:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، سبتمبر 05، 2024

عالم كريستينا


كان أندرو وايت أحد أبرز فنّاني الواقعية الأمريكية في رسم القرن العشرين. وقد عُرف بمناظره الحالمة التي تصوّر الريف كمهرب، وأهمّها وأشهرها "عالم كريستينا" التي رسمها عام 1948. وهي اليوم من مقتنيات متحف الفنّ الحديث في نيويورك وجزء من مجموعته الدائمة.
المرأة الظاهرة في اللوحة، واسمها كريستينا أولسون، كانت قد أُصيبت باضطراب عضلي سبّب لها ضعفا في القدمين وعضلات أسفل الساق وأعاق تناسق أصابعها ويديها ومعصميها ولسانها. ونتيجة لذلك، أصبحت معاقة من الخصر فأسفل منذ أن كانت في الثلاثين من عمرها. وغالبا ما كانت تتحرّك بين ممتلكات عائلتها إلا زحفاً بعد أن اصرّت على عدم استخدام كرسيّ متحرّك في تنقّلاتها.
كانت أولسون إحدى مُلهمات الرسّام أندرو وايت، وقد ظهرت في العديد من أعماله الفنّية الأخرى. وكان هو صديقا لعائلتها، وقد اُعجب بروحها القويّة وشجاعتها، فرسمها بأكبر قدر ممكن من الأصالة وهي تجرجر ساقيها بيديها الهزيلتين في طريقها الى المزرعة. وقد استخدم الرسّام زوجته كموديل بدلاً من المرأة المريضة نزولا عند رغبة الأخيرة، كما قيل.
الأجواء الريفية التي تعكسها لوحة "عالم كريستينا" تحمل شعورا بالهدوء وبالحنين إلى الماضي. ومثل كلّ اللوحات المشهورة، واجه الفنّان الكثير من النقد. فقد نظر العديد من النقّاد إلى اللوحة بشكّ وازدراء لمضمونها، وزعم بعضهم أن وايت استغلّ كريستينا لأنه كسب أموالا طائلة من لوحته ولم يمنحها أو عائلتها أيّ شيء. وردّ وايت أنه عرض بالفعل بعض المال على والديها لكنّهما رفضا. كما انتُقد لأنه لم يرسم كريستينا على طبيعتها الحقيقية.
كانت المرأة في الخمسين من عمرها عندما رسمها. وقد فضّل أن يرسم جسد زوجته النحيل كنموذج. وذكر أنه أراد تصوير الصراع العقلي والجسدي لكريستينا مع مرضها. ومن ثم، فإن ظهور جسد زوجته الضعيف والهشّ إنما يعكس حال كريستينا نفسها في مرضها.
وفي حين اعتبر العديد من النقّاد اللوحة شكلاً من أشكال الاستغلال، شعرت كريستينا أولسون بالفخر والتأثّر، لأن وايت رسم لوحة عن كفاحها وصبرها وقوّة عزيمتها. بل إنها قالت إنها أحبّت اللوحة رغم خيبة أملها من قرار وايت عدم إظهار وجهها فيها.
وقد فوجئ الرسّام بالشعبية التي حقّقتها اللوحة وقال: من المثير للاهتمام أن تحظى "عالم كريستينا" بمثل هذه الجاذبية الواسعة. ويبدو أن كثيرا من الناس تماهوا معها ورأوا أنفسهم فيها".


