:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، يناير 04، 2025

مونيه في لندن


في نفس العام الذي نصبَ فيه كلود مونيه لأوّل مرّة حامل لوحاته في سافوي بلندن، كتب اوسكار وايلد مقالة قال فيها: يرى الناس الضباب، ليس لأن هناك ضباباً، بل لأن الشعراء والرسّامين علّموهم الجمال الغامض لمثل هذه التأثيرات. ربّما كان الضباب موجوداً منذ قرون في لندن، وأتجرّأ على القول أنه كان موجوداً بالفعل. ولكن لم يرَه أحد، ولهذا السبب لا نعرف عنه شيئاً. لم يكن موجوداً الى أن اخترعه الفن."
الناقد جوناثان جونز يذكر أن كلود مونيه، الرسّام الشغوف بالجمال، جاء إلى لندن في زيارات متكرّرة بين عامي 1899 و1901 "لتجربة القبح". ولم يسبق للرسّام في حياته أن استخدم فرشاته في رسم أيّ شيء غير جذّاب. كان ضوء المدينة في فجر القرن العشرين مليئا بالضباب الدّخاني ومسموما بالتلوّث الناجم عن الصناعات التي اكتظّت على ضفاف نهر التيمز. وكان مونيه قد زعم أنه يعشق ضوء لندن، لكن هذه اللوحات تثبت أنه فهم ما جعلها غريبة للغاية: الثروة الملوّثة لأوّل دولة صناعية في العالم.
لوحات مونيه عن لندن لا تحمل أيّ إحساس بالفكرة الانطباعية الكلاسيكية المتمثّلة في الترفيه الحضري. فبينما يرقص الباريسيون ويشربون ويتنزّهون في الفنّ الانطباعي، لا يبدو أن سكّان لندن الذين رسمهم مونيه لديهم أيّ وقت لذلك. فالعمّال يعبرون جسر واترلو بلا نهاية، في لوحة تلو الأخرى، أو يُنقلون في قطارات ركّاب تنفث الدخان داخل وخارج تشيرينغ كروس.
وإحدى أكثر لوحات مونيه هذه إثارةً للإعجاب هي لوحته بعنوان "جسر واترلو، تأثير ضوء الشمس في الضباب"، وهي تنويع على لوحته الأشهر "انطباع، شروق الشمس". في اللوحة نرى الشمس البرتقالية الساطعة ترسل خطوطاً حمراء متوهّجة تخترق التموّجات الخفيفة لنهر التيمز تحت ضباب برونزي غامض. وبينما يمكن تمييز أشكال القوارب والبشر، تتحوّل تفاصيل الحياة الحديثة إلى حلم صباحي ضبابي.
ذات يوم نجح مونيه في جعل المدينة الحديثة تبدو وكأنها جنّة. لكن لوحاته عن لندن توحي بجحيم حضري. ويتحوّل تكراره لنفس المناظر من فندقه إلى كابوس في حدّ ذاته. فكلّ منها يلتقط التباينات في الضوء. ولكن يا له من ضوء: لوحة متغيّرة من الأصفر والرمادي والأرجواني، مريضة وكئيبة، يتخلّلها دوماً الضباب والدخان.


ويذكّر جونز بأنه سبق للفنّانين الفرنسيين أن رأوا لندن جحيماً. ففي كتاب "لندن: رحلة حجّ" المنشور عام 1872، يتأمّل الفنّان غوستاف دوريه الأحياء الفقيرة والمحرومة في المدينة ويرسم لها 180 نقشاً بمرافقة نصّ للكاتب وليام جيرولد. وفي باريس يصوّر الفنّانون المدينة باعتبارها مدينة للحواسّ. أما لندن فكانت "بمثابة الحفرة القذرة التي تختبئ فيها قسوة العالم الرأسمالي الجديد". فهل كان مونيه، الذي صوّر هذه المدينة، أي لندن، من فندقه، سائحاً يغرق في الضباب الدخاني؟!"
كان مونيه يرسم ما يراه، ومعظم ما يراه كان عبارة عن ضباب. والأشكال الغامضة للحافلات والأشخاص والقطارات تكافح لتصبح حقيقية، لكي تُرى. يتسلّل الدخان إلى عينيه ويصبح الضوء المشوّه ذو الألوان الغريبة شيئا في حدّ ذاته بدلاً من أن يكون وسيلة لإضاءة الأشياء. والمدينة غير الحقيقية تغيّر فنّه، حيث يفقد طريقه في ضبابها.
في لندن، في "مبنى البرلمان" وفي "عمود ضوء الشمس في الضباب"، لا يوجد شيء حقيقي. فضوء الشمس ينقسم من كرة ذهبية مكسورة إلى شعاع لا نهائي من اللون الوردي والبنفسجي، تضيء الضباب من الداخل، قبل أن تتفجّر في شظايا على نهر التيمز. وصورة ويستمنستر الزرقاء تطفو في الضباب المشعّ، إنها قلعة دراكيولا أو مجموعة من دور الأوبرا.
وإذا كان الرسّام قد ألمح إلى فاغنر في "انطباع، شروق الشمس"، فها هو ذا يكمل دورة "الخاتم" ويملأ السماء الضبابية والمياه المخدّرة بألحان غامضة تعلو ببطء. ثم هناك الشيء الأكثر غرابة. فالبرلمان في لوحة مونيه لا يقف على أرض صلبة. بل إن موجات الطلاء تكتسح جوانبه وكأنه سفينة في بحر. كما أنه لا يوجد أعلى ولا أسفل، فالانعكاسات الأرجوانية في النهر تعكس الأبراج القوطية.
كانت الفترة الأخيرة من حياة مونيه واحدة من أكثر الفترات تألّقا في تاريخ الفن. وكانت زنابق الماء التي رسمها تنعي قتلى الحرب العالمية الأولى وتُلهم الانطباعية التجريدية. ولوحاته هذه تشير بقوّة الى أن كلّ شيء بدأ هنا. فهي تتيح لك رؤية اللحظة التي تَحوّل فيها فنّان عظيم إلى حداثيّ عظيم. وكان ضوء لندن القذر هو الذي ساعده على رؤية ما وراء المرئي.

