطنة الروم السلجوقية التي كان يحكمها السلطان علاء الدين كيقباد الأوّل، والتي ربّما زارها لأوّل مرّة في وقت مبكّر من عام 1221. وبالطبع، سمح توقيت هذه الهجرة في أواخر حياته لعائلته بالنجاة من الإعدام المحتمل على يد فاتح العالم المعروف آنذاك. وقد أمضى جلال الدين وعائلته السنوات السبع التالية في وسط الأناضول قبل أن يصلوا أخيرا إلى قونية.
    وبحلول ذلك الوقت، لم يكن جلال الدين قد شهد فقط عددا كثيرا من الأسفار، بل عايشَ أيضا مراحل الحياة، مع وفاة والدته وشقيقه الأكبر وزواجه من صديقة طفولته ثم ولادة ابنيه. وسيكتشف في الولادة والتحوّلات المستمرّة لدورة الحياة استعارته المفضّلة عن الحياة الداخلية: مثل طفل في الرحم يتغذّى بالدم، يولد الجميع مرّة واحدة، ولقد ولدت مرّات عديدة".
    كانت قونية، حتى في هندستها، أقرب إلى مدن آسيا الوسطى منها إلى مدن آسيا الصغرى. كانت المنازل تمتدّ بين الأسواق وحدائق الزهور، بينما اصطفّت على جانبي الشوارع والأزقّة جداول من الطين المحروق تتدفّق منها المياه، وحُفرت نوافير في جدران المباني العامّة في أحواض مقوّسة الشكل. وكانت الحمّامات العامّة تقع في الوسط، مع أقسام للرجال والنساء.
    بعد أن استعان السلطان كيقباد بالأساطير الفارسية لتعزيز مكانته في قونية، ابتكر لنفسه نسَباً مميّزا يختلف عن أسلافه الأتراك الرحّل. ومثل أخيه ووالده، أخذ السلطان اسمه الملكي من الملوك الخياليين العظماء في الملحمة المسمّاة بـ الشاهنامه أو كتاب الملوك. وبالمثل، نقشَ السلطان على أبراج المدخلين الرئيسيين لقلعة قونية رسوما لشخصيات واقتباسات من الملحمة كُتبت بأحرف من ذهب. وفي جميع أنحاء القصور، وُضعت تماثيل لتنّين يرمز لمحارب تركي وصفه الفردوسي في قصيدته بأنه "تنّين خطير أنفاسه من نار!".
    كما بنى السلطان خاناً أسماه "خان السلطان" عام 1229. كان الخان مخصّصا للمسافرين على الطريق من قيصري إلى قونية، في منطقة من أراضي الأناضول المُعشبة والمسطّحة التي لا تتخلّلها سوى كتل من الجبال تشبه إلى حدّ كبير سهوب آسيا الوسطى.


