:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، سبتمبر 27، 2024

فكرة الخلود في الفنّ الصيني


احترام المجتمع الصيني للمعمّرين يُعتبر قيمة كونفوشية عريقة. وبحثُ الفرد الصينيّ عن العمر المديد هو هَمّ ابتدعته الطاويّة وأنتج انشغالا بصحّة الإنسان وبمسألة الخلود، وانعكس ذلك كلّه على الفنون التي انتجتها الصين على مدى ثلاثة آلاف عام وما اتّسمت به من تنوّع وثراء.
الفنّ الصيني اهتمّ منذ القدم بإبراز الأشخاص الخالدين والأسطوريين، كما ركّز على بعض الموتيفات المرتبطة بالخلود، كثمرة الخوخ والغزال وطائر الكركي والصخور والماء وعشبة الشباب الأبدي وغيرها.
وتتواتر في الفلكلور الصيني قصص عن "ملكة الأرض الغربية"، وهي إلهة قديمة كانت تحكم جنّة في جبال كونلون غرب الصين. وكان أهل تلك الأرض يعيشون حياة مخلّدة، فهم لا يعرفون الموت أو الشيخوخة ولا يشعرون بمرور الزمن أو ضغوط الحياة. والفضل في ذلك لأشجار الخوخ التي كانت تنمو في بستان الملكة السماويّ وتمنح إكسير الخلود والحياة الأبدية لكلّ من يأكل من ثمارها.
وأشهر قصّة تُروى عن ملكة الأرض الغربية هي تلك التي تتحدّث عن اتصالها بالملك مو، أحد أعظم حكّام تشو القديمة. فقد انطلق الملك ذات يوم في رحلة مع فرسانه إلى المناطق الغربية البعيدة عن إمبراطوريته. وعلى جبل كونلون الأسطوري، التقى بملكة الأرض الغربية ونشأت بينهما علاقة حبّ.
وقد أهدى الملك مو الملكة الأم كنوزا مهمّة على أمل أن تمنحه الخلود. لكنه فشل في الاستفادة من تعاليمها السرّية، وفي النهاية كان عليه أن يعود إلى عالم البشر ولا ينال الخلود. وكثيرا ما تقارن العلاقة بين ملكة الأرض الغربية والملك بعلاقة معلّم وتلميذ طاويّ. لكن في النهاية، يموت التلميذ مثله مثل بقيّة البشر الفانين.
وبسبب ارتباط الخوخ بالخلود في الثقافة الصينية، فإنه يظهر مرسوما بكثرة على كؤوس الشاي والأواني المنزلية وأدوات الزينة وعلى مختلف منتجات الحرف اليدوية وغيرها. وعادةً ما تظهر تلك الملكة في الرسم وهي ترتدي غطاء رأس مميّزا تتدلّى من أطرافه ثمار الخوخ.
ومن رموز الخلود الأخرى في الثقافة الصينية عشبة الشباب الأبدي الغامضة التي تمنع ظهور الشيخوخة والمرض لأيّ شخص يتعاطاها ولو مرّة واحدة. ويقال إنها تنمو في "أرض الخالدين" مع شروق الشمس في الاعتدالين الربيعي والخريفي.
ومنذ قديم الزمان، اعتقد الصينيون أن الغزال يمتلك قوى سحرية لطرد الحظّ السيّئ والمرض. كما ينُظر إليه على أنه حيوان مبارك ويمكن أن يجلب الحظ السعيد، وبالتالي أصبح يرتبط بالحياة الأبدية أو الولادة المتجدّدة.
وقدرة الغزال على أن يتخلّص من قرنيه في وقت متأخّر من كلّ عام، ومن ثم نموّ قرنين جديدين له في الربيع التالي، مرتبطة بالولادة المتجدّدة والخلود. ولآلاف السنين عاش الغزال في الفنّ الذي يزيّن المعابد البوذية.
وهناك أيضا "الكركي" الذي يعتبره الصينيون طائرا ميمونا، وكان يُعتقد أن الخالدين يمتطون ظهر هذا الطائر إلى عالمهم السماوي. وحسب الأسطورة، يمكن لهذه الطيور أن تقطع مسافات طويلة وأن تصل الى أماكن بعيدة مثل مجرّة درب التبّانة وأن تعيش حتى 1600 عام دون أن تأكل أيّ شيء.