Credits
claude-monet.com
bbc.co.uk

الجمعة، يناير 03، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • قبل أكثر من ٨٠ عاما، كتب بورخيس قصّة قصيرة بعنوان "مكتبة بابل"، تنبّأ فيها بمستقبل قاتم للإنترنت. حدث هذا قبل زمن طويل من ظهور الانترنت كما نعرفها اليوم. وقد تخيّل الكاتب الأرجنتيني عالَماً يتألّف من عدد لا نهائي من الغرف، وتتضمّن أرفف الكتب في كلّ غرفة مجلّدات تحتوي، كما يتصوّر ساكنوها، على كل ترتيب ممكن للحروف في أبجديتهم.
    لكن، وحسب تعبير عالم النفس روجر كروز، فإن العثور على شيء له معنى في مكتبة بورخيس الخيالية وذات المحتوى الهائل يشبه العثور على "إبرة في كومة من القشّ". فالناس الذين يبحثون في هذه الكتب عن ايّ معلومات تُفصّل مستقبل البشرية ومعنى الحياة، يكتشفون أن الغالبية العظمى من الكتب لا تحتوي إلا على مجموعات من الحروف التي لا معنى لها.
    وطبقا لبورخيس، فإن الحقيقة موجودة هناك، ولكن كلّ الكذب الذي يمكن تصوّره موجود هناك أيضا. وكلّ ذلك ضمن كمية هائلة ولا يمكن تخيّلها من الهراء. وحتى بعد قرون من البحث، لا يُعثر إلا على بضع نِتَف من المعلومات ذات المغزى. وحتى في هذه الحالة، لا توجد طريقة لتحديد ما إذا كانت هذه النصوص المتماسكة حقائق أم أكاذيب.
    ويشير كروز الى أن بعض مؤلّفي روايات الخيال العلمي اليوم يشاركون بورخيس نبوءته المتشائمة عن الانترنت، فيتخيّلون مستقبلا قريبا تصبح فيه الشبكة العالمية ملوّثة بالمعلومات المضلّلة والإعلانات المزعجة لدرجة أنها تصبح غير قابلة للاستخدام إلى حدّ كبير. ولتجاوز هذه المشكلة يلجأ بعض الناس للاشتراك في خدمة الأخبار والمعلومات التي توفّرها بعض المواقع الاخبارية التي تُختار باعتبارها جديرة بالثقة.
    لكن المشكلة هي أن الأثرياء وحدهم هم من يستطيعون تحمّل تكاليف مثل تلك الخدمات المتخصّصة التي توفّر معلومات دقيقة وموثوقة، بينما يُترك معظم البشر لاستهلاك محتوى منخفض الجودة وغير منتظم عبر الإنترنت. ويتّفق كروز مع من يعتبرون الإنترنت أحد الإنجازات العظيمة للبشرية. ولكن مثل أيّ مورد آخر، من المهم التفكير بجديّة في كيفية صيانته وإدارته، حتى لا ينتهي بنا الأمر إلى مواجهة الرؤية الديستوبية التي تَخيّلها بورخيس وغيره من الكتّاب.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في اللوحة التي فوق يصوّر رسّام مجهول "آن بولين"، الزوجة الثانية للملك هنري الثامن والتي أُعدمت في مايو 1536 بناءً على أمر من هنري نفسه. ويعتبر بعض النقّاد صورتها هذه عملاً فنيّا مهمّا وآسراً بأسلوبه الفنّي الفريد وتكوينه المتوازن واستخدامه للألوان وتاريخه الغامض.
    اللوحة تتميّز بالواقعية التفصيلية والدقّة في تصوير ملامح الوجه، حيث تمكن الفنّان من الإمساك بجمال وأناقة بولين من خلال ضربات الفرشاة الناعمة والدقيقة. كما أسهم استخدام تقنية الزيت في إظهار غنى الملمس والألوان وإضفاء واقعية أكبر على العمل.
    رسم الفنّان الشخصية في وسط اللوحة، وهي تنظر مباشرة إلى المتلقّي بتعبيرات هادئة، لكن غامضة. وهي تظهر على خلفية داكنة، ما يؤكّد حضورها ويجعلها الموضوع المهيمن. كما استُخدم الضوء بمهارة كي يُبرز تفاصيل وجه المرأة وملابسها ويخلق شعورا بالعمق والحجم.
    الألوان في هذه اللوحة تلعب دورا مهمّا، إذ استُخدم مزيج من الألوان الدافئة، مع درجات من اللون الذهبي والبنّي التي تُبرز بشرة المرأة الشاحبة وتسلّط الضوء على ملامح وجهها الدقيقة. وتتباين الألوان الزاهية لفستانها مع الخلفية الداكنة لتضفي لمسة من الحيوية والأناقة على العمل.
    وعلى الرغم من أن اللوحة رُسمت في القرن السادس عشر، إلا أن هويّة الفنّان ظلّت دائما لغزا. ويشير بعض مؤرخّي الفن أنها ربما رُسمت من قبل أحد أفراد حاشية هنري الثامن، وهو ما يفسّر الدقّة والعناية التي صُوِّرت بها المرأة. وربّما يكون من رسمها أحد الفنّانين الهولنديين المهاجرين الى لندن آنذاك، لأن أعمالهم كانت الأكثر طلبا وإشادةً. ويقال أيضا أن اللوحة ربّما استُلهمت من صورة معاصرة لآن بولين لم تعد موجودة.
    توصف آن بولين بأنها كانت ذات عنق طويل وفم صغير وعيون سوداء وجميلة. ويفترض بعض مؤرّخي الفن أن الصورة قد تكون رُسمت لها قبيل إعدامها، ما يضيف إليها عنصرا من الحزن والمأساة.
    في مايو 1536، أدينت آن بولين بشكل مثير للجدل بتهمة الخيانة. وسُجنت في برج لندن في نفس المنزل الملكي الذي كانت تنتظر فيها تتويجها قبل ثلاث سنوات. وحُدّد موعد إعدامها في الثامن عشر من نفس الشهر. وفي فجر ذلك اليوم، أدلت آن باعترافها الأخير واحتفلت بالقدّاس وجهّزت نفسها للموت. ويقال إن آخر ما نطقت به قبل إعدامها بالسيف قولها: سمعت أن الجلاد بارع، ورقبتي صغيرة".
    وفي نفس اليوم، وبينما كانت المدافع تعلن موتها، انطلق هنري الثامن بالقارب في مياه التيمز لزيارة خطيبته الجديدة جين سيمور. وأعلن عن نيّته الزواج منها. وفي صباح اليوم التالي عُقدت خطبة الزوجين رسميّا. ونجحت جين سيمور في تحقيق ما فشلت فيه ملكات هنري الأخريات، وهو إنجاب الابن الذي طال انتظاره. لكنها توفّيت في الليلة التالية بسبب مضاعفات ما بعد الولادة، عن 28 عاما.
  • ❉ ❉ ❉

