إن كنت تبحث عن رواية تتضمّن حبكة أو خيوطا تُنسج حولها الأحداث فستُصاب على الأرجح بالإحباط وأنت تقرأ رواية "مدن الخيال" للكاتب الايطالي ايتالو كالفينو. أما إن كنت ممّن يستمتعون بوصف المَشاهد والأفكار غير العاديّة المنسوجة بالكلمات، فلا بدّ وأن تأسرك هذه الرواية وتثير اهتمامك.
محاولات تصنيف رواية كالفينو غير مجدية. لكن يمكن القول إنها رواية سوريالية تنتمي إلى أدب ما بعد الحداثة. والرواية بأكملها هي نوع من قصص الفلكلور المبنيّة على سلسلة من المغامرات المثيرة والمشوّقة.
يتألّف الكتاب من خمسة وخمسين وصفا لمدن مختلفة ضمن حوار فكري متخيّل بين كلّ من الرحّالة الايطالي ماركوبولو والإمبراطور المغولي قبلاي خان.
وليس من الواضح ما إذا كانت هذه المدن حقيقية أم أنها مجرّد أوهام في عقل كلّ من الرجلين. والرواية لا تختلف عن أعمال أدبية رومانسية عديدة في كونها تصف قوّة الذاكرة والحنين إلى أماكن وأحداث تلاشت واختفت بفعل الزمن.
وأنت تقرأ هذه الرواية، ربّما يتعيّن عليك أن تتوقّف بعد كل قصّة وأن تفكّر وتتأمّل الأسلوب الجميل للكاتب الذي يمزج في سرده بين الشعر والنثر الرفيع. والحقيقة أن الكثير من القصص التي تتضمّنها الرواية تثير التأمّل وتلامس وترا عميقا في النفس.
في بداية الكتاب يعبّر قبلاي خان عن سأمه من القصص التي يرويها له مبعوثوه الذين يوفدهم إلى أرجاء الإمبراطورية. لم يعد يثير اهتمامه سوى القصص التي يحكيها له ماركوبولو عن المدن التي رآها خلال أسفاره الكثيرة.
يتحدّث ماركوبولو، مثلا، عن مدينة تُسمّى زبيدة، يلزمك لكي تصل إليها ستّة أيام وسبع ليال. ثم يروي قصّة إنشاء هذه المدينة "البيضاء المكشوفة للقمر". أناس من أماكن كثيرة رأوا حلما واحدا. رأوا امرأة تجري في الليل عبر شوارع مدينة مجهولة. كانت عارية وبشعر طويل وكانت تُرى دائما من الخلف. كلّ الرجال كانوا يطاردونها في الحلم ويفتّشون عنها في طرقات المدينة وأزقّتها الملتوية. لكنّهم لا يعثرون لها على اثر أبدا. وهنا يقرّر الرجال البحث عن المدينة نفسها، لكنهم لا يجدونها أيضا. غير أنهم يجدون مدينة أخرى فيقرّرون إعادة بنائها بحيث تماثل تلك التي رأوها في الحلم. وعندما يشيّدون الشوارع يتبع كلّ منهم المسار الذي سلكه في الحلم. وفي البقعة التي فقدوا فيها أثر المرأة يرتّبون المساحات والجدران بشكل مختلف عمّا رأوه في الحلم كي لا تتمكّن المرأة من الهرب ثانية.
بعض من وصلوا إلى المدينة في ما بعد لم يستطيعوا أن يفهموا ما الذي اجتذب هؤلاء الناس إلى هذه المدينة التي تشبه الفخّ.
هذه هي مدينة زبيدة التي توافد إليها الناس وانتظروا تكرار ذلك المشهد ذات ليلة. لكن لا احد منهم تمكّن من رؤية المرأة مرّة أخرى، سواءً في اليقظة أو في الحلم.
شوارع هذه المدينة هي نفس الشوارع التي يستخدمها الناس كلّ يوم للذهاب إلى أعمالهم. لكن لم يعد لها علاقة بالمطاردة التي حدثت في الحلم والتي أصبحت في طيّ النسيان منذ زمن طويل.
ورغم أن قبلاي خان يصرّ على أن يتحدّث ماركوبولو عن مدينته فينيسيا، إلا أن الأخير يفضّل الحديث عن المزيد من المدن الغريبة والساحرة التي لم يرها احد آخر غيره.