وفي المعتقدات الشعبية الصينية، يرتبط طائر الكركي بالأشياء النظيفة والجميلة فقط وبتجنّب المشاعر السيّئة حتى يتمكّن من إطالة عمره. كما يُنظر إليه على أنه أنبل أنواع الطيور على الإطلاق. وهو رمز للحكيم الذي يعيش بهدوء في عزلة بعيدا عن العالم الدنيوي.
ولهذه الأسباب، اعتُبرت هذه الطيور رمزا للحياة الطويلة، وكانت صورها تزيّن الهدايا التي تتمنّى للمُهدى إليهم حياة مديدة. وكان العلماء الصينيون يضعون شعار طائر الكركي المطرّز على صدور وظهور أرديتهم، في حين كانت صوره تُنقش على الأشياء اليومية كتعبير عن التمنيّات بالحياة الطويلة والحظّ السعيد.
ومن موتيفات طول العمر الأخرى عند الصينيين الصخور. ولأنها من بين أكثر الأشياء صلابةً في البيئة الطبيعية، فإنها عصيّة على البِلى أو التلف وتقف بثبات في صمت على مدى آلاف السنين، متحديةً الرياح والأمطار، كالشخص المثالي في التقاليد الكونفوشية. وفي الوقت نفسه، فإن أشكال الصخور الرشيقة التي نحتتها قوى الطبيعية جعلتها موضوعا جذّابا لتصويرها في الفن.
والماء أيضا رمز للخلود عند الصينيين، فهو مشبع بالحيوية وقوّة التطهير ومصدر لكلّ أشكال الحياة على الأرض التي بدأت في بيئة مائية. ويقدَّم الماء في الأساطير على أنه أصل الحياة ومنقذها، وهذا ما يفسّر اختياره كرمز للحياة الطويلة.
وفي ثقافة الصين، يُعتبر جبلا بانغلاي وكونلون المقدّسان فردوسَي الخلود. ووفقا لسجلات مؤرّخين من القرن الأوّل قبل الميلاد، أرسل حكّام الصين في فترة الممالك المتحاربة مبعوثين للبحث عن الجبال المقدّسة. وقيل إن هذه الأماكن مقارّ لإقامة الحكماء الخالدين وأراضٍ للثروات الوفيرة، مع وحوش أسطورية ونباتات غريبة.
وفي وقت لاحق، في فترة الأُسَر الستّ حتى أسرة تانغ، حفّز صعود الطاوية المتزايد أتباع هذه الفلسفة على اعتبار بعض الجبال ملاذات للخالدين. وبالنسبة للباحثين عن الخلود، أصبحت الجبال الشهيرة وملاجئ الكهوف وسيلة للقاء الخالدين والصعود إلى عالم الحياة الأبدية.
ومنذ أقدم العصور كان الصينيون وشعوب أخرى غيرهم يتصوّرون أن الآلهة تعيش على قمم الجبال الشاهقة بحكم قربها من السماء. وفي الأساطير الصينية، نجد مصطلحات مثل الجبال الثلاثة المقدّسة والجبال الخمسة وغيرها.
ومن أشهر هذه الجبال كونلون، وهو جبل مهيب ومليء بالطاقة الخالدة وذو ارتباط وثيق بالعديد من الأساطير التي وُجدت على أرض الصين منذ أقدم الأزمنة. وفي التاريخ الثقافي للأمّة الصينية، يُعتبر كونلون جبلا مقدّسا و"سلفاً لجميع الجبال"، كما أنه مسقط رأس الأمّة الصينية وموئل أجدادها. وهو أيضا مركز السماء والأرض والدرَج المؤدّي إلى السماء. وقد اجتذب الجبل، وما يزال، العديد من الشعراء الذين اتخذوه مكانا لسكناهم، ومن بين هؤلاء كلّ من "لي باي" و"دو فو"، أشهر شاعرين صينيين.
وتعدّ المياه الذائبة للأنهار الجليدية في جبل كونلون مصدرا للعديد من الأنهار الرئيسية في البلاد، مثل اليانغتسي والنهر الأصفر ونهر لانتسانغ ونهر تريم وغيرها. وقد اكتُشفت في هذا الجبل مئات من عظام الديناصورات. ويروي الناس الذين يعيشون هناك قصصا عن التنانين التي تعيش في كهوف الجبل.
ويقال إنه في هذا الجبل أيضا عاش الحكماء الخالدون، وهم جزء من آلهة الطاوية والدين الصيني. وكثيراً ما يصوَّر هؤلاء في الفنون البصرية على أنهم يعيشون في قصور سماوية فخمة ويتمتّعون بقدرة خارقة على ركوب الوحوش الغريبة والطيران في السماء أو المشي على مياه البحار. وقد استخدم الرسّامون من الماضي قوّة خيالهم لمحاولة تَصوّر هذه العوالم. وتعرض اللوحات، خاصّة تلك التي تعود إلى أسر سونغ ويوان ومينغ وتشينغ، الجوانب الغنيّة والمتنوّعة لتلك الجبال الخالدة.

