:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، يناير 01، 2025

رحلة الى عالَم هيديز


هل تتوقّع حقّا أن تتمكّن من سرقة، أو حتى لمس قطرة واحدة من أقدس الينابيع وأكثرها قسوةً؟ حتى الآلهة وجوپ‍يتر نفسه يخافون من مياه ستيكس. ويجب أن تعلم أنه، كما تُقسِم أنت بقوى الآلهة، فإن الآلهة نفسها تقسم دائما بجلال ستيكس.
* نسر جوپ‍يتر موبّخاً سايكي، التحوّلات لأبوليوس، ١٥٠م.

❉ ❉ ❉

في اللوحة التي فوق، يصوّر الفنّان الفرنسي غوستاف دوريه مشهدا من قصيدة دانتي أليغييري الملحمية "الكوميديا الإلهية". وتصوّر اللوحة جزءا من نهر ستيكس الأسطوري الذي تظهر وسط أمواجه المضطربة العديد من الأرواح المعذّبة والأجساد المتلوّية والمتألّمة.
وفي وسط المنظر، تظهر شخصيّتا دانتي وڤ‍يرجيل وهما يقفان في قارب يقوده حارس الجحيم شيرون. وفي الخلفية، تظهر طبيعة مظلمة ومتعرّجة وسماء منذرة بالشؤم، تعكس الأجواء المضطربة لمناطق الجحيم في كتاب دانتي. وقد استخدم الرسّام خطوطا تفصيلية ومعبّرة لالتقاط الكثافة الدرامية والعاطفية للمشهد.
فكرة الغرب الحديثة عن الحياة الأبدية يمكن إرجاع أصولها إلى شعوب بلاد ما بين النهرين القديمة، التي تَصوّرت عالما سفليّا يُعرف باسم أرالو أو إركالا. وكما كان يُعتقد أن السماوات موجودة فعليّا عالياً فوق رؤوس المؤمنين، كان يُعتقد ايضا أن هذا العالم السفلي موجود تحت سطح الأرض. ولم تكن أرض الموتى مكانا سعيدا ولا مخيفا، بل كانت النقيض الروحي للسماوات ونسخة قاتمة من الحياة على الأرض.
وفي اليونان القديمة كانت الكلمة المعبّرة عن هذا المكان السفلي هي "هيديز". ثم بعد مرور بعض الوقت، أضيف تعقيد آخر إلى هذا المفهوم من خلال فكرة إيجاد وجهة ثانية لأولئك الذين عاشوا حياة فضيلة واستقامة. ثم أصبحت الوجهة الأصلية للموتى أسوأ تدريجيا، وتحوّلت إلى جحيم من النار والظلام.
وكانت هاتان الحالتان متطرّفتين لدرجة أنه بحلول القرن الخامس الميلادي، كان من الواضح أن خيارا ثالثا بات ضروريا لغالبية البشر الذين لا يستحقّون المكافآت الأبدية للقدّيسين ولكنهم أيضا لا يستحقّون العذاب الأبدي. وكان الحلّ لهذه المشكلة هو المطهر او البرزخ، وهو مكان يمكن فيه قبول المتوسّطين أخلاقيّا لفترة موقّتة ريثما يتطهّرون من الذنوب ويُقبلون في الجنّة في النهاية .
في الثقافة اليونانية القديمة، كان لمفهوم الموت أهميّة كبيرة وكانت تصاحبه معتقدات وطقوس مختلفة. وكان الإغريق ينظرون إلى الموت كجزء طبيعي لا مفرّ منه من الحياة، وكان فهمهم للحياة الآخرة ورحلة الروح معقّدا بعض الشيء.
والأساطير اليونانية تقدّم عوالم متعدّدة للحياة الآخرة. فهيديز هو عالَم الموتى، وهو مكان مظلم وكئيب يحكمه إله يحمل نفس الاسم. وهناك أقسام مختلفة داخل هيديز، مثل حقول الإليزيه "أو جِنان الفردوس"، وهي مخصّصة للأبرار والصالحين، وتارتاروس او عالم الجحيم وهو مخصّص للعصاة والفاسدين.
وكان الإغريق يعتقدون أنه بعد الموت، تترك الروح الجسد وتبدأ رحلتها إلى العالم السفلي. وغالبا ما تتضمّن هذه الرحلة عبور نهر ستيكس بمساعدة الربّان شيرون.