  • كانت فتاة تعمل في مصنع للحوم، وكانت وظيفتها تقطيع اللحم بأحجام مناسبة. وفي أحد الأيّام، وقبل نهاية الدوام بقليل، دخلت إلى مخزن اللحوم المبرّد. وفجأة، أقفل الباب آليّا من الخارج. حاولت جاهدة فتح الباب، لكنها لم تستطع. ولم يكن هناك جدوى من الصراخ، لأن جميع العمّال كانوا قد أنهوا عملهم وغادروا.
    وبدأت الفتاة تتجمّد ببطء من شدّة البرودة. وأصبح الموت وشيكا. واستسلمت لفكرة أنه لا توجد فرصة لبقائها على قيد الحياة. وفجأة وبشكل غير متوقّع تماما، فُتح الباب. وبعد أن تجاوزت الفتاة الصدمة وتمالكت نفسها، سألت الحارس عن السبب الذي دعاه لأن يأتي إلى المخزن بعد انصراف الجميع، فقال: أنا أعمل هنا كحارس أمن منذ أكثر من 30 عاما، ونادرا ما يأتي إليّ شخص كلّ صباح ويقول لي صباح الخير، وعندما يغادر في المساء يلقي عليّ تحية الوداع".
    وأضاف: كان معظم الموظّفين يتصرّفون معي وكأنهم لا يرونني. لكنكِ كنتِ الشخص الوحيد الذي يحرص على أن يراني ويسلّم عليّ بابتسامة لطيفة كلّ يوم. وقد فعلتِ ذلك هذا الصباح أيضا. ولكن بعد الظهر لم أسمع كلمة مساء الخير منك، ففهمت أنك لم تخرجي بعد، وبدأت أبحث عنكِ".
    والعبرة من هذه القصّة هي انه بقدر ما تُحسن الى الآخرين، بقدر ما يعود عليك ذلك بالخير أضعافا وأن "من يفعل الخير لا يعدم جوازيه".
  • ❉ ❉ ❉