اللون الترابي الذي رُسم به الحقل أضفى لمسة جمالية دافئة ومضيافة على المنظر. ومن الواضح أن الرسّام ركّز على المساحة بين المنزل والمكان الذي كانت تزحف المرأة على أرضه. وقد يلاحظ الناظر التفاصيل الدقيقة لأسلوب الرسّام، وكيف رسم كلّ جزء من العشب بدقّة وركّز بشكل كبير على التفاصيل. ولأن وجه المرأة لا يُرى، فإن التركيز بدلاً من ذلك ينصبّ على تفاصيل جسدها: أصابعها الملوّثة بوحل المزرعة وشعرها غير المرتّب وفستانها الوردي وحذاؤها البسيط.
وعلى الرغم من اعتقاد الاطبّاء في البداية أنها كانت مصابة بشلل الأطفال، إلا أنهم الآن يعتقدون أنها كانت تعاني من مرض عصبيّ يسمّى اختصارا (شاركو ماري توث CMT) على اسماء الأطبّاء الثلاثة الذين اكتشفوا المرض عام 1886.
قيل إن وايت وجد في عالم المرأة إلهاما أغراه برسمها بعد أن رآها ذات ظهيرة وهي تسحب جسدها عبر الحقل. وقد أشار ذات مرّة الى أنه إنّما أراد برسمها أن يمجّد انتصارها الاستثنائي على حياة يعتبرها معظم الناس ميؤوسا منها. وكانت زوجته آنذاك في العشرينات من عمرها، أي أصغر سنّاً من أولسون بنحو 30 عاما.
اليوم وبعد مرور أكثر من 70 عاما على رسم "عالم كريستينا"، هناك من يتساءل: هل هي لوحة حديثة أم مبتذلة أم عاديّة؟ كما أن الناس ما زالوا غير متأكّدين من مكان وايت بين فنّاني ما بعد الحرب، وجُلّهم من التعبيريين التجريديين.
بعد فترة وجيزة من شراء متحف الفنّ الحديث للوحة، أصبح وايت رسّاما ناجحا. لكن النقّاد لم يحبّوه، بل نفروا منه غالبا. كانوا معجبين بالملامح السوريالية لبعض أعماله المبكّرة. لكنهم انتقدوا بشدّة "الحنين المبتذل" في لوحاته، بما فيها "عالم كريستينا". كما انتقدوا تجاهله أحداثا تاريخية وجمالية مهمّة مثل الحرب العالمية الثانية وتيّار التعبيرية التجريدية.
لكن بعض النقّاد يرون أنه من الصعب أن تؤثّر هذه الهوامش التاريخية على تقدير المرء لـ "عالم كريستينا"، خاصّة صفاتها الشكلية وإضاءتها الخافتة ومنظورها المتعرّج. لكن من الصعب فهم فنّان كانت مُثُله غامضة وكان استيعابه للعالم المتسارع والمتغيّر ضئيلاً للغاية.
وعلى الرغم من كلّ ما قيل، أصبح وايت فنّانا ثريّا. ورغم أنه عرض على عائلة أولسون بعض الهدايا، إلا أن كريستينا رفضت بشدّة أيّ أموال. واستمرّت الأسرة في العيش من موارد مزرعتهم البسيطة. وقد حافظ وايت وأولسون على علاقة وثيقة طوال حياتهما. وقبل عام واحد من وفاته عام 2009، أخبر إحدى الصحف أنه يريد أن يُدفن إلى جوار قبرها.

Credits
moma.org

الثلاثاء، سبتمبر 03، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • قُدّرت ثروة بابلو بيكاسو عند وفاته عام 1973 بحوالي 250 مليون دولار، وهو ما يعادل حوالي مليار دولار اليوم بعد مراعاة نسب التضخّم. وجاءت هذه الثروة الهائلة في الأساس من مجموعته الشخصية الضخمة التي تضمّ أكثر من 45000 عمل، منها 1885 لوحة، و1228 منحوتة، و7089 رسما، و30000 مطبوعة.
    وعلى الرغم من ثروته تلك، توفّي بيكاسو دون أن يكتب وصيّة، ما أدّى إلى نشوب معركة قانونية ضارية وطويلة حول تقسيم تركته بين ورثته وزوجاته وعشيقاته وأطفاله. وبعد ستّ سنوات من المفاوضات و30 مليون دولار كأتعاب قانونية، سُوّيت التركة أخيرا وحصل أطفاله الأربعة على الجزء الأكبر من الأصول.
    وثروة بيكاسو مستمرّة في النموّ حتى اليوم، حيث تباع أعماله بأسعار قياسية في المزادات. وتتولّى مؤسّسة بيكاسو التي أنشأها ابنه كلود عام 1996 إدارة مصالح الأسرة والإشراف على ترخيص اسم بيكاسو وصورته. كما تعمل المؤسّسة على منع السرقة والاستخدام غير المشروع لفنّه.
    وحتى اليوم ما يزال بيكاسو الفنّان الأكثر مبيعا في مزادات الأعمال الفنّية، حيث بيعت ست من روائعه بأكثر من 100 مليون دولار للواحدة. وأغلى عمل فنّي بيع له على الإطلاق كان "نساء الجزائر"، نسخة 1955، بمبلغ 179 مليون دولار في دار كريستيز للمزادات في عام 2015.
    وفي نوفمبر 2023 بيعت لوحة بيكاسو "امرأة ترتدي ساعة" المرسومة عام 1932 بأكثر من 139 مليون دولار في دار سوثبي للمزادات، مسجّلة رقما قياسيّا جديدا باعتبارها العمل الفنّي الأكثر قيمة الذي بيع في مزاد على مستوى العالم في ذلك العام. وتصوّر اللوحة ملهمة بيكاسو ميري تيريز والتر التي كانت تبلغ من العمر 17 عاما عندما التقيا. وتظهر وهي جالسة على كرسيّ يشبه العرش على خلفية زرقاء بينما ترتدي ساعة يد بيكاسو.
    كان بيكاسو وقتها قد تجاوز الخمسين من عمره وكان يمرّ بنقطة تحوّل في حياته المهنية، حيث سعى إلى ترسيخ إرثه كمعلّم للفنّ الحديث على حساب منافسيه وعلى رأسهم هنري ماتيس.
    أعمال بيكاسو تتّسم في عمومها بتقنياتها المبتكرة، مثل تحدّيها للتمثيل التقليدي للشكل والمنظور البشري، والاستخدام المبتكر للألوان والأشكال والأسلوب المجزّأ للتعبير عن المشاعر المعقّدة، وثنائية المظهر مقابل الواقع، والجمع بين عناصر الكولاج والألوان النابضة بالحياة. كما تعكس أعماله السياقات الاجتماعية والسياسية في عصره، وتتناول المواضيع والمشاعر الإنسانية المختلفة كالألم والمعاناة والمآسي التي تسبّبها الحرب والفقر والعزلة والهويّة والتأمّل الذاتي والوحدة، ما يجعله أحد أكثر الفنّانين تأثيرا في القرن العشرين.