ويعتمد مصير الروح في الحياة الآخرة على عوامل عدّة، منها أعمال وتصرّفات الشخص المتوفّى أثناء حياته ونوعية الطقوس التي رافقت دفنه. والإغريق كانوا يعتقدون أن روح الشخص لا يمكن أن ترتاح بسلام في الحياة الآخرة دون غسل الجسم ودهنه ثم دفنه بالشكل المناسب.
وكان الحداد على الموتى جزءا مهمّا من طقوس الحزن التي تضمن رحلة سلمية للروح الى عالم هيديز أو الآخرة، كارتداء الملابس السوداء وقصّ أو تمزيق الشعر وترك عملة معدنية على جسد الميّت لتُدفع لشيرون كرسم لعبور النهر.
ويؤكّد علماء الآثار أنه في بعض المدافن، وُجدت بالفعل عملات معدنية موضوعة في فم الميّت أو بالقرب منه، واعتُبر هذا تأكيدا على أن لبعض جوانب أسطورة شيرون أصلا في بعض ممارسات الجنائز اليونانية والرومانية، وأن العملات المعدنية تعمل كزادٍ لرحلة الروح.
ويذكر ڤ‍يرجيل في "الإنيادا" أنه كان على الموتى الذين لم يتمكّنوا من دفع الرسوم لشيرون أو لم يتلقّوا طقوس دفن لائقة أن يتجوّلوا على غير هدى على طول شواطئ ستيكس لمائة عام قبل أن يُسمح لهم بعبور النهر.
وعبور نهر ستيكس هو رمز للرحلة من عالم الأحياء إلى الحياة الآخرة وانفصال الروح عن الجسد المادّي. وكثيرا ما يُصوَّر النهر على أنه كتلة مائية مظلمة وغامضة، يفصل بين أرض الأحياء وأرض الموتى، ويعكس الطبيعة القاتمة وغير المعروفة للحياة الآخرة. أمّا دور شيرون فهو توجيه الأرواح ونقلها عبر هذه الحدود والعمل كمرشد وحارس لهذا الانتقال.
وكان أورفيوس، العازف الأسطوري، ممّن نقلهم شيرون بقاربه لاستعادة زوجته من عالم هيديز. وقد سَمح له بعبور نهر ستيكس دون دفع الرسوم المعتادة بعد أن فتنته موسيقاه. ويكشف هذا التعاطف النادر عن جانب أكثر رقّة وإنسانية لشيرون، الذي يُنظر إليه عادةً كشخصية قاسية ولا تعرف الرحمة.
كان لشيرون تأثير كبير على الفنّ والأدب وعلى الثقافة الشعبية. وظهرت صورته كقائد لسفينة الموتى في عدد لا يُحصى من اللوحات والمنحوتات. وقد اجتذب موضوع عبوره لنهر ستيكس، مصحوبا بأرواح الموتى الى ارض هيديز، اهتمام الكثير من الرسّامين الذين جسّدوه في أعمال فنيّة مختلفة عبر التاريخ.
وكان الغرض من تلك الأعمال استكشاف مواضيع مثل زوال الحياة وحتمية الموت ولاستثارة شعور بالغموض والتشاؤم والمجهول في نفس الناظر. وغالبا ما تصوّر الأعمال الفنيّة منظرا طبيعيا مهجورا يتضمّن نهرا مظلما وقاربا يقف فيه الربّان أو يجلس، بينما ينهمك في نقل الأرواح الى الآخرة.
رمزية نهر ستيكس ورجل القارب منعكسة أيضا في مواقفنا الثقافية تجاه الموت والاحتضار. وفكرة عبور النهر للوصول إلى الحياة الآخرة هي مفهوم عالمي يمكن أن نجده في العديد من الثقافات والأديان حول العالم. كما أن صورة شيرون تأكيد على أهمية قبولنا لفكرة فنائنا في النهاية.
وهذان الرمزان الدائمان في الأساطير اليونانية، أي نهر ستيكس وشيرون، ما يزالان يأسراننا ويلهماننا حتى اليوم. ومن المرجّح أن تظلّ صورتهما جزءا مهمّا من خيالنا الثقافي للقرون القادمة. وقد تجاوزت الصورتان الأساطير اليونانية ودخلت في سياقات ثقافية أوسع وأصبحت ترمز للموت والانتقال والمجهول بإثارتها فضول البشر الأبدي حول ما يكمن وراء هذا العالم.

