:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، أغسطس 30، 2024

أصوات الطبيعة


"لماذا تغرّد الطيور في الصباح؟ إنها الصيحة المبتهجة: لقد أمضينا ليلة أخرى!"

❉ ❉ ❉

ليس جديدا القول أن أصوات الطيور مريحة للأعصاب وباعثة على الطمأنينة. وقد تعلّم البشر على مرّ آلاف السنين أنه عندما تغنّي الطيور فمعنى هذا أنها تشعر بالأمان. وعندما تتوقّف عن الغناء فيجب أن يشعر الناس بالقلق. وأصوات الطيور تُعتبر أيضا منبّها للطبيعة، حيث تشير جوقة الفجر إلى بداية اليوم، وبالتالي فهي تحفّز مداركنا.
إلى ما قبل ١٥ سنة، أتذكّر أننا كنّا نصحو في الفجر على أصوات الطيور في الاشجار القريبة من بيتنا في نجران. كانت هناك أوركسترا كاملة من الأصوات المغرّدة التي تبثّ في النفس شعورا بالتفاؤل والتوحّد مع الطبيعة. بعض تلك الطيور كان مستوطنا والبعض الآخر كان يأتي مهاجرا من أماكن بعيدة.
وكان أجمل صوت مغرّد بينها ما يُعرف بالبلبل ذو النظّارة البيضاء (White-spectacled bulbul)، وهو طائر متوسّط الحجم يسمّيه الناس في الخليج وشبه الجزيرة العربية البورع أو النغري. ريشه رمادي ورأسه أسود وحول عينيه دوائر بيض (ومن هنا اسم النظّارة) وفي أسفل مؤخّرته بقعة صفراء ويعيش في المناطق الزراعية. وصوت هذا الطائر يكون في أروع حالاته إذا سُمع وقت السَّحَر.
للأسف اختفت معظم تلك الطيور وتناقصت أعداد البعض الآخر لدرجة ملحوظة. ويندر أن نرى اليوم هدهدا او ببغاءً او عصفورا ملوّنا او حتى حدأة. بل إنه حتى الطيور التي كانت تأتينا في مواسم الأمطار اختفت هي أيضا أو كادت.
أيضا تلاشت من المشهد الطبيعي نداءات الثدييات ونقيق الضفادع وهسيس الحشرات التي اعتدنا سماعها ليلا. كما تناقصت أعداد النسور والغربان والصقور والخفافيش والبوم. وبالتالي أصبح هناك نقص واضح في أصوات الطبيعة. وبينما أتذكّر تلك الأيّام أشعر الآن بالحنين إلى أصوات الطيور التي كنّا نسمعها عند الفجر متأمّلا أن تعود يوما.
يروي أحد الأشخاص أنه توجد في حديقة والده شجرة سدر معمّرة كانت قبل سنوات تعجّ بالنحل. وعندما تزهر الشجرة تخال نفسك واقفا تحت خليّة نحل ضخمة. وكانت الطيور تأتي من كلّ مكان لتحطّ على هذه الشجرة. وكان ذلك الشخص كلّما أحس بالقلق من المستقبل، نظر إلى تلك الشجرة الضخمة الوارفة الظلال فشعر بالاطمئنان بأن الأمور ستكون على خير ما يرام.
لكن في السنوات الأخيرة صار لا يرى سوى طائرين أو ثلاثة وبضع نحلات على الشجرة. وكلّما مشى تحت شجرة السدر تلك وهي في كامل تبرعمها تمنّى لو يستطيع سماع ذلك الطنين والتغاريد مرّة أخرى. ويضيف: هذه الشجرة زرعها جدّي منذ 60 عاما. كان إنسانا محبّا للطبيعة، وربّما لو كان هنا اليوم لتجوّل في هذا المكان وهو يهزّ رأسه حزنا وأسفا".
في عام 1962، أصدرت عالمة الأحياء الأمريكية ريتشِل كارسون كتابها المشهور" الربيع الصامت" الذي وثّقت فيه الأضرار والعواقب الوشيكة الناجمة عن تلوّث الهواء والأرض والأنهار والبحار بموادّ خطيرة وحتى مميتة. وفي الافتتاحية الرائعة للكتاب صوّرت العالمة مدينة خيالية في زمن ما في المستقبل، فكتبت: كان الربيع بلا أصوات. ففي الصباحات التي كانت تنبض ذات يوم بأصوات طيور العندليب والحمام والغراب والعصافير والشحرور والسنونو والحسّون وطيور الحدائق والأفنية الخلفية وعشرات الطيور الأخرى، لم يعد هناك أيّ صوت، فقط الصمت الذي يخيّم على الحقول والغابات والمستنقعات."
ثم تشير كارسون الى أن عدد الحياة البريّة على الأرض انخفض بنسبة 69% في أقلّ من 50 عاما، ومعها تلاشت العديد من الأصوات المميّزة في الطبيعة. وبالإضافة الى التلوّث وتغيّر المناخ والأمراض والصيد وتجارة الحياة البرّية، فإن إزالة الغابات هي بلا شك أكبر سبب لتناقص أعداد الطيور. فمع فقدان الموائل وتدهورها، تفقد الطيور مساحاتها للتكاثر وبناء الأعشاش والمبيت والبحث عن الطعام. وتضيف المؤلّفة تذكيرا مؤلما بما فقده البشر في مثل هذا الوقت القصير فتقول: أخشى أن العالم الذي سنترك فيه أطفالنا وأحفادنا سيكون مكانا مختلفا تماما".