في احد أجزاء الرواية، يصف ماركوبولو احد الجسور حجرا حجرا. "لكن أيّ حجر يسند الجسر"؟ يسأل قبلاي خان. فيردّ ماركوبولو: الجسر لا يدعمه حجر واحد". ويبقى الخان صامتا متأمّلا ثم يضيف: لماذا تتحدّث إليّ عن الحجارة؟ القوس لوحده هو ما يعنيني". فيردّ ماركوبولو: من دون حجارة، لا يوجد قوس".
ويكتب كالفينو على لسان الخان قائلا: في حياة الأباطرة، ثمّة لحظات تلي أوقات النصر والإحساس بالزهو عندما تتّسع رقعة الأقاليم التي فتحناها. إنها تلك اللحظات من الحزن الممزوج بالارتياح عندما ندرك أننا سنتخلّى قريبا عن أيّ أوهام بأننا نعرف هذه الأرض أو نفهمها. هناك إحساس بالخواء يداهمنا في المساء مع رائحة الأفيال بعد المطر ورماد خشب الصندل الذي يبرد ببطء في المباخر".
أليست هذه صورة للرغبة المشروعة للناس هذه الأيام في أن ينفصلوا عن الطبيعة المزيّفة التي تحاصرهم؟ الرغبة في أن يبتعدوا عن منتجات الحضارة الحديثة ويتواصلوا مجدّدا مع الطبيعة الحقيقية كي يتنشّقوا روائحها ويتأمّلوا أشكالها ويسمعوا أصواتها وصمتها؟
في كلّ مرّة يعود فيها ماركوبولو من سفر، يدعوه قبلاي خان إلى بلاطه كي يصف له المدن التي زارها.
الغازي والمستكشف يتبادلان الأفكار والتأمّلات. بالنسبة للخان الذي تقترب امبراطوريته من نهايتها، العالم يتوسّع باستمرار. وبالنسبة لـ ماركوبولو الذي رأى الكثير من الأماكن، العالم مكان يضيق وينكمش باطّراد.
في قصّة أخرى يأخذنا الروائي إلى مدينة تُدعى ارميلا. مدينة غير مكتملة أو لعلّها تعرّضت للهدم. لا نعرف على وجه التحديد. لكن ليس لهذه المدينة أسوار ولا أسقف ولا أرضيّات. فقط أنابيب ماء ترتفع عموديا إلى حيث يُفترض أن تكون البيوت.
بهذه الكيفية يحوّل المؤلّف الأفكار البسيطة إلى حلول عبثية. يبني جدارا من الطوب ضدّ قوانين الجاذبية من فوق إلى تحت. وهو يشير إلى كافّة الأسوار العظيمة في التاريخ الإنساني، من سور الصين إلى سور برلين إلى الأسوار غير المرئية والحدود الإدارية والجوازات والتأشيرات. وهي كلّها عبارة عن نوع حديث من الأسوار التي تقام كي تصدّ الغرباء وتبقيهم في الخارج.
في احد أجزاء الرواية، يقول الكاتب على لسان ماركوبولو: في كل مرّة اصف مدينة، فإنني أقول شيئا ما عن فينيسيا". هذه العبارة يمكن أن تكون تلخيصا لجوهر الرواية. فـ فينيسيا مدينة الرحّالة يعبّر عنها من خلال عدد من القصص القصيرة التي تبدو ظاهريا غير ذات صلة ببعضها البعض، لكنّها تحمل إيماءات وإشارات إلى المدينة الأصل.
يتحدّث ماركوبولو أيضا عن مدينة أخرى تُسمّى هيباتيا فيقول: سيأتي اليوم الذي تصبح فيه رغبتي الوحيدة هي أن أغادر. اعرف انه لن يتعيّن عليّ أن انزل إلى الميناء، بل أن أصعد إلى أعلى قمّة في القلعة وأنتظر سفينة تمرّ من هناك". لكن هل ستأتي السفينة فعلا؟
القليل من هذه المدن التي يصفها ماركوبولو مبنيّة من الآجر والطوب. ومعظمها مشيّدة من الألمنيوم والقباب المفضّضة والكريستال والبرونز والمرمر. وتكثر فيها الحصون العالية والأروقة المقوّسة والدرابزينات والمعابد والشرفات.
"مدن الخيال" عبارة عن تجارب فلسفية عن الحنين والتاريخ والشيخوخة والذبول.
ولعلّ أفضل وصف للرواية هي تلك الجملة التي يصف فيها ماركوبولو المدن التي زارها: يمكنك أن تهرب منها بسرعة، ويمكنك أيضا أن تتجوّل في داخلها بعقلك وتضيع فيها". "مترجم بتصرّف"
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .
الأربعاء، أغسطس 04، 2010
المدن والذاكرة
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)