Credits
study.com

الثلاثاء، ديسمبر 31، 2024

حياة بين الأشجار


في رواية "البارون بين الأشجار"، يسرد الروائي الإيطالي ايتالو كالڤينو قصّة كوزيمو دي روندو، الابن الأكبر لدوق منطقة ليغوريا الإيطالية قبل عصر التنوير. كانت هذه المنطقة الواقعة شمال غرب إيطاليا مغطّاة بالغابات زمن حدوث القصّة، أي أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
والقصّة يرويها شقيق كوزيمو الصغير بياجيو الذي يقول: كانت حياة كوزيمو غير عاديّة، بينما حياتي عادية ومتواضعة. ومع ذلك قضينا طفولتنا معاً، كلانا غير مبالٍ بهوس الكبار ويحاول العثور على مسارات لا يسلكها الآخرون".
وعندما يملّ كوزيمو من حياة البذخ والإجراءات المشدّدة التي يفرضها والده، يقرّر التمرّد على كلّ ذلك ويتسلّق شجرة بلّوط كبيرة في حديقتهم ويرفض النزول من هناك. وسرعان ما يدرك كوزيمو أنه لن يضع قدميه على الأرض مرّة أخرى عندما يعلم أن شجرة البلّوط متّصلة بالغابة الكبرى المجاورة. ومن هناك أصبحت المنطقة بأكملها مفتوحة أمامه.
ويصف كالڤينو، وعلى لسان بياجيو، جمال المنطقة وروعة الألوان فيها بقوله:
في تلك الأيّام، أينما ذهبنا، كانت الأوراق والأغصان تفصلنا عن السماء. وكانت أشجار الليمون تنمو بالقرب من الأرض، وأشجار التين بأشكالها الملتوية تمدّ قبابها ذات الأوراق الثقيلة فوق البساتين باتجاه التلال. وكانت هناك أيضا أغصان كرز وسفرجل وخوخ ولوز وكمثرى وبرقوق وتفاح وخرّوب وتوت وجوز."
في شجرة البلّوط يكوّن كوزيمو أصدقاء جددا، ويتعلّم مهارات جديدة ويخلق لنفسه حياة بين الأشجار. وفيها أيضا يتعلّم الصيد، ويبدأ في الاهتمام بالأدب والفلسفة، ويجد طريقة لأخذ الخير وترك الشرّ في عالمه، ويتكيّف مع التقدّم الجديد في الفكر والعلم القادم من عصر التنوير، مع الحفاظ على مسافة بينه وبين أسلوب الحياة القديم الذي يموت بسرعة.
وُلِد إيتالو كالڤينو في هافانا بكوبا عام 1923، لكنه قضى شبابه في سان ريمو بإيطاليا وما حولها، حيث كانت عائلته توزّع وقتها بين مزرعة زهور تجريبية في المدينة ومنزل ريفيّ في التلال تُزرع فيه أصناف من الفاكهة الاستوائية مثل الغريب فروت والأفوكادو. وقد اعترف الكاتب ذات مرّة بتجربة الملل خلال طفولته. لذا من السهل أن نتخيّله بساقيه الفاترتين جالسا في إحدى أشجار والده وهو يقرأ روبرت ستيفنسون أو فرانز كافكا، كسلف حيّ لكوزيمو دي روندو بطل الرواية.
يقول كالڤينو في مقابلة صحفية أجريت معه منذ سنوات: كان والدي عالماً زراعياً، وكانت والدتي عالمة نبات. كانا مهتمّين بشدّة بعالم النباتات والعلوم الطبيعية. لكنهما أدركا في وقت مبكّر جدّاً أنني لا أميل إلى هذا التخصّص".