    وفي بعض الممرّات الأخرى التي تؤدّي الى المدينة، تُفسح حقول القطن والذرة الطريق لحدائق البرقوق الأصفر، أو مشمش قونية الشهير. وفي الصباحات التي تعقب العواصف الرعدية، تتفتّح المزيد من الورود وتتناثر الخضرة وينتشر عطر أشجار التوت في كلّ مكان. كان الربيع هو الفصل المفضّل في قصائد الرومي، وغالبا ما تكون صوره الربيعية الأناضولية واضحة: حديقة الورود والريحان الشذيّ وظلال الفاوانيا التي تشبه سريرا بنفسجيّا بين التراب".
    كانت آسيا الصغرى منفصلة عن البرّ الرئيسي العربي ومعظم سكّانها من المسيحيين اليونانيين والأرمن، لذا سُمح للإسلام بالتطوّر في ظلّ هؤلاء السلاجقة بطريقة أكثر انسجاما مع عالمية ابن عربي. وكان سلاطين السلاجقة يؤمنون بأن أدعية الشيوخ الكبار، من أمثال بهاء الدين، تجلب الرخاء والاستقرار للبلاد.
    في صباح أحد أيّام فبراير عام 1231، وعن عمر يناهز الثمانين، توفّي بهاء الدين، بعد أن قاد عائلته آلاف الأميال ونجا معهم من الفناء المحتمل. وقد تبرّع كيقباد الأوّل بأرض في حدائق الورود الخاصّة به كي يُدفن فيها. كانت صحّة بهاء الدين قد بدأت بالتدهور وفقدَ معظم أسنانه وصار صوته مرتجفا. وكان يستقبل أتباعه في منزله ويقول لهم: انتظروا حتى أموت وسترون كيف سيحلّ ابني جلال الدين مكاني ويصبح أعلى شأنا منّي".
    ذات يوم، انتهى الى علم جلال الدين أن معلّمه برهان الذي لم يرَه منذ 15 عاما، قد وصل الى قونيه. كان توقيت ظهوره غريبا. وقد عزا برهان سبب مجيئه إلى حثّ بهاء الدين له في المنام. وبلكنته وسلوكه الخراساني، كان يحمل معه أصداء عوالم سمرقند وبلخ المنقرضة. كان برهان يسعى دائما إلى نقل أفكار باطنية يصفها بـ"الأسرار"، وتحْمِل في جوهرها فهما للألوهية كوجود في كلّ شخص. لكن تلك الأفكار لم يكن سهلا التعبير عنها، وكان التصريح بها ينطوي على مخاطر، إذ بدا أنها تتجاوز الخطّ الفاصل بين الإنسان والإله.
    كان برهان يستخدم صورا صوفية مألوفة في أحاديثه، مثل اكتشاف لؤلؤة أو انعكاس الضوء في المرآة أو الاحتراق مثل فراشة في اللهب. وكان يقول لطلّابه ومنهم جلال الدين: إن كنت لا تعرف نفسك، فإن كلّ العلوم والمعرفة التي تمتلكها لا طائل من ورائها".
    ولم تكن مثل هذه الرسائل عن معرفة الذات غريبة على سكّان الأناضول من اليونانيين. ومنذ شعار "إعرف نفسك" المنقوش على معبد أبوللو في دلفي، ارتبطت المعرفة عند الإغريق القدماء بالدين. وكان الفكر الأفلاطوني المحدث، الذي يؤكّد على المعرفة كمسار صوفيّ، حيّاً في منطقة الأناضول. كان أفلاطون شخصية ساحرة يعامله كلّ من الإغريق والأتراك كقدّيس. وقريباً من قونية، يتدفّق "نبع أفلاطون" حيث يُعتقد أنه عاش. ويزعم البعض أنه مدفون في كنيسة القلعة.
    في أحد الأيّام، انتشر الخبر عن وفاة برهان. وفي وقت وفاته تقريبا، توفّيت "جوهر"، زوجة الرومي، في ظروف غامضة ودون أيّ سبب معروف. ومرّة أخرى، عانى الرومي من فقدان رابط وثيق بطفولته في آسيا الوسطى، والأهم من ذلك أن جوهر كانت والدة ابنيه. وقد تزوّج الرومي بعد ذلك بوقت قصير من أرملة تُدعى "كيرا" وتنتمي الى عائلة رومانية تركية في قونية. وكان زوجها السابق متحدّثا أرستقراطيا من إيران. وعلى مدى السنوات القليلة التالية، رُزق الرومي وكيرا بابنهما مظفّر الدين وابنتهما ملكة.
    كانت كيرا أكثر وضوحا في الذاكرة من جوهر، حيث لم يكن زواجهما مرتّبا، وعاشت مع الرومي خلال فترة شهرته المتزايدة. وعلى الرغم من أنه لم يكتب عنها أبدا، فقد تذكّرها أولئك الموجودون في دائرته الداخلية، وكانت المرأة فيما بعد مصدرا لبعض الحكايات الأكثر سحرا وخيالا عن زوجها. كان اختيارها مغادرة الأسرة الأرستقراطية لزوجها المتوفّى والزواج من رجل دين يشير إلى ميول روحية. وكانت بالتأكيد تؤمن بالخرافات والجنّ والأرواح الشرّيرة غير المرئية.
    كثيرا ما كان الرومي يقع في فخّ التصنيف التقليدي للرجال على أنهم أقوياء وعقلانيون، بينما النساء متقلّبات وعاطفيات. وقد صوّر الزوجات ذات مرّة على أنهنّ اختبارات تطهيرية لفظاظة أزواجهن، فقد "أرانا الله طريقا ضيّقا وخفيّا لتهذيب أنفسنا، وهو طريق الزواج من النساء وتحمّل ظلمهن والاستماع إلى شكاواهن وتركهن يُصدرن الأوامر لنا".
    لكن في حالات أخرى، كان الرومي أكثر تعاطفاً، كما في قصيدته في المثنوي الموجّهة للنساء: المرأة شعاع من الله، سماويّ ومحبوب. إنها خالقة ومخلوقة". وكان أيضا ضدّ فرض الحجاب وكان العديد من تلاميذه من النساء، وقد انتُقد لحضوره اجتماعاتهنّ المسائية في إحدى الحدائق.

    الثلاثاء، مايو 06، 2025

    أسفار الرومي/4


    "حيثما يوجد خراب، هناك أمل بالعثور على كنز".

