:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، سبتمبر 24، 2020

ليلة أخرى مرصّعة بالنجوم

آدم إلزهايمر ليس اسما شائعا أو مألوفا. لكنّ هذا الرسّام الألمانيّ يعرفه مؤرّخو الفنّ بسبب هذا المنظر الليليّ الذي رسمه قبل أكثر من أربعمائة عام.
وعندما توفّي الفنّان في سنّ الثانية والثلاثين، لم يترك أيّ أثر عن الفترة القصيرة التي عاشها على الأرض، باستثناء هذه اللوحة التي وُجدت في غرفة نومه بعد وفاته.
كانت اللوحة، واسمها "الرحلة إلى مصر" تحفته بلا منازع. وقد أثارت حيرة المؤرّخين لأنها أوّل منظر مرسوم بواقعية للسماء الليلية في كلّ تاريخ الرسم. القمر والنجوم، وحتى مجرّة درب التبّانة التي لا تُرى عادة إلا بصعوبة، رُسمت بدقّة شديدة. بل إن بالإمكان أيضا تمييز كوكبتي الأسد والدبّ الأكبر بوضوح في سماء المنظر.
وهناك اليوم من العلماء من يؤكّدون، من خلال الحسابات الفلكية والسجلات التاريخية، أن منظر السماء الليلية في اللوحة يتوافق مع شكل سماء روما في تلك الليالي من شهر يوليو عام 1609م.
والسؤال المحيّر: كيف تسنّى للرسّام أن يفعل هذا؟ هل كان يعرف فلكيين؟ هل استخدم تلسكوبا، على الرغم من ندرة التلسكوبات في ذلك الوقت؟
عندما نُظّم معرض إستعاديّ لأعمال آدم إلزهايمر قبل بضع سنوات، أطلق المنظّمون على المعرض اسما معبّرا هو "الشيطان في التفاصيل". وأرفقوا بكلّ تذكرة دخول إلى المعرض منظارا مكبّرا قيمته ستّة جنيهات لتسهيل رؤية التفاصيل في اللوحات الصغيرة المعروضة. كما اختاروا لغلاف الكرّاس المرافق للمعرض منظرا ينيره ضوء القمر، وهو تفصيل من لوحة إلزهايمر الأشهر، أي "الرحلة إلى مصر".
وكان ذلك اختيارا موفّقا. فاللوحة تكفي لإثبات أحقيّة الرسّام لأن يكون شخصا مهمّا في تاريخ الفنّ. مع أنك لو نظرت من بعيد إلى حيث توجد اللوحة اليوم في إحدى صالات متحف في ميونيخ لما لفتت انتباهك، لكن عند اقترابك منها ستُذهل لروعتها وجمال تفاصيلها.
في "الرحلة إلى مصر" يستدعي إلزهايمر كلّ مهارته ليرسم تنويعا أصيلا ومتفرّدا على قصّة معروفة وشائعة. والغريب انه كان أول فنّان يرسم القصّة في الليل وكما روتها المصادر الدينية.
ومثل معظم لوحات إلزهايمر، فإن هذه القصّة داخل المنظر الطبيعي صغيرة. وقد رسمها على النحاس الذي يكشف سطحه الأملس عن لمعان الطلاء الزيتيّ، ما يجعل الألوان تبدو متوهّجة والتفاصيل في غاية الوضوح.
في مقدّمة الصورة، أمام غابة مظلمة، نرى عائلة المسيح الطفل أثناء رحلة هروبهم من بطش الملك هيرود الذي أمر بقتل كلّ طفل يولد في مملكته خوفا من أن يكون هو النبيّ الموعود.
الضوء المنبعث من الشعلة التي يمسك بها يوسف النجّار، ذو الرداء الأحمر، لامع بما يكفي لرؤية تقاطيع وجهي المسيح وأمّه التي تمسك به. ويوسف الجالس بالقرب منهما يمدّ يده بحنوّ إلى الطفل ويداعبه. الأشخاص الثلاثة ضائعون في الليل بين بحيرة ساكنة ونار قريبة وقمر منعكس في الماء.
عتمة الأشجار خلفهم هي رمز للظلام والخطر. والغيوم إلى اليمين تُعطي شعورا بالانزياح وتبدو وكأنّها تتحرّك طالما أنت تنظر إليها. إنها لوحة ناعمة ومتوتّرة معا بسبب موضوعها. والليل فيها مرسوم كمعجزة ودليل هداية على الطريق. والضوء الآتي من القمر يجمّد حوافّ الظلام.
وإلى اليسار يظهر بضعة أشخاص آخرين يغمرهم ضوء أقوى. وهؤلاء هم مجموعة من الرعاة الذين يسهرون على رعاية مواشيهم في هذا المكان.
ووجودهم في الصورة استمدّه الرسّام من قصّة الرعاة الذين تلقّوا خبر ولادة المسيح من ملاك وذهبوا إليه كي يشهدوا على نبوءته كما تقول القصّة. وهذه الجزئية في الصورة تخلق إحساسا بالسكينة وتبدّد شيئا من قلق الرحلة.


