في البداية لم أسمع جملته الأخيرة جيدا، إذ قطع حديثنا رنين الهاتف.
كان الحديث عن فكرة الموت وما يرتبط به من طقوس ومعتقدات في ثقافات الشعوب المختلفة..
قلت: أظنك كنت تتحدث عن الحرق وكأنني سمعتك تقول بأنك تفضّله على الدفن..
صمت ُبرهة ثم قال: نعم، وقد كتبت ذلك في وصيّتي بالفعل. الحرق افضل مرارا من الدفن وأنا لا أريد لجسدي أن يفترسه الدود والهوام.
قلت: لكنك مسيحي، والمسيحيون يدفنون موتاهم كما اعلم.
قال: ليس كلهم، ثم انه لا علاقة للمسيحية أو الأديان بكلامي. تستطيع أن تقول إنني أصبحت أميل نحو البوذية، والبوذية بالمناسبة ليست دينا وانما طريقة حياة.
قلت: بعيدا عن الأديان، ألا تعتقد بأن حرق الجثة ُيعدّ، على نحو ما، تدنيسا لحرمة الجسد الإنساني؟
قال: أبدا. الجسد يفنى سواءً بالدفن أو الحرق أو بطمر الجثة في البحر أو بوضعها على قمة جبل كي تنهشها السباع والجوارح كما يفعل الزارادشتيون. الجسد يفنى على أي حال. أما الروح فتولد منها أرواح جديدة لتسكن في أجساد مختلفة من خلال ما يعرف بالتقمّص.
قلت: لكن الحرق هو بمثابة تدمير للجثة وهو أسلوب لا يخلو من الوحشية والقسوة كما أرى، لان الجسد منحة من الخالق ولا يجب أن يعامَل بغير الاحترام. بصراحة اعتقد أن الدفن ارحم بكثير من الحرق.
قال: حسنا، عندما يحتضر الشخص تتسرّب الطاقة من جسده شيئا فشيئا إلى أن تتلاشى نهائيا بموت الجسد. والطاقة هنا هي الروح التي ُتستنسخ في أرواح أخرى كما قلت. وفي النهاية لا يضرّ الجثة أن ُتحرق أو يتم التخلص منها بأي طريقة أخرى.
قلت: لكن إلى الآن لم أفهم بالضبط فلسفة الحرق أو الحكمة من ورائها.
قال: الحرق يتضمّن ثلاثة من عناصر الطبيعة: النار والهواء ثم الماء الذي يذهب إليه القليل مما يتبقى من الجثة في هيئة الرماد الذي ُيلقى في النهر. الشاهد هنا هو أن الإنسان أتى من الطبيعة واليها يعود. كما أن حرق الجثة ينهي من الأرض أيّ وجود فيزيائي أو مادّي للشخص الميّت، وفي هذا راحة نفسية لأهله. أما الدفن فيبقي على شئ من ذلك الوجود مما يشعِر ذوي المتوفّى بأنهم ما يزالون مرتبطين به بشكل أو بآخر. الحرق ينهي تلك الرابطة تماما.
قلت: كلامك عن إنهاء الرابطة ما بين الميّت وذويه من الأحياء لا يخدم فكرة الحرق بل ربّما يكون حجّة ضدّها.
قال: ما ذكرته ربما يكون صحيحا لو أننا نتحدث عن الإسلام أو المسيحية أو اليهودية. لكننا نتحدّث عن البوذية التي ترى ضرورة قطع الصلة ما بين الميت وذويه من الأحياء بعد أن انتقلت روحه وحلّت في كائن آخر. الجسد مجرّد وهم لا وجود له في المعتقدات البوذية. ولو تمعّنت قليلا في مزايا التخلّص من الجثة بحرقها لتأكّد لك أن المسألة لا تخلو من بعض المبرّرات المنطقية. فتكلفة الحرق ارخص بكثير من تكاليف الدفن وأسلم من الناحية الصحية والبيئية، كما أن الحرق يوفّر مساحات من الأرض ينتفع بها الأحياء في الزراعة والسكنى بدلا من تحويلها إلى مقابر تحتضن بداخلها الرفات والعظام.
قلت: على سيرة العظام والبيئة، سمعت أن قيعان كثير من الأنهر والبحيرات في جنوب شرق آسيا والصين والهند تغصّ بأكوام العظام الآدمية الصغيرة المتخلّفة عن عمليات إحراق الجثث.
قال: ما يحدث هو أن الأفران المخصّصة لحرق الجثث، مهما كانت حديثة وفعّالة، لا تفلح دائما في حرق الجثة وتحويلها إلى رماد خالص. وهذا الرماد المختلط ببقايا العظام الصغيرة يحمله أهل الميّت إلى الأنهار والبحيرات ليلقى فيها، بينما تستقرّ العظام في اسفل النهر لعدة سنوات إلى أن تتحلل وتتلاشى تماما.
قلت: وماذا عن رائحة اللحم الآدمي المحترق؟ ألا يعتبر أمرا مقّززا ومرعبا؟
قال: لا رائحة ولا شئ من هذا القبيل. فالجثة قبل مراسم الحرق يتمّ حشوها بعيدان البخور والصندل والنباتات والزيوت العطرية بإشراف الكهنة وذوي المتوفى.
قلت: لكن ماذا عن فكرة البعث من القبور، والثواب والعقاب؟
قال: البوذية حسمت فكرة الجنّة والنار من قديم. وتعاليمها تؤكّد في المقام الأول على ضرورة أن يلتمس الإنسان في هذه الحياة كل ما يبعد عنه الألم والمعاناة ويحقّق له السعادة والراحة النفسية والصفاء الذهني.
سألته وأنا أهمّ بإنهاء حديثنا: ترى لو انك ُمنحت الحريّة في اختيار طريقة أخرى مبتكرة، غير الحرق، لتتخلص بها من جثتك، بعد عمر طويل طبعا، فأيّ طريقة كنت ستختار؟
صمت قليلا ثم قال وهو يضحك: لا ادري حقيقة ولم يخطر ببالي مثل هذا الأمر من قبل. لكن ربّما كنت سأفضّل أن توضع جثتي داخل كبسولة تنطلق بسرعة الضوء نحو الفضاء الخارجي للأرض إلى أن تبلغ أطراف الكون البعيد. وأن أبقى هناك إلى الأبد سابحا بين الكواكب والمجرّات القصيّة وهائما في اللانهائية والثلج والسديم إلى ما لا نهاية!
قلت: هذا حلم أشبه ما يكون بالفنتازيا وقصص الخيال العلمي، ويبدو انه لن يتحقق في المستقبل المنظور، وعلى كل لا أقول سوى: أحسن الله خاتمتنا جميعا..
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .
الأحد، سبتمبر 25، 2005
تعدّدت الاسباب والموت واحد
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)