وأستطيع أن أقول إنني، مثل الكثيرين، متيّم بالقهوة رائحة ومذاقا. وأصبحت مع الأيّام خبيرا بنكهاتها وأنواعها ومذاقاتها التي تختلف باختلاف طبيعة المكوّنات والإضافات التي تُستخدم في صنعها.
الفكرة التي تخطر في البال عند الحديث عن القهوة هي أنها فنّ. نعم، القهوة فنّ، لا اقلّ ولا أكثر. كما أنها أصبحت نوعا من أنماط الحياة التي لا يمكن الاستغناء عنها. واللافت للانتباه هو أن القهوة موجودة بالفعل في طعام الإنسان منذ أكثر من ألف عام. وهناك من يقول إنها المشروب الأكثر استهلاكا في العالم اليوم، كما أنها ثاني أكثر السلع تداولا بين البشر بعد البترول.
وأعرف، بالمناسبة، زميلا لا يمكن أن يوقظه من نومه سوى شيئين: صوت فيروز ورائحة القهوة. طبعا معظمنا يحبّ فيروز ويطرب لسماعها، خاصّة في أوقات الصباح. وبالنسبة لي، اعتبر سماع أغنية لفيروز في الصباح خاصّة، بشير فأل وفاتحة خير.
لكن لنبقَ في موضوع القهوة. قبل فترة قرأت خبرا يمكن أن يفسّر سرّ تأثير القهوة وكيف أن رائحتها يمكن فعلا أن تكون كافية لإيقاظ الإنسان من النوم. فقد اكتشف العلماء أن استنشاق رائحة القهوة يعمل على تنشيط عدد من الجينات في جسم الإنسان دفعة واحدة. وبعض هذه الجينات أو المورّثات لها علاقة بمقاومة الإجهاد والتعب الذي يسبّبه الحرمان من النوم.
في أكثر من مناسبة كنت اسمع أشخاصا يقولون إن رائحة القهوة أفضل بكثير من مذاقها. والحقيقة انه يصعب تأكيد هذه الفرضية أو نفيها من الناحية العلمية، وإن كنت أميل إلى تصديقها. وقد ثبت علميا أن انف الإنسان يستطيع التمييز بين أكثر من عشرة آلاف نوع من الروائح. وأتصوّر أن بعض الحيوانات تتفوّق على الإنسان من هذه الناحية.
ويقال إن خبراء العطور اعتادوا من وقت لآخر أن يستنشقوا رائحة القهوة لأنها تصفّي الأنف من الروائح العالقة بها وتساعدهم على شمّ المزيد من روائح العطور المختلفة بغرض اختبار وتقييم مدى صلاحيّتها وجودتها.
يوهان برامز، الموسيقي الكلاسيكي الألماني المشهور، عُرف بحبّه الشديد للقهوة. كان دائما يفضّل القهوة "السادة" أو السوداء دون إضافات. طبعا، في ذلك الزمان لم يكن الناس قد سمعوا بالاسبريسو والكابتشينو والموكاتشينو وجوفريز ودنكن دونتس وغيرها من أنواع وماركات القهوة المتداولة هذه الأيام. لكن يقال أن برامز كان يثني دائما على القهوة وينسب لها الفضل في شحذ ذاكرته الموسيقية وإلهامه في إبداع الكثير من المقطوعات والمؤلفات الموسيقية. ترى، هل تكون القهوة هي السرّ في أن سيمفونيات هذا الموسيقي بالذات طويلة جدّا مع كونها ممتعة ومتنوّعة في صورها وإيقاعاتها وألوانها؟
فتنة القهوة لا تقتصر على الموسيقيين فحسب. بل يمكن الحديث عن ما يسمّيه البعض "أدب القهوة". فهناك عدد لا يُحصى من الكتب المكرّسة للحديث عن القهوة من زوايا مختلفة ومتعدّدة. المستشرقون أيضا أتوا على ذكرها في كتبهم، كما أن لها حضورا كبيرا في العديد من المؤلفات الطبّية والكتب التي تتحدّث عن خصائص الأعشاب والنباتات العطرية.
ويقال إن فولتير، الفيلسوف والأديب الفرنسي المعروف، كان يشرب أكثر من أربعين كأسا من القهوة يوميا. ولشدّة انجذابه إلى القهوة، ألّف عنها كتاباً. بلزاك أيضا كان مفتونا بحبّ القهوة ولطالما أثنى على مزاياها وكان دائما يربطها بحركة الأفكار وبتذكّر الأشياء والأشخاص والمواقف.