  • يقول عالم الطبيعة الأمريكي سيغيرد اولسون إن الحياة البريّة ضرورة روحية للإنسان وترياق للضغوط العالية للحياة الحديثة ووسيلة لاستعادة الهدوء والتوازن. ويضيف: لقد أصبحتُ أدرك تدريجيّا أهمية تطوير علاقة روحية بالأرض كما فعل السكّان الأصليون وما زالوا يفعلون لقرون.
    لذا عندما يتعلّق الأمر بمسألة البريّة، أو ما كانت عليه الأرض في الأصل قبل أن نخربّها، فإننا نحاول الحفاظ على نقاء هذه الأرض كما أرادها الله لرفاهيتنا الروحية والنفسية. إننا ننتمي إلى الأرض ولا يمكننا فصل أنفسنا عنها. وعندما تفصل نفسك عن الأرض، فإنك تقطع جذورك. والذين يقطعون جذورهم تصبح أرواحهم ضائعة. والعالم مليء بهؤلاء، وهم يبحثون بشكل يائس عن شيء يتمسّكون به".

  • Credits
    thehistorypress.co.uk
    listeningpointfoundation.org

    الأربعاء، يناير 01، 2025

    رحلة الى عالَم هيديز


    هل تتوقّع حقّا أن تتمكّن من سرقة، أو حتى لمس قطرة واحدة من أقدس الينابيع وأكثرها قسوةً؟ حتى الآلهة وجوپ‍يتر نفسه يخافون من مياه ستيكس. ويجب أن تعلم أنه، كما تُقسِم أنت بقوى الآلهة، فإن الآلهة نفسها تقسم دائما بجلال ستيكس.
    * نسر جوپ‍يتر موبّخاً سايكي، التحوّلات لأبوليوس، ١٥٠م.

    ❉ ❉ ❉

    في اللوحة التي فوق، يصوّر الفنّان الفرنسي غوستاف دوريه مشهدا من قصيدة دانتي أليغييري الملحمية "الكوميديا الإلهية". وتصوّر اللوحة جزءا من نهر ستيكس الأسطوري الذي تظهر وسط أمواجه المضطربة العديد من الأرواح المعذّبة والأجساد المتلوّية والمتألّمة.
    وفي وسط المنظر، تظهر شخصيّتا دانتي وڤ‍يرجيل وهما يقفان في قارب يقوده حارس الجحيم شيرون. وفي الخلفية، تظهر طبيعة مظلمة ومتعرّجة وسماء منذرة بالشؤم، تعكس الأجواء المضطربة لمناطق الجحيم في كتاب دانتي. وقد استخدم الرسّام خطوطا تفصيلية ومعبّرة لالتقاط الكثافة الدرامية والعاطفية للمشهد.
    فكرة الغرب الحديثة عن الحياة الأبدية يمكن إرجاع أصولها إلى شعوب بلاد ما بين النهرين القديمة، التي تَصوّرت عالما سفليّا يُعرف باسم أرالو أو إركالا. وكما كان يُعتقد أن السماوات موجودة فعليّا عالياً فوق رؤوس المؤمنين، كان يُعتقد ايضا أن هذا العالم السفلي موجود تحت سطح الأرض. ولم تكن أرض الموتى مكانا سعيدا ولا مخيفا، بل كانت النقيض الروحي للسماوات ونسخة قاتمة من الحياة على الأرض.
    وفي اليونان القديمة كانت الكلمة المعبّرة عن هذا المكان السفلي هي "هيديز". ثم بعد مرور بعض الوقت، أضيف تعقيد آخر إلى هذا المفهوم من خلال فكرة إيجاد وجهة ثانية لأولئك الذين عاشوا حياة فضيلة واستقامة. ثم أصبحت الوجهة الأصلية للموتى أسوأ تدريجيا، وتحوّلت إلى جحيم من النار والظلام.
    وكانت هاتان الحالتان متطرّفتين لدرجة أنه بحلول القرن الخامس الميلادي، كان من الواضح أن خيارا ثالثا بات ضروريا لغالبية البشر الذين لا يستحقّون المكافآت الأبدية للقدّيسين ولكنهم أيضا لا يستحقّون العذاب الأبدي. وكان الحلّ لهذه المشكلة هو المطهر او البرزخ، وهو مكان يمكن فيه قبول المتوسّطين أخلاقيّا لفترة موقّتة ريثما يتطهّرون من الذنوب ويُقبلون في الجنّة في النهاية .
    في الثقافة اليونانية القديمة، كان لمفهوم الموت أهميّة كبيرة وكانت تصاحبه معتقدات وطقوس مختلفة. وكان الإغريق ينظرون إلى الموت كجزء طبيعي لا مفرّ منه من الحياة، وكان فهمهم للحياة الآخرة ورحلة الروح معقّدا بعض الشيء.
    والأساطير اليونانية تقدّم عوالم متعدّدة للحياة الآخرة. فهيديز هو عالَم الموتى، وهو مكان مظلم وكئيب يحكمه إله يحمل نفس الاسم. وهناك أقسام مختلفة داخل هيديز، مثل حقول الإليزيه "أو جِنان الفردوس"، وهي مخصّصة للأبرار والصالحين، وتارتاروس او عالم الجحيم وهو مخصّص للعصاة والفاسدين.
    وكان الإغريق يعتقدون أنه بعد الموت، تترك الروح الجسد وتبدأ رحلتها إلى العالم السفلي. وغالبا ما تتضمّن هذه الرحلة عبور نهر ستيكس بمساعدة الربّان شيرون.


