:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، سبتمبر 24، 2020

ليلة أخرى مرصّعة بالنجوم

آدم إلزهايمر ليس اسما شائعا أو مألوفا. لكنّ هذا الرسّام الألمانيّ يعرفه مؤرّخو الفنّ بسبب هذا المنظر الليليّ الذي رسمه قبل أكثر من أربعمائة عام.
وعندما توفّي الفنّان في سنّ الثانية والثلاثين، لم يترك أيّ أثر عن الفترة القصيرة التي عاشها على الأرض، باستثناء هذه اللوحة التي وُجدت في غرفة نومه بعد وفاته.
كانت اللوحة، واسمها "الرحلة إلى مصر" تحفته بلا منازع. وقد أثارت حيرة المؤرّخين لأنها أوّل منظر مرسوم بواقعية للسماء الليلية في كلّ تاريخ الرسم. القمر والنجوم، وحتى مجرّة درب التبّانة التي لا تُرى عادة إلا بصعوبة، رُسمت بدقّة شديدة. بل إن بالإمكان أيضا تمييز كوكبتي الأسد والدبّ الأكبر بوضوح في سماء المنظر.
وهناك اليوم من العلماء من يؤكّدون، من خلال الحسابات الفلكية والسجلات التاريخية، أن منظر السماء الليلية في اللوحة يتوافق مع شكل سماء روما في تلك الليالي من شهر يوليو عام 1609م.
والسؤال المحيّر: كيف تسنّى للرسّام أن يفعل هذا؟ هل كان يعرف فلكيين؟ هل استخدم تلسكوبا، على الرغم من ندرة التلسكوبات في ذلك الوقت؟
عندما نُظّم معرض إستعاديّ لأعمال آدم إلزهايمر قبل بضع سنوات، أطلق المنظّمون على المعرض اسما معبّرا هو "الشيطان في التفاصيل". وأرفقوا بكلّ تذكرة دخول إلى المعرض منظارا مكبّرا قيمته ستّة جنيهات لتسهيل رؤية التفاصيل في اللوحات الصغيرة المعروضة. كما اختاروا لغلاف الكرّاس المرافق للمعرض منظرا ينيره ضوء القمر، وهو تفصيل من لوحة إلزهايمر الأشهر، أي "الرحلة إلى مصر".
وكان ذلك اختيارا موفّقا. فاللوحة تكفي لإثبات أحقيّة الرسّام لأن يكون شخصا مهمّا في تاريخ الفنّ. مع أنك لو نظرت من بعيد إلى حيث توجد اللوحة اليوم في إحدى صالات متحف في ميونيخ لما لفتت انتباهك، لكن عند اقترابك منها ستُذهل لروعتها وجمال تفاصيلها.
في "الرحلة إلى مصر" يستدعي إلزهايمر كلّ مهارته ليرسم تنويعا أصيلا ومتفرّدا على قصّة معروفة وشائعة. والغريب انه كان أول فنّان يرسم القصّة في الليل وكما روتها المصادر الدينية.
ومثل معظم لوحات إلزهايمر، فإن هذه القصّة داخل المنظر الطبيعي صغيرة. وقد رسمها على النحاس الذي يكشف سطحه الأملس عن لمعان الطلاء الزيتيّ، ما يجعل الألوان تبدو متوهّجة والتفاصيل في غاية الوضوح.
في مقدّمة الصورة، أمام غابة مظلمة، نرى عائلة المسيح الطفل أثناء رحلة هروبهم من بطش الملك هيرود الذي أمر بقتل كلّ طفل يولد في مملكته خوفا من أن يكون هو النبيّ الموعود.
الضوء المنبعث من الشعلة التي يمسك بها يوسف النجّار، ذو الرداء الأحمر، لامع بما يكفي لرؤية تقاطيع وجهي المسيح وأمّه التي تمسك به. ويوسف الجالس بالقرب منهما يمدّ يده بحنوّ إلى الطفل ويداعبه. الأشخاص الثلاثة ضائعون في الليل بين بحيرة ساكنة ونار قريبة وقمر منعكس في الماء.
عتمة الأشجار خلفهم هي رمز للظلام والخطر. والغيوم إلى اليمين تُعطي شعورا بالانزياح وتبدو وكأنّها تتحرّك طالما أنت تنظر إليها. إنها لوحة ناعمة ومتوتّرة معا بسبب موضوعها. والليل فيها مرسوم كمعجزة ودليل هداية على الطريق. والضوء الآتي من القمر يجمّد حوافّ الظلام.
وإلى اليسار يظهر بضعة أشخاص آخرين يغمرهم ضوء أقوى. وهؤلاء هم مجموعة من الرعاة الذين يسهرون على رعاية مواشيهم في هذا المكان.
ووجودهم في الصورة استمدّه الرسّام من قصّة الرعاة الذين تلقّوا خبر ولادة المسيح من ملاك وذهبوا إليه كي يشهدوا على نبوءته كما تقول القصّة. وهذه الجزئية في الصورة تخلق إحساسا بالسكينة وتبدّد شيئا من قلق الرحلة.