    باعتبارها ملتقى للحجّاج من جميع أنحاء العالم الإسلامي، كانت مكّة أيضا مركزا للأخبار والمعلومات، حيث كان الرومي وعائلته يتابعون آخر الاخبار من شهود العيان. وفي تلك السنة، أي 1218، كان الخبر العاجل في أوساط المسافرين من آسيا الوسطى يتعلّق بتهديد المغول. فمنذ رحيل عائلة الرومي من خراسان، ازدادت التوتّرات والهجمات بين جنكيز خان وشاه خوارزم. وكان مصير الحجّاج غير واضح وقرار العودة إلى المدن المهدّدة مثل بلخ أو سمرقند غير مؤكّد.
    بعد مكّة، رحلت عائلة الرومي إلى دمشق واستغرقت الرحلة بأكملها حوالي شهرين. كانت دمشق وقتها غير مستقرّة أيضا وسوريا لا تزال متأرجحة بسبب الحروب الصليبية. وكان حاكم دمشق هو "المعظّم" الذي كان والده يقاتل في الحملة الصليبية الخامسة.
    لم تدُم إقامة جلال الدين ووالده وعائلته طويلا في دمشق. وانتقلوا هذه المرّة من سوريا إلى الأناضول خلال صيف ذلك العام. كانت الأناضول في خيال المسلمين تمثّل الحدود الخارجية لحضارتهم وحدود روما المسيحية أو الروم. وكان مصطلح "رومي" يُستخدم أحيانا كمرادف للمسيحي.
    وكان عدد المسلمين في الأناضول يُقدّر بنحو عشرة بالمائة فقط من السكّان. وكانت مالاطية، المدينة الواقعة قرب ملتقى نهر الفرات والتي نزلوا فيها في البداية حامية عسكرية ملحقة بحصن من القرن الثامن الميلادي، وتُمثّل أوّل ساحة دفاع ضدّ البيزنطيين تمتدّ حتى البحر المتوسّط.
    وقد وصف ياقوت الحموي المدينة عندما حلّ فيها بأنها جزء من الأراضي اليونانية، إلا أن الأتراك السلاجقة كانوا على ما يبدو مسئولين عنها عندما أقامت عائلة جلال الدين فيها لفترة وجيزة. وأثناء وجوده في مالاطية، أجرى جلال الدين ثاني لقاءاته المشهورة مع رجال بارزين. كان يعيش في المدينة في ذلك الوقت الصوفيّ العربي المولود في إسبانيا ابن عربي، أعظم مفكّري عصره، وقد اتُّهمت آراؤه حول وحدة الوجود بأنها تحريف وثنيّ لعقيدة الإله المتعالي في الإسلام.
    وعلى الرغم من أنه كان يُدرّس في دمشق، إلا أن إقامته في سوريا لم تكن مريحة له، فقضى الأعوام من ١٢١٦ إلى ١٢٢٠ في مالاطية. ويقال أنه رُتّب حوار بين والد جلال الدين وابن عربي. وقد أحضر الأبُ جلالَ الدين معه، وعندما غادرا، كان الصبيّ هو من لفت انتباه الصوفيّ العظيم. وعندما رأى ابن عربي الرومي الصغير يقتفي أثر والده في الشارع، علّق قائلا: سبحان الله! محيط يتبع بحيرة!".
    كان بهرام شاه، أمير إرزينجان، وزوجته الأميرة عصمتي، أوّل راعيين لوالد جلال الدين في الأناضول. وكانت عاصمتهم تقع في الطرف الأعلى من وادي الفرات. كانت إرزينجان مدينة كبيرة يغلب عليها المسيحيون الأرمن. وغالبا ما أثارت مثل هذه المدن غضب المسلمين الزائرين الذين كانوا يعبّرون عن امتعاضهم من وفرة النبيذ ولحم الخنزير والمواكب الدينية فيها.
    وعلى ما يبدو، استقرّ والد جلال الدين في شتاء عام ١٢١٨ في "العصمتيّة"؛ المدرسة التي سُمّيت تيمنّا براعيته الملكية، حيث كان يعطي دروسا عامّة مع لمسة من التصوّف. كان هذا الشاه الصغير، أي أمير إرزينجان، معتادا على رعاية الشخصيات الثقافية البارزة. وكان قد دعمَ في وقت سابق إنتاج قصيدة تعليمية طويلة بعنوان "كنز الأسرار" ألّفها الشاعر نظامي وكُتبت بأسلوب سنائي.
    وكان شاعر البلاط الآذاري، أي نظامي، قد كتب أشهر قصّة رومانسية بعنوان "ليلى والمجنون"، وهي تنويع على حكاية عربية كلاسيكية ومشهورة عن الحبّ العذري. وقد ظلّ هذان الحبيبان، أي ليلى والمجنون، في خيال الرومي بمثابة عاشقيه المفضّلين، وقَدّس فيما بعد المجنون المتألّم باعتباره "شهيد الحبّ" الصوفيّ المثاليّ.


