:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، أكتوبر 13، 2018

كورتيز: ذاكرة لباريس

في بدايات القرن العشرين، كانت باريس مدينة مزدهرة تضجّ بالأفكار والابتكارات التي كانت تجتذب إليها الفنّانين والمبدعين من كلّ مكان. كانت هذه المدينة وقتها القلب النابض للحداثة الأوربّية ولعالم الفنّ والأدب والموضة.
ورغم أن العديد من الفنّانين رسموا باريس في تلك الفترة، إلا أن الرسّام الفرنسيّ من أصل اسبانيّ إدوار كورتيز يُعتبَر بحقّ المؤرّخ الشاعريّ لهذه المدينة. وقد نجح من خلال لوحاته في التقاط خصائصها وضوئها ومناخها وأسواقها وشوارعها المزدحمة ودورة الفصول فيها.
والدهُ انطونيو كورتيز كان رسّاما ناجحا في البلاط الاسبانيّ. وفي عام 1855، سافر الأب إلى باريس للمشاركة في معرض فنّي. لكنه وقع في حبّ الفرنسيين وقرّر أن يقيم في بلدهم إقامة دائمة. واختار لسكناه بقعة هادئة في الريف لطالما اجتذبت بأضوائها وطبيعتها الجميلة رسّامين مثل هنري لاباسك وكميل بيسارو وغيرهما ممّن رسموا معالم تلك البلدة كثيرا في أعمالهم.
ولد إدوار كورتيز في فرنسا عام 1882. وأظهر شغفا بالرسم منذ سنواته المبكّرة، ثم أصبح مشهورا على وجه الخصوص بلوحاته التي رسم فيها معالم المدينة بألوان ساطعة وفرشاة انطباعية.
في البداية، كان إدوار منجذبا إلى رسم الطبيعة الريفية لشمال فرنسا. لكن بدءا من عام 1900، بدأ في رسم أوّل مناظره لساحات وشوارع باريس. وظلّ يرسم تفاصيل المدينة بقيّة حياته وبنفس أسلوبه الذي لم يتغيّر إلا بالكاد.
وفي الواقع كان كورتيز يرسم ملامح زمن كان يتلاشى بسرعة. وقد استمرّ يرسم العربات التي تجرّها الخيول وموضة اللباس الطويلة حتى بعد أن اختفت مثل تلك المناظر من شوارع باريس. وقد سُئل ذات مرّة عن السبب فقال: تمنّيت لو أن الزمن توقّف عند عام 1939 وأننا لم نشهد الحرب العالمية الثانية التي غيّرت وجه باريس إلى الأبد".
التحق إدوار كورتيز بالجيش الفرنسيّ في سنّ الثانية والثلاثين وأُرسل إلى خطوط الجبهة لمساعدة الجرحى والمصابين. وبعد الحرب أصبح يتبنّى أفكارا وقناعات مسالمة تكره الصراعات وتمقت الحروب.
وكانت لوحاته لباريس مطلوبة في جميع أنحاء العالم. وقد حقّق نجاحا معتبرا، خاصّة في أمريكا وكندا اللتين عرض فيهما بعض أعماله عام 1945.


وقد قال ذات مرّة: من حسن حظّي أنني ورثت موهبة الرسم عن والدي. وإذا كانت لوحاتي تروق للناس وتمنحهم إحساسا بالمكان وتثير في نفوسهم الفضول، فمعنى هذا أنني حقّقت بعض النجاح، وهذا مبعث رضا بالنسبة إليّ".
كانت مناظره لباريس قد جلبت له نجاحا كبيرا في حياته، وما تزال تأسر محبّي الفنّ حتى اليوم. وهي تمسك بسحر المدينة أثناء انتقالها من الحقبة الرومانسية لتصبح عاصمة الفنّ في القرن العشرين.
وطوال سبعين عاما، ظلّ يرسم الشانزيليزيه وقوس النصر والشوارع الرئيسية الأخرى التي تقوم على جوانبها المباني الفخمة. كما رسم الأسواق وبعض الشوارع الأقلّ أهميةً حيث يمكنك أن ترى فيها أكشاك الكتب ومحلات بيع الزهور وما إلى ذلك.
والرسّام يغطّي المدينة في جميع الفصول، فأنت ترى كاثدرائية نوتردام تلمع تحت وهج شمس الصيف أو تحت مطر الربيع أو ثلج الشتاء أو رياح الخريف.
ولوحات كورتيز يمكن التعرّف عليها بسهولة بسبب أسلوبه المتفرّد الذي يمزج بين عناصر الانطباعية وما بعد الانطباعية والنقطية بحرفية متناهية وتوظيف رائع للضوء.
وهو كان يحبّ منظر الغروب كثيرا، وهذا واضح في العديد من صوره التي تظهر فيها الأضواء البرتقاليّة الناعمة منعكسةً على المقاهي والمسارح المزدحمة وعربات الترام.
كان كورتيز إنسانا بسيطا ومتواضعا، وكان دائما يفضّل الابتعاد عن الأضواء ويتهرّب من المقابلات. بل انه حتى لم يهتمّ بتوثيق فنّه، ففي عام 1955 رفض أن يُصوَّر له فيلم وثائقيّ مدّته ساعة كان مفترضا أن يتحدّث فيه عن حياته وأعماله. وكان من رأيه أن لوحاته هي وحدها التي تتحدّث عنه وفضّل دائما أن يظلّ مجهولا.
توفّي إدوار كورتيز عام 1969 ورُتّبت له جنازة متواضعة. ورغم انه لم يكن حريصا على أن يُحتفى به، إلا أن اسمه أُطلق على احد شوارع بلدته تكريما له وإحياءً لذكراه.
ولوحاته موجودة الآن في أفضل متاحف فرنسا وغيرها من البلدان مثل انجلترا وبلجيكا والسويد وكندا. وكورتيز يُعتبر اليوم من أكثر الرسّامين الذين تُستنسخ لوحاتهم وتُزوّر نظرا لجمالها وكثرة الطلب عليها.