Credits
mandarinblueprint.com
asia-archive.si.edu

الأربعاء، سبتمبر 25، 2024

أرواح دانتي


في ملحمته المؤلّفة من ثلاثة أجزاء، يصف دانتي رحلته الخيالية عبر الجحيم والمطهّر، وأخيراً رؤيته لرحلة مذهلة عبر الجنّة (أو الفردوس). وعلى طول الطريق، يواجه مجموعة من الأفراد الذين كان يعرفهم جيّداً أو يعرفهم عن قرب، فيتوصّل إلى طريقة مثالية لمكافأة أولئك الذين كان يوافقهم ومعاقبة الذين اعتبرهم أشراراً. فيحمل معه الأشخاص الذين كان يعتقد أنهم يستحقّون الجنّة، بينما يملأ جهنّمه بأولئك "الخطّائين والدنيئين" من عصره ومن عصور سابقة.
وقد كُتبت مجلّدات عديدة عن الشاعر وكتابه. لكن إجمالا لم تسفر تلك الكتابات عن أيّ نتائج مهمّة، بسبب ضياع سيرته الذاتية إلى الأبد. كان دانتي رجلاً متجوّلاً وحزيناً، ولم يدوَّن عنه الكثير من المعلومات أثناء حياته. وما كُتب عنه اختفى معظمه في غبار الزمن الطويل الذي يفصلنا عنه الآن.
فقد مرّت سبعة قرون منذ توقّف عن الكتابة والعيش. وبعد كلّ التعليقات، فإن الكتاب نفسه، أي "الكوميديا الإلهية"، هو كلّ ما نعرفه عن دانتي. وربّما نضيف صورة للرجل تُنسب إلى الرسّام جيوتو. وهناك لوحة أخرى "فوق" رسمها له الفنّان الإنغليزي من أصل إيطالي غابرييل روزيتي.
وفي كلا الصورتين، يظهر دانتي ملفوفاً بالحزن والألم. هذا هو الوجه الأكثر حزنا على الإطلاق؛ وجه مأساويّ ومثير للمشاعر، تشي ملامحه وكأن صاحبه متجمّد في تناقض حادّ، في حالة إنكار وعزلة وألم ويأس. روح ناعمة خفيفة، لكن تبدو صارمة ولا تقبل المساومة!
ومع ذلك، فهو أيضا ألم صامت واحتقار صامت: تنثني الشفاه في نوع من الازدراء للشيء الذي يأكل قلبه كما لو كان شيئا حقيرا تافها، وكأن من كانت لديه القدرة على تعذيبه وخنقه أعظم منه. إنه وجه شخص يحتجّ تماما ويخوض معركة مدى الحياة بلا استسلام. كلّ المودّة تحوّلت إلى سخط، سخط لا هوادة فيه، بطيء وهادئ وصامت مثل عين قدّيس قديم!
والعين أيضا تنظر في نوع من المفاجأة والتساؤل: لماذا حدث ما حدث؟ غضِبَ الأمير فلماذا يغضب الآخرون؟! هذا هو دانتي، هكذا ينظر هذا الصوت الذي صمت سبعمائة عام وهكذا يغنّي لنا أغنيته الصوفية التي لا يمكن فهمها.
القليل الذي نعرفه عن حياة دانتي يتوافق جيّدا مع هذه الصورة ومع هذا الكتاب. ولد في فلورنسا، في الطبقة العليا من المجتمع، في عام 1265. وكان تعليمه هو الأفضل في ذلك الوقت: الكثير من اللاهوت المدرسي والمنطق الأرسطي وبعض الكلاسيكيات اللاتينية.
وبطبيعته الذكيّة الجادّة، اكتسب من كلّ علم أفضل ما فيه. كان لديه فهم واضح ودقّة كبيرة. وكان يعرف بشكل جيّد ما يكمن بالقرب منه. ولكن في مثل ذلك الوقت، حيث لم تكن هناك كتب مطبوعة أو علاقات حرّة، لم يكن بوسع دانتي أن يعرف جيّدا ما هو أبعد. وفي حياته، خرج مرّتين في حملة عسكرية كجنديّ لدولة فلورنسا. وفي عامه الخامس والثلاثين، وبفضل تدرّج طبيعي في الموهبة والخدمة، أصبح قاضيا كبيرا في فلورنسا.
وقد التقى في صباه بفتاة صغيرة جميلة تُدعى بياتريس "أو بياتريتشا بالايطالية" بورتيناري. كانت في مثل سنّه ورتبته. وكبُر منذ ذلك الحين وأصبح يراها من وقت لآخر ومن بعيد. ويعرف الناس روايته المؤثّرة عن هذه العلاقة ثم انفصالهما وزواج الفتاة من شخص آخر ثم وفاتها بعد ذلك بفترة وجيزة. وبياتريس شخصية عظيمة في قصيدة دانتي. ويبدو أنها لعبت دورا مهمّا في حياته.