    مرّ عام تقريبا منذ أن ذهب الرومي وعائلته إلى الحجّ في مكّة. وخلال هذا الوقت، كانوا يتطلّعون ويستمعون بقلق لآخر الأخبار عن الوضع في بلادهم. لم يكن أحد ينعم بالاستقرار حقّا في أيّ مكان. وكانت التقارير التي جلبها المسافرون قاتمة، وسرعان ما صرفت العائلة النظر عن أيّ خطط للعودة في نهاية المطاف، وبدا أن إقامتهم في الأناضول ستطول.
    كانت منطقة خراسان، حيث ترك بهاء الدين وراءه والدته المسنّة وابنه وابنته الكبيرين، تسجّل نشاطا خطيرا أشعله حادث حدوديّ صغير. كان بعض من يأتون إلى أراضي شاه خوارزم يشترون الأقمشة ليكسوا أنفسهم. وقد منعهم الشاه وأمر بقتل تجّارهم. كما فرض عليهم الضرائب ومنع تجّاره من السفر إلى أراضيهم. وذهب التتار بتواضع الى ملكهم ليشتكوا له. فطلب الملك عشرة أيّام للنظر في الأمر، ودخل كهفا عميقا في الجبال، حيث صام لأيّام عشرة وتضرّع وصلّى. وجاءته صرخة من الله: لقد سمعت دعاءكم! ستُنصرون أينما ذهبتم!".
    كان جنكيز خان ينظر إلى خوارزم باعتبارها شريكا تجاريّا مربحا، وقد أرسل سفراءه للتفاوض على اتفاقية تجارية وتبعتهم قافلة من 450 تاجرا تحمل سلعا فاخرة. وبينما كانت القافلة تعبر إلى كازاخستان، شمال المنزل الذي شهد طفولة جلال الدين، استولى حاكمها، وهو قريب لشاه خوارزم، على البضائع وقتل التجّار باعتبارهم جواسيس.
    أرسل جنكيز خان مبعوثين للمطالبة بالاقتصاص من القتلة. لكن بدلا من ذلك، قطع شاه خوارزم رأس أحد المبعوثين وأعاد الآخرين وقد حلق لحاهم بشكل مهين. وتأكيدا لرواية جلال الدين، ذكر المؤرّخ الفارسي عطاء الله الجويني الذي عاصر تلك الأحداث أن جنكيز خان صعد قمّة جبل للصلاة ونزل "مستعدّا للحرب". واستمرّ الغزو العقابي الذي تلا ذلك أربع سنوات، حتى عاد جنكيز خان إلى وطنه منغوليا، تاركا وراءه المدن الكبرى التي عرفها جلال الدين في صباه، بخارى وسمرقند وبلخ وهيرات ومرو ونيشابور، وقد تحوّلت الى أنقاض.
    ويصف الجويني نزول القوات المغولية في بخارى بقوله: أُخذ جميع الناس، رجالا ونساء، وطُردوا إلى السهل ثم قُتلوا جميعا ولم يُستثنَ منهم أحد". وفي بلخ، حيث كان بعض أفراد من عائلة بهاء الدين ما يزالون يعيشون، هُدمت جميع التحصينات والجدران، وكذلك القصور. وتكرّرت حقول القتل في تِرمذ. كانت الوحوش البرّية تتغذّى على الجثث، والأسود تتزاوج مع الذئاب دون صراع، والنسور تأكل دون شجار مع الجوارح الأخرى".
    يمكننا أن نتخيّل الرومي وهو يسافر عبر مناظر طبيعية مهيبة من صحاري وجبال ومروج وغابات، مستنشقا عبير الزهور البريّة، ومتأمّلا السماء المرصّعة بالنجوم، ومستيقظا على أصوات الطيور، ومتجوّلا في حدائق الورود وبساتين السرو والخوخ وأسواق التوابل العطرية، وكلّ هذه العناصر وجدت طريقها إلى شعره.
    بأذن، كان يسمع حكايات شعبية وقصائد ونصوصا مقدّسة وأحاديث قافلة مفعمة بالحيوية. وبالأخرى، يسمع أخبار الفظائع والرعب الذي اجتاح البلاد مع غزو جيوش جنكيز خان للمدن وذبْح سكّانها وتركها أطلالا مشتعلة.
    وكانت معاناة نيشابور أشدّ من جميع المدن الأخرى في ذلك الانتقام الدموي. فقد انطلق سهم من وراء أسوار المدينة المحاصرة متسبّبا في مقتل توكوشار صهر جنكيز خان. وسمح الفاتح لابنته الأرملة والحامل بالانتقام. وفي أبريل 1221، قضت بالموت على الجميع، بمن فيهم الكلاب والقطط وأيّ حيوان حيّ، وأمرت بتكديس الجماجم على شكل ثلاثة أهرامات، للرجال والنساء والأطفال.
    وذكرت بعض الروايات أن العطّار كان من بين القتلى، وهو مصير محزن لشاعر اتّسم بالرقّة ووُصف بأنه "صوت الألم". وطوال السنوات الثلاث التي سبقت الغزو المغولي، كان الجغرافي ياقوت الحموي يقيم سعيدا في مرو متنقّلا بين مكتباتها العديدة. وقد كتب: لولا المغول لبقيتُ ولعشتُ ومتُّ هناك، لكن بالكاد استطعت الفرار".