في الأساس، الطيور لا تغنّي لنا بل لنفسها بحسب الموسم أو الوقت من اليوم ونوع الطائر. أحيانا تغنّي لجذب الأصدقاء والتواصل مع بعضها البعض. وهناك العديد من الروايات العلمية حول كيفية تأثير أصوات الطيور بشكل إيجابي على صحّة الإنسان. ومن الثابت الآن أن أصواتها تقلّل التوتّر والقلق وتجلب الاسترخاء وتزيد الإنتاجية.
وقد استُخدمت أصوات الطيور كجزء من العلاج، وذلك بِوَصل تردّداتها الصوتية بالطاقة الطبيعية لأجسامنا، ما يساعد على إعادة ضبط العقل الذي يعزّز الصحّة الجسدية والنفسية.
والاستماع الى أصوات الطيور يتيح لنا أيضا زيادة مهارات الملاحظة من خلال الاهتمام بحواسّنا السمعية. وكبَشَر، نحن نحرص على التركيز على المحفّزات باستخدام حاسّة البصر لدينا في المقام الأوّل. ومع ذلك، ونظرا لكون الطيور صغيرة الحجم وسريعة ويصعب رؤيتها في بعض الأحيان، فإن الاهتمام بأصواتها يساعد في تدريبنا على تكوين إحساس أفضل بالعالم الصوتي.
ذات مرّة أجرى أحد خبراء الطيور تجربة سريعة عن قوّة الصوت عندما يتعلّق الأمر بتحديد الطيور. حيث قام أوّلا بالتجوّل في غابة وتمكّن من التعرّف على حوالي عشرة طيور من خلال البصر وحده. وفي مشواره التالي عبر الغابة، أبقى الخبير عينيه ملتصقتين بقدميه معظم الوقت. وركّز على التعرّف على الطيور عن طريق الصوت فقط وبدون أن ينظر إليها. وبهذه الطريقة استطاع تحديد 30 نوعا من الطيور.
يقول: عندما اعتمدت على عينيّ فقط، مررت فوق بعض الطيور الصغيرة. ومع تشغيل أذني فقط، تمكّنت من سماع كلّ تلك الطيور وهي تزقزق وتطنطن وتغّرد وتغنّي. ومعظم الطيور، وخاصّة في الغابات، تُسمع قبل أن تُرى. فإذا لم تشغّل حاسّة السمع لديك، فربّما تفقد أكثر من نصف الطيور من حولك"!
والصوت يُعدّ عنصرا حاسما في التعرّف على الطيور والتواصل مع الطبيعة ككل. وعندما ننتبه إلى أصوات الطيور ونحاول التعرّف عليها ونستمتع بأغانيها، فإننا لا نجني الفوائد الصحّية فحسب، بل نشحذ أيضا مهارات الانتباه التي تساعدنا حتى خارج نطاق عالم الطيور أو عالم الطبيعة.
وبالإضافة الى أصواتها المفيدة لصحّة الإنسان، تلعب الطيور أدوارا لا غنى عنها، حيث تلقّح النباتات وتنشر البذور. كما أنها تستهلك الحشرات التي يمكن أن تُلحق الضرر بالمحاصيل وتقتل الأشجار. ووفرة الطيور في النظُم البيئية هي إحدى أهم الصلات التي تربط الناس بالطبيعة وبالعناية بالبيئة.
والخبراء اليوم يعملون على استعادة النظم البيئية التي تحتاجها الطيور للبقاء على قيد الحياة وحمايتها وربط ذلك مع الاستراتيجيات الهادفة لإعادة الأنواع المنقرضة إلى الحياة. والعلماء ينصحوننا بأن نقدّر أصوات الطيور التي توجد في محيطنا أو ما تبقّى منها. وسواءً كانت الطيور في الغابة أو في الفناء الخلفي لمنزلك أو في الطريق، فإن أغانيها مهمّة لصحّتنا ولتوازننا النفسي.

