سمعتُ بالأمس قصّة عن شيخ عاش حياة ممتدّة إلى أن ناهز عمره الثمانين عاما، مع ما يرتبط بهذه السنّ من متاعب وعلل الشيخوخة المختلفة.
شيئا فشيئا بدأ الرجل يحسّ باقتراب المنيّة، وصاحب ذلك الإحساس شعور متزايد بالخوف والاضطراب، وذات ليلة وقد أصبح على بعد خطوات من القبر أجهش بالبكاء وقال لزوجته وأولاده بصوت مكتوم وكلمات مرتعشة: لا تتركوني وحيدا في الحفرة"!
وكان يقصد بالحفرة القبر الذي جهّز ليدفن فيه.
وشعر أفراد العائلة بالألم والفجيعة مما سمعوه فانخرطوا جميعا في البكاء لهول الموقف وعجزهم وقلة حيلتهم إزاءه.
أهم دلالات هذه القصّة هي أن الخوف من الموت خوف غريزي ومتأصّل في فطرة الإنسان. إذ بالرغم من أن ذلك الشيخ كان قريبا إلى الله مداوما على أداء الفروض والواجبات الدينية ومؤمنا بالقضاء والقدر وبأن الموت قدر محتوم على كل إنسان، فإن ذلك كله لم يفلح في إزالة أو تخفيف رهبة الموت من نفسه.
كما بدا أن الرجل لم يكن قد تصالح بعد مع فكرة الموت، على الرغم من انه عاش كل هذه السنوات الطوال وأخذ نصيبه من الدنيا بما فيه الكفاية.
هذه القصّة، وغيرها من القصص المشابهة التي سمعتها، أثارت في خاطري سؤالا يمكن أن يصاغ على النحو التالي: أيهما أكثر تصالحا مع فكرة الموت وتسليما بها، المسلم أم المسيحي؟
أظن – والله اعلم – أن الغربيين يتقبّلون فكرة الموت برضا وتسليم اكبر من ذلك الذي عند المسلمين. وأحد الشواهد التي تدعم هذا الافتراض أن كثيرا من الغربيين يخطّطون لمراسم الجنازة كما لو أنهم يخطّطون لحفلات زواجهم ومناسبات أنسهم وفرحهم.
بل إن بعضهم يختار مسبقا شكل الكفن ونوعية الملابس التي سيدفن بها والأشياء والتذكارات التي ستوضع معه في قبره.
وقد يمتدّ ذلك أحيانا إلى تحديد أسماء الأصدقاء والمعارف الذين سيحضرون المأتم من رجال دين ووعّاظ ومتحدّثين وخلافه.
في الإنجيل ليس هناك حديث كثير عن الجنة والنار. غاية ما في الأمر انه إذا مات المؤمن المسيحي فإن يسوع الربّ يكون في استقباله على بوّابة السماء وبين الغيم محيّيا ومرحّبا.
أما القرآن الكريم فيتحدّث كثيرا عن أهوال النار والعذاب الذي اعدّ للمذنبين والخاطئين، لكنه أيضا يتحدّث عن الجنّة وما تمتلئ به من صنوف المتع والملذّات من حور عين وفاكهة وغلمان وأنهار من نبيذ ولبن وعسل.. الخ.
وبناءً على ذلك، فإن المسلم يفترض به ألا يجزع ولا يخاف من الموت لأنه سيكون على موعد مع كل هذه النعم الوفيرة والملذّات الكثيرة التي تنتظره عند مغادرته الحياة الدنيا.
لكن من الواضح أن أيّا من هذه الأمور والتصوّرات لم يكن في ذهن ذلك الشيخ المسكين الذي أرعبته فكرة أن يترك وحيدا في ظلمة القبر، إنه لا يأسى كثيرا على فراق الأهل والولد ولا يبالي بالنعيم المقيم الذي ينتظره في الدار الآخرة.
إن ما يخيفه ويشوّش عقله هو أن يموت وأن يوضع لوحده في حفرة صغيرة وموحشة ارتبط ذكرها في عقول الناس بالعذاب وبالشجاع الأقرع وغير ذلك من القصص والتهيّؤات المخيفة والمرعبة.
انه الخوف الغريزي من الموت الذي لا تفلح في تبديده أو تخفيف أثره النصوص الدينية مهما حملت من وعود بالمكافأة وبالخلود والنعيم الأبدي.
إن برود الغربيين ولا مبالاتهم بالموت أمر مثير للاهتمام فعلا، في الوقت الذي ما يزال الموت يشكّل للكثير منا – نحن المسلمين – هاجسا مخيفا لا يريد احد استحضاره أو التفكير فيه، يستوي في ذلك الأبرار والأشرار، والمحسنون والمذنبون.
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .
الاثنين، أغسطس 27، 2007
لا تتركوني وحيدا
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)