ما رسمه الفنّان في اللوحة هو مزيج من الطبيعة الحقيقية والشاعرية. السماء الزرقاء تهيمن على المنظر. والقمر المكتمل المتوهّج والمنعكس نوره في البحيرة الساكنة هو المصدر الأقوى للضوء الذي ينير المشهد ويتخلّل الأشجار القريبة والأبعد قليلا.
إنها ليلة أخرى مرصّعة بالنجوم، نهر من النجوم الصغيرة تتناثر في سماء المنظر وتختفي خلف الأشجار. التأثير هنا ساحر، فهذا أوّل رسم لمجرّة درب التبّانة قريب من الحقيقة. بل إن مؤرّخي الفنّ يعتقدون أن هذا هو أوّل مشهد لقمر مضيء واقعيّ في تاريخ الرسم الغربيّ.
وعلى الأرجح لا يوجد رسم للنجوم، بهالاتها الباردة وسطوعها الغريب، أفضل مما تقدّمه هذه اللوحة. ويمكنك، ليس فقط تمييز النجوم والكواكب، وإنما أيضا سترى، ربّما لأوّل مرّة، تجسيدا صحيحا علميّا لدرب التبّانة.
كما سترى كوكبة الأسد المرتبطة بالملوكية والقوّة، مع ألمع نجومها، أي النجم المسمّى "ريغولوس" أو الملك الصغير. وهناك أيضا كوكبة الدبّ الأكبر المرتبطة بـ "دايانا" ربّة القمر ورمز العفّة والعذرية والطهر، وكلّها صفات للعذراء.
يقول احد النقّاد: مع هذه اللوحة لم تعد سماء الليل مجرّد عباءة سوداء، بل تحوّلت إلى رمز لفضاء لا تحدّه حدود ومليء بالمجازات والرؤى.
ويُرجّح الآن أن إلزهايمر، أثناء إقامته في روما، تواصل مع فلكيين كانوا، بدءا من منتصف عام 1609، يستخدمون التلسكوبات لاستكشاف السماء.
وقد أثبت خبراء هولنديون عام 2005 أن الرسّام وظّف معرفته الفلكية في رسم اللوحة وأنه لا بدّ أن يكون قد استخدم تلسكوبا. فالطبيعة السماوية في المنظر تتوافق بدقّة مع مواقع القمر ومنازل النجوم في سماء روما في ذلك الشهر من تلك السنة.
ولد الرسّام آدم إلزهايمر عام 1578 في مدينة فرانكفورت لأب كان يعمل خيّاطا. وبدأ دراسة الفنّ هناك قبل أن ينتقل إلى ميونيخ التي درس فيها على يد فيليب اوفنباخ.
وبحلول عام 1598، غادر إلى ايطاليا والتحق بأكاديمية سانتا لوكا للفنّ التي كانت تضمّ مجموعة من الرسّامين المتميّزين الذين كانوا يرتبطون بدائرة الرسّام الهولندي بيتر بول روبنز.
حقق إلزهايمر شهرة كبيرة أثناء حياته. وكان الزبائن يبحثون عن لوحاته، لكنه لم يكن ناجحا ماليّا لأن نتاجه كان قليلا ومتباعدا. كان يعمل ببطء ويدرس موضوعاته بحرص ويعمل من الذاكرة.
ولطالما اعتبره روبنز فنّانا كسولا على الرغم من موهبته الكبيرة. وقيل انه عانى من الاكتئاب في نهايات حياته. ثم توفّي وعمره لا يتجاوز الـ 32. وكانت "الرحلة إلى مصر" هي آخر ما رسمه.
وعندما توفّي، لم يترك أيّ اثر عن حياته الشخصية. لكننا اليوم نعرف انه أثناء إقامته في ايطاليا، تحوّل من اللوثرية إلى الكاثوليكية ثم تزوّج من امرأة اسكتلندية تُدعى كارولا ستيوارت وأنجبا ولدا، ثم سُجن في ما بعد بسبب ديونه.
وبعد مرور قرون على رحيله، أصبح لإلزهايمر شعبية واسعة في إنغلترا على وجه الخصوص. وقد جمع الملك تشارلز الأوّل أعماله المتوفّرة، ويقال أن ثلثها موجود اليوم في بريطانيا.
أما الأعمال الأخرى فتتوزّع على أفضل المتاحف في أوربّا وأمريكا، بما فيها اللوفر والارميتاج وبول غيتي وغيرها.
ومعروف أن إلزهايمر ترك أثرا على الكثير من الرسّامين الذين أتوا بعده، وأهمّهم مواطنه الألماني كاسبار فريدريش الذي تُذكّر لوحته "أمسية على شاطئ بحر البلطيق" (1831) بهذه اللوحة.

Credits
wsj.com