في جوهرها، تُعدّ رواية "البارون في الأشجار" قصّة إبداعية نقدية تتناول الهويّة الفردية والاستقلالية. فعندما يوشك كوزيمو على الدخول في سنّ المراهقة، يرفض التقاليد ويخطو بدلاً من ذلك إلى فضاء كوني على الأرض يكتشفه بين قمم الأشجار.
وعلى ذلك الارتفاع، يكتشف وريث الدوقية منظومة معقّدة من الأشجار القادرة بطبيعتها على توفير المأوى والممرّ له. وفي أغصان مملكته الشجرية الجديدة، يخطو من شجر البلّوط إلى شجر الدردار، ومن شجر الخرّوب إلى شجر التوت، قبل أن يدخل حديقة جارته أوندريفا مارّا عبر شجرة ماغنوليا. وإذا كان كوزيمو قد دخل الأشجار ليثبت استقلاليته بقوّة، فقد ظلّ بين الأشجار تعبيرا عن رؤيته الثابتة للحب.
في حديقة أوندريفا، كانت الأغصان ممتدّة مثل مخالب حيوانات غريبة، وكانت النباتات على الأرض تتفتّح على هيئة نجوم من الأوراق المتعرّجة مثل جلود الزواحف الخضراء. وكانت أشجار الخيزران الأصفر الريشي تلوّح بحفيف كالورق. ومن أعلى شجرة، كان كوزيمو، في شوقه إلى الاستمتاع إلى أقصى حدّ بالخضرة غير العاديّة لهذه النباتات الغريبة وأضوائها المختلفة وصمتها، يترك رأسه يسقط رأسا على عقب، حتى تصبح الحديقة غابة؛ غابة ليست من هذه الأرض، بل عالم آخر.
أوصاف كالڤينو للأشجار هي من أكثر العناصر التي تسحر قارئ هذا الكتاب. فهو يصف كيف كانت أشجار الزيتون، بسبب أشكالها المتعرّجة، ممرّات مريحة وسهلة لكوزيمو، أشجارا صبورة ذات لحاء خشن ودود يستطيع أن يمرّ أو يتوقّف فوقها، على الرغم من ندرة الأغصان السميكة ورتابة الحركة الناجمة عن أشكالها.
وكوزيمو يعيش حياته كلّها بين الأشجار. وكالڤينو يحاول أن يثْبت مدى طبيعية هذه الحياة. هناك يواصل كوزيمو تعليمه، يراسل الفلاسفة، ويعترف به فولتير ونابليون، وينام ويغتسل ويصطاد، ويقع في حبّ العديد من النساء ويصادق مجرماً ويزوّده بسيل مستمر من موادّ القراءة، ويقاتل القراصنة والجيوش الغازية، ويحْضر جنازة والده، ويحصل في النهاية على لقب "بارون"، كلّ ذلك وهو يمشي على قمم الأشجار "بخطوات قطّة".
ويصل البارون إلى هذه النقطة من الوحدة وهو يعيش بين الأشجار، وهو الذي قضى ليالي يستمع إلى النسغ الذي يجري في خلاياها، والدوائر التي تحدّد السنوات داخل جذوعها، وبقع تَحلُّل الجذور التي تنمو على نحو متزايد بمساعدة رياح الشمال، والطيور النائمة المرتعشة في أعشاشها التي تعيد وضع رؤوسها على ريش أجنحتها الناعم، واليرقات التي تستيقظ والشرنقات التي تتفتّح.
ومن عجيب المفارقات أن كوزيمو يظلّ ثابتا على الأرض. فهو يحتفظ بمسافة بينه وبين الآخرين ويحافظ على هويّته. وفي وقت لا يبدو فيه أيّ شيء مؤكّدا، فإنه يظلّ بين الأشجار.
رواية "البارون بين الأشجار" هي عن الاحتجاج على الروتين وقسوة الحياة، فضلاً عن الاحتفال بالإقصاء الاجتماعي. كما أنها تتحدّث عن التعامل مع الفردية والموازنة بين اتصالك بالعالم الحقيقي واتصالك بنفسك. وهي تعكس الى حدّ ما الماضي غير البعيد للفاشية الإيطالية التي شعر كالفينو أنها حرمته من طفولته. كما أنها تشير إلى أن كلّ شخص لديه نسخته الخاصّة من هروب كوزيمو.
هذه الرواية ليست الكتاب الوحيد الذي استخدم الغابة والأشجار كملاذ من مجتمع مخيف وخانق. ففي كتابه الكلاسيكي "والدن"، يصف المؤلّف الأمريكي هنري ديفيد ثورو كيف أنه ترَكَ الحضارة، تماما مثل "البارون بين الأشجار"، من أجل البحث عن جوهر الحياة في الغابة.