Credits
birdsoftheworld.org

الخميس، أغسطس 29، 2024

قصّة الأزتيك/2


كان إنجاز الأزتيك الأهمّ هو بناء إحدى أكبر الإمبراطوريات في تاريخ أمريكا الوسطى. وفي أوج عظمتهم، حكَموا نحو عشرة ملايين شخص، أي ما يقرب من نصف سكّان أمريكا الوسطى في القرن السادس عشر. وكانت عاصمتهم تينوتشتيتلان أكبر مدينة في العالم وجوهرة تاج عالَم ما قبل كولومبوس بعدد سكان يقدّر بـ 200 ألف نسمة. كانت مدينة مخطّطة ومحصّنة جيّدا. وكانت معالمها عظيمة لدرجة أن الإسبان ذُهلوا منها وصَعُب عليهم وصف روعتها بالكلمات.
ولمّا وصل الإسبان إلى هناك، جاءوا من ثقافة موجّهة نحو الحرب وكانوا متمرّسين في خوض المعارك والحروب. وعندما حاصروا تينوتشتيتلان، قطعوا عن أهلها المؤن والطعام والماء وقتلوا المئات من نبلائها أثناء وليمة احتفالية، ما أدّى إلى مزيد من الاضطرابات بينهم وبين الأهالي.
واضطرّ الأزتيك لمقاتلتهم بشجاعة وانتصروا في بعض المعارك. لكنهم خسروا الأرض بالتدريج بسبب ضعف تسليحهم، إذ لم يكن لديهم غير السهام والنشاب والرماح. وكانوا يميلون إلى احتجاز الأسرى من الإسبان لتقديمهم كقرابين للآلهة بدلاً من قتلهم في المعركة.
أما الإسبان فكانت دروعهم الفولاذية تحميهم من أسلحة الأزتيك التي لم تتمكّن من اختراق دفاعاتهم. وكانت أسلحتهم الناريّة تُصدر دخانا وضوضاء ترعب خصومهم وتربكهم. وكان لديهم سلاح فرسان يمكنه مطاردة المحاربين المنسحبين وكلاب مدرّبة على تعقّب الأعداء وتطويقهم وخيول قادرة على سحق الخصوم.
ويقال إنه في ذروة حصار العاصمة، نظر أحد مقاتلي الأزتيك المنهكين والممدّدين على أرض المعركة حوله فرأى امرأة ظنّها السيّدة العذراء التي سبق أن رأى الإسبان يحملون صورها. لكنها لم تكن صورة مخلوق سماوي، بل كانت امرأة حقيقية من لحم ودم. كان اسمها ماريّا دي استرادا؛ إحدى النساء الإسبانيات القليلات اللاتي سافرن كغزاة إلى العالم الجديد. وكانت تُلقّب بالسيّدة العظيمة، وقد قاتلت إلى جانب زوجها في كلّ معركة.
كان الأزتيك يركّزون في الحرب على إظهار البطولة النادرة وأخذ الأسرى لتلقّي الثناء من الإمبراطور، بينما اهتمّ الإسبان بالقتل بلا رحمة وكانوا يحاربون في أرض غريبة كانت الهزيمة فيها تعني موتا مروّعا ومحقّقا.
ممّا يأخذه الكثيرون على الأزتيك تمجيدهم للموت وهدر الدماء في الحروب وتقديم قرابين بشرية لآلهتهم. لكن بعض المؤرّخين يجادلون بأنه مهما بدا عالم الأزتيك مرعبا ومتوحّشا وغير عقلاني أحيانا، فإن الثقافة الغربية لم تكن يوما أقلّ إدمانا على القتل والتدمير حتى في القرون الأخيرة.
يقول المؤرّخ ألفونسو كاسو: إن تقديم القرابين البشرية بين الأزتيك، مهما كانت هذه الطقوس بغيضة بالنسبة لنا، لم تكن أكثر من واحدة من العديد من الانحرافات التي اتخذت مظهرا دينيا في تاريخ البشرية. لكن لدى غيرهم ممارسات أكثر فظاعة: حرق الزنادقة في هذه الحياة لإنقاذهم من نيران الجحيم الأبدية في الحياة الأخرى، وتدمير الأفراد الذين يُفترض أنهم من عِرق أدنى لمنعهم من تلويث العِرق الأنقى، وما شابه ذلك. وتلك وغيرها أمثلة على ممارسات مماثلة وُجدت بشكل متكرّر في تاريخ الأيديولوجيات والأديان".
وهناك من يرى أنه من الصعب أن نفهم اليوم فهما حقيقيّا ما تعنيه التضحية البشرية بالنسبة للأزتيك في القرن السادس عشر. كانوا يعتقدون أنه إذا لم يقدّموا تضحيات كافية لآلهتهم فلن تكون الآلهة قويّة بما يكفي لمنع نهاية العالم. وكانت تلك المعتقدات عادية بالنسبة لشعب يعيش في مناطق معرّضة دائما للكوارث الطبيعية كالزلازل المدمّرة ونحوها.
لكن يمكن ملاحظة أن كلّ ثقافة لديها فكرتها الخاصّة عمّا هو قاسٍ وما هو غير ذلك. ففي ذروة صعودهم، سفك الرومان من دماء البشر في حلبات مصارعتهم من أجل تسلية أنفسهم أكثر بكثير ممّا أراقه الأزتيك أمام أصنامهم.
أمّا الغزاة الاسبان أنفسهم فقد أمعنوا في عمليات الحرق والتشويه والتعذيب وكانوا أكثر قسوة بكثير من كهنة البلاد الأصليين الذين كانوا يشرفون على القرابين. وإذا كان الناس اليوم يرتعدون من حكايات طقوس الدم في المكسيك القديمة، ففي أيّامنا هذه هناك أمم تدّعي التحضّر والمدنية بينما تبيد الآلاف، وحتى الملايين، من البشر وبما لا يقارَن مطلقا بعدد البشر الذين ضحّى بهم الأزتيك في طقوسهم الدينية.
كان الأزتيك، بحسب بعض من أرّخوا لامبراطوريّتهم، معروفين بعظمتهم وضعفهم وقسوتهم وهوسهم بسرّ الدم والموت، وفي نفس الوقت بحساسيتهم لجمال الزهور والطيور والأحجار الثمينة وقوّة شعورهم الديني. وكانوا أقوياء في التعامل مع الآخرين. ولم يمنعهم تعلّقهم بأرضهم من النظر باستمرار إلى السماء والنجوم.
ومع كلّ هذا، كان هؤلاء المكسيكيون القدامى رجالا متحضّرين إلى درجة ما. كما أن ثقافتهم التي دُمّرت فجأة هي إحدى الثقافات التي يمكن للبشرية أن تفخر بها. إن هنود أناهواك (أي الأزتيك) - بحسب أحد المؤرّخين – سواءً كانوا عند سفوح براكينهم أو على ضفاف بحيراتهم، يمكن اعتبارهم من بين صنّاع الحضارة الإنسانية".
كان هناك اختلاف واضح في العادات والثقافة بين الغزاة وأصحاب الأرض. قيل مثلا أنه عندما وصل الإسبان لأوّل مرّة إلى المكسيك، كُلّف بعض السكّان الأصليين بأن يحملوا مباخر لمرافقتهم أينما ذهبوا. واعتقد الإسبان أن تلك علامة على التشريف الإلهي! لكن مصادر الأزتيك تذكر أنهم وجدوا رائحة الوافدين الجدد لا تطاق.
وكان من عادة شعب الأزتيك تربية سلالة من الكلاب الخالية من الشعر وذلك لأكل لحمها. وعندما رأى الإسبان تلك الكلاب مشويةً على موائد طعامهم، اعتبروا ذلك شكلا من أشكال البربرية. وفيما بعد استخدموا الكلاب لمطاردة الهنود الهاربين وتمزيق لحمهم إربا!
عالم الأزتيك يقدّم لنا مفارقة عميقة. فعلى الرغم من أن الجميع تقريبا قد سمعوا شيئا عن طقوس سفك الدماء عندهم، إلا أنه لا أحد تقريبا يعرف أنهم كانوا صانعي كلمات وألغاز مشهورين، وقد أثارت صياغاتهم الفلسفية إعجاب العديد من الناس، بمن فيهم الإسبان أنفسهم.
يقول الشاعر المكسيكي الكبير أوكتافيو باث واصفاً ميراث أسلافه الأقدمين من الأزتيك: كانوا شعبا من العسكر والكهنة والمنجّمين والمضحّين والشعراء. وكانت تتخلّل ذلك العالم ذا الألوان الزاهية والعواطف الغامضة ومضات شعرية قصيرة ومذهلة. كانت تجلّيات ومفارقات تلك الأمّة استثنائية ورهيبة: من الأساطير الفلكية إلى استعارات الشعراء، ومن الطقوس اليومية إلى تأمّلات الكهنة، إلى الهوس برائحة الدم الكريهة. ومثل عجلات التعذيب التي تظهر في روايات "الماركيز دو ساد"، كان عام الأزتيك عبارة عن دورة مدّتها 18 شهرا غارقةً في الدماء؛ 18 طريقة مختلفة للموت: من إطلاق النار بالسهام إلى الإغراق ومن الخنق إلى الذبح والسلخ".