    الاثنين، مايو 05، 2025

    أسفار الرومي/3


    "بِعْ ذكائك واشترِ الحَيرة"!

    كان شاعر الجيل السابق الذي تجنّبه العطّار هو عمر الخيّام الذي دُفن بجوار سور حديقة على بعد أميال قليلة من نيشابور، حيث تتناثر بتلات أشجار الكمّثرى والخوخ على قبره. وقد اشتهر الخيّام في حياته بأنه عالم رياضيات وفلك، كما كتب رباعيّات موجزة عن الحياة كمثل قوله: سواءً في نيشابور أو بابل، تستمرّ أوراق الحياة في التساقط واحدة تلو الأخرى". ومع ذلك، فإن رياح الشكّ والتشاؤم المنعشة في شعر عمر أزعجت العطّار "الصوفي".
    كانت نيشابور تُعرف باسم "بوّابة الشرق". وبعد المرور عبر تلك البوّابة، تنقسم الطريق الى فرعين. كان المسافرون، مثل عائلة جلال الدين، قد اتخذوا طريق القوافل الشمالي بدلاً من طريق البريد الجنوبي. ويمرّ هذا الطريق بالرّي ويستمرّ إلى بغداد. وعلى طول الطريق، أفسحت الألحان الفارسية الطريق تدريجيّا لأغاني الحبّ العربية. وقد كتب الرومي عن حياة قضاها في التنقّل بين هاتين اللغتين قائلا: تحدّث بالفارسية، على الرغم من أن العربية أجمل".
    شُيّدت بغداد كمدخل رئيسيّ إلى مكّة، وكانت المدينة مواجهة تقريبا للقبلة. وقد وصلت عائلة الرومي إلى بغداد في يناير عام 1218، وبذا فاتتها فرصة الاستمتاع بالعصر الذهبي للخلفاء العبّاسيين في بغداد. إذ كان بريق المدينة قد بلغ أوجه في عهد هارون الرشيد في القرن التاسع، وتجلّى ازدهار عاصمته ببذخ في "ألف ليلة وليلة".
    أنشأ هارون بلاطاً على الطراز الإمبراطوري الفارسي وشجّع المشاريع الفكرية، حيث ترجم الرهبان النسطوريون النصوص العلمية اليونانية. ورُسمت حدائق قصره حول شجرة مصنوعة من الفضّة مع طيور آليّة مغرّدة، وخلفها امتدّت مدينة عالمية تضمّ ثلاثة جسور عائمة، مثبّتة بسلاسل حديدية على ضفّتي نهر دجلة، بالإضافة إلى آلاف من زوارق العبّارات ومنطقة مسيحية بها كنائس وأديرة وحدائق عامّة لسباق الخيل وحديقة للحيوانات البرّية بها طواويس هندية.
    كان الخليفة الناصر يحكم منذ ما يقرب من أربعين عاما، ساعياً للحفاظ على أمجاد "بغداد هارون" ولكن دون قوّة عسكرية موحّدة. وظلّ الخليفة مقيّدا بشاه خوارزم من الشرق والأتراك السلاجقة من الغرب. ومع ذلك، كان يزرع حدائقه وينقل القصور من مدينة هارون الدائرية إلى الضفاف الشرقية لنهر دجلة. الشاعر الخاقاني، أثناء مروره ببغداد، أُغمي عليه عند رؤيته تلك الحدائق الرائعة وشبّه دجلة بدموع مريم العذراء.
    كانت بغداد في العصور الوسطى متنوّعة ومتسامحة كثيرا، مع بعض القيود. فقد أصدر بعض الخلفاء مرسوما بأن ترتدي النساء غير المسلمات ملابس صفراء أو زرقاء وأحذية حمراء لتمييزهنّ. ومع ذلك، كانت الأحياء المسيحية من بين أكثر المناطق شعبيةً في بغداد، حيث كان الرهبان يُخمِّرون النبيذ ويوزِّعونه من أديرتهم. وقد كتب أحد المؤرّخين يقول: في يوم ممطر، يا لها من متعة أن تشرب الخمر مع كاهن!".
    في وقت زيارة جلال الدين وعائلته لبغداد، كان الجغرافيّ ياقوت الحموي مفتونا بكنيسة نسطورية يونانية في حيّ دير الروم، وذكر أن حشودا من المسلمين كانوا يأتون في أيّام الأعياد "للتحديق في الشمامسة والرهبان الشباب بوجوههم الجميلة والاستمتاع بالرقص والشرب وصنع الملذّات". وباعتبارها مركزا للخلافة، ظلّت بغداد بالنسبة للرومي رمزا للعدالة والقوّة: بغدادك مليئة بالعدل وسمرقندك مليئة بالحلاوة".
    أُعجب الرومي بـ"شمس العراق الحارقة"، وانضمّ دجلة والفرات منذ ذلك الحين إلى نهر جيحون العظيم على خريطة خياله. في ذلك الوقت، كانت بغداد مليئة بالخانقاه، أو النزُل الصوفية، التي غالبا ما بُنيت بجوار المقابر، وهي مناسبة للتوق إلى العالم الآخر. ومع ذلك، قيل إن والد الرومي اختار بدلاً من "نزُل" الإقامة في إحدى الكليّات.