وعندما كتب عنها كمرشدة له عبر الأفلاك الدوّارة إلى الفردوس، وفَى دانتي أخيراً بوعده أن يكتب عنها ما لم يكتبه أحد قطّ عن امرأة. ومن بين جميع الكائنات، بدا وكأنها بعيدة عنه في الأبدية المظلمة رغم أنها الوحيدة التي أحبّها بكلّ عاطفته. لكنها ماتت فجأة، أما دانتي نفسه فقد تزوّج. لكن يبدو أنه كان بعيدا جدّا عن السعادة. ولم يكن من السهل إسعاد ذلك الرجل الصارم الجادّ ذي الانفعالات القويّة والطبيعة الحادّة.
ولو سارت الأمور على ما يرام وكما أراد دانتي، لكان ممكنا أن يصبح عمدة لمدينة فلورنسا أو بوديستا أو أيّ مدينة أخرى. لكن شاء القدر أن يكون للشاعر مصير أسمى، وهو الذي كافح كرجل يقاد الى الموت والصلب. لم يكن يعرف، أكثر منّا، ما هي السعادة الحقيقية أو التعاسة الحقيقية.
في دير دانتي، ارتفعت الاضطرابات المربكة إلى مستوى عالٍ، حتى أن دانتي، الذي بدا أن حزبه الأقوى، أُلقي مع أصدقائه فجأة الى المنفى وحُكِم عليه منذ ذلك الحين بحياة من البؤس والتجوال وصودرت كلّ ممتلكاته وأكثر. وكان لديه شعور شرس بأن هذا كان ظلما فادحا وشرّا في نظر الله والإنسان. وقد حاول بكلّ ما في وسعه أن يعاد النظر في الحكم بلا جدوى.
وهناك سجلّ لا يزال موجودا في أرشيف فلورنسا يقضي بإحراق دانتي أينما تمّ القبض عليه حيّا، نعم الحرق حيّا! هكذا تقول وثيقة مدنية غريبة للغاية. وهناك وثيقة أخرى غريبة أيضا، صدرت بعد سنوات عديدة، وهي رسالة كتبها دانتي إلى قضاة فلورنسا ردّاً على اقتراح أكثر اعتدالاً قدّموه له، وذلك بأن يعود بشرط الاعتذار ودفع غرامة. فأجاب بفخر صارم وعزيمة ثابتة: إذا لم أستطع العودة دون أن أتهم نفسي بالذنب فلن أعود أبداً".
الآن لم يعد لدانتي وطن في هذا العالم. وأصبح يتنقّل من راعٍ إلى راعٍ ومن مكان لآخر وأثبت بكلماته المريرة كم هو صعب الطريق!". لم يكن دانتي، الفقير المنفيّ، بطبيعته الجادّة المغرورة ومزاجه المتقلّب، رجلاً قادراً على استرضاء الحكّام. ويروي عنه بترارك أنه عندما كان في بلاط الأمير "ديلا سكالا"، وقف هذا الأخير بين حاشيته مبتهجا مسرورا يحيط به المهرّجون والمضحِكون.
