:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، سبتمبر 17، 2024

إطلالة على عالم بورخيس


كان خورخي لويس بورخيس (1899 - 1986) أحد أبرز كتّاب أمريكا اللاتينية وأحد أهم الرواة والشعراء في القرن العشرين والكاتب الأرجنتينيّ الأكثر عالميةً.
"كتاب الرّمل" كان أوّل ما قرأت له، ثم كتاب "الأَلِف وقصص أخرى". وقد دهشت للغته وسرده البديع ومزجه الرائع بين الخيال والفلسفة والسوريالية وما يُسمّى بالواقعية السحرية. وفيما بعد توسّعت قراءتي له بعض الشيء، وصرت أتابع مقابلاته (وبعضها ذات قيمة أدبية كبيرة)، وتوقّفت عند أحاديثه عن الذاكرة وطبيعة الواقع والأحلام والزمن، وكذلك رؤاه المدهشة والمبثوثة في كتاباته عن دلالات المرايا والممرّات والمتاهات الأدبية. وأعجبني خاصّة تأثّره الواضح بالأدب العربي، وخاصّة كتاب ألف ليلة.
من الأفكار التي كان بورخيس مفتونا بها فكرة التكرار الدائري للتاريخ والطبيعة الهذيانية للعالم. كتب ذات مرّة يقول:
في مرحلة ما من الماضي أو المستقبل، سأولد من نفس الوالدين مرّة أخرى. وسيُمسك والدي بيدي مرّة أخرى بينما نتجوّل في سوق الأزهار. وسيعلّمني زوج أمّي كيف أشكّل قلائد من الخرَز بينما نجلس على سجّادة بيضاء. وستأخذني أمّي مرّة أخرى إلى أماكن بعيدة كلّ صيف وننطلق إلى الصحراء على حصان عربيّ أسود.
سأكره المدرسة مرّة أخرى، وسأرسب في كلّ الموادّ الدراسية مرّة أخرى، وسأتعرّض للخيانة من قبل أعزّ أصدقائي. سيدخل كلب إلى حياتي وسأسمّيه "جوي" ولن أحبّ كلبا آخر بهذه الطريقة مرّة أخرى.
سأشتري طاولة زرقاء صغيرة لأعمل عليها، وأفعل مرّة أخرى كلّ الأشياء التي أقسمت أنني لن أفعلها أبدا وأترك كلّ شيء من أجل الحب. سأجد طريقي إلى كاليفورنيا وأقرّر بألم وبلا هوادة أنها وطني."
ويكتب في نصّ آخر:
لا يوجد شيء أستطيع كتابته لم يُكتَب من قبل. ولا شيء أستطيع طهيه أو أكله أو فعله أو قوله أو حتى التفكير فيه. الأمر لا يقتصر على أن كلّ هذا قد تمّ، بل إنني أخشى أن يكون كلّ هذا قد تمّ من قِبَلي، من قِبَل نسخ سابقة منّي. فأنا لست حتى النسخة الأصلية".
عندما كان بورخيس في الخامسة عشرة من عمره، اضطرّ والده إلى التقاعد بسبب ضعف بصره، وانتقلت الأسرة إلى جنيف حتى يتمكّن والده من استشارة طبيب عيون. وفي جنيف اكتشف بورخيس الأدب الرمزي الفرنسي وشوبنهاور ووالت ويتمان، بل وكوّن بعض الصداقات الأدبية. وعندما بلغ العشرين من عمره، عادت الأسرة إلى بوينس آيرس، ونُشرت مجموعته الأولى بعد بضع سنوات.
وقبل فترة طويلة، تبيّن أن العمى الذي أصاب والده كان وراثيّا. وفي العشرينات من عمره، خضع بورخيس لأوّل عملية جراحية من بين عمليات عديدة لإزالة إعتام عدسة العين، لكن لم تنجح أيّ منها. وبحلول ذلك الوقت كان قد فقد بصره تماما، ومن هنا جاء تعليقه: أتحدّث عن سخرية الله الرائعة عندما منحني في وقت ما 800 ألف كتاب والظلام."