ويقول الشاعر الإنغليزي ديفيد هيربرت لورانس واصفا آلهة الأزتيك: كانوا مجموعة غير محبوبة. في أساطيرهم ليس هناك نعمة ولا سحر ولا شعر. فقط هذه الضغينة الدائمة: إله يحسد آخر، آلهة تحسد البشر على وجودهم، وبشر يحسدون الحيوانات على وجودها. أما إلهة الحبّ عندهم فهي رمز للقذارة والدعارة وآكلة للأوساخ ومرعبة ودون لمسة من حنان".
ويقول مؤرّخ يُدعى دي بيلفوريست: إن إمبراطورية الأزتيك، على الرغم من تألّقها وبنية قوّتها المثيرة للإعجاب، لم تكن مبنية على شيء أكثر صلابة من النزعة العسكرية القاسية وطقوس الإبادة الجماعية. في الحرب، الأزتيك هم أقسى الناس الذين يمكن تخيّلهم لأنهم لم يكونوا يستثنون أحدا، ولا حتى أقرب أقربائهم، ولا يحترمون العمر ولا الجنس. إنهم يقتلون ويأكلون أعدائهم إذا لم يتمكّنوا من أخذهم أسرى.
وقد سقطوا أمام جبروت الحديد الاسباني والكراهية المكبوتة للشعوب التي سبق لهم "أي للأزتيك" أن أخضعوها. وقد انضمّت تلك الشعوب إلى الإسبان بسعادة وحماس ضدّ الأزتيك "المفترسين القساة" الذين كانوا يهدّدونهم جميعاً. وبمجرّد أن تضافرت جهود ذلك التحالف، أصبحت أيّام الأزتيك معدودة.
ويقول المؤرّخ أوزوالد شبنغلر: الأزتيك مثال على ثقافة انتهت بالموت العنيف. لم تُجوّع أو تُقمع، بل قُتلت وهي في كامل مجد انكشافها، ودُمّرت مثل زهرة عبّاد شمسٍ قُطع رأسها بمجرّد مرور شخص بجوارها. كان لهم سياسة شاملة ونظام ماليّ منظّم وتشريعات متطوّرة وأفكار إدارية وتقاليد اقتصادية. لكن ذلك كلّه انتهى في لمح البصر على يد حفنة من القراصنة المغامرين.
ويرى مؤرّخ آخر أن من عاش من الأزتيك بعد الغزو الإسباني لم يندموا على خسارة الماضي وتدمير النظام القديم. وبغضّ النظر عن مدى قسوة الغزاة، كان الطاغية الذي أبقاهم في العبودية أقسى وأقل ذكاءً بكثير. فلم يعد السكّان يُجبَرون على رؤية أطفالهم وهم يُضحّى بهم أو يخافون من موتهم على البلاط على يد ذلك الحُكم الإرهابي الذي يهيمن عليه الذكور.
وقد جلب الإسبان معهم حيوانات النقل كالخيول والحمير وعلّموا السكّان الأصليين استخدام مصابيح الحديد والزيت لتحسين أسلوب معيشتهم وعلّموهم اللغة اللاتينية. وبدأ الأزتيك يأكلون لحم الماعز والخنازير والدجاج والأغنام والأبقار بعد أن أحضرها الإسبان معهم إلى العالم الجديد. وفي المقابل أخذوا منهم الذهب والفضّة والطماطم والشوكولاتة".
لكن من المهم أن ندرك أن المستعمرين الأوروبيين تعمّدوا في الكثير من الأحيان تصوير الأمريكيين الأصليين على أنهم برابرة غير متحضّرين، لكي يعزّزوا ادعاءاتهم بأن لهم الحقّ في غزو واحتلال بلادهم ونهب ثرواتهم و"تمسيحهم" و"تحضيرهم". لكن الأدلّة التاريخية والأثرية تكذّب ذلك الزعم، فقد كانت ثقافة الأزتيك غنيّة ومعقّدة ومتطوّرة للغاية. وكان منهم مهندسون ورياضيون بارعون شيّدوا قنوات وقصورا وأهرامات.
وهناك خرافة أخرى روّج لها المستعمرون، ومفادها أن وصول الإسبان كان علامة على أن عالم الأزتيك كان يقترب من نهايته، وبالتالي فقد قبلوا مصيرهم المكتوب وانقرضوا لأنهم لم يعودوا ينتمون للعالم الحديث. وهذه الرواية تدعم مزاعم اسبانيا عن "الغزو الخيري" وأن الإسبان لم يكونوا أشرارا بل كانوا فقط يحقّقون نبوءة الأزتيك بزوال دولتهم.
ويرى كثيرون أنه حتى ما قيل عن أن الأزتيك رحبّوا بالإسبان بأذرع مفتوحة باعتبارهم تجسيدا لآلهتهم كان كذبة، لأنها تفترض ضمنا أن الأزتيك شعب ساذج يؤمنون بالخرافات ومعجبون بالأوروبيين، أي أنهم كانوا يتوسّلون الاستعمار ويعتبرون ذلك بمثابة يقين ديني. وبحسب بعض المؤرّخين فإن "قصّة الآلهة" لم تُذكر حتى في روايات الغزو الإسباني ولم تظهر الا بعد الغزو بعشر سنوات على الأقل.
وختاما، التاريخ غالبا ما يكتبه المنتصرون. والإسبان، الذين أطاحوا بامبراطورية الأزتيك ودمّروا حضارتها ونهبوا خيراتها، هم الذين كتبوا كلّ الروايات تقريبا عن تلك الفترة. لذا يجب قراءة ما كتبوه بقدر كبير من التمحيص والشك.