وعندما التفت إلى دانتي، قال له وهو يشير الى أحد المهرّجين: أليس من الغريب الآن أن يجعل هذا الأحمق المسكين نفسه مسليّا للغاية، بينما أنت الرجل الحكيم تجلس هناك يوما بعد يوم وليس لديك ما تسلّينا به على الإطلاق؟". وقيل ان دانتي أجاب بطريقة أغضبت الدوق. وثبت أن مثل هذا الشاعر، بطريقته الصامتة المتغطرسة وسخريته وأحزانه، غير مقدّر له أن ينجح في البلاط.
وبمرور الوقت، أصبح من الواضح أنه لم يعد لديه أيّ مكان للراحة في هذه الأرض. لقد طرده العالم الأرضي ليتجوّل طويلا طويلا. وأخيرا وجد له ملاذا عند دوق ڤيرونا. وأصبح هناك الآن قلب يحبّه ومكان يأوي إليه ويواري فيه بعض حزنه المقيم.
الممالك الثلاث في "الكوميديا الإلهية"، الجحيم، والمطهّر، والفردوس، تطلّ على بعضها البعض وكأنها أقسام من مبنى عظيم. إنها كاتدرائية عالمية خارقة للطبيعة، متراكمة هناك، وصارمة ومهيبة ورهيبة. هذا هو "عالم أرواح" دانتي! وقد اعتاد أهل ڤيرونا عندما يرون الشاعر في الشوارع أن يقولوا: أنظروا! هذا هو الرجل الذي كان في الجحيم!". نعم، لقد كان في الجحيم، في الجحيم بما فيه الكفاية، في حزن شديد وصراع طويل، كما هو الحال بالتأكيد مع أمثاله.
ذات مرّة، قال كاتب معاصر عن "الكوميديا الإلهية" إنها نشأت من المناظر الطبيعية الخضراء المزروعة بعناية فائقة في الشعر الإيطالي القديم، وكأنها جبل صخري ضخم مغطّى بالغيوم بشكل لا يمكن اختراقه". في عمل دانتي، كلّ شيء يبدو وكأنه منصهر في حرارة الشمس. ونحن لا نصبح كاملين إلا من خلال المعاناة. وربّما نستطيع أن نقول إن الشدّة هي السمة الغالبة على عبقرية الشاعر. وهو لا يظهر أمامنا كعقل كاثوليكي كبير، بل كعقل ضيّق، بل وحتى طائفي. إنه ثمرة عصره ومكانته وجزء من طبيعته الخاصّة.
يخبرنا الرسّامون أن رافائيل كان أفضل رسّامي البورتريه على الإطلاق. لكن لا يمكن لأيّ عين موهوبة أن تستنفد أهمّية أيّ شيء. ففي أبسط وجه بشري يوجد أكثر مما يستطيع رافائيل أو غيره أن يأخذه معه. ولوحات دانتي التي رسمها في قصيدته الطويلة كانت موجزة ومكثّفة وحيوية كالنار في الليل البهيم.