كانت إصابة بورخيس بالعمى أحد الأسباب التي دفعته للعودة إلى الشعر، وهو الشكل الذي يسهل تأليفه بالكامل في الرأس والاحتفاظ به في الذاكرة. وفي مقابلة معه قال: هناك تطهير في العمى. إنه يطهّر المرء من الظروف المرئية. تضيع الظروف، ويصبح العالم الخارجي - الذي يحاول دائما الاستيلاء علينا - أضعف."
بعد انتخاب خوان بيرون رئيسا للأرجنتين عام 1946، عُيِّن بورخيس "مفتشاً للدواجن والأرانب!" في الأسواق العامّة، عقابا له على سلسلة المقالات السياسية التي كان يكتبها في انتقاد صعود الفاشيّة. كان ليبرالياً مناهضاً للفاشية، ولكنه كان أيضا مناهضاً للشيوعية. وسرعان ما طُرد من وظيفته. وقد قال واصفا ما حدث: إن الدكتاتوريات تشجّع على الخضوع وعلى القسوة. والأمر الأكثر بشاعةً أنها تشجّع على الغباء. ومحاربة هذه الرتابة الحزينة هي واحدة من الواجبات العديدة التي تقع على عاتق الكتّاب".
كان بورخيس معجبا كثيرا بالمرايا وخائفا منها في نفس الوقت. وربّما من المستحيل تحديد سبب واحد وراء هذا. وقد ذكر أكثر من مرّة أنه كان مهتمّا بالمرايا منذ صغره. يقول: هناك شيء رهيب في المرايا. في إحدى قصص إدغار آلان بو، يصل البطل إلى المنطقة القطبية الجنوبية، حيث يوجد أشخاص يرون أنفسهم في المرآة ثم يُغمى عليهم. أي أنهم يدركون أن المرآة شيء رهيب. ولا شكّ أن "بو" شعر هو بذلك لأن له مقالا يتحدّث فيه عن كيفية تزيين الغرفة وتجنّب وضع مرايا فيها بطريقة تجعل الشخص الجالس يبدو مكرّرا".
ولبورخيس قصيدة عنوانها "المرايا" يقول فيها: أنا الذي شعرت برعب المرايا، أسأل نفسي ما هو القدَر الذي جعلني خائفا جدّا من المرآة اللامعة. لقد خلق الله الليل وزوّده بالأحلام والمرايا، ليجعل الإنسان يدرك أنه مجرّد انعكاس وغرور، ومن هنا ربّما جاءت هذه المخاوف".
ذات مّرة زاره صحفيّ ليجري معه مقابلة. ووصفه بقوله: عندما يدخل بورخيس المكتبة، مرتدياً قبّعة وبدلة رمادية داكنة تتدلّى بشكل فضفاض من كتفيه، يتوقّف الجميع عن الحديث للحظة، ربّما من باب الاحترام، أو من باب التعاطف مع رجل شبه أعمى.
مشيته متردّدة، ويحمل عصا يستخدمها مثل عصا العرّافة. ملامحه غامضة خفّفها تقدّم العمر ومحاها جزئياً شحوب بشرته. صوته غير واثق، أشبه ما يكون بالطنين، إيماءاته وتعبيراته خاملة، وجفنه متدلٍ لا إراديّاً. ولكن عندما يضحك، وكثيرا ما يفعل، تتجعّد ملامحه إلى ما يشبه علامة استفهام ساخرة.
ويضيف: بورخيس يتميّز بفصاحته وأسلوبه المميّز في الكلام. وتتخذ أغلب عباراته شكل أسئلة بلاغية. ولكن عندما يطرح سؤالاً حقيقياً، فإنه يُظهِر فضولاً شديدا ثم عدم تصديق مثيرا للشفقة.
لكن بورخيس خجول في المقام الأوّل. فهو منعزل ويتجنّب التصريحات الشخصية قدر الإمكان ويجيب بطريقة غير مباشرة على الأسئلة التي تدور حول نفسه بالحديث عن كتّاب آخرين، مستخدماً كلماتهم وكتبهم كرموز لفكره هو".