Credits
theconversation.com

الاثنين، ديسمبر 30، 2024

سجّاد لوتو


اللوحة التي فوق تعود الى عام 1520، وفيها يرسم الفنّان الإيطالي لورينزو لوتو قدّيسا يُدعى أنطونيوس من بادوفا عُرف بعطفه على المساكين والفقراء، وهو يوزّع الصدقات على المحتاجين الذين يتوسّلون عطفه.
العنصر الأكثر لفتاً للاهتمام في اللوحة هو السجّادة الإسلامية التي تغطّي الشرفة التي يستند اليها القدّيس، وهي تأكيد لما عُرف عن الرسّام من براعة في استخدام الضوء والألوان النابضة بالحياة لتعزيز العمق العاطفي والإنساني للمشهد.
السجّاد المنسوج في العالم الإسلامي منذ القرن الرابع عشر فصاعدا نرى بعض صوره في لوحات الرسم الأوروبي التي تشكّل مصدرا أساسيا للدراسات حول السجّاد المبكّر. كما أن العديد من مجموعات السجّاد الإسلامي من الشرق الأوسط تسمّى اليوم بأسماء الرسّامين الأوروبّيين الذين صوّروها، مثل هولباين وجيرلاندايو وكريفيلي.
لكن أشهر هؤلاء كان لورينزو لوتو الذي اشتهر بتصميم السجّاد الشرقي في القرن السادس عشر، أي عندما وصل فنّ النسج الى ذروته، إن من حيث عدد السجّاد المُنتج أو جودة التصاميم. وكانت طلبات نسج السجّاد تأتي من قبل أفراد العائلات المالكة والنبلاء الأثرياء. كان السجّاد وقتها يُقدّم كهدايا سياسية، وكان اقتناء السجّاد القادم من الإمبراطورية العثمانية يُعتبر علامة على الثروة والمكانة في إيطاليا وفي جميع أنحاء أوروبّا.
وكان من الممكن أن تضيع الكثير من تحف السجّاد مع مرور الزمن وإلى الأبد، لولا أعمال فنّاني عصر النهضة الذين حافظوا عليها بإدراجها في لوحاتهم. ومن بين أهمّ تلك التحف مجموعة خاصّة من السجّاد الأناضولي العتيق للفنّان لوتو، وأصبحت هذه المجموعة من السجّاد تُعرف باسم "سجّاد لوتو".
كان لوتو معروفا باستخدامه للألوان المشبعة والواقعية. ويتميّز السجّاد الذي رسمه بنمط الحقل المتكرّر مع أنماط هندسية معقّدة من الدانتيل. وعادةً ما تكون التصميمات باللونين الأصفر أو الكريمي على خلفية حمراء غميقة. ويُعتقد أن السجّاد الفعلي أُنتج في منطقة على طول ساحل بحر إيجة في الأناضول.
ولم تكن سجّادات لوتو مناسبة للاستخدام في البلاط العثماني. فالسجّادات التي كانت مخصّصة للاستخدام في الإمبراطورية العثمانية كانت عادةً من النوع ذي التصميم الميدالي مع أنماط نباتية واسعة وكثيرة. أما السجّاد الذي كان يُصنع للتصدير فكان عموما يتّسم بصغر حجمه.