    ويعتمد مصير الروح في الحياة الآخرة على عوامل عدّة، منها أعمال وتصرّفات الشخص المتوفّى أثناء حياته ونوعية الطقوس التي رافقت دفنه. والإغريق كانوا يعتقدون أن روح الشخص لا يمكن أن ترتاح بسلام في الحياة الآخرة دون غسل الجسم ودهنه ثم دفنه بالشكل المناسب.
    وكان الحداد على الموتى جزءا مهمّا من طقوس الحزن التي تضمن رحلة سلمية للروح الى عالم هيديز أو الآخرة، كارتداء الملابس السوداء وقصّ أو تمزيق الشعر وترك عملة معدنية على جسد الميّت لتُدفع لشيرون كرسم لعبور النهر.
    ويؤكّد علماء الآثار أنه في بعض المدافن، وُجدت بالفعل عملات معدنية موضوعة في فم الميّت أو بالقرب منه، واعتُبر هذا تأكيدا على أن لبعض جوانب أسطورة شيرون أصلا في بعض ممارسات الجنائز اليونانية والرومانية، وأن العملات المعدنية تعمل كزادٍ لرحلة الروح.
    ويذكر ڤ‍يرجيل في "الإنيادا" أنه كان على الموتى الذين لم يتمكّنوا من دفع الرسوم لشيرون أو لم يتلقّوا طقوس دفن لائقة أن يتجوّلوا على غير هدى على طول شواطئ ستيكس لمائة عام قبل أن يُسمح لهم بعبور النهر.
    وعبور نهر ستيكس هو رمز للرحلة من عالم الأحياء إلى الحياة الآخرة وانفصال الروح عن الجسد المادّي. وكثيرا ما يُصوَّر النهر على أنه كتلة مائية مظلمة وغامضة، يفصل بين أرض الأحياء وأرض الموتى، ويعكس الطبيعة القاتمة وغير المعروفة للحياة الآخرة. أمّا دور شيرون فهو توجيه الأرواح ونقلها عبر هذه الحدود والعمل كمرشد وحارس لهذا الانتقال.
    وكان أورفيوس، العازف الأسطوري، ممّن نقلهم شيرون بقاربه لاستعادة زوجته من عالم هيديز. وقد سَمح له بعبور نهر ستيكس دون دفع الرسوم المعتادة بعد أن فتنته موسيقاه. ويكشف هذا التعاطف النادر عن جانب أكثر رقّة وإنسانية لشيرون، الذي يُنظر إليه عادةً كشخصية قاسية ولا تعرف الرحمة.
    كان لشيرون تأثير كبير على الفنّ والأدب وعلى الثقافة الشعبية. وظهرت صورته كقائد لسفينة الموتى في عدد لا يُحصى من اللوحات والمنحوتات. وقد اجتذب موضوع عبوره لنهر ستيكس، مصحوبا بأرواح الموتى الى ارض هيديز، اهتمام الكثير من الرسّامين الذين جسّدوه في أعمال فنيّة مختلفة عبر التاريخ.
    وكان الغرض من تلك الأعمال استكشاف مواضيع مثل زوال الحياة وحتمية الموت ولاستثارة شعور بالغموض والتشاؤم والمجهول في نفس الناظر. وغالبا ما تصوّر الأعمال الفنيّة منظرا طبيعيا مهجورا يتضمّن نهرا مظلما وقاربا يقف فيه الربّان أو يجلس، بينما ينهمك في نقل الأرواح الى الآخرة.
    رمزية نهر ستيكس ورجل القارب منعكسة أيضا في مواقفنا الثقافية تجاه الموت والاحتضار. وفكرة عبور النهر للوصول إلى الحياة الآخرة هي مفهوم عالمي يمكن أن نجده في العديد من الثقافات والأديان حول العالم. كما أن صورة شيرون تأكيد على أهمية قبولنا لفكرة فنائنا في النهاية.
    وهذان الرمزان الدائمان في الأساطير اليونانية، أي نهر ستيكس وشيرون، ما يزالان يأسراننا ويلهماننا حتى اليوم. ومن المرجّح أن تظلّ صورتهما جزءا مهمّا من خيالنا الثقافي للقرون القادمة. وقد تجاوزت الصورتان الأساطير اليونانية ودخلت في سياقات ثقافية أوسع وأصبحت ترمز للموت والانتقال والمجهول بإثارتها فضول البشر الأبدي حول ما يكمن وراء هذا العالم.