هناك روائيون تتردّد في كتاباتهم أصداء من بورخيس، من حيث التشابه في الأسلوب وفي تناول نفس الموضوعات، كالخيال الميتافيزيقي والبُنى السردية المبتكرة والمزج بين الخيال التاريخي والسرد المعقّد والموضوعات الفكرية واستكشاف الذاكرة والحالة الإنسانية والأفكار الوجودية والعبثية. ومن أهم هؤلاء غارسيا ماركيز وإيتالو كالفينو وخوليو كورتازار وفرانز كافكا وأومبرتو إيكو وغيرهم.
قضى بورخيس جزءاً كبيراً من شبابه في جنيف، ثم عاد إليها في نهاية حياته. وفي يونيو 1986، توفّي عن عمر يناهز 86 عاما بعد إصابته بسرطان الكبد، ودُفن في مقبرة الملوك في جنيف.
الفقرات التالية هي عبارة عن مجموعة مختارة من بعض عبارات بورخيس المستقاة من كتبه ومن الحوارات والمقابلات التي أجريت معه في أوقات متفرّقة وضمّنها بعض تصوّراته وأفكاره عن الأدب والفنّ والحياة..

  • باستثناء الإنسان، كلّ المخلوقات خالدة، لأنها تجهل الموت.
  • لا أتحدّث عن الانتقام أو التسامح، فالنسيان هو الانتقام الوحيد والغفران الأوحد.
  • ارتكبت أسوأ خطيئة يمكن أن يرتكبها المرء. لم أكن سعيدا.
  • هذا العالم غريب جدّا لدرجة أن أيّ شيء يمكن أن يحدث أو لا يحدث. كوني لا أدريّا يجعلني أعيش في عالم أكبر وأكثر روعة وغامضا تقريبا، ويجعلني أكثر تسامحا.
  • لست متأكّداً من أيّ شيء، لا أعرف أيّ شيء. هل يمكنك أن تتخيّل أنني لا أعرف حتى تاريخ وفاتي؟!
  • كلّ ما يحدث لنا، حتى إذلالنا ومصائبنا وعارنا، كلّ شيء إنّما يُعطى لنا كمادّة خام مثل الطين، حتى نتمكّن من تشكيل فنّنا.
  • نحن نقبل الواقع بسهولة، ربّما لأننا نشعر أنه لا يوجد شيء حقيقي.
  • ليفتخر الآخرون بعدد الصفحات التي كتبوها. أنا أفضّل التباهي بما قرأته.
  • لست متأكّدا من وجودي في الواقع. أنا كلّ الكتّاب الذين قرأتهم، وكلّ الأشخاص الذين قابلتهم، وكلّ النساء اللاتي أحببتهن، وكلّ المدن التي زرتها. كلّ ما نواجهه طوال حياتنا ينتهي به الأمر إلى أن يصبح جزءا منّا.
  • الأبوّة والمرايا مكروهة لأنهما تُضاعفان عدد البشر.
  • ما تقدّره حقا هو ما تفتقده، وليس ما لديك.
  • في حياتي القادمة سأحاول ارتكاب المزيد من الأخطاء.
  • الشعراء مثل العميان يستطيعون الرؤية في الظلام.
  • أسوأ متاهة ليست ذلك الشكل المعقّد الذي يمكن أن يحاصرنا إلى الأبد، بل هو خطّ مستقيم واحد ودقيق.
  • عندما يموت الكتّاب يصبحون كُتبا، وهذا في نهاية المطاف ليس تجسيدا سيّئا.
  • إن كنتُ غنيّا بشيء، فبالحيرة لا باليقين.
  • لقد وقّعت على العديد من النسخ من كتبي. وفي اليوم الذي أموت فيه، ستكون للنسخ التي لا تحمل توقيعي قيمة أكبر.
  • عليك أن تكون حذرا عند اختيار أعدائك، لأنك في النهاية ستشبههم.
  • نحن ذاكرتنا، ذلك المتحف الوهمي للأشكال المتقلّبة، تلك الكومة من المرايا المكسورة.
  • الموت هو الحياة التي نعيشها. والحياة هي الموت الذي يأتي.
  • دع كلّ رجل يبني كاتدرائيته الخاصّة. لماذا نعيش على أعمال الآخرين وعلى الأعمال الفنّية القديمة؟
  • عادة البحث عن المعنى في الكتب هي عادة خرافية وعبثية، تشبه البحث عن المعنى في الأحلام أو في الخطوط الفوضوية للأيدي.