    ❉ ❉ ❉

  • صانع المطر (rainmaker) مصطلح يرمز الى الشخص الذي يجلب العملاء والأعمال والأموال والاستثمارات إلى شركة أو مؤسّسة ما. ويمكن أيضا ان ينطبق الوصف على السياسي المخضرم الذي لكلامه وزن ولديه قدرة على جمع أموال لحملة أو مشروع ما. والآن، أصبح المصطلح يشمل أيّ رجل أعمال غزير الإنتاج أو أيّ فرد يحقّق مستوى عاليا من النجاح، وخاصّة فيما يتعلّق بالإيرادات والمبيعات.
    ويمكن لصانع المطر أيضا لفت الانتباه لشركة ما بفضل وظائفه أو اتصالاته السابقة، ما يجعل منه فردا ذا قيمة عالية للمنشأة ونموذجا للعمل المنجز والناجح.
    وغالبا ما يكون العمل الجديد أو الإيرادات التي يجلبها صانع المطر آتية من مصدر غير معروف أو متجاهَل، الأمر الذي يخلق انطباعا بأن الأصول أنشئت من خلال وسائل غامضة. ويعتمد نجاح صانع المطر عادةً على كونه موظّفا منفتحا وحيويّا ولديه شبكة اجتماعية واسعة من الاتصالات والصداقات. كما أنه بارع بنفس القدر في إدارة العلاقات والعملاء الحاليين وفي إنشاء علاقات وعملاء جدد.
    وأصل مصطلح "صانع المطر" يعود الى ثقافة سكّان أمريكا الأصليين الذين يعتقدون بفكرة أن الإنسان يمكنه جلب المطر من خلال بعض الطقوس الشامانية أو الدينية.

