:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أغسطس 29، 2024

قصّة الأزتيك/2


كان إنجاز الأزتيك الأهمّ هو بناء إحدى أكبر الإمبراطوريات في تاريخ أمريكا الوسطى. وفي أوج عظمتهم، حكَموا نحو عشرة ملايين شخص، أي ما يقرب من نصف سكّان أمريكا الوسطى في القرن السادس عشر. وكانت عاصمتهم تينوتشتيتلان أكبر مدينة في العالم وجوهرة تاج عالَم ما قبل كولومبوس بعدد سكان يقدّر بـ 200 ألف نسمة. كانت مدينة مخطّطة ومحصّنة جيّدا. وكانت معالمها عظيمة لدرجة أن الإسبان ذُهلوا منها وصَعُب عليهم وصف روعتها بالكلمات.
ولمّا وصل الإسبان إلى هناك، جاءوا من ثقافة موجّهة نحو الحرب وكانوا متمرّسين في خوض المعارك والحروب. وعندما حاصروا تينوتشتيتلان، قطعوا عن أهلها المؤن والطعام والماء وقتلوا المئات من نبلائها أثناء وليمة احتفالية، ما أدّى إلى مزيد من الاضطرابات بينهم وبين الأهالي.
واضطرّ الأزتيك لمقاتلتهم بشجاعة وانتصروا في بعض المعارك. لكنهم خسروا الأرض بالتدريج بسبب ضعف تسليحهم، إذ لم يكن لديهم غير السهام والنشاب والرماح. وكانوا يميلون إلى احتجاز الأسرى من الإسبان لتقديمهم كقرابين للآلهة بدلاً من قتلهم في المعركة.
أما الإسبان فكانت دروعهم الفولاذية تحميهم من أسلحة الأزتيك التي لم تتمكّن من اختراق دفاعاتهم. وكانت أسلحتهم الناريّة تُصدر دخانا وضوضاء ترعب خصومهم وتربكهم. وكان لديهم سلاح فرسان يمكنه مطاردة المحاربين المنسحبين وكلاب مدرّبة على تعقّب الأعداء وتطويقهم وخيول قادرة على سحق الخصوم.
ويقال إنه في ذروة حصار العاصمة، نظر أحد مقاتلي الأزتيك المنهكين والممدّدين على أرض المعركة حوله فرأى امرأة ظنّها السيّدة العذراء التي سبق أن رأى الإسبان يحملون صورها. لكنها لم تكن صورة مخلوق سماوي، بل كانت امرأة حقيقية من لحم ودم. كان اسمها ماريّا دي استرادا؛ إحدى النساء الإسبانيات القليلات اللاتي سافرن كغزاة إلى العالم الجديد. وكانت تُلقّب بالسيّدة العظيمة، وقد قاتلت إلى جانب زوجها في كلّ معركة.
كان الأزتيك يركّزون في الحرب على إظهار البطولة النادرة وأخذ الأسرى لتلقّي الثناء من الإمبراطور، بينما اهتمّ الإسبان بالقتل بلا رحمة وكانوا يحاربون في أرض غريبة كانت الهزيمة فيها تعني موتا مروّعا ومحقّقا.
ممّا يأخذه الكثيرون على الأزتيك تمجيدهم للموت وهدر الدماء في الحروب وتقديم قرابين بشرية لآلهتهم. لكن بعض المؤرّخين يجادلون بأنه مهما بدا عالم الأزتيك مرعبا ومتوحّشا وغير عقلاني أحيانا، فإن الثقافة الغربية لم تكن يوما أقلّ إدمانا على القتل والتدمير حتى في القرون الأخيرة.
يقول المؤرّخ ألفونسو كاسو: إن تقديم القرابين البشرية بين الأزتيك، مهما كانت هذه الطقوس بغيضة بالنسبة لنا، لم تكن أكثر من واحدة من العديد من الانحرافات التي اتخذت مظهرا دينيا في تاريخ البشرية. لكن لدى غيرهم ممارسات أكثر فظاعة: حرق الزنادقة في هذه الحياة لإنقاذهم من نيران الجحيم الأبدية في الحياة الأخرى، وتدمير الأفراد الذين يُفترض أنهم من عِرق أدنى لمنعهم من تلويث العِرق الأنقى، وما شابه ذلك. وتلك وغيرها أمثلة على ممارسات مماثلة وُجدت بشكل متكرّر في تاريخ الأيديولوجيات والأديان".
وهناك من يرى أنه من الصعب أن نفهم اليوم فهما حقيقيّا ما تعنيه التضحية البشرية بالنسبة للأزتيك في القرن السادس عشر. كانوا يعتقدون أنه إذا لم يقدّموا تضحيات كافية لآلهتهم فلن تكون الآلهة قويّة بما يكفي لمنع نهاية العالم. وكانت تلك المعتقدات عادية بالنسبة لشعب يعيش في مناطق معرّضة دائما للكوارث الطبيعية كالزلازل المدمّرة ونحوها.