Credits
worldofdante.org
digitaldante.columbia.edu

الاثنين، سبتمبر 23، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • يقول رينيه ماغريت في كتابه "كلمات وصور": يمكن للشيء أن يوحي بوجود أشياء أخرى خلفه". ويقول أيضا: الفنّ يمكن أن يكون أكثر تعقيدا ممّا نراه في الحياة الواقعية. يمكنني مثلا أن ارسم طائرا، حتى عندما لا أرى سوى بيضة. لكن هذه البيضة ستصبح يوما ما طائرا. لذا فإنني - بمعنى ما - أتخيّل مستقبلها وأرسمه".
    لم يكن ماغريت يشعر بأيّ انجذاب نحو الأشياء غير المرئية. الخفاء الوحيد الذي كان يعترف به هو خفاء الأشياء التي لا يمكن رؤيتها لأنها مخفية أو مغطّاة بأشياء أخرى. وبالتالي فإن الحجر الكبير المتموضع أو الساقط على باركيه شقّة يمكن أن يُخفي عالما كاملاً خلفه. هل "العالم غير المرئيّ"، وهو عنوان لوحته التي "فوق"، هو العالم الذي تفترضه النافذة "أو الشُرفة؟" ولكنّه غير مرئي داخل حدودها؟
    من ناحية أخرى، فإن البحث عن العالم المعلَن، ولكن غير المحسوس، يبعدنا عن الأدلّة الموجودة أمامنا، والتي يوصي ماغريت بأخذها بعين الاعتبار أوّلاً. إن أيّ شخص يمكنه أن يحتفظ بحجر في شُرفته. وماغريت لا يجعل الحجر يطفو في الهواء ولا يحوّله الى سمكة أو تفّاحة، كما يفعل عادةً في لوحاته. لكن الحالة الطبيعية الظاهرة للصورة تثير بقوّة السؤال الأهم: ما المعنى الذي تحمله هذه الصورة؟
    عندما تواجه صورة لماغريت، فمن غير المجدي البحث عن إشارات إلى شيء آخر. والأكثر فائدة هو التساؤل عن حيرتنا أمام الصورة التي يظهر منها، مثلا، أن الحجر، حتى لو كان مثبّتا على الأرض، يزعجنا لأنه - بحضوره - يحجب الرؤية ويُنكِر وظيفة الشُرفة التي يُفترَض أنها تُظهِر لنا العالم خارجها.
  • ❉ ❉ ❉

  • طلب أحدهم ذات مرّة من "بروس لي" أن ينصحه حول كيفية كسر الطوب بيديه العاريتين. فردّ عليه: إذا كنت تريد كسر الطوب، فيمكنك فقط استخدام المطرقة!"
    منذ زمن طويل وبعض الأشخاص يقومون بتكسير الطوب بأيديهم، ولكن للاستعراض فقط وللترفيه عن الناس. ومع ذلك، أخذ بعض الأشخاص الذين شاهدوا مثل تلك العروض الأمر على محمل الجدّ واعتقدوا أنهم إذا أرادوا كسر الطوب فما عليهم الا أن يتدرّبوا لأجل ذلك.
    أليست الحياة هكذا؟! بعض الناس عليهم أن "يؤدّوا" من أجل أن يكسبوا عيشهم ويبقوا على قيد الحياة. لكن الأشخاص الذين يشاهدون الأداء يعتقدون أن الحياة هكذا، ثم يصبحون أكثر فأكثر توّاقين إلى هذا النوع من الحياة "الأدائية".
    الحياة مسرح كبير كما يقال، وكلّ شيء فيها تقريبا يعتمد على الدراما والتمثيل.
  • ❉ ❉ ❉