    ❉ ❉ ❉

  • ❉ ❉ ❉

  • ولد الرسّام زيغمونت أندريتشيوفيتز عام 1904 في بولندا ودرس الفنّ في كراكوف. كان معروفا بأسلوبه الواقعي في الرسم، وغالبا ما كان يصوّر مشاهد من الحياة اليومية. وقد تأثّر أسلوبه بأعمال عصر النهضة الإيطالية والمعلّمين الفلمنكيين.
    أشهر أعمال أندريتشيوفيتز هي لوحة "الفنّان المحتضر"، وفيها يصوّر رسّاما مستلقيا على سرير في غرفة مضاءة بشكل خافت، تحيط به مستلزماته الفنّية ولوحاته غير المكتملة. وهو يظهر في لحظات حياته الأخيرة وعيناه مغمضتان وجسده بلا حراك.
    اللوحة تتسم بألوانها الصامتة والكئيبة. والمنظر يثير شعوراً بالحزن وبالتأمّل.
    كلّ شيء في الصورة يبدو عاديّا باستثناء الشخص الذي يرمز للموت والجالس في منتصف الغرفة وهو يعزف على الكمان. وقد فعل الفنّان شيئا غريبا بجعله الموت الذي يرتدي ثوبا أسود داكنا يبدو لطيفا وحتى هادئا. كما جرّده من منجله المشهور. وهناك أيضا الغرفة التي تبدو في حال من الفوضى بسبب الأوراق والكتب الملقاة على أرضيتها.
    ربّما أراد أندريتشيوفيتز من اللوحة أن تكون تأمّلا في موته هو وفي الإرث الذي سيتركه وراءه. وقد يرمز المنظر إلى الطبيعة الخالدة للفن وقدرته على الصمود إلى ما بعد حياة صانعه، وإلى إمكانية أن يخلق الانسان وأن يبدع حتى وهو في مواجهة الموت.

    ❉ ❉ ❉

  • هذا لحن ليلة يدوم أكثر من ألف عام. موسيقى الثلج هذه من المفترض أن تدوم ألف عام! حزينة مثل صلوات دير منعزل، ترتفع من جوقة من مائة صوت. وبينما تدوّي النغمات بعمق، أشارك معاناة الحزن السلافي. ينجرف ذهني بعيدا عن هذه المدينة وهذا العصر، إلى التسجيلات القديمة لجميل بيك الطنبوري. الآن أشعر فجأة بسعادة غامرة، عندما أسمع مرّة أخرى بأذنَي قلبي أنقى أصوات إسطنبول. تغادرني أفكار الثلج والظلام، أبقيها بعيدة طوال الليل في أحلامي!
    *يحيى بياتلي (1927)
    (بياتلي شاعر تركي كان يقيم في بولندا في بدايات القرن الماضي. وجميل بيك الطنبوري كان موسيقيّا تركيّا.)

    ❉ ❉ ❉

  • يقول العالِم الراحل كارل سيغان عن الكتب:
    الكتاب مصنوع من شجرة. وهو عبارة عن مجموعة من الأجزاء المسطّحة المرنة، والتي لا تزال تسمّى أوراقا، مطبوعة بخطوط داكنة اللون. وبمجرّد إلقاء نظرة واحدة على الكتاب، تسمع صوت شخص آخر ربّما يكون قد مات منذ آلاف السنين.
    ومن وراء آلاف السنين هذه، يتحدّث المؤلّف بوضوح وصمت داخل رأسك، إليك مباشرة. إن الكتابة قد تكون أعظم اختراعات الإنسان، فهي تربط بين البشر اليوم وأمم العصور البعيدة، الذين لم يعرفوا بعضهم البعض قط. الكتب تحطّم قيود الزمن، وهي دليل على أن البشر قادرون على فعل السحر.

    ❉ ❉ ❉

  • (مهداة إلى إلينا كريموفا التي ولدت بساقين مشوّهتين وخمس أصابع ناقصة. تحبّ إلينا رسم حوريّات البحر وتعتقد أن أصابعها ستنمو في النهاية).
    على الرغم من أنني في الرابعة عشرة من عمري فقط، إلا أنهم يقولون إن لديّ روحا قديمة. لا بدّ أنني ولدت منذ زمن بعيد، بعيد جدّا. هنا، حيث تتوهّج الجبال المخيفة في الليل، في جبال الأورال، لعن رجل مجنون هذه المنحدرات. والآن، ونحن محصورون في الليل، تملؤنا الأصوات القويّة بالرعب. ومع ذلك تأمل أمّي أن أتمكّن قريبا من المشي بساقيّ الجديدتين.
    لا أفتقد الساقين بقدر ما أفتقد الأصابع. أرسم حوريات البحر تحت الحوافّ. يراقبني أبي ويقبّلني في فرحه المبعثر ويبكي. وهناك صبيّ يهمس باسمي. إذن لست عرجاء، لأنني أقفز وأتبعه. يأتي رجل حكيم، يقول إن ضعفنا هو ضعفنا وليس ضعف الله، وأن طفلا جميلا سيعود يوما ما من النجوم، وعندها ستنمو أصابعي الجديدة إذا وثقت به فقط. لذا فأنا أستعدّ لمقابلته إن كان يرغب في استقبالي.
    *مايكل بيرش