  • هناك هزائم أكثر كرامة من النصر.
  • هناك من لا يستطيع أن يتخيّل عالماً بلا طيور، وهناك من لا يستطيع أن يتخيّل عالماً بلا ماء. أما أنا فلا أستطيع أن أتخيّل عالماً بلا كتب.
  • لطالما تخيّلت الجنّة على هيئة مكتبة.
  • رأيت كلّ مرايا الأرض ولم يعكسني أيّ منها.
  • لا يوجد شيء في العالم ليس غامضا. ولكن الغموض يظهر في أشياء معيّنة أكثر من أخرى: في البحر، في عيون المسنّين، في اللون الأصفر وفي الموسيقى.
  • ننسى أننا جميعا أموات نتحدّث مع أموات.
  • كرة القدم تحظى بشعبية لأن الغباء شائع.
  • الحقيقة المركزية في حياتي كانت وجود الكلمات وإمكانية نسج تلك الكلمات في الشعر.
  • لا أستطيع أن أسير في الضواحي في عزلة الليل دون أن أفكّر في أن الليل يسعدنا لأنه يقمع التفاصيل الخاملة، كما تفعل ذاكرتنا.
  • أنا قارئ مستمتع، ولم يسبق لي أن قرأت كتابا لمجرّد أنه قديم. أقرأ الكتب لما تقدّمه لي من مشاعر جمالية وأتجاهل التعليقات والانتقادات.
  • أودّ أن أكون كاتبا آخر غير بورخيس. فأنا لا أحبّ ما أكتب. ولو كنت أكثر حذرا لقرأت أكثر ولما أرتكبت حماقة الكتابة.
  • من بين جميع أدوات الإنسان، الأداة الأكثر روعةً هي بلا شك الكتاب. أما الأدوات الأخرى فهي امتدادات لجسده. فالمجهر والتلسكوب هما امتدادان لبصره. والهاتف امتداد لصوته، ومن ثم لجسده. والمحراث والسيف امتدادان لذراعه. لكن الكتاب شيء آخر مختلف، الكتاب امتداد للذاكرة والخيال.
  • لم أقرأ كتابا واحدا من كتبي، ولا كتابا واحدا كُتب عنّي. ولو أعدت قراءة أعمالي، فقد أشعر بالإحباط.
  • إزرع حديقتك الخاصّة وزيّن روحك بدلاً من انتظار شخص ما ليحضر لك الزهور.
  • المستقبل لا مفرّ منه، لكنه قد لا يحدث. الله يكمن في الفجوات.
  • هل نحن جميعا عالقون في تعلّم نفس الدروس حتى بعد أن تعلّمناها، ومضطرون إلى التسامح مع نفس الأشخاص الذين لن نفهمهم أبدا، ومعتادون على أن نسافر إلى نفس الأماكن كما لو كانت أماكن جديدة؟!
  • لا أشرب الخمر ولا أدخّن ولا أستمع إلى الراديو ولا أتعاطى المخدّرات. أودّ أن أقول إن رذائلي الوحيدة هي دون كيشوت والكوميديا الإلهية.
  • كان والدي يعتقد أن علم النفس علم تافه للغاية. لا أفهم الأشخاص الذين يزعمون أنهم أتقنوا علم النفس. وأشعر بالشفقة عليهم أن يكونوا مهتمّين بأنفسهم إلى هذا الحدّ وبتحليل أنفسهم. أنا بالكاد أعرف نفسي، لا أحد يعرفني.
  • الشعر الجيّد لا يجوز أن يُقرأ بصوت منخفض أو بصمت.
  • ليست هناك حاجة لبناء متاهة عندما يكون الكون بأكمله متاهة.

  • Credits
    borges.pitt.edu

    الأحد، سبتمبر 15، 2024

    حياة مع بيكاسو


    في مذكّراتها بعنوان "الحياة مع بيكاسو"، تروي الرسّامة الفرنسية فرانسواز جيلو جوانب من قصّتها مع الرسّام بابلو بيكاسو الذي تزوّجته وعاشت معه عشر سنوات أنجبا خلالها ولدا وبنتا.
