:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يونيو 20، 2013

أنف ميكيل أنجيلو

في عام 1490، كان لورينزو دي ميديتشي واحدا من أغنى وأقوى الرجال في فلورنسا. كان راعيا ومشجّعا للفنون ومشرفا على أكاديمية الفنون التي كان ميكيل أنجيلو احد تلاميذها.
وفي احد الأيّام، وبينما كان يمشي في حديقة متحفه المسمّى سان ماركو، رأى لورينزو الشابّ ميكيل أنجيلو وهو يصنع نسخة من رخام لمنحوتة قديمة. وقد أعجب لورينزو كثيرا بعمل وتفاني الصبيّ لدرجة انه قرّر أخذه معه إلى قصره.
وهناك خصّص لورينزو له غرفة، وأمر له بمكافأة وبأن تُلبّى جميع احتياجاته الضروريّة. كما أبدى اهتمامه بأن يتابع دراسته في النحت على نفقته.
كان ميكيل أنجيلو معروفا بمزاجه الحادّ. وكان من عادته أن ينتقد الآخرين بطريقة هجومية وخاطئة. وفي ذلك الوقت، كان يُنظر إليه باعتباره النجم الجديد الساطع في سماء الفنّ، وكان هو يدرك ذلك جيّدا. زميله بييترو توريجيانو كان أيضا شخصا ذا مزاج عنيف، مع ميلٍ لاختلاق المعارك والشجارات مع زملائه.
وفي احد الأيّام، وبينما كان الطلاب ينسخون لوحات جدارية في إحدى الكنائس، كان ميكيل أنجيلو منهمكا في انتقاد أعمال زملائه من الطلبة الآخرين. ويبدو أن توريجيانو لم يتحمّل قيام ميكيل أنجيلو بدور الأستاذ والناقد، فوجّه إلى أنف الأخير لكمة بلغ من قوّتها أنها حطّمت أنفه وشوّهت وجهه بشكل دائم.
كان توريجيانو طالبا كبيرا في السنّ، وقد تسبّبت ضربته القويّة تلك في تغييب ميكيل أنجيلو عن الوعي لفترة. وعندما حمله زملاؤه إلى مقرّ إقامته لم يُبدِ الصبيّ أيّ استجابة، لدرجة أنهم خافوا من احتمال أن يكون قد أصيب بجروح قاتلة.
غضِب لورينزو على توريجيانو عندما علم بأمر اعتدائه على ميكيل أنجيلو. وقد غادر الأخير فلورنسا خوفا من العواقب وتجنّبا لانتقام لورينزو.
في ما بعد، قال توريجيانو لصديق واصفا ما حدث: كان ميكيل أنجيلو مواظبا على إزعاجي. وفي ذلك اليوم كنت أغلي غضبا من تصرّفاته وأفكّر في الانتقام. وقد استجمعت قواي وشددت على قبضتي ثمّ وجّهت له ضربة خاطفة على أنفه. في تلك اللحظة شعرت بأن العظم والغضروف ينهاران تحت قبضة يدي كما لو أنهما مصنوعان من رقاقة هشّة. تلك الوصمة التي ألحقتها به ستعيش معه وتصاحبه حتى يوم موته".
استعاد ميكيل أنجيلو وعيه وعاد بعد فترة لمواصلة دراسته. لكن صورة وجهه المشوّه ظلّت تؤرّقه بقيّة حياته. وكان منزعجا بشكل خاصّ من ليوناردو دا فينشي، الذي كان أصغر منه سنّا. كان الشابّ ليوناردو يتمتّع بموهبة تشبه تلك التي لـ ميكيل أنجيلو. غير أن شكل وجه ليوناردو شبه المثاليّ أسهم في زيادة وعي ميكيل أنجيلو، وبطريقة مؤلمة، بحقيقة ما حدث لوجهه المحطّم.
بعد مرور سنوات طويلة على الحادثة، كُلّف ميكيل أنجيلو برسم سقف كنيسة سيستين. وقد أنجز تلك المهمّة وهو مستلقٍ على ظهره ويتنفّس من خلال فمه. كان منظر أنفه مرعبا. كانت "مهروسة لدرجة أن جبينه أصبح متدليّا فوق فمه"، على حدّ وصف احد المؤرّخين من تلك الفترة. ومن الواضح أن اللكمة لم تكسر أنفه فحسب، وإنّما سحقتها.
استمرّ ميكيل أنجيلو في إثبات تفوّقه في روما وفلورنسا إلى أن حقّق العظمة التي كان يستحقّها. أما توريجيانو فقد تابع مسيرته المهنيّة كنحّات، وكان معروفا طوال حياته بأنه الرجل الذي شوّه وجه الفنّان الكبير والمبجّل. وقد ذهب في ما بعد إلى انجلترا، وهناك حظي برعاية شخص كان مفتونا، هو الآخر، بالخصومة والقتال. ولم يكن راعيه الجديد سوى الملك الطاغية هنري الثامن.
عندما تقدّمت به السنّ، عاش ميكيل أنجيلو منعزلا كما يعيش النُسّاك، ما عدا تلك الأوقات التي كان يتحتّم عليه فيها، بحكم طبيعة عمله كرسّام ونحّات، أن يتواصل مع الآخرين. وقد رسم لنفسه عددا من البورتريهات في فترات متفرّقة، كما نحت صورته كشخصيّة صغيرة على بعض الأعمال التي كُلّف بها.
في انجلترا، ما لبثت حياة توريجيانو أن تغيّرت إلى الأسوأ. وفي عام 1522، ذهب ليعمل في إسبانيا. وفي اشبيلية، عكف على صنع منحوتة تمثّل العذراء وطفلها. غير أن الراعي الذي كلّفه بنحت تلك القطعة رفض أن يدفع له المبلغ المتّفق عليه. لذا وقع الفنّان فريسة للغضب مرّة أخرى وانقضّ على التمثال الرخاميّ وحطّمه. لكن لأنه أتلف صورة مقدّسة، فقد استدعته محاكم التفتيش للمثول أمامها، ثم لم تلبث أن حكمت عليه بالإعدام بعد اتهامه بالزندقة. وقد توفّي في ما بعد في السجن بعد أسابيع من قراره بالإضراب عن الطعام احتجاجا على الحكم.
عندما توفّي ميكيل أنجيلو عام 1564 عن عمر يناهز التاسعة والثمانين، كان قد ترك إرثا يتضمّن بعض أعظم التحف الفنّية في العالم، بالإضافة إلى صورته التي استقرّت في أذهان الناس عنه باعتباره النحّات الخالد صاحب الأنف المكسورة.