  • Credits
    pablopicasso.org
    poetryfoundation.org

    الأحد، سبتمبر 01، 2024

    فارس في مواجهة شبحين


    قليلون هم الأشخاص الذين أحدثوا ثورة في الفنّ. ومن هؤلاء ألبريشت ديورر، الرسّام الألماني من القرن 15/16، الذي حقّقت أعماله شعبية كبيرة خلال حياته واستمرّت كذلك حتى اليوم.
    ومن أشهر أعمال ديورر نقشه النحاسي المخيف "الفارس والموت والشيطان"، الذي أكمله عام 1513، أثناء إقامته في نورمبيرغ عندما كان يعمل في بلاط الإمبراطور ماكسيميليان.
    وفيه يتخيّل ديورر فارسا مدرّعا يتقلّد سيفا ورمحا طويلا ملفوفا بذيل ثعلب، ويمتطي حصانا ويمرّ عبر مضيق صخري تحفّه أشجار شائكة وبلا أوراق، بينما ينظر إلى الأمام مباشرة متجاوزا الأهوال التي في طريقه.
    والفارس يواجه في طريقه خصمين مخيفين، الأوّل مخلوق كريه يلعب دور الموت، يمتطي حصانا ويرتدي تاجا شائكا ويلتفّ حول رقبته ثعبان ويلوّح بساعة رملية كتذكير بقصر الحياة وبأن الموت يأتي للجميع بلا استثناء. والثاني شيطان له وجه ذئب وأنف وأسنان تمساح وقرون كبش وأذنا حمار وقرن طويل ويمسك بصولجان.
    وفي خلفية المنظر تظهر مجموعة متشابكة من الأشجار الميّتة، وبعدها بمسافة نرى مدينة مسوّرة. وفي الجزء السفلي الأيمن من المقدّمة هناك كلب وسحلية، وإلى اليسار جمجمة بشرية موضوعة على جذع شجرة وكأنها تحذّره من مصير ينتظره، بالإضافة الى لوحة تحمل حرفين من اسم الفنّان وتاريخ رسم العمل، أي عام 1513.
    طوال قرون ثار جدل كثير حول معنى النقش النحاسي والدافع الذي دعا ديورر لرسمه. قيل إنه ربّما كان في ذهنه موت امّه او موت ابنائه الـ 15. لذا قد يكون الفارس هو الرسّام نفسه الذي صار متصالحا مع الموت لكثرة ما رآه وخبِرَه. وفي زمن الرسّام فُسّر الفارس على أنه واحد من العديد من الفرسان اللصوص الذين كانوا يُرهبون المواطنين والتجّار في نورمبيرغ وغيرها من مدن ألمانيا.
    لكن هناك تفسيرات اخرى. فكثيرا ما توصف الشخصية الرئيسية بأنها فارس مسيحي بطولي، يجسّد الفضيلة الأخلاقية ولا يخاف من الموت أو الشيطان. وقيل ان هذا العمل كان تجسيدا لقطعة أدبية منسوبة للكاتب الهولندي إيراسموس الذي عاش في أوائل القرن السادس عشر، وموضوعها عن فضائل الفارس المسيحي. إذ يقول مخاطبا فارسا مفترضا: لكي لا تخرج عن طريق الفضيلة لأنه يبدو خشنا وكئيبا، يجب عليك أن تحارب ثلاثة أعداء: الجسد والشيطان والعالم. وعليك أن تعتبر كلّ تلك الأشباح - التي ستقابلها كما لو كنت في مضائق الجحيم - غير ذات قيمة اقتداءً بمثال إينياس. ولا تنظر خلفك."
    في النقش هناك بعض التفاصيل اللافتة، مثل ذيل الثعلب المتصل بنهاية رمح الفارس. كانت الثعالب منذ القدم رمزا للخداع، وكان "حامل ذيل الثعلب" مصطلحا يشير إلى الشخص المنافق. ويمكن اعتبار الذيل بمثابة تعويذة للحظ السعيد، كما يمكن أن يرمز للخداع والطبيعة الماكرة.
    وقيل ان النقش تكريم من ديورر للقسّ البروتستانتي مارتن لوثر، على الرغم من أن الاثنين لم يلتقيا عيانا، لكن كتابات ديورر تشير إلى أنه كان معجبا به بشدّة.
    وما يجعل "الفارس والموت والشيطان" عملاً متميّزا هو إحساس ديورر بالدراما البصرية. اهتمامه بالتفاصيل، وخاصّة الضوء، يمنح حياة إضافية للمشهد الخيالي بحيث ينتقل المتلقّي إلى زمن بعيد.