وبالنسبة للسجّاد المصنوع للاستخدام المنزلي في تركيا فكان مخصّصا للاستخدام على الأرضيات. ومع ذلك، في أوروبّا، كان العديد من قطع السجّاد مصنوعة للاستخدام على الطاولات، وهو ما صوّره لوتو في لوحاته "مثل التي فوق".
ومن المرجّح أن الرسّام كان على دراية بهذه السجّادات الهندسية المخصّصة للتصدير، حيث كانت إيطاليا وجهة رئيسية لها. وتبدو حوافّ سجّاد لوتو حاملةً كتابات كوفية، لكن هذه لم تكن كتابة يمكن فهمها، بل صُمّمت لتبدو وكأنها خطّ عربي، أي أنها كانت مجرّد تصميمات زخرفية.
وهناك وثائق تشير إلى أن لوتو كان يمتلك سجّادة كبيرة، على الرغم من أن نمطها غير معروف. وكانت تزيّن حوافّها زخارف عربية صلبة توحي إلى حدّ ما بأوراق الشجر، وتنتهي بسعف نخيل متفرّع. كان هذا النوع شائعا ومعروفا أيضا باسم "سجّاد أوشاك العربي". ومع ذلك، لا يُعرف ما إذا كان أيّ من السجّاد المصوّر في لوحاته من صنعه الخاص، أم أنه رآه في مكان آخر أثناء أسفاره ثم رسَمَه.
ومن منظور تاريخي، تُعدّ سجّادات لوتو مجموعة مهمّة، لأن نمط السجّاد يبدو كما لو أنه ظهر إلى الوجود فجأة ثم اختفى بنفس السرعة. وحتى الآن، ليس هناك تفسير واضح لسبب حدوث هذا. وما نعرفه هو أن هذه السجّادات تحتوي على بعض أروع مجموعات الألوان والأنماط في تاريخ صناعة السجّاد.
لكن العثور اليوم على سجّادة لوتو أصلية أمر يكاد يكون مستحيلاً. ولكن على مرّ السنين، أعيد إنتاجها خلال فترات زمنية مختلفة. وصُنعت بعض النسخ الرائعة منها في أواخر القرن التاسع عشر. وفي كثير من الحالات، من الصعب التمييز بين النسخة والأصل، لأن تقنيات الصباغة والنسج لم تتغيّر كثيرا عبر العصور.
وحتى النسخ التي تعود الى أواخر القرن التاسع عشر تُعتبر تحفا ثمينة. وقد ظهر سجّاد لوتو في لوحات فنّانين مثل موريللو وزورباران في القرن السابع عشر، وكذلك في اللوحات الهولندية من القرن السابع عشر وأحيانا ما بعده.
فيما عدا السجّاد، كان هذا المعلّم الفينيسي، أي لوتو، متخصّصا في رسم صور البورتريهات المشفرّة التي تتضمّن صورة الشخص المرسوم مع رموز للسمات التي تميّزه، كالآلهة الكلاسيكية والابطال القدماء والقدّيسين وسواهم.

Credits
tandfonline.com