Credits
aztec-history.com

الأربعاء، أغسطس 28، 2024

قصّة الأزتيك/1


من الذي يستطيع حقّا أن يُريح درعَه؟
عرشَه؟ رمحَه العظيم؟!
فكّروا في ذلك، تذكّروه جيّدا.
من الذي يستطيع أن يدمّر تينوتشتيتلان؟
من الذي يجرؤ على مهاجمة أساس السماء؟!"
-من شعر الأزتيك

أوّل ما يلفت الانتباه في قصّة صعود وانهيار حضارة الأزتيك هو هذا الاشتباك الغريب في ثقافتهم بين العنيف والمقدّس. كانوا متفوّقين في الإدارة والطبّ والفلك والمعمار والنحت. لكنهم كانوا أيضا يمجّدون الموت والحروب ويؤمنون بالخرافة ويبالغون في تقديم قرابين من البشر لإرضاء آلهتهم.
لكن السؤال الكبير هو: كيف تمكّنت حفنة من قطّاع الطرق والمرتزقة المارقين، وخلال بضع سنوات فقط، من تدمير امبراطوريه الأزتيك وقتل ملكهم ونهب ثرواتهم، بل وتنصيب أنفسهم حكّاما على من تبقّى من ذلك الشعب؟! وكيف فعل الغزاة الإسبان كلّ هذا وليس معهم سوى ٦٠٠ جندي وعشر سفن و١٥ حصانا فقط؟! الغريب أنه لم يبقَ من مدن الأزتيك حجر على حجر ولم تحتفظ آثارهم القليلة الباقية بأيّ ذكرى عنهم.
لكن هل كلّ ما كُتب عن الأزتيك حقيقة أم أن فيه بعض الخيال؟!
في نوفمبر 1519، وصل هيرناندو كورتيس وجنوده من الإسبان إلى تينوتشتيتلان عاصمة الأزتيك (أو نيومكسيكو اليوم)، والتي وصفوها فيما بعد بأنها أعظم ما رأوه من مدنٍ على الإطلاق. كان كورتيس ورجاله جزءا من جهود اسبانيا لتوسيع امبراطوريتها بضمّ أراض جديدة وتحويل السكّان الأصليين الى المسيحية.
يذكر بعض المؤرّخين أن العديد من كبار السنّ من الأزتيك رأوا قبل عشر سنوات من وصول الإسبان إلى بلادهم أضواءً غير طبيعية في السماء وظواهر أخرى غريبة ومخلوقات خارقة للطبيعة. وكلّ هذه العلامات اقنعت السكّان الأصليين بأن نهاية عالمهم وشيكة وأن أشخاصا آخرين سيأتون إليهم ليسكنوا أرضهم تحقيقا لنبوءة قديمة. وقد أثّر هذا الاعتقاد بقوّة على نظرة السكّان الاصليين للإسبان، فتعاملوا معهم في البداية بالكثير من التبجيل الممزوج بالخوف، ما سرّع بسقوط دولتهم.
وقيل إن ملك الأزتيك موتيكوهزوما عندما سمع بظهور الغرباء لأوّل مرّة على طول سواحل المكسيك، اعتقد أنهم الإله كيتزالكواتل ورفاقه من الآلهة الآخرين الذين عادوا لكي يستأنفوا حكمهم الشرعي للإمبراطورية، كما كان الكهنة والعرّافون قد تنبّأوا من قبل.
وكان من المفترض، حسب اعتقادات الأزتيك، أن يعود إلههم العظيم ذات يوم لزيارة شعبه. ووفقا للأسطورة، كان كيتزالكواتل بطلاً بالإضافة إلى كونه إلها خالدا. كان وسيما وملتحياً، وقد علّم شعبه المطيع أشياء كثيرة كالزراعة والتعدين وتشييد المباني والصروح. لكن كيتزالكواتل طُرد من قبل إله منافس له يُدعى تيزكاتليبوكا. وبعد رحلة تيه طويلة، اختفى في البحر الشرقي ووعد بالعودة بعد 52 عاما.
أدّى ايمان ملك الأزتيك بألوهية المغامر الإسباني كورتيس وجنوده الى شلّ حركة الملك ومنعِه من اتخاذ إجراءات دفاعية ضدّ العدوّ وشعر بأن "الآلهة" ستحكم عليهم وتعاقبهم إن هم قاوموا الغزو.
لذا أرسل الملك، كدليل على حسن نيّته، مبعوثين من لدنه للترحيب بالغزاة وتقديم الهدايا الثمينة لهم. وقد قدّم لكورتيس وكبار جنده حوالي 20 امرأة من نساء الأزتيك كهدايا. وبدوره لعب كورتيس دور الضيف المكرّم، فأكّد للملك أن عليه أن يطمئن وألا يخشى شيئا من جانبه. لكن ما إن دخل قصر الملك حتى أمر جنده بأخذ الملك رهينة ومداهمة خزائنه ومستودعاته بحثا عن الذهب، وبذا كشف عن الغدر والجشع اللذين دفعاه إلى غزو المكسيك.
كان كورتيس وطاقمه مسلّحين بالسيوف والبنادق والمدافع والحراب والأقواس والكلاب والخيول. وقد تصدّى لهم الأزتيك بالسيوف الخشبية والهراوات والرماح سهلة الكسر. لكن تلك الأسلحة كانت عديمة الفاعلية أمام عدوّ يفوقهم في العتاد والتكتيكات العسكرية. وبعد أقلّ من عامين، فرض الاسبان خلالهما حصارا مشدّدا على العاصمة، تمكّنوا أخيرا من اقتحامها وتدميرها ثم قتلوا الملك.
قاوم شعب الأزتيك الغزاة لأشهر بما في حوزتهم من أسلحة وإمكانيات بسيطة. وما لبثوا أن اقتنعوا بعدم قدرتهم على الاستمرار في مواجهة عدوّهم او إلحاق الهزيمة به، فأُجبروا على الرضوخ للحكم الاسباني. وبمساعدة بعض سكّان الأطراف المناوئين للأزتيك بسبب العداوات القديمة، باشر الإسبان تدمير معابدهم ونهب ما كان بداخلها من كنوز الذهب والفضّة وشحنها الى إسبانيا.
وكان هناك عدوّ آخر للأزتيك تمثّل في فيروس الجدري الذي جلبه الغزاة الأوروبيّون معهم وكان جديدا على شعوب الأميركتين. وقد تسبّب في إبادة حوالي 40٪ من السكّان، بينما كان العديد من الإسبان قد اكتسبوا مناعة ضدّه.