ما رسمه الفنّان في اللوحة هو مزيج من الطبيعة الحقيقية والشاعرية. السماء الزرقاء تهيمن على المنظر. والقمر المكتمل المتوهّج والمنعكس نوره في البحيرة الساكنة هو المصدر الأقوى للضوء الذي ينير المشهد ويتخلّل الأشجار القريبة والأبعد قليلا.
إنها ليلة أخرى مرصّعة بالنجوم، نهر من النجوم الصغيرة تتناثر في سماء المنظر وتختفي خلف الأشجار. التأثير هنا ساحر، فهذا أوّل رسم لمجرّة درب التبّانة قريب من الحقيقة. بل إن مؤرّخي الفنّ يعتقدون أن هذا هو أوّل مشهد لقمر مضيء واقعيّ في تاريخ الرسم الغربيّ.
وعلى الأرجح لا يوجد رسم للنجوم، بهالاتها الباردة وسطوعها الغريب، أفضل مما تقدّمه هذه اللوحة. ويمكنك، ليس فقط تمييز النجوم والكواكب، وإنما أيضا سترى، ربّما لأوّل مرّة، تجسيدا صحيحا علميّا لدرب التبّانة.
كما سترى كوكبة الأسد المرتبطة بالملوكية والقوّة، مع ألمع نجومها، أي النجم المسمّى "ريغولوس" أو الملك الصغير. وهناك أيضا كوكبة الدبّ الأكبر المرتبطة بـ "دايانا" ربّة القمر ورمز العفّة والعذرية والطهر، وكلّها صفات للعذراء.
يقول احد النقّاد: مع هذه اللوحة لم تعد سماء الليل مجرّد عباءة سوداء، بل تحوّلت إلى رمز لفضاء لا تحدّه حدود ومليء بالمجازات والرؤى.
ويُرجّح الآن أن إلزهايمر، أثناء إقامته في روما، تواصل مع فلكيين كانوا، بدءا من منتصف عام 1609، يستخدمون التلسكوبات لاستكشاف السماء.
وقد أثبت خبراء هولنديون عام 2005 أن الرسّام وظّف معرفته الفلكية في رسم اللوحة وأنه لا بدّ أن يكون قد استخدم تلسكوبا. فالطبيعة السماوية في المنظر تتوافق بدقّة مع مواقع القمر ومنازل النجوم في سماء روما في ذلك الشهر من تلك السنة.
ولد الرسّام آدم إلزهايمر عام 1578 في مدينة فرانكفورت لأب كان يعمل خيّاطا. وبدأ دراسة الفنّ هناك قبل أن ينتقل إلى ميونيخ التي درس فيها على يد فيليب اوفنباخ.
وبحلول عام 1598، غادر إلى ايطاليا والتحق بأكاديمية سانتا لوكا للفنّ التي كانت تضمّ مجموعة من الرسّامين المتميّزين الذين كانوا يرتبطون بدائرة الرسّام الهولندي بيتر بول روبنز.
حقق إلزهايمر شهرة كبيرة أثناء حياته. وكان الزبائن يبحثون عن لوحاته، لكنه لم يكن ناجحا ماليّا لأن نتاجه كان قليلا ومتباعدا. كان يعمل ببطء ويدرس موضوعاته بحرص ويعمل من الذاكرة.
ولطالما اعتبره روبنز فنّانا كسولا على الرغم من موهبته الكبيرة. وقيل انه عانى من الاكتئاب في نهايات حياته. ثم توفّي وعمره لا يتجاوز الـ 32. وكانت "الرحلة إلى مصر" هي آخر ما رسمه.
وعندما توفّي، لم يترك أيّ اثر عن حياته الشخصية. لكننا اليوم نعرف انه أثناء إقامته في ايطاليا، تحوّل من اللوثرية إلى الكاثوليكية ثم تزوّج من امرأة اسكتلندية تُدعى كارولا ستيوارت وأنجبا ولدا، ثم سُجن في ما بعد بسبب ديونه.
وبعد مرور قرون على رحيله، أصبح لإلزهايمر شعبية واسعة في إنغلترا على وجه الخصوص. وقد جمع الملك تشارلز الأوّل أعماله المتوفّرة، ويقال أن ثلثها موجود اليوم في بريطانيا.
أما الأعمال الأخرى فتتوزّع على أفضل المتاحف في أوربّا وأمريكا، بما فيها اللوفر والارميتاج وبول غيتي وغيرها.
ومعروف أن إلزهايمر ترك أثرا على الكثير من الرسّامين الذين أتوا بعده، وأهمّهم مواطنه الألماني كاسبار فريدريش الذي تُذكّر لوحته "أمسية على شاطئ بحر البلطيق" (1831) بهذه اللوحة.

