:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أكتوبر 20، 2011

الشرق بعيون إيطالية


كانت حملة نابليون العسكرية على مصر، بالإضافة إلى حكايات المستشرقين ومغامرات الرحّالة من بين العوامل التي أسهمت في إلهاب مخيّلة القارّة الأوربية العجوز وتحفيز الأوربيّين على معرفة المزيد عن حياة وحضارة الشرق.
وقد أسَرَ ما تبقّى من خيال الأوربّيين ما كان يصلهم من أخبار المتع المحرّمة والمحظيّات والحريم في قصور سلاطين وملوك بلاد الشرق.
كانت تحدو الأوربيّين رغبة جارفة في معرفة واكتشاف وفهم الأراضي البعيدة والمختلفة عنهم ثقافة وتاريخاً. ولا بدّ وأن الكثيرين منهم كانوا متأثّرين بكتابات الأديب الفرنسي فلوبير الذي كان قد سبقهم إلى مصر وأقام فيها طويلا وأسهب في وصف مشاهد الحريم والرقص هناك.
الايطاليون لم يكونوا بمنأى عن تأثير سحر وفتنة الشرق التي طبعت الرسم الغربي في القرن التاسع عشر.
فالرسّام الفينيسي فرانشيسكو هايز، الذي لم يسافر أبدا خارج ايطاليا، أصابته عدوى الافتتان بالشرق، فرسم العديد من اللوحات المتخيّلة عن ثقافة الشرق وحياة شعوبه.
لكن رسّاما آخر، هو ايبوليتو كافي، قرّر أن يعيش التجربة شخصيا. فباشر في العام 1843 رحلة طويلة أخذته في البداية إلى القسطنطينية حيث رسم فيها بازار العبيد وبعض المساجد الكبيرة مثل ايا صوفيا. ثم قصد أزمير، ومنها إلى القاهرة التي رسم فيها مناظر تصوّر نكهة الحياة في المدينة الخالدة. ومن القاهرة ذهب كافي عبر النيل إلى الأقصر ثم اللاذقية فـ أثينا، قبل أن يعود إلى روما في ربيع السنة التالية حاملا معه مئات الرسومات والاسكتشات عن زياراته ومشاهداته في بلدان الشرق.
ثم قرّر كلّ من البيرتو باسيني وروبيرتو غواتسالا القيام برحلة للحجّ إلى "مدائن الشمس"، فجابا العديد من حواضر الشرق وتحدّثا عن ثقافته وعادات سكّانه. كان الأوّل يحمل معه عدّة الرسم والألوان بينما حمل الثاني آلة أخرى اختُرعت حديثا هي الكاميرا. وقد ذهب باسيني أوّلا إلى بلاد فارس ثم القسطنطينية التي أقام فيها طويلا بعد أن فُتن بألوانها وثقافاتها وتنوّع حياة أهلها.
ومن فلورنسا غادر إلى مصر الرسّام ستيفانو اوسي بُعيد افتتاح قناة السويس مباشرة. وفي القاهرة عمل عند احد الباشاوات قبل أن ينتقل إلى المغرب مع صديقه تشارلز بيسيو.
ومن نابولي غامر الفنّان دومينيكو موريللي، الذي لم يسبق له أن وضع قدما في الأراضي الغريبة، برسم لوحات بارعة تصوّر الحريم والأجواء العربية الغامضة وطقوس الصلاة. كما رسم الحمّام التركي بألوان برّاقة وأسلوب أنيق يحاكي من خلاله لوحة جان ليون جيروم عن نفس الموضوع.
أما فرانشيسكو نيتي فقد دفعه حبّه لثقافة الشرق إلى القيام برحلة طويلة انتهت به في تركيا. وهناك رسم بعضا من لوحاته البديعة التي جسّد فيها جمال وأمجاد المدن المتوسطيّة.


ومن فلورنسا، ذهب رسّام آخر هو ستيفانو باسيني إلى مصر عام 1869 كي يحضر الاحتفال بافتتاح قناة السويس وليرسم لوحة عن المناسبة بتكليف من باشا مصر.
الرسّام ليوناردو دي مانغو غادر هو الآخر ايطاليا إلى بلاد المشرق، فسافر إلى سوريا ومصر واستقرّ في اسطنبول التي اختار أن يعيش فيها حتى وفاته في العام 1930م.
وفي العقد الأخير من القرن الماضي وصل الرسّام فوستو زونارو إلى اسطنبول التي كان قد قرأ عنها كثيرا منذ طفولته وكان يسمّيها جنّة الله على الأرض. وسرعان ما ذاع صيته بين الأوساط الارستقراطية في اسطنبول بسبب براعته في رسم البورتريه ومشاهد الحياة اليومية في المدينة. وقد دعاه منير باشا رئيس تشريفات السلطان إلى قصر يلديز وعرّفه على الرسّام التركي الشهير عثمان حمدي بيه. وفي العام 1896 عُيّن زونارو رسّاما أوّل في قصر السلطان عبد الحميد الثاني. وقد صوّر في لوحاته الشوارع والمساجد والنوافير والاحتفالات الدينية وحفلات الزواج والصيّادين ومختلف جوانب الحياة في اسطنبول القديمة بأسلوبه الحيّ وألوانه المتوهجة. كما رسم السلطان نفسه عدّة مرات وسجّل بعض حروبه وحملاته العسكرية في العديد من لوحاته.
وقد رحل زونارو أخيرا إلى ايطاليا بعد أن أقام في تركيا عشرين عاما. كان الايطاليون في ذلك الوقت قد هاجموا طرابلس التي كانت وقتها تابعة للسلطان العثماني. واعتبر الأتراك ذلك الهجوم انتهاكا لسيادتهم، فقرّروا طرد جميع الايطاليين المقيمين في البلاد، ولم يُستثنَ من ذلك القرار حتى زونارو نفسه.
الرسّامون الايطاليين الذين ذهبوا إلى الشرق غمروا أنفسهم في أجوائه بأقصى ما يستطيعون. فصوّروا في لوحاتهم مجاهل الصحراء وعالم القوافل والعطورات والبخور والألوان والمدن المزدحمة وغرف الحريم السرّية والحركات المُسكرة لراقصي المولوية والمتصوّفة.
كان هؤلاء الرسّامون مسكونين بهاجس المغامرة والفضول المعرفي. فسافروا مع القوافل والبدو، ووقفوا على بساطة الحياة في الصحراء، كما تعرّفوا على ترف قصور السلاطين والأمراء والباشاوات. وصوّروا بألوانهم الساطعة الطبيعة الدافئة والحميمة للشعوب الشرقية.
كما كانوا واقعين تحت تأثير افتتانهم الغريزي بالثقافات البعيدة والغامضة وانجذابهم نحو المجهول والفانتازي ورغبتهم في التعلّم والبحث عن مصادر جديدة للإلهام.
وقد تجلّى هذا واضحا في لوحات الفنّانين الايطاليين، والأوربيين بشكل عام، ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر.
ولا شكّ أن بعض الفضل يعود لأعمال أولئك الفنّانين الكبار في تعريف العالم الغربي لأوّل مرّة ببعض مظاهر الحضارة الإسلامية والعربية.