    Credits
    study.com

    الثلاثاء، ديسمبر 31، 2024

    حياة بين الأشجار


    في رواية "البارون بين الأشجار"، يسرد الروائي الإيطالي ايتالو كالڤينو قصّة كوزيمو دي روندو، الابن الأكبر لدوق منطقة ليغوريا الإيطالية قبل عصر التنوير. كانت هذه المنطقة الواقعة شمال غرب إيطاليا مغطّاة بالغابات زمن حدوث القصّة، أي أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
    والقصّة يرويها شقيق كوزيمو الصغير بياجيو الذي يقول: كانت حياة كوزيمو غير عاديّة، بينما حياتي عادية ومتواضعة. ومع ذلك قضينا طفولتنا معاً، كلانا غير مبالٍ بهوس الكبار ويحاول العثور على مسارات لا يسلكها الآخرون".
    وعندما يملّ كوزيمو من حياة البذخ والإجراءات المشدّدة التي يفرضها والده، يقرّر التمرّد على كلّ ذلك ويتسلّق شجرة بلّوط كبيرة في حديقتهم ويرفض النزول من هناك. وسرعان ما يدرك كوزيمو أنه لن يضع قدميه على الأرض مرّة أخرى عندما يعلم أن شجرة البلّوط متّصلة بالغابة الكبرى المجاورة. ومن هناك أصبحت المنطقة بأكملها مفتوحة أمامه.
    ويصف كالڤينو، وعلى لسان بياجيو، جمال المنطقة وروعة الألوان فيها بقوله:
    في تلك الأيّام، أينما ذهبنا، كانت الأوراق والأغصان تفصلنا عن السماء. وكانت أشجار الليمون تنمو بالقرب من الأرض، وأشجار التين بأشكالها الملتوية تمدّ قبابها ذات الأوراق الثقيلة فوق البساتين باتجاه التلال. وكانت هناك أيضا أغصان كرز وسفرجل وخوخ ولوز وكمثرى وبرقوق وتفاح وخرّوب وتوت وجوز."
    في شجرة البلّوط يكوّن كوزيمو أصدقاء جددا، ويتعلّم مهارات جديدة ويخلق لنفسه حياة بين الأشجار. وفيها أيضا يتعلّم الصيد، ويبدأ في الاهتمام بالأدب والفلسفة، ويجد طريقة لأخذ الخير وترك الشرّ في عالمه، ويتكيّف مع التقدّم الجديد في الفكر والعلم القادم من عصر التنوير، مع الحفاظ على مسافة بينه وبين أسلوب الحياة القديم الذي يموت بسرعة.
    وُلِد إيتالو كالڤينو في هافانا بكوبا عام 1923، لكنه قضى شبابه في سان ريمو بإيطاليا وما حولها، حيث كانت عائلته توزّع وقتها بين مزرعة زهور تجريبية في المدينة ومنزل ريفيّ في التلال تُزرع فيه أصناف من الفاكهة الاستوائية مثل الغريب فروت والأفوكادو. وقد اعترف الكاتب ذات مرّة بتجربة الملل خلال طفولته. لذا من السهل أن نتخيّله بساقيه الفاترتين جالسا في إحدى أشجار والده وهو يقرأ روبرت ستيفنسون أو فرانز كافكا، كسلف حيّ لكوزيمو دي روندو بطل الرواية.
    يقول كالڤينو في مقابلة صحفية أجريت معه منذ سنوات: كان والدي عالماً زراعياً، وكانت والدتي عالمة نبات. كانا مهتمّين بشدّة بعالم النباتات والعلوم الطبيعية. لكنهما أدركا في وقت مبكّر جدّاً أنني لا أميل إلى هذا التخصّص".