لكن يمكن ملاحظة أن كلّ ثقافة لديها فكرتها الخاصّة عمّا هو قاسٍ وما هو غير ذلك. ففي ذروة صعودهم، سفك الرومان من دماء البشر في حلبات مصارعتهم من أجل تسلية أنفسهم أكثر بكثير ممّا أراقه الأزتيك أمام أصنامهم.
أمّا الغزاة الاسبان أنفسهم فقد أمعنوا في عمليات الحرق والتشويه والتعذيب وكانوا أكثر قسوة بكثير من كهنة البلاد الأصليين الذين كانوا يشرفون على القرابين. وإذا كان الناس اليوم يرتعدون من حكايات طقوس الدم في المكسيك القديمة، ففي أيّامنا هذه هناك أمم تدّعي التحضّر والمدنية بينما تبيد الآلاف، وحتى الملايين، من البشر وبما لا يقارَن مطلقا بعدد البشر الذين ضحّى بهم الأزتيك في طقوسهم الدينية.
كان الأزتيك، بحسب بعض من أرّخوا لامبراطوريّتهم، معروفين بعظمتهم وضعفهم وقسوتهم وهوسهم بسرّ الدم والموت، وفي نفس الوقت بحساسيتهم لجمال الزهور والطيور والأحجار الثمينة وقوّة شعورهم الديني. وكانوا أقوياء في التعامل مع الآخرين. ولم يمنعهم تعلّقهم بأرضهم من النظر باستمرار إلى السماء والنجوم.
ومع كلّ هذا، كان هؤلاء المكسيكيون القدامى رجالا متحضّرين إلى درجة ما. كما أن ثقافتهم التي دُمّرت فجأة هي إحدى الثقافات التي يمكن للبشرية أن تفخر بها. إن هنود أناهواك (أي الأزتيك) - بحسب أحد المؤرّخين – سواءً كانوا عند سفوح براكينهم أو على ضفاف بحيراتهم، يمكن اعتبارهم من بين صنّاع الحضارة الإنسانية".
كان هناك اختلاف واضح في العادات والثقافة بين الغزاة وأصحاب الأرض. قيل مثلا أنه عندما وصل الإسبان لأوّل مرّة إلى المكسيك، كُلّف بعض السكّان الأصليين بأن يحملوا مباخر لمرافقتهم أينما ذهبوا. واعتقد الإسبان أن تلك علامة على التشريف الإلهي! لكن مصادر الأزتيك تذكر أنهم وجدوا رائحة الوافدين الجدد لا تطاق.
وكان من عادة شعب الأزتيك تربية سلالة من الكلاب الخالية من الشعر وذلك لأكل لحمها. وعندما رأى الإسبان تلك الكلاب مشويةً على موائد طعامهم، اعتبروا ذلك شكلا من أشكال البربرية. وفيما بعد استخدموا الكلاب لمطاردة الهنود الهاربين وتمزيق لحمهم إربا!
عالم الأزتيك يقدّم لنا مفارقة عميقة. فعلى الرغم من أن الجميع تقريبا قد سمعوا شيئا عن طقوس سفك الدماء عندهم، إلا أنه لا أحد تقريبا يعرف أنهم كانوا صانعي كلمات وألغاز مشهورين، وقد أثارت صياغاتهم الفلسفية إعجاب العديد من الناس، بمن فيهم الإسبان أنفسهم.
يقول الشاعر المكسيكي الكبير أوكتافيو باث واصفاً ميراث أسلافه الأقدمين من الأزتيك: كانوا شعبا من العسكر والكهنة والمنجّمين والمضحّين والشعراء. وكانت تتخلّل ذلك العالم ذا الألوان الزاهية والعواطف الغامضة ومضات شعرية قصيرة ومذهلة. كانت تجلّيات ومفارقات تلك الأمّة استثنائية ورهيبة: من الأساطير الفلكية إلى استعارات الشعراء، ومن الطقوس اليومية إلى تأمّلات الكهنة، إلى الهوس برائحة الدم الكريهة. ومثل عجلات التعذيب التي تظهر في روايات "الماركيز دو ساد"، كان عام الأزتيك عبارة عن دورة مدّتها 18 شهرا غارقةً في الدماء؛ 18 طريقة مختلفة للموت: من إطلاق النار بالسهام إلى الإغراق ومن الخنق إلى الذبح والسلخ".


ويقول الشاعر الإنغليزي ديفيد هيربرت لورانس واصفا آلهة الأزتيك: كانوا مجموعة غير محبوبة. في أساطيرهم ليس هناك نعمة ولا سحر ولا شعر. فقط هذه الضغينة الدائمة: إله يحسد آخر، آلهة تحسد البشر على وجودهم، وبشر يحسدون الحيوانات على وجودها. أما إلهة الحبّ عندهم فهي رمز للقذارة والدعارة وآكلة للأوساخ ومرعبة ودون لمسة من حنان".