أثناء بحثهم عن ذهب الأزتيك، سار الغزاة مسافة بعيدة عبر مناطق جبلية باتجاه وادي المكسيك الكبير. وظلّوا مشغولين لأيّام بتقييم غنائمهم. وأُحضر الصاغة من بلدة قريبة ليصهروا الذهب الذي عثروا عليه ويحوّلوه إلى سبائك.
وكان لدى الإسبان طريقة تعذيب مفضّلة لإجبار السكّان الأصليين على إخبارهم بمكان وجود الذهب، إذ كانوا يُحرقون باطن أقدامهم لدفعهم للاعتراف بما يعرفونه. وقال كورتيس ملخّصا هوسه بالذهب: أنا ورفاقي نعاني من مرض في القلب لا علاج له إلا الذهب"!
كان الوعد بالذهب هائلا في العالم الجديد. وكانت أسطورة "إلدورادو" مدينة الذهب التي بحث عنها العديد من الغزاة في أوجها آنذاك. ولم يتوقّف الناس عن البحث عن المدينة الأسطورية إلا حوالي نهاية القرن التاسع عشر. ويقال إن إمبراطور الإنكا المجاورة ملأ غرفة بالذهب مرّتين مقابل ضمان حرّيته وسلامته بعد غزو الإسبان لأرضه. وحصل قائدهم وجنده المتعطّشون للثروة على آلاف الأرطال من الذهب والفضّة.
لم يتمكّن الإسبان من وزن الكنوز من ذهب ومجوهرات بدقّة، لذا اقترح كورتيس ألا يأخذ أحد نصيبه إلا بعد أن تُقسّم الأسلاب بطريقة عادلة. ولم يكتفوا بسرقة الذهب والفضّة، بل سرقوا أشياء أخرى وصل بعضها الى أبعد من حدود إسبانيا. يقول الرسّام المشهور ألبريشت ديورر إنه رأى ذات مرّة في قصر ملك البلجيك أشياءَ أُهديت إلى الملك، ومصدرها الأرض الجديدة "أي المكسيك" حوالي ذلك الوقت.
ويضيف ديورر مفصّلا ما رآه: شمس كاملة من الذهب وقمر من الفضّة بنفس الحجم، وسعة غرفتين من الأدوات النادرة: أسلحة ودروع وأقواس وسهام وملابس غريبة وأغطية وفُرش وكلّ أنواع الأشياء الرائعة والعجيبة. وكلّ هذه الأشياء ثمينة جدّا ومتقنة الصنع. وقد تعجّبت من العبقرية البارعة التي يتمتّع بها الناس في تلك الأرض البعيدة، ممّا لا أستطيع التعبير عنه بالكلمات".
السجل الأثري لأسلاف الأزتيك يشير إلى أنهم يتحدّرون من الصيّادين الرحّل الذين طاردوا الماموث وغيره من مخلوقات ما قبل التاريخ التي كانت تجوب البحيرات الضحلة في أمريكا الوسطى قبل حوالي 8000 عام.
وبعد سنوات عديدة من التجوال في البراري، رأوا علامة سماوية تخبرهم بأنه، في وقت ما أثناء تجوالهم، سيظهر لهم نسر يحمل ثعبانا في فمه ويقف على شجرة صبّار. وبعد ذلك بوقت طويل، أي حوالي عام 2000 قبل الميلاد، ظهر لهم ذلك النسر الموعود وبدأ أولئك البدو الرحّل في الاستقرار وأنشئوا ما يُعرف الآن بالمكسيك.
والحقيقة أنه لم تكتسب حضارة أخرى، في الماضي أو الحاضر، مثل هذه الصورة المتناقضة التي للأزتيك. فبعض المؤرّخين يرون أنه عندما وصل كورتيس الى ارضهم، كانت إنجازات الأزتيك قد تساوت تقريبا مع كلّ الحضارات الهندية الأخرى في العالم الجديد، بل وتفوّقت عليها أحيانا.
ففي مجال الحكم، طوّر الأزتيك نظام قضاء خاصّ بهم. وكان لديهم نوّاب يحكمون المقاطعات التي امتدّت عبر الأرض من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ. ولربط ولاياتهم، أنشأوا خدمة بريد لا تقلّ كفاءة عن نظيراتها في أوروبّا. وفي مجال العلوم، كانوا على دراية بالطبّ وأجروا تجارب على الأعشاب وصنّفوها بحسب الأمراض التي تشفي منها. وفي مجال الفن، كانت عمارتهم ومنحوتاتهم مبهرة.
لكن مؤرّخين آخرين يتبنّون موقفا مختلفا. فالأزتيك برأيهم كانوا شعبا قاسيا وساديّا بسبب ما قيل عن فظائعهم وتعطّشهم للدماء. وكانوا أيضا، بنظر هؤلاء، مجرّد عصابة من المحاربين الذين كانوا ينطلقون من مدينتهم العظيمة للنهب والسلب وإخضاع مناطق شاسعة لدفع الجزية. وقد أسّسوا دولة شمولية تضمّنت فلسفتها ازدراءً تامّا للفرد.