    ولو لم يكن بهاء الدين قد أقام في الكليّة النظامية، لكان على الأقل قد جال في هذه الجامعة الأعظم في العالم الإسلامي، التي أسّسها الوزير نظام الملك عام ١٠٦٥، قبل أكثر من قرن من تأسيس أكسفورد أو السوربون. كان هذا المعهد، المعروف أيضا باسم "أمّ المدارس"، يقع بالقرب من رصيف على ضفاف نهر دجلة بمحاذاة شارع سوق الثلاثاء الكبير شرق بغداد.
    في النظامية، قبل ذلك الوقت بحوالي مائتي عام، أي في القرن الحادي عشر، ألقى العالم الشهير الغزالي محاضرات في قاعات كانت مكتظّة بمئات الطلاب لمدّة أربع سنوات، ثم عانى على ما يبدو من انهيار عصبي وغادر بغداد للتجوّل في صحاري الحجاز. وبدافع الشكّ، دخل في النهاية إلى محفل صوفيّ، حيث كتب أطروحته المؤثّرة عن "العلم الباطني". وفي حياته، وحياة الرومي أيضاً، كان كتابه "إحياء علوم الدين" من أكثر الكتب مبيعاً.
    رغم أن بغداد كانت قد فقدت شيئا من رونق الخلافة عندما زارتها عائلة الرومي، إلا أنها كانت لا تزال مختبرا عظيما لتطوّر الصوفية، وهو ما كانته طوال القرون الأربعة السابقة.
    كان العطّار قد جمع "سيَر الأولياء" وذكر مجموعة من القصص الشعبية عن الشخصيات المقدّسة، مثل قصّة رابعة، المرأة الصوفية من البصرة، التي قيل إنها عبرت الشوارع بمصباح في يد وإبريق ماء في اليد الأخرى "لإحراق الجنّة وإطفاء نيران جهنم"، حتى لا يُحبّ أحد الله لمجرّد الثواب أو العقاب. ورسَم العطّار أيضا صورة للجنيد، بائع الزجاج، الذي روّج لمدرسة رصينة في بغداد ونصح بالتحدّث بالرموز، ولنظيره بايزيد البسطامي الذي ألهم مدرسة للصوفية.
    بالسفر إلى مكّة عام 1218، كان على عائلة الرومي مغادرة بغداد بحلول شهر فبراير على أبعد تقدير. كانت المرحلة الأولى من رحلتهم هي رحلة المائة ميل للانضمام إلى قوافل الحجّاج المغادرة من مدينة الكوفة المبنية من الطوب. واستغرقت القوافل المغادرة من الكوفة ما يقرب من شهر للوصول إلى مكّة. وكتب جلال الدين لاحقاً: الرجل الذي يسافر مع قافلة في ليلة مظلمة ملبّدة بالغيوم لا يعرف أين هو، أو إلى أيّ مدى سافر، أو ما مرّ به. وعند الفجر، يرى نتائج الرحلة، أي أنه سيصل إلى مكان ما. كذلك، من يعمل لمجد الله لا يهلك أبدا وإن أغمض عينيه".
    ذكريات جلال الدين الأكثر قسوةً كانت عن المخاوف التي واجهها أثناء السفر الى مكّة. فقد تحدّث عن مسافرين تعرّضوا للهجوم في مكان ما، "فقاموا بتكديس بعض الحجارة فوق بعضها كعلامة، وكأنهم يقولون: هذا المكان خطير".
    كان التهديد الأكبر يأتي من قبائل البدو التي كانت تهاجم القوافل. وقد شهد الجغرافي الاندلسي ابن جبير، الذي سافر إلى مكّة قبل عائلة الرومي بثلاثين عاما، حادثة دُهس فيها سبعة حجّاج حتى الموت أثناء تدافعهم على خزّان مياه يستخدمه الناس والإبل. وشبّه الرومي هذه المشاقّ بالجهود الروحية: تتجلّى عظمة الكعبة عندما يتحدّى الحجّاج قاطعي الطريق ويجوبون الصحراء الشاسعة".
    وذكر ابن جبير أيضا أنه بين قمّتي الصفا والمروة، يوجد "سوق مليء بالفواكه" بحيث كان من الصعب أن يحرّر الحاجّ أو الزائر نفسه من الزحام الشديد". كما وصف سوقا آخر كبيرا بالقرب من الكعبة تُباع فيه سلع مثل الدقيق والعقيق والقمح واللؤلؤ".
    كانت زيارة الكعبة فرضا يجمع الناس من مدن ومناخات عديدة في العالم. وكثيرا ما كان جلال الدين ينقل مكّة إلى المستوى الروحي دون أن يعلّق أبدا على تجربته الشخصية في الحجّ، حتى أنه أشفق على حاجّ فقير تائه في الصحراء المحيطة بقوله: يا من ذهبت للحجّ، أين أنت؟ ها هو الحبيب! ها هو ذا. أنت تائه في الصحراء". وتعكس بعض مشاعره المواقف التي ربّما تعلّمها من العطّار ومتصوّفة بغداد.