    في جوهرها، تُعدّ رواية "البارون في الأشجار" قصّة إبداعية نقدية تتناول الهويّة الفردية والاستقلالية. فعندما يوشك كوزيمو على الدخول في سنّ المراهقة، يرفض التقاليد ويخطو بدلاً من ذلك إلى فضاء كوني على الأرض يكتشفه بين قمم الأشجار.
    وعلى ذلك الارتفاع، يكتشف وريث الدوقية منظومة معقّدة من الأشجار القادرة بطبيعتها على توفير المأوى والممرّ له. وفي أغصان مملكته الشجرية الجديدة، يخطو من شجر البلّوط إلى شجر الدردار، ومن شجر الخرّوب إلى شجر التوت، قبل أن يدخل حديقة جارته أوندريفا مارّا عبر شجرة ماغنوليا. وإذا كان كوزيمو قد دخل الأشجار ليثبت استقلاليته بقوّة، فقد ظلّ بين الأشجار تعبيرا عن رؤيته الثابتة للحب.
    في حديقة أوندريفا، كانت الأغصان ممتدّة مثل مخالب حيوانات غريبة، وكانت النباتات على الأرض تتفتّح على هيئة نجوم من الأوراق المتعرّجة مثل جلود الزواحف الخضراء. وكانت أشجار الخيزران الأصفر الريشي تلوّح بحفيف كالورق. ومن أعلى شجرة، كان كوزيمو، في شوقه إلى الاستمتاع إلى أقصى حدّ بالخضرة غير العاديّة لهذه النباتات الغريبة وأضوائها المختلفة وصمتها، يترك رأسه يسقط رأسا على عقب، حتى تصبح الحديقة غابة؛ غابة ليست من هذه الأرض، بل عالم آخر.
    أوصاف كالڤينو للأشجار هي من أكثر العناصر التي تسحر قارئ هذا الكتاب. فهو يصف كيف كانت أشجار الزيتون، بسبب أشكالها المتعرّجة، ممرّات مريحة وسهلة لكوزيمو، أشجارا صبورة ذات لحاء خشن ودود يستطيع أن يمرّ أو يتوقّف فوقها، على الرغم من ندرة الأغصان السميكة ورتابة الحركة الناجمة عن أشكالها.
    وكوزيمو يعيش حياته كلّها بين الأشجار. وكالڤينو يحاول أن يثْبت مدى طبيعية هذه الحياة. هناك يواصل كوزيمو تعليمه، يراسل الفلاسفة، ويعترف به فولتير ونابليون، وينام ويغتسل ويصطاد، ويقع في حبّ العديد من النساء ويصادق مجرماً ويزوّده بسيل مستمر من موادّ القراءة، ويقاتل القراصنة والجيوش الغازية، ويحْضر جنازة والده، ويحصل في النهاية على لقب "بارون"، كلّ ذلك وهو يمشي على قمم الأشجار "بخطوات قطّة".
    ويصل البارون إلى هذه النقطة من الوحدة وهو يعيش بين الأشجار، وهو الذي قضى ليالي يستمع إلى النسغ الذي يجري في خلاياها، والدوائر التي تحدّد السنوات داخل جذوعها، وبقع تَحلُّل الجذور التي تنمو على نحو متزايد بمساعدة رياح الشمال، والطيور النائمة المرتعشة في أعشاشها التي تعيد وضع رؤوسها على ريش أجنحتها الناعم، واليرقات التي تستيقظ والشرنقات التي تتفتّح.
    ومن عجيب المفارقات أن كوزيمو يظلّ ثابتا على الأرض. فهو يحتفظ بمسافة بينه وبين الآخرين ويحافظ على هويّته. وفي وقت لا يبدو فيه أيّ شيء مؤكّدا، فإنه يظلّ بين الأشجار.
    رواية "البارون بين الأشجار" هي عن الاحتجاج على الروتين وقسوة الحياة، فضلاً عن الاحتفال بالإقصاء الاجتماعي. كما أنها تتحدّث عن التعامل مع الفردية والموازنة بين اتصالك بالعالم الحقيقي واتصالك بنفسك. وهي تعكس الى حدّ ما الماضي غير البعيد للفاشية الإيطالية التي شعر كالفينو أنها حرمته من طفولته. كما أنها تشير إلى أن كلّ شخص لديه نسخته الخاصّة من هروب كوزيمو.
    هذه الرواية ليست الكتاب الوحيد الذي استخدم الغابة والأشجار كملاذ من مجتمع مخيف وخانق. ففي كتابه الكلاسيكي "والدن"، يصف المؤلّف الأمريكي هنري ديفيد ثورو كيف أنه ترَكَ الحضارة، تماما مثل "البارون بين الأشجار"، من أجل البحث عن جوهر الحياة في الغابة.