ولم يكن متصوّرا أن تظهر أيّ حرّية في الفكر أو الفعل في عالم الأزتيك. فقد كان عدم الاستقرار والخوف هما السائدين. وكان الموت يتربّص في كلّ مكان ويشكّل أساس البناء الذي كان فيه الفرد الأزتيكي سجيناً. وفي الغالب فإن ما يقال عن روحانية بعض جوانب حياتهم نابعة أساسا من تقاليد أقدم منهم.

الاثنين، أغسطس 26، 2024

سياحة الموت


يُستخدم مصطلح سياحة الموت، أو السياحة المظلمة كما تُسمّى أحيانا، لوصف السفر إلى الأماكن المرتبطة تاريخيّا بالموت والمآسي والحروب وبمعاناة الإنسانية بشكل عام. وأوّل ظهور للمصطلح كان في عام 1996 على يد كلّ من جون لينون ومالكولم فولي الاستاذين في جامعة غلاسغو الاسكتلندية.
والسياحة المظلمة ليست ظاهرة جديدة. فمنذ زمن قديم انجذب البشر إلى المواقع والأحداث المرتبطة بالموت والكوارث والمعاناة والعنف والقتل. ودائما كان للموت جاذبية منذ أن كان الناس يحضرون معارك المصارعة الدامية في روما القديمة وعمليات الإعدام في لندن وغيرها من مدن العالم الكبيرة خلال القرون الوسطى.
وفي السنوات الأخيرة اكتسبت السياحة المظلمة شعبية متزايدة بين المسافرين حول العالم الذين يبحثون عن مناطق الجذب والأماكن المرتبطة بالموت والمأساة والغرابة والرعب.
قد يبدو الأمر مؤلما أن يزور الناس مثل هذه الأماكن، لكن الحقيقة هي أنها تمثّل جزءا مهمّا من تاريخ الإنسانية، وبعض فصول هذا التاريخ مظلمة ومجلّلة بالفظائع والأحداث الجسام وأعمال الإبادة الجماعية وبالكوارث الطبيعية والمآسي الهائلة. لذلك من المنطقي أن يكون للعديد من المواقع التاريخية التي يزورها السيّاح ماضٍ مظلم مرتبط بالأحداث التي جرت فيها.
وتتضمّن سياحة الموت زيارة مواقع القتل والاغتيالات وميادين المعارك والمقابر وحتى مستودعات وصناديق عظام الموتى، بالإضافة الى السجون سيّئة السمعة في العالم والتي حُوّل بعضها الآن الى متاحف.
كما تشمل زيارة منازل كبار القتلة والمجرمين في التاريخ والمواقع التي اكتُشفت فيها جثث ضحاياهم، ومعسكرات الاعتقال والأراضي التاريخية للمعارك المشهورة والأماكن المرتبطة بالفظائع الجماعية. وتتضمّن أيضا زيارة المواقع المحيطة بالثورات البركانية وزيارة المواقع ذات الصلة بالأحداث الخارقة للطبيعة، من قبيل الأجسام الطائرة والأشباح والأرواح الشرّيرة والمخلوقات الغريبة وما في حكمها.
ومثل هذه المواقع تُعتبر اليوم "مناطق جذب سياحي" وتُنظّم لها زيارات مصحوبة بأدلّاء ومرشدين. والتعرّف على بعض المواقع المنكوبة وعلى الأحداث المتّصلة بها، كما روتها المجتمعات التي عانت منها، يمكن أن يكون أمرا تعليميّا ومحفّزا للتفكير الإيجابي وباعثا على التامّل المفيد.
وقائمة الأماكن المظلمة طويلة. لكن أهمّها النصب التذكاري لضحايا مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، وغابة أوكيغاهارا اليابانية والمعروفة باسم "غابة الانتحار"، وجدار برلين، وسجن "هوا لو" سيّئ السمعة والمتحف العسكري في هانوي بفيتنام، ومتحف لاس مومياس في المكسيك والذي يوصف بالمتحف الأكثر رعبا في العالم، والكولوسيوم الروماني الذي شهد ألعاب المصارعة العنيفة في روما، وقلعة بويناري في رومانيا التي كانت موطنا لدراكيولا او مصّاص الدماء، وحديقة السموم في إنغلترا التي يقال إنها تحتوي على أكثر من مائة نوع من النباتات السامّة والخطيرة.