    الأحد، مايو 04، 2025

    أسفار الرومي/2


    "عليك أن تستمرّ في كسر قلبك حتى ينفتح."

    للسفر من سمرقند إلى بلخ، كان على جلال الدين وعائلته المسير بمحاذاة نهر جيحون. كانت نقطة العبور الطبيعية إلى جانب بلخ من النهر هي مدينة "تِرمذ" المحصّنة، مسقط رأس "برهان" معلّم جلال الدين، الذي قرّر البقاء هناك.
    في منتصف الأربعينات من عمره، كان برهان معلّما مكلّفا بمهمّة محدّدة، وهي رعاية جلال الدين علميّا وروحيّا. فكان بذلك شخصيةً محبّبةً ومهمّةً في طفولة الرومي ولم ينافسه في التأثير عليه سوى والده.
    في المرحلة الأولى من رحلتهم على طول حدود آسيا الوسطى، كانت قوافل طويلة لا حصر لها من الإبل والبغال تشقّ طريقها عبر الصحاري والسهول المحاطة بالجبال المغطّاة بالثلوج، وتتوقّف في مدن الواحات المحاطة بأشجار النخيل. كانت الأسواق المزدحمة تعجّ بالتجّار الذين يبيعون البطّيخ أو الخيول للمسافرين.
    في صباه، استوعب جلال الدين إيقاع تلك الإبل وهي ترسم خطوطها المتعرّجة بين الأعشاب وفي الرمال. كما أصبح يعرف عن ظهر قلب الألحان التي تنتشر في كلّ مكان أثناء الرحلة وتُغنّى لإزجاء الوقت أو تسريع القافلة، مصحوبةً في كلّ خطوة بجلجلة أجراس فضّية تُثبّت بالقرب من آذان الجمال.
    وكان سائقو الجمال يردّدون الأغاني التقليدية، غالبا أغاني الحبّ، التي لا تنقطع إلا عند ارتفاع الأذان للصلاة. وكان الناي، أو مزمار القصب، هو الأكثر وضوحا في تلك الألحان، وهو آلة حزينة أصبحت فيما بعد صورة لفنّ الرومي وروحه. "إستمع إلى صوت الناي كيف يبثّ آلام الحنين، يقول: مُذ قُطعت من الغاب وأنا أحنّ إلى أصلي".
    وفي النهاية ستُدمج صور المزامير والإبل والقوافل والنزُل والأهلّة ورمال الصحراء في موضوع الرومي العظيم عن عدم التعلّق، كمثل قوله: أصواتنا مثل أجراس القافلة أو الرعد. أيّها المسافر عندما تتكاثف الغيوم لا تترك قلبك في النُزل".
    كانت هذه الرحلة داخلية بقدر ما كانت خارجية، حتى إن كان الرومي ما يزال صبيّا صغيرا ولم يدرك بعد الكثير من تأثيرها. كان يراقب مناظر الطبيعة الخلّابة في جولته في المدن الإسلامية العظيمة آنذاك. والأهم من ذلك أنه كان يتواصل مع أدلّة مهمّة على أصوله الشعرية والثقافية والروحية، لا سيّما في نيشابور وبغداد ومكّة.
    كانت نيشابور مركزا جاذبا للشعر التعبّدي وللصوفيين الذين يجاهرون بالفضيحة كممارسة روحية. وكانت بغداد القلب النابض بالحياة الجامعية الإسلامية والتصوّف منذ بداياتهما، ومقرّا للخليفة. وفي مكّة، كان المسلمون من جميع الأعمار يتفكّرون، مرّة واحدة في العمر، في علاقة أرواحهم بالله، وهو أمر شغلَ الرومي منذ نعومة أظفاره كما شغلَ عائلته. وما كان من الممكن تصوّر الرجل الذي أصبح عليه الرومي لولا تلك الأجزاء من هويّته التي اكتشفها في هذه الرحلة التي استمرّت عقدا من الزمان.
    كانت المحطّة الأولى لجلال الدين وعائلته نيشابور التي وصلوها على الأرجح في وقت ما من عام 1217. كانت هذه المدينة رابع أكبر عواصم خراسان وأكثرها سكّانا. وكانت أيضا بمثابة استراحة مرغوب بها في مثل هذه الرحلة، إذ كانت الطرق الفرعية من بلخ أكثر تعرّجا وأقلّ صيانةً من الطرق الأوسع المؤدّية إلى بغداد.
    كانت العائلة قد مرّت لتوّها عبر مساحات طويلة من الأراضي القاحلة المغبرّة التي أصبحت مخبئاً مزعجاً للخارجين عن القانون، مع سهول لا متناهية لا ينعشها في الربيع إلا حفيف العشب الأخضر المزيّن بالخشخاش الأحمر، بينما تنتشر هنا وهناك بيوت طوب مقبّبة ومخيّمات للرعاة الرحّل.