    مجاورة الفارس والموت ربّما تشير إلى زوال الفارس الوشيك. وعلى الرغم من مظهره الذي يُفترض أنه مسيحي وجاهز للقتال، إلا أنه لا يبدو أن هذه الدروع ستحميه من الموت، على الرغم من أنه لا يُظهر أيّ علامات على الخوف من الشيطان الذي يتبعه.
    عبقرية التوليف عند ديورر واهتمامه بالتفاصيل، بالإضافة إلى حسّه التجاري الذكي، هي التي جعلته ناجحا كفنّان. ومع ذلك، فإن الجاذبية الغامضة في أعماله هي التي جعلتها غير قابلة للنسيان حتى اليوم.
    هناك عنصر أساسي آخر في النقش هو حصان الفارس الذي رسمه ديورر بدقّة تشريحية وبمهارة مثيرة للإعجاب تذكّرنا بليوناردو دافنشي وتعكس اهتمام عصر النهضة بالعلوم الطبيعية وعلم التشريح. وربّما تكون وضعية الفارس والحصان مستوحاة من تماثيل الفروسية الإيطالية. كان ديورر معروفا بأسفاره إلى فينيسيا، وبالتأكيد كان على دراية بتلك التماثيل.
    وأيّاً كانت هويّته الحقيقية، فإن فارس ديورر يجسّد بوضوح النموذج البطولي للشجاعة والقوة الأخلاقية للشخص الذي لا يخاف الموت أو الشيطان.
    المؤرّخ الإيطالي جورجيو فاساري ذكر هذا العمل باعتباره واحدا من الأعمال المتميّزة التي لا تُضاهى. وكان الكاتب الارجنتيني بورخيس معجبا بديورر. وقد ذكره في أكثر من قصيدة. كما كان يعلّق على حائط مكتبه في بيونس ايرس نسخة من هذا العمل المليء بالرموز.
    وفي عام 1870، أهدى الفيلسوف نيتشه نسخة مطبوعة من هذا النقش إلى الموسيقيّ الألماني ريكارد فاغنر. وقد اعتبر نيتشه هذا العمل مهمّا باعتباره "رمزا لوجودنا المستقبلي".
    منظّرو الحزب النازي اعتبروا ديورر شخصا مثاليّا وعدّوه أكثر الفنّانين الألمان "ألمانيةً". وفي تجمّع للنازيين عام 1927، قارن الفيلسوف والمنظّر النازي ومجرم الحرب المُدان لاحقا ألفريد روزنبيرغ الجنود المجتمعين بالمحارب في "الفارس والموت والشيطان" قائلاً: حتى لو كان العالم مليئا بالشياطين، يجب أن ننتصر على أيّ حال".
    وفي عام 1933، قدّم عمدة نورمبيرغ لهتلر طبعة أصلية من النقش واصفا الفوهرر بأنه "الفارس بلا خوف ولا لوم، الذي ضاعف شهرة مدينة نورمبيرغ، الإمبراطورية القديمة للعالم أجمع".
    أحد الأدباء المعاصرين حاول استنطاق معنى النقش على طريقته فكتب قائلا: لقد اشتمّ الكلب على درع الفارس رائحة الموت والجحيم، لأن الكلب يعرف بالفعل ما لا يعرفه الفارس. فهو يعرف أن دمّلا في فخذ الفارس بدأ ينزّ عصارة الطاعون، وأن الموت والشيطان ينتظرانه عند سفح التلّ ليأخذاه معهما".
    الجدير بالذكر أن عمل ديورر على هذا النقش تزامن مع إصابة والدته فجأة بمرض مميت. وقد حظيت برعايته الى أن توفيت بعد ذلك بعام. وعند وفاتها، كتب عنها يقول: كانت متديّنة كثيرا، وكان من عادتها أن توبّخني إذا لم أفعل الصواب، وكانت دائما قلقة بشأني وأخي. إنني لا أستطيع أن أثني كفايةً على صلاح أمّي وشخصيتها الرفيعة والرحمة التي كانت تعامل بها الجميع".

    Credits
    staedelmuseum.de