❉ ❉ ❉


❉ ❉ ❉

كما تتضمّن القائمة قاعة مذبحة نانجينغ التذكارية في الصين، ومواقع حقول القتل المرتبطة بنظام الخمير الحمر في "بنوم بن" بكمبوديا، ومتحف مخلّفات الحرب في مدينة "هو تشي مين" بفيتنام، ومعسكر أوشفيتز النازي في بولندا، وموقع غراوند زيرو في نيويورك، وسراديب الموتى في باريس، وأطلال بومبي الإيطالية التي دُفنت بفعل ثوران بركان فيزوف عام 79 م.
ويمكن أن يضاف الى هذه الأماكن موقع كارثة تشيرنوبيل النووية في أوكرانيا، ومتحف ومنزل بابلو إسكوبار تاجر المخدّرات الكولومبي المشهور، وبرج لندن الذي شهد عمليات الإعدام الشهيرة بما فيها إعدام ملكتين سابقتين هما آن بولين وكاثرين هاوارد، بالإضافة الى العديد من مواقع الصلب والدفن وأماكن الإعدامات العامّة في أوربّا في العصور الوسطى.
وعادة ما يُنصح الأشخاص الذي ينوون زيارة أماكن الأحداث المؤلمة أن يفكّروا أوّلا في سبب الرغبة في زيارة هذا المكان او ذاك، وكيف يمكن أن تؤثّر الزيارة عليهم عاطفيا. كما يُنصحون بأن يقرؤوا عن العادات والأعراف المحلية حتى يتعلّموا إظهار الاحترام، وأن يكونوا حذرين عند التقاط الصور ويتجنّبوا أيّ تصرّف قد يبدو استغلاليا أو يتسبّب في أيّ شكل من اشكال الإثارة.
هل السياحة المظلمة أخلاقية؟ سيّئة؟ أم أنها مفيدة وممّا يُنصح به؟
بالنسبة للبعض قد تبدو غير مناسبة، لأنها تنطوي على نوع من الاستغلال للمعاناة الإنسانية. فهي تستغل افتتاننا بالغرائبية، فتقدّم لنا الموتى على أنهم مذهلون في مجتمع صار معتادا على إضفاء الطابع التجاري على كلّ شيء بتغليفه ومن ثم بيعه، بما في ذلك حتى الموت المفجع أو المأساوي، وهو ما يثير قضايا أخلاقية ومعنوية معقّدة حول سلوكنا كبشر.
وعلى مستوى أعم، قد لا تكون هذه السياحة مناسبة للجميع، لذا تأكّد من أنك سترتاح في المكان الذي ستذهب إليه، وفكّر متى ستذهب ومع من تذهب، وكيف تتصرّف عندما تصل إلى وجهتك.
لكن آخرين يرون أن السياحة المظلمة يمكن أن تعمل على تعزيز فهمنا لأحداث الماضي وتعميق قدرتنا على التعاطف مع الآخر ومحاولة فهم الشرّ الذي يمكن أن يرتكبه الانسان. كما يمكن أن تُصالحنا مع حقيقتنا الفانية من خلال موت الآخرين وتحذيرنا من تاريخنا الدامي وعواقب معاركنا وحماقاتنا ومصائبنا. وبشكل عام، فإن السياحة المظلمة تصلنا بالماضي على أكثر من مستوى ويمكن أن تكون أداة للتعلّم وفرصة للتعامل مع التاريخ والتأمّل في مآسيه.
من جهة أخرى، يمكن أن تعلّمنا السياحة المظلمة أو سياحة الموت أن البشر جميعا متّحدون في الذاكرة وأن الأحياء والأموات يمكن أن يجتمعوا معا بروح السلام والمصالحة. كما يمكن أن توفّر هذه السياحة فهما أعمق للعالم من خلال السير عبر دهاليز الماضي المظلم للإنسانية واستنباط الدروس والعِبَر من أحداث ذلك الماضي وآلامه.

Credits
dark-tourism.com