الاثنين، يونيو 17، 2013

البحث عن زارادشت

في بلاد فارس، وقبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، تحدّث زارادشت عن إله واحد، وعن الصراع الأبديّ بين الخير والشرّ والنور والظلام، وعن الملائكة والشياطين والجنّة والنار، وعن نهاية العالم والحياة بعد الموت، وهي المعتقدات الأساسية التي استلهمتها في ما بعد الأديان التوحيديّة.
في كتابه بعنوان "البحث عن زارادشت: النبيّ الأوّل والأفكار التي غيّرت العالم"، يسير بول كريفيتشيك على خطى زارادشت محاولا الكشف عن تراثه، بدءا من احتفالات السنة الإيرانية الجديدة، إلى ترجمة نيتشه لسيرة حياته وأفكاره، وإلى تقاليد بعض الطوائف الباطنية التي كانت موجودة زمن الإمبراطورية الرومانية.
ومن اجل توثيق مادّة كتابه، ذهب المؤلّف إلى أماكن كثيرة في أوروبّا وآسيا الوسطى، من جدار هادريان إلى نهر اوكسوس، ومن جبال البيرينيه إلى هندوكوش. كما يأخذنا في رحلة إلى بلاد فارس، وبالتحديد زمن تأسيس الإمبراطورية الإخمينية، التي أنشأها قوروش العظيم في القرن السادس قبل الميلاد وكانت حدودها تمتدّ من ضفاف دجلة وحتى تخوم الاندوس.
في تلك الفترة ولد زارادشت، الذي يعني اسمه النجم الحيّ، في بلدة عرش سليمان الواقعة في مقاطعة أذربيجان بشمال غرب إيران. كان والده من رعايا الملك وكان يشتغل بالزراعة وتربية الخيول والماشية. والدته كانت تنتمي إلى عائلة نبيلة، وقد رأت في المنام قبل أن يولد أنها ستحمل بطفل مقدّس. وتقول الأسطورة انه عندما ولد أضاء الأفق نور هائل، وفي يوم ولادته ظهر نجم جديد في السماء.
العصر الذي عاش فيه زارادشت كان حافلا بالحروب والصراعات. وكان شعب ميديا "أو فارس" واقعا تحت تأثير الكُهّان الذي كانوا يؤمنون بتعدّد الآلهة. كان هؤلاء ينظرون إلى عناصر الطبيعة باعتبارها تعبيرا عن غضب الآلهة، وكان لا بدّ من تقديم قرابين لإرضائها، لذا انتشر السحر والشعوذة على نطاق واسع.
وعندما بلغ زارادشت الثانية عشرة من عمره، كان قد أصبح ملمّا ببعض المسائل الدينية والسياسية. وكان الناس مندهشين من معرفته وقدرته على التأمّل والتفكير. وعندما أكمل عامه العشرين، ذهب إلى الجبل ليعيش في كهف وأسلم نفسه للصلاة والتأمّل. في الجبل لم يكن يأكل سوى الفواكه، وأحيانا كان ينزل من الجبل إلى القرية جالبا معه بعض الأعشاب والنباتات التي كان يعالج بها المرضى من الفقراء.
كتاب كريفيتشيك ليس بحثا في العقائد وتاريخ الأديان القديمة، كما انه ليس مجرّد كتاب عن تاريخ ديانة. فبسبب النفوذ الذي لعبه زارادشت في تطوّر المجتمع البشري، تعيّن على المؤلّف أن يتعامل أيضا مع الفلسفة والثقافة الحديثة. وهو يكشف عن أهميّة زارادشت ودور المنظومة العقائدية التي جاء بها في تشكيل عصر التنوير الأوربّي وفي صياغة بدايات العصر المسيحي. تعاليم زارادشت المسجّلة في كتاب الأفيستا، تقدّم رؤية ثنائية عن العالم يمكن أن نجد لها صدى في رؤى القيامة من سفر دانيال وفي مخطوطات البحر الميّت.