    في نيشابور، كان الجغرافيّ والرحّالة ياقوت الحموي، قد زار العديد من المدن نفسها التي زارها جلال الدين وعائلته. وقد وصف المدينة في ذلك الوقت تقريباً بأنها كانت لا تزال تعاني من آثار الزلزال الكبير الذي وقع عام 1145، ومن حصار الأتراك الأويغور للمدينة بعد أن أسرَ أهلُها سلطانَهم العظيم سنجر السلجوقي. وباعتباره باني إمبراطورية، أصبح سنجر يمثّل الحكّام الأقوياء في قصائد جلال الدين الرومي.
    كان ياقوت لا يزال يجد عجائب رائعة تلفت انتباهه. وقد أشاد بشكل خاص بمناجم الفيروز وبنهر نيشابور الذي يغذّي عشرات المطاحن بالثلوج المذابة من الجبال القريبة. ومع أن المدينة لم تكن من أكثر الأماكن التي زارتها عائلة الرومي شهرةً أو تميّزا، إلا أنها قدّمت أسلوبها الروحاني المتحرّر وشكّلت مشهدا شعريّا جديدا ورائعا على حدّ سواء، وكشف الرومي في النهاية عن تقارب وجدانيّ معها.
    وقد رأى جلال الدين بعض متصوّفة نيشابور، وكان أشهرهم أتباع "الملاماتية" أو "طريق اللوم". كانوا يُخفون تقواهم حتى لا يُنظر إليهم على أنهم قدّيسون، وكانوا يسيرون في الشوارع حفاة ويشربون الخمر ويرتدون الحرير المطرّز ويتصرّفون كما لو كانوا آثمين أو مجانين.
    وكان أشهر هؤلاء فريد الدين العطّار الذي كان قد تجاوز آنذاك الثمانينات أو حتى التسعينات من عمره. كما كان قد انتهى من كتابة أروع أعماله "منطق الطير"، وهو حكاية مبتكرة وخيالية مكتوبة شعراً عن سرب من الطيور ينطلق في رحلة بحثاً عن الطائر السماويّ الجاثم على أعلى قمّة في سلسلة جبال البُرز شمال إيران.
    كانت قصص هذا الكتاب مناسبةً لصبيّ مثل جلال الدين. وقد استجاب لوزنِها العربيّ البسيط واستخدمه لاحقاً في "مثنويّه" الخاص. وعكست قصائده الكثير ممّا كان غنيّا وآسراً في حساسية نيشابور في تلك اللحظة المزدهرة. وخلال إقامة العائلة هناك، قيل إن جلال الدين رفقةَ والده وجد طريقه إلى متجر الأعشاب الذي يديره العطّار داخل سوق مزدحم.
    كما قيل أيضا إن العطّار استشرف ببصيرته النافذة مستقبل الطفل الواقف أمامه وتنبّأ لوالده بنبوغه قائلا: سيُشعل ابنك قريبا ناراً في قلوب جميع محبّي الله في العالم". وكهديّة، قدّم الشاعر للصبيّ نسخة من مؤلّفه "كتاب الأسرار". وفي هذه التأمّلات المجرّدة التي يغلب عليها طابع الحكمة، يكشف العطّار أن أسرار العالم مخفيّة قرب عرش الله، وأن اكتشاف هذه الحقائق الأبدية متاح فقط لمن هم على استعداد "لفقدان عقولهم" وشرب ماء الورد الإلهي".
    لم ينظر جلال الدين إلى العطّار كشاعر فحسب، بل تقبّل أيضا السلالة الشعرية التي صنعها لنفسه. كان العطّار قد وجد الإلهام والنموذج الأمثل في شخص الحكيم سنائي، وهو شاعر من الجيل السابق في غزنة. وكان سنائي أوّل شاعر بلاط يتوقّف عن كتابة قصائد التملّق لراعيه حتى يتمكّن من ممارسة الشعر العرفاني.
    وفيما بعد، قال جلال الدين الرومي موضحاً نسبه الشعري والروحي لطلّابه: من يقرأ كلمات العطّار بعمق، سيفهم أسرار سنائي. ومن يقرأ كلمات سنائي بإيمان، سيفهم كلماتي بشكل أفضل وسيستفيد منها ويستمتع بها".