    عندما التقى الإثنان لأوّل مرّة، كانت جيلو شخصيّة مستقلّة تماما. كانت تبلغ من العمر 21 عاما فقط، بينما كان بيكاسو في الـ 61. وكانت والدتها قد علّمتها تقنيات الرسم بالألوان المائية.
    كتبت جيلو مذكّراتها عن علاقاتها ببيكاسو بعد طلاقهما، وأحدثت تلك المذكّرات ضجّة، ليس فقط بسبب رواية جيلو الصريحة لعلاقتها التي استمرّت عشر سنوات مع الفنّان العصبي، بل أيضاً بسبب الدعاوى القضائية الثلاث التي رفعها بيكاسو عليها وخسرها جميعا في محاولته منع نشر كتابها. وتوصّلت المحكمة الى أن الكتاب بعيد عن تشويه سمعة الرسّام الكبير لأنه يصوّره "كرجل يتمتّع بثراء داخلي مذهل وشخصية جذّابة للغاية".
    كان ردّ فعل بيكاسو عصبيّا كما هو متوقّع، فقطَع كلّ علاقة له بجيلو وبطفليها منه. ثم شرع في تدمير مسيرتها الفنّية، فتحدّث عنها بالسوء في كلّ مكان ورفض عرض أعماله في أيّ معرض للوحاتها. وقد تسبّب الكتاب أيضا في استعداء مجموعة من أصدقاء بيكاسو والمقرّبين منه، فقاموا بحرق نُسخ منه في حفلاتهم معتبرين بيكاسو العبقريّ الوحيد في القرن العشرين.
    وبالرغم من ذلك، حظيت المذكّرات باستقبال جيّد للغاية وأصبحت من أكثر الكتب مبيعاً على مستوى العالم. وبعد الانفصال، واصل بيكاسو وأصدقاؤه المؤثّرون شنّ حرب على جيلو في الدوائر الفنّية والفكرية الفرنسية، ما أجبرها في النهاية على مغادرة فرنسا والاستقرار في الولايات المتحدة، حيث أعادت بناء حياتها ومسيرتها المهنية واستمرّت في الرسم حتى وفاتها عام 2023 عن عمر ناهز الـ 101 عام.
    هنا بضع فقرات مترجمة من مذكّرات فرانسواز جيلو عن فنّها وعن حياتها مع بيكاسو..

  • لا أحد لا يستغني عن الآخرين. أنت تتخيّل أنك ضروري للشخص الآخر وأنه سيصبح تعيسا للغاية إذا تركته. لكن تأكّد أنك إذا تركته، فخلال ثلاثة أشهر سيكون قد وضع مكانك شخصا آخر وسترى أن لا أحد سيعاني بسبب غيابك. يجب أن تشعر بالحرّية في فعل ما تشعر أنه الأفضل لك. أن تكون ممرّضا لشخص ما ليست الطريقة المثلى للعيش، إلا إذا كنت غير قادر على فعل أيّ شيء آخر.
  • أخبرني بابلو في أوّل ظهيرة زرته فيها بمفردي في فبراير 1944 أنه شعر أن علاقتنا ستجلب النور إلى حياتنا. قال إن مجيئي إليه بدا وكأنه نافذة مفتوحة وأراد أن تظلّ مفتوحة. لقد فعلت ذلك أيضا طالما سمحت للضوء بالدخول.
    وعندما لم يعد الأمر كذلك، أغلقتها على غير رغبة منّي. ومنذ تلك اللحظة، أحرق هو كلّ الجسور التي ربطتني بالماضي الذي شاركتُه معه. لكنه أيضا دفعني لاكتشاف نفسي وبالتالي البقاء على قيد الحياة. لذا لن أتوقّف أبدا عن الامتنان له على ذلك.
  • أرسم مثلما يكتب بعض الناس سيرتهم الذاتية. فاللوحات، سواءً أكانت مكتملة أم لا، هي صفحات يوميّاتي. ولديّ انطباع بأن الزمن يمضي بسرعة. فأنا أُشبه نهرا متدفّقا يجرّ معه الأشجار التي تنمو على مقربة من ضفّتيه أو العجول الميّتة التي قد يلقيها الناس فيه أو أيّ نوع من الميكروبات التي تنمو فيه.