كما يتحدّث الكتاب عن جاذبيّة زارادشت بالنسبة للكثير من الكتّاب والفلاسفة والشعراء والموسيقيين، وخاصّة فريدريك نيتشه الذي ألّف كتابا فلسفيّا مشهورا بعنوان هكذا تحدّث زارادشت، والموسيقيّ ريتشارد شتراوس الذي كتب موسيقى مشهورة استوحاها من موضوع ذلك الكتاب.
الزارادشتية كان لها آثار عميقة على حياة الكثير من البشر الذين عاشوا خلال الألفي عام الماضية. ومع ذلك لا يفهمها اليوم سوى قليل من الناس بعد أن حجبها الزمن والتاريخ وتركيبة متشابكة من العقائد الدينية المتعارضة.
المؤلّف يشير إلى إن الزارادشتية ما تزال حيّة، وإن على استحياء، في وطنها الأمّ، أي إيران. الإيرانيون يسمّون زارادشت "زارتوشت". واسم مدينة مهراباد تعود جذوره إلى عبارة تعني "المؤمن بـ ميثرا" (وهو اسم إله زارادشتي). والرمز الزارادشتي المشهور والمعروف باسم الفاروهار، الذي يصوّر ملكا بجناحين، هو احد الرموز القليلة من فترة ما قبل الإسلام التي أبقت عليها ثورة 1979، وأصبح اليوم رمزا وطنيا تُطبع صوره بكثرة على القلائد والحليّ التي يرتديها الشباب من الجنسين. كما أن احتفالات السنة الإيرانيّة الجديدة المسمّاة بالنوروز هي احتفالات زارادشتية بالكامل. وكانت واحدة من مهامّ حركة طالبان المعلنة هي اجتثاث آثار هذا الاعتقاد من حواضر أفغانستان المتفرّسة، في ما بدا وكأنه جولة أخرى من جولات الصراع بين النور والظلام وبين الخير والشرّ.
والزارادشتية ما تزال موجودة أيضا من خلال طائفة البارسيز الذين هاجروا من إيران إلى الهند قبل أكثر من ألف عام هربا من الاضطهاد الديني. وهؤلاء يمثّلون آخر إحدى الطوائف التي تؤمن بهذا الدين اليوم. كتاب البارسيز المسمّى "الغاثا" قديم جدّا. وإذا لم يكن من تأليف زارادشت أو أحد تلاميذه المباشرين، فيُعتقد بأنه يعكس الكثير من تعاليمه وأفكاره.
كتاب "البحث عن زارادشت" لـ بول كريفيتشيك هو مزيج آسر من الأديان المقارنة والتاريخ الثقافيّ والفلسفيّ وأشياء أخرى خفيفة وغريبة. وهو مكتوب بأسلوب أدب الرحلات أكثر من كونه أطروحة علمية. كما انه يأخذ قارئه إلى العصور القديمة بطريقة فيها خيال ويتحرّك برشاقة عبر ضباب أزمنة مختلفة.
ولد المؤلّف في فيينا عام 1937. وتدرّب في لندن كطبيب أسنان، ثم عمل لعشر سنوات في إيران وأفغانستان. ومن هناك سافر كثيرا في عدد من بلدان آسيا وأفريقيا قبل أن يلتحق بهيئة الإذاعة البريطانية التي عمل فيها حوالي ربع قرن. وكريفيتشيك يجيد ثماني لغات، من بينها الفارسية والبشتو والأوردية والهندية والنيبالية.