    Credits
    theconversation.com

    الاثنين، ديسمبر 30، 2024

    سجّاد لوتو


    اللوحة التي فوق تعود الى عام 1520، وفيها يرسم الفنّان الإيطالي لورينزو لوتو قدّيسا يُدعى أنطونيوس من بادوفا عُرف بعطفه على المساكين والفقراء، وهو يوزّع الصدقات على المحتاجين الذين يتوسّلون عطفه.
    العنصر الأكثر لفتاً للاهتمام في اللوحة هو السجّادة الإسلامية التي تغطّي الشرفة التي يستند اليها القدّيس، وهي تأكيد لما عُرف عن الرسّام من براعة في استخدام الضوء والألوان النابضة بالحياة لتعزيز العمق العاطفي والإنساني للمشهد.
    السجّاد المنسوج في العالم الإسلامي منذ القرن الرابع عشر فصاعدا نرى بعض صوره في لوحات الرسم الأوروبي التي تشكّل مصدرا أساسيا للدراسات حول السجّاد المبكّر. كما أن العديد من مجموعات السجّاد الإسلامي من الشرق الأوسط تسمّى اليوم بأسماء الرسّامين الأوروبّيين الذين صوّروها، مثل هولباين وجيرلاندايو وكريفيلي.
    لكن أشهر هؤلاء كان لورينزو لوتو الذي اشتهر بتصميم السجّاد الشرقي في القرن السادس عشر، أي عندما وصل فنّ النسج الى ذروته، إن من حيث عدد السجّاد المُنتج أو جودة التصاميم. وكانت طلبات نسج السجّاد تأتي من قبل أفراد العائلات المالكة والنبلاء الأثرياء. كان السجّاد وقتها يُقدّم كهدايا سياسية، وكان اقتناء السجّاد القادم من الإمبراطورية العثمانية يُعتبر علامة على الثروة والمكانة في إيطاليا وفي جميع أنحاء أوروبّا.
    وكان من الممكن أن تضيع الكثير من تحف السجّاد مع مرور الزمن وإلى الأبد، لولا أعمال فنّاني عصر النهضة الذين حافظوا عليها بإدراجها في لوحاتهم. ومن بين أهمّ تلك التحف مجموعة خاصّة من السجّاد الأناضولي العتيق للفنّان لوتو، وأصبحت هذه المجموعة من السجّاد تُعرف باسم "سجّاد لوتو".
    كان لوتو معروفا باستخدامه للألوان المشبعة والواقعية. ويتميّز السجّاد الذي رسمه بنمط الحقل المتكرّر مع أنماط هندسية معقّدة من الدانتيل. وعادةً ما تكون التصميمات باللونين الأصفر أو الكريمي على خلفية حمراء غميقة. ويُعتقد أن السجّاد الفعلي أُنتج في منطقة على طول ساحل بحر إيجة في الأناضول.
    ولم تكن سجّادات لوتو مناسبة للاستخدام في البلاط العثماني. فالسجّادات التي كانت مخصّصة للاستخدام في الإمبراطورية العثمانية كانت عادةً من النوع ذي التصميم الميدالي مع أنماط نباتية واسعة وكثيرة. أما السجّاد الذي كان يُصنع للتصدير فكان عموما يتّسم بصغر حجمه.


    وبالنسبة للسجّاد المصنوع للاستخدام المنزلي في تركيا فكان مخصّصا للاستخدام على الأرضيات. ومع ذلك، في أوروبّا، كان العديد من قطع السجّاد مصنوعة للاستخدام على الطاولات، وهو ما صوّره لوتو في لوحاته "مثل التي فوق".
    ومن المرجّح أن الرسّام كان على دراية بهذه السجّادات الهندسية المخصّصة للتصدير، حيث كانت إيطاليا وجهة رئيسية لها. وتبدو حوافّ سجّاد لوتو حاملةً كتابات كوفية، لكن هذه لم تكن كتابة يمكن فهمها، بل صُمّمت لتبدو وكأنها خطّ عربي، أي أنها كانت مجرّد تصميمات زخرفية.
    وهناك وثائق تشير إلى أن لوتو كان يمتلك سجّادة كبيرة، على الرغم من أن نمطها غير معروف. وكانت تزيّن حوافّها زخارف عربية صلبة توحي إلى حدّ ما بأوراق الشجر، وتنتهي بسعف نخيل متفرّع. كان هذا النوع شائعا ومعروفا أيضا باسم "سجّاد أوشاك العربي". ومع ذلك، لا يُعرف ما إذا كان أيّ من السجّاد المصوّر في لوحاته من صنعه الخاص، أم أنه رآه في مكان آخر أثناء أسفاره ثم رسَمَه.
    ومن منظور تاريخي، تُعدّ سجّادات لوتو مجموعة مهمّة، لأن نمط السجّاد يبدو كما لو أنه ظهر إلى الوجود فجأة ثم اختفى بنفس السرعة. وحتى الآن، ليس هناك تفسير واضح لسبب حدوث هذا. وما نعرفه هو أن هذه السجّادات تحتوي على بعض أروع مجموعات الألوان والأنماط في تاريخ صناعة السجّاد.
    لكن العثور اليوم على سجّادة لوتو أصلية أمر يكاد يكون مستحيلاً. ولكن على مرّ السنين، أعيد إنتاجها خلال فترات زمنية مختلفة. وصُنعت بعض النسخ الرائعة منها في أواخر القرن التاسع عشر. وفي كثير من الحالات، من الصعب التمييز بين النسخة والأصل، لأن تقنيات الصباغة والنسج لم تتغيّر كثيرا عبر العصور.
    وحتى النسخ التي تعود الى أواخر القرن التاسع عشر تُعتبر تحفا ثمينة. وقد ظهر سجّاد لوتو في لوحات فنّانين مثل موريللو وزورباران في القرن السابع عشر، وكذلك في اللوحات الهولندية من القرن السابع عشر وأحيانا ما بعده.
    فيما عدا السجّاد، كان هذا المعلّم الفينيسي، أي لوتو، متخصّصا في رسم صور البورتريهات المشفرّة التي تتضمّن صورة الشخص المرسوم مع رموز للسمات التي تميّزه، كالآلهة الكلاسيكية والابطال القدماء والقدّيسين وسواهم.

    Credits
    tandfonline.com