  • يذكر المؤلّف لويس مامفورد كيف أن المبشّرين سعوا إلى تحويل السكّان الأصليين عن دياناتهم، بالأقناع حيناً وبالسيف أحياناً، واعدين إيّاهم بالسلام والأخوّة والنعيم السماوي. وفي نفس الوقت خطّطوا لتدميرهم بالمشروبات الكحولية وأجبروهم على تغطية أجسادهم وسخّروهم للعمل في المناجم حتى الموت المبكّر.
    كانت حياة الإنسان البدائي، على حدّ تعبير هوبز، قصيرة ووحشية وبغيضة. وأصبحت هذه الوحشية مبرّرا لنظام مطلق، مثل عالم ديكارت المثالي، تأسّس من خلال عقل وإرادة إله واحد. ومن المؤسف - يضيف مامفورد - أن العداء الذي أظهره الأوروبيّون تجاه سكّان البلاد الأصليين الذين غزوهم انتقل إلى أبعد من ذلك؛ إلى علاقتهم بالأرض.
    فقد عوملت المساحات المفتوحة الشاسعة في القارّتين الأمريكيتين، بكلّ مواردها غير المستغلّة، باعتبارها جزءا من حالة القتل والتدمير. وكان المستعمرون يؤمنون بأن الغابات وُجدت هناك لتُقطع والمروج لتُحرث والحياة البرّية لتُقتل من أجل الرياضة السقيمة، حتى لو لم تُستخدم للغذاء أو الملابس.
    وفي عملية "غزو الطبيعة"، كان الأوروبيّون في كثير من الأحيان يعاملون الأرض بازدراء ووحشية مثلما كانوا يعاملون سكّانها الأصليين، فيقضون على أنواع حيوانية عظيمة مثل البايسون وغيره ويستخرجون التربة بدلاً من تجديدها سنويّا. وحتى اليوم ما يزالون يغزون آخر المناطق البرّية الثمينة لمجرّد أنها لا تزال موطنا للحياة الفطرية والأرواح البشرية المنعزلة.
    والمشكلة أن المناطق البدائية، بمجرّد تدنيسها بالطرق السريعة الواسعة ومحطّات الوقود والمتنزّهات الترفيهية وشركات قطع الأخشاب، لا يمكن استعادتها أو إعادتها الى سابق عهدها أبدا".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • جلس الإنسان وحيداً غارقاً في حزنه العميق. واقتربت منه جميع الحيوانات وقالت له: لا نحبّ ان نراك حزينا هكذا. أُطلب منّا ما تتمنّى وسوف تحصل عليه. قال الإنسان: أريد أن أتمتّع ببصر حادّ. فردّ النسر: سوف تحصل على عينين كعينيّ. وقال الإنسان: وأريد أن اكون قويّا. فقال النمر: ستكون قويّا مثلي. ثم قال الإنسان: وأتطلّع لمعرفة أسرار الارض. ردّ الثعبان: سوف أريك إيّاها. وهكذا كان الحال مع جميع الحيوانات.
    وعندما حصل الإنسان على كلّ المنح الثمينة التي يمكن للحيوانات أن تقدّمها له، غادر المكان. ثم قالت البومة للحيوانات الأخرى: الآن صار الإنسان يعرف الكثير، وسيستطيع القيام بالعديد من الأشياء. لذا أنا خائفة". وقال الغزال: الإنسان لديه الآن كلّ ما يحتاجه، ولن يكون هناك بعد الآن سبب لحزنه.
    لكن البومة ردّت قائلة: لا، لقد رأيت فجوة عميقة بداخله، كعمق الجوع الذي لا يشبعه شيء. وهذا ما يجعله حزيناً وما يدفعه لطلب المزيد. سيستمرّ في الأخذ بلا هوادة حتى يقول له العالم ذات يوم: لم يتبقَّ لديّ شيء لأعطيك إيّاه".
  • ❉ ❉ ❉

  • من طبيعة الأشياء أن يتحمّل كلّ شخص المسؤولية الكاملة عن نفسه. لكن لا بأس في أن نساعد الآخرين ونتعاطف معهم بقدر ما نستطيع، وفي نفس الوقت أن نتوقّع منهم أن يقدّرونا ويساعدونا في وقت الحاجة. فالحبّ كما يقال يسير في اتجاهين لا اتجاه واحد.
    وهناك نظرية تُسمّى نظرية تقشير البرتقال. وتفترض أنه إذا قشّر شريكك لك برتقالة، فهذا يدلّ على حبّه الحقيقي والصافي. لكن من الأهمية بمكان أن نتعلّم أوّلاً كيف نقشّر برتقالنا. وقبل أن نحبّ الآخرين بشكل كامل ودون تردّد، يجب أن نفهم قيمتنا ونحبّ أنفسنا.
    لذا أعطِ الأولوية لحبّ ذاتك. قشّر برتقالك بنفسك واعطِ لنفسك نفس الحبّ الذي تعطيه للآخرين. كن مساحتك الآمنة. أحيانا وعندما تكون بمفردك، لا بأس أن تكون مستقلاً وألا تعتمد على شخص آخر ليقشّر البرتقال لك نيابةً عنك. إجعل من نفسك الشخصية الرئيسية في قصّتك.
    ولكن هذا لا يعني أننا لا ينبغي أن نسمح للآخرين الذين يرغبون في مساعدتنا في تقشير البرتقال لنا ومشاركتنا متعة النجاح. لكن يجب أن نكون حريصين على ألا نهشّم اللبّ ونفقد العصير. ومن المهم أن نعرف الطريقة التي نحبّ أن نقشّر بها البرتقال وكيف يفضّل الآخرون تقشيره.
  • ❉ ❉ ❉