    وفي بعض لوحاتي أستطيع أن أقول بكلّ تأكيد إن الجهد قد وصل إلى ثقله الكامل ونتيجته، لأنني تمكّنت هناك من إيقاف تدفّق الزمن من حولي. لديّ وقت أقلّ وأقلّ، ومع ذلك لديّ المزيد والمزيد لأقوله، وما لديّ لأقوله له علاقة بما يحدث في حركة فكري. لقد وصلت إلى اللحظة التي أصبحت فيها حركة فكري تثير اهتمامي أكثر من الفكر نفسه.


  • أخبرني بابلو مرّة أنه من الآن فصاعدا، فإن كلّ ما أفعله وكلّ ما يفعله له أهميّة قصوى، وأيّ كلمة تقال أو أدنى لفتة ستكتسب معنى. وكلّ ما يحدث بيننا سوف يغيّرنا باستمرار. ثم قال: لهذا السبب، أتمنّى لو أستطيع إيقاف الوقت في هذه اللحظة وإبقاء الأشياء عند هذه النقطة بالضبط، لأنني أشعر أن هذه اللحظة هي البداية الحقيقية.
    إن لدينا كمية محدّدة من الخبرة تحت تصرّفنا. وبمجرّد أن تدور الساعة الرملية، سيبدأ الرمل في النفاد. وبمجرّد أن يبدأ، لا يمكن أن يتوقّف حتى يختفي كلّه. لهذا السبب أتمنّى لو كان بإمكاني إيقافه في البداية.
  • قال بيكاسو: يجب أن نقوم بأقلّ قدر من الإيماءات، وأن ننطق بأقلّ قدر من الكلمات، بل ونرى بعضنا البعض بأقلّ قدر ممكن، إذا كان من شأن هذا أن يطيل الأمور. نحن لا نعرف مقدار كلّ شيء أمامنا، لذلك يتعيّن علينا اتخاذ أقصى الاحتياطات حتى لا ندمّر جمال ما لدينا. كلّ شيء موجود بكمّية محدودة، وخاصّة السعادة.
    وإذا كان الحبّ سيأتي، فكلّ شيء مكتوب في مكان ما، وكذلك مدّته ومحتواه. إذا كان من المفترض أن تحتفظ أجنحة الفراشة بلمعانها، فلا يجب أن تلمسها. لا يجب أن نسيء استخدام شيء من شأنه أن يجلب الضوء إلى حياتنا. كلّ شيء آخر في حياتي يثقلني ويحجب الضوء. ويبدو هذا الشيء معك وكأنه نافذة تنفتح، وأريدها أن تظلّ مفتوحة".
  • ذات يوم عندما ذهبت لرؤية بيكاسو، كنّا ننظر إلى الغبار المتراقص في شعاع من ضوء الشمس المتسلّل عبر إحدى النوافذ العالية. وقال لي: لا أحد له أيّ أهميّة حقيقية عندي. بالنسبة لي، الأشخاص الآخرون يشبهون تلك الذرّات الصغيرة من الغبار التي تطفو في ضوء الشمس. لا يتطلّب الأمر سوى دفع المكنسة حتى تخرج.
    وأخبرته أنني لاحظت كثيرا في تعاملاته مع الآخرين أنه يعتبر بقيّة العالم مجرّد ذرّات صغيرة من الغبار. ثم قلت لنفسي: أنا أيضا ذرّة صغيرة من الغبار، لكني موهوبة بالحركة المستقلّة ولا أحتاج بالتالي إلى مكنسة. يمكنني الخروج من تلقاء نفسي.
  • قصص بابلو العديدة وذكرياته عن أولغا وميري تيريز ودورا مار، فضلاً عن وجودهنّ المستمر في حياتنا معا، جعلتني أدرك تدريجيّا أنه كان يعاني من نوع من عقدة اللحية الزرقاء التي جعلته يرغب في قطع رؤوس جميع النساء اللواتي جمعهنّ في متحفه الخاص.
    لكنّه لم يقطع الرؤوس بالكامل، بل فضّل أن تستمرّ الحياة وأن تظلّ كلّ هؤلاء النساء اللواتي شاركن حياته في لحظة أو أخرى يطلقن صيحات الفرح أو الألم ويتصرّفن ببعض الإيماءات مثل الدمى المفكّكة، فقط لإثبات أن هناك بعض الحياة المتبقية فيهن، وأنها معلّقة بخيط، وأنه يمسك بالطرف الآخر من الخيط. من وقت لآخر، كنّ يقدّمن جانبا فكاهيا أو دراميّا أو مأساويّا للأشياء، وكان هذا كلّه مادّة خامّا لمطحنته.