ولأن أصل القهوة جزيرة العرب، فإن لها أهمية خاصّة في الثقافة العربية، وقد أصبحت مع مرور الأيّام رمزا للكرم وحسن الضيافة. ويمتلئ الموروث الشعبي بالكثير من الإشارات التي تتغنّى بالقهوة وما يرتبط بها من عناصر كالعنبر والزعفران والهيل والمسمار "أو القرنفل" والدِلال، وكذلك الأحاديث التي تتخلّل طقوس ومجالس شرب القهوة.
ولعلّ أشهر من نظموا شعرا في مديح القهوة شاعر العجمان وفارسهم راكان بن حِثلين الذي يقول في مطلع إحدى قصائده: يا ما حلا الفنجال مع سيحة البال، في مجلسٍ ما فيه نفسٍ ثِقِيلة. هذا ولد عمٍّ وهذا ولد خال، وهذا رفيقٍ ما لقينا مِثيله".
وفي الكثير من الأعمال الموسيقية وحتى المسرحية، هناك دائما عنصر قهوة.
وبالتأكيد يتذكّر معظمنا بعض الأغاني العربية المشهورة التي تتحدّث عن القهوة وما يرتبط بها من قصص بطولة وفروسية وحالات توق وعشق.. إلى آخره، مثل هذه الأغنية وهذه.
غير أن هناك بعدا آخر للقهوة قد يكون أكثر أهمّية من كلّ ما سبق. فالقهوة كانت عنصرا مهمّا في تغيير ملامح الحياة الاجتماعية والثقافية والتجارية في المجتمعات الحديثة. لنتذكّر مثلا ستاربكس وغيرها من بيوت القهوة الكبيرة والمشهورة. هذه البيوت وفروعها الكثيرة والمختلفة كانت وما تزال ملتقى للناس من مختلف طبقات وفئات المجتمع. والكثير من القرارات المهمّة، وربّما المصيرية، اتخذها أفراد كانوا يجلسون حول طاولة ويحتسون القهوة ويتبادلون الحديث في ما بينهم.
بعض من اعرفهم ممّن يفهمون أسرار القهوة أكثر منّي يقولون إن رائحة القهوة القديمة والمعتّقة لم تعد موجودة اليوم مع كلّ هذه الأصناف الكثيرة والمتنوّعة من القهوة التي تغلب عليها نكهة التوابل والشاي والشوكولاتا والكريمات وغير ذلك من الإضافات وطرق التحضير المبتكرة وأحيانا الغريبة.
وأظنّ أن لهذا الرأي ما يبرّره. فهناك الآن في العالم أكثر من ألف صنف من القهوة. وحتّى المحلات التي كانت منذ سنوات متخصّصة في تقديم القهوة حصرا تحوّلت الآن إلى مطاعم للوجبات الخفيفة سعيا وراء توسيع الأرباح وجذب المزيد من الزبائن. وأصبح الزبون لا يشمّ فيها سوى روائح الخبز المحمّص والأجبان من كلّ شكل ولون بينما اختفت رائحة القهوة الحقيقية وتحوّلت إلى منتج ثانوي.
الشيء اللافت والجميل، بنفس الوقت، هو أن ظاهرة بيوت القهوة تحوّلت في الكثير من البلدان التي تتوجّس خيفة من أيّ تجمّع مدني مهما كان بريئا إلى منتديات اجتماعية وثقافية حقيقية يناقش فيها الناس همومهم ومشاغلهم على فنجان قهوة وفي أوضاع مسترخية وبعيدة إلى حدّ ما عن القيود والرقابة المشدّدة.
من الناحية الطبّية، ثبت أن القهوة تحدّ من إمكانية إصابة الإنسان ببعض أنواع السرطان ومرض باركنسون والسكّر وبعض اعتلالات الكبد. كما ثبت أنها تقوّي المزاج وتمنع نوبات الصداع وتخفّف من مضاعفات الربو وتساعد على التركيز الذهني.
وبطبيعة الحال ومثل كلّ شيء آخر، هذا مشروط بالاعتدال وتجنّب الإسراف في تناولها.