ويقول مؤرّخ يُدعى دي بيلفوريست: إن إمبراطورية الأزتيك، على الرغم من تألّقها وبنية قوّتها المثيرة للإعجاب، لم تكن مبنية على شيء أكثر صلابة من النزعة العسكرية القاسية وطقوس الإبادة الجماعية. في الحرب، الأزتيك هم أقسى الناس الذين يمكن تخيّلهم لأنهم لم يكونوا يستثنون أحدا، ولا حتى أقرب أقربائهم، ولا يحترمون العمر ولا الجنس. إنهم يقتلون ويأكلون أعدائهم إذا لم يتمكّنوا من أخذهم أسرى.
وقد سقطوا أمام جبروت الحديد الاسباني والكراهية المكبوتة للشعوب التي سبق لهم "أي للأزتيك" أن أخضعوها. وقد انضمّت تلك الشعوب إلى الإسبان بسعادة وحماس ضدّ الأزتيك "المفترسين القساة" الذين كانوا يهدّدونهم جميعاً. وبمجرّد أن تضافرت جهود ذلك التحالف، أصبحت أيّام الأزتيك معدودة.
ويقول المؤرّخ أوزوالد شبنغلر: الأزتيك مثال على ثقافة انتهت بالموت العنيف. لم تُجوّع أو تُقمع، بل قُتلت وهي في كامل مجد انكشافها، ودُمّرت مثل زهرة عبّاد شمسٍ قُطع رأسها بمجرّد مرور شخص بجوارها. كان لهم سياسة شاملة ونظام ماليّ منظّم وتشريعات متطوّرة وأفكار إدارية وتقاليد اقتصادية. لكن ذلك كلّه انتهى في لمح البصر على يد حفنة من القراصنة المغامرين.
ويرى مؤرّخ آخر أن من عاش من الأزتيك بعد الغزو الإسباني لم يندموا على خسارة الماضي وتدمير النظام القديم. وبغضّ النظر عن مدى قسوة الغزاة، كان الطاغية الذي أبقاهم في العبودية أقسى وأقل ذكاءً بكثير. فلم يعد السكّان يُجبَرون على رؤية أطفالهم وهم يُضحّى بهم أو يخافون من موتهم على البلاط على يد ذلك الحُكم الإرهابي الذي يهيمن عليه الذكور.
وقد جلب الإسبان معهم حيوانات النقل كالخيول والحمير وعلّموا السكّان الأصليين استخدام مصابيح الحديد والزيت لتحسين أسلوب معيشتهم وعلّموهم اللغة اللاتينية. وبدأ الأزتيك يأكلون لحم الماعز والخنازير والدجاج والأغنام والأبقار بعد أن أحضرها الإسبان معهم إلى العالم الجديد. وفي المقابل أخذوا منهم الذهب والفضّة والطماطم والشوكولاتة".
لكن من المهم أن ندرك أن المستعمرين الأوروبيين تعمّدوا في الكثير من الأحيان تصوير الأمريكيين الأصليين على أنهم برابرة غير متحضّرين، لكي يعزّزوا ادعاءاتهم بأن لهم الحقّ في غزو واحتلال بلادهم ونهب ثرواتهم و"تمسيحهم" و"تحضيرهم". لكن الأدلّة التاريخية والأثرية تكذّب ذلك الزعم، فقد كانت ثقافة الأزتيك غنيّة ومعقّدة ومتطوّرة للغاية. وكان منهم مهندسون ورياضيون بارعون شيّدوا قنوات وقصورا وأهرامات.
وهناك خرافة أخرى روّج لها المستعمرون، ومفادها أن وصول الإسبان كان علامة على أن عالم الأزتيك كان يقترب من نهايته، وبالتالي فقد قبلوا مصيرهم المكتوب وانقرضوا لأنهم لم يعودوا ينتمون للعالم الحديث. وهذه الرواية تدعم مزاعم اسبانيا عن "الغزو الخيري" وأن الإسبان لم يكونوا أشرارا بل كانوا فقط يحقّقون نبوءة الأزتيك بزوال دولتهم.
ويرى كثيرون أنه حتى ما قيل عن أن الأزتيك رحبّوا بالإسبان بأذرع مفتوحة باعتبارهم تجسيدا لآلهتهم كان كذبة، لأنها تفترض ضمنا أن الأزتيك شعب ساذج يؤمنون بالخرافات ومعجبون بالأوروبيين، أي أنهم كانوا يتوسّلون الاستعمار ويعتبرون ذلك بمثابة يقين ديني. وبحسب بعض المؤرّخين فإن "قصّة الآلهة" لم تُذكر حتى في روايات الغزو الإسباني ولم تظهر الا بعد الغزو بعشر سنوات على الأقل.
وختاما، التاريخ غالبا ما يكتبه المنتصرون. والإسبان، الذين أطاحوا بامبراطورية الأزتيك ودمّروا حضارتها ونهبوا خيراتها، هم الذين كتبوا كلّ الروايات تقريبا عن تلك الفترة. لذا يجب قراءة ما كتبوه بقدر كبير من التمحيص والشك.

Credits
aztec-history.com