    وعندما سُئل مرّة عن أسباب انفصالنا بعد أن تركته قال: في كلّ مرّة أغيّر فيها زوجتي، يجب أن أحرق آخر زوجة. بهذه الطريقة سأتخلّص منهن. لن يكنّ موجودات الآن لتعقيد حياتي. ربّما سيعيد ذلك شبابي أيضا. أنت بقتلك المرأة، تمحو الماضي الذي تمثّله.
  • عندما سمع بيكاسو عن نيّتي زيارة محترف الرسّام بيير بونار انفجر غاضباً وأثار ذلك جدالاً كبيراً بيننا. قال إنه يكره بونار ولا يريدني أن أزوره. فأجبته بأن من حقّي أن أفعل ما أشاء من دون إذنه. لكن الجدال احتدم أكثر، وفي النهاية رضخت لرأيه.
  • ذات يوم، أخذ بيكاسو السيغارة التي كان يدخّنها ووضعها على خدّي الأيمن وأمسك بها هناك. كان يتوقّع منّي أن أبتعد عنه، لكنني كنت عازمة على عدم إرضائه. وقد خلّد بيكاسو، بطريقة لا تخلو من ساديّة ذكرى ذلك الحدث من خلال لوحته "المرأة ذات القلادة الصفراء" (1946)، والتي أظهرُ فيها وعلى خدّي ما يبدو وكأنه شامة جميلة، في حين أنها في الواقع أثر الندبة التي خلّفتها السيغارة.
  • في سبتمبر 1953 قرّرتُ أن أخرج من حياة بيكاسو نهائيّا، فجمعت أغراضي وغادرت إلى أرض جديدة. وقلت له قبيل مغادرتي: احترس، لأنني أتيت الى هنا عندما أردتَ أنت ذلك، لكنّي سأغادر عندما أريد. فردّ عليّ: لا أحد يترك رجلاً مثلي". فقلت: سنرى". فقال ساخرا: هل تتخيّلين أن الناس سيهتمّون بك؟ لن يفعلوا ذلك أبدا من أجلك فقط. وحتى لو كنت تعتقدين أن الناس يحبّونك، فلن يكون ذلك سوى نوع من الفضول الذي يشعرون به تجاه شخص كانت حياته مرتبطة بي بشكل وثيق".

    لم تستطع فرانسواز جيلو الاستمرار مع شخص "لم يوفّر حتى أحبّاءه" ورفضت أن تكون مجرّد ملهمة أخرى لبيكاسو. وقيل إن موهبتها الخاصّة وتقديرها العالي لذاتها وشغفها المستمر بالفنّ لعبت دورا في انفصالها عنه. كان بيكاسو في البداية قد شبّهها بزهرة جميلة، بينما وصفته هي في كتابها الجريء بـ "اللحية الزرقاء".
    وبعد أن تركَت بيكاسو، بدأت جيلو فصلا جديدا من حياتها بزواجها من عالم أحياء شهير. وكان ذلك بمثابة شهادة على قوّتها وقدرتها على الصمود وعلى العثور على الحبّ والدعم بعد ماضٍ مضطرب.
    كما واصلت مسيرتها الفنّية ووسّعت تجربتها لتشمل الخزف والنحت، وحظيت أعمالها بالتقدير في متاحف كبرى كمتحف المتروبوليتان في نيويورك ومركز بومبيدو في باريس. كما حصلت على العديد من الأوسمة والجوائز اعترافا بإنجازاتها الفنّية.
    كانت جيلو أيضا مدافعة متحمّسة عن العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان ومؤيّدة صريحة لحقوق المرأة وحركة السلام. وعندما توفّيت تركت وراءها إرثا غير عادي كفنّانة وكاتبة وكامرأة حطّمت الحواجز وتحدّت الأعراف وشقّت لنفسها طريقا مميّزا في الحياة.

  • Credits
    francoisegilot.com
    pablopicasso.org