  • يُعتبر مستنقع أوكيفينوكي، أو "الأرض المرتعشة"، أحد أكثر الأماكن سحرا وغموضا. ويقع في الزاوية الجنوبية الشرقية من جورجيا. ومنذ آلاف السنين ارتبط المكان بسكّان المستنقع الأصليين من قبيلة السيمينول.
    وإحدى أساطير السيمينول من العصور القديمة تتحدّث عن جزيرة غامضة ومعزولة في أعماق نهر أوكيفينوكي كانت تسكنها قبيلة من النساء. وحدث ذات يوم أن قامت مجموعة من السيمينول المغامرين باختراق المستنقع ووصلوا إلى الجزيرة المسحورة حيث تعيش تلك القبيلة. وعندما رأوا النساء ذهلوا لجمالهنّ وأطلقوا عليهنّ "بنات الشمس".
    وبعد أن قدّمت النساء الطعام لزوّارهن، توسّل أفراد السيمينول إليهن أن يسمحن لهم بالبقاء على الجزيرة. لكنهنّ رفضن ذلك الطلب وحذّرنهم من أن رجالهن سوف يعودون قريبا من الصيد، ويجب ان يتوقّعوا حدوث مشاكل لو رأوهم على تلك الجزيرة.
    وقد تظاهر السيمينول بالامتثال لتحذير النساء وغادروا إلى الطرف البعيد من المستنقع. كانت الغاية من عودتهم تأمين التعزيزات اللازمة ليعودوا الى الجزيرة ويقتلوا رجال القبيلة ويأخذوا النساء ليتّخذوا منهنّ زوجات.
    وشقّت المجموعة الشرسة من المقاتلين طريقها بحذر إلى المستنقع للمرّة الثانية. وعندما اقتربوا من الجزيرة الغامضة، استخدموا أقصى درجات الرصد والبراعة لكي يشنّوا هجوما مباغتا. وبينما كانت زوارقهم مبحرة عبر النهر، تردّدت فوقهم صرخة نصفها لإنسان ونصفها لكائن مجهول. وبعد لحظات قليلة اجتاحت موجة مدّ عظيمة المياه الهادئة للمستنقع.
    لكن هذا لم يؤثّر في حماس السيمينول، بل احتفظوا برباطة جأشهم ومضوا في طريقهم الى أن وصلوا إلى نقطة لم يعد يفصلهم فيها عن الجزيرة سوى جدارٍ سميك من الأشجار والنباتات. ووسط صرخاتهم الوحشية وأصوات مجاديفهم المتوتّرة، شقّوا طريقهم عبر أوراق الشجر واندفعوا إلى الأمام. لكنهم توقّفوا فجأة في ذهول.
    ففي المكان الذي كانت تقوم فيه قبل أيّام الجزيرة الأسطورية الجميلة "لبنات الشمس" الساحرات، لم يعد هناك الآن سوى مساحة مفتوحة من مياه المستنقع ترفرف فوقها وتحطّ على سطحها الهادئ أسراب من البطّ البرّي، قبل أن تنطلق في الهواء.
    تقول الأسطورة أنه منذ ذلك اليوم وإلى الآن، لم يُعثر على أيّ أثر لجزيرة النساء تلك ولم يُكتشف أبدا سرّ أو سبب اختفائها الغريب والغامض. ومنذ ذلك الوقت ظلّ الناس يتناقلون خبر تلك الجزيرة جيلا بعد جيل ويروون عنها قصصا وتكهّنات أكثرها شاطحة وأشبه ما تكون بالخيال.

  • Credits
    magritte.com
    archive.org