Credits
wsj.com

الأربعاء، سبتمبر 16، 2020

عن الكتب والقراءة

جمع الكتب لغرض بناء مكتبة خاصّة هو حلم الكثير من الناس، لأن الكتب - والقراءة استطرادا - تثري العقل وتربط البشر بعضهم ببعض وتتناول قصصا صاغت مسيرة الإنسانية على مرّ قرون.
والمكتبة الخاصّة تحكي عادةً قصّة صاحبها ونوعية الكتب التي يقرؤها، ويمكن أن تقول عنه أشياءً قد لا يكشفها حديث طويل معه. كما أننا من خلال الكتب نسافر وتتغيّر هيئاتنا ونعثر على طبيعتنا الحقيقية.
في بيتنا خزانة كتب صغيرة تحتوي على حوالي ثلاثمائة كتاب، وهو رقم متواضع جدّا ولا يرقى لوصفه بالمكتبة الخاصّة. لكن عدد الكتب ليس ثابتا، بل يزيد حينا وينقص أحيانا. والسبب يعود إلى طبيعتي، فأنا لا أمانع في أن يستعير احد منّي كتابا أو أكثر، مع أنني افهم أن الكتاب المستعار نادرا ما يُردّ.
وكثيرا ما أهديتُ كتبا لصديق أو قريب، لأنني لا أؤمن بجدوى أن احتفظ بكتاب بعد أن أكون قد قرأته، والأفضل أن تهديه لغيرك كي يقرأه ويستفيد منه، وبذا تسهم في نشر وتعميم المعرفة.
والحقيقة أنني لا أتذكّر أنني قرأت كتابا فأعجبني إلا وأهديته إلى صديق أو زميل فور انتهائي من قراءته. ويندر أن اقرأ كتابا أكثر من مرّة رغم ما يقال أحيانا عن فوائد القراءة الثانية (لكن هذا حديث آخر).
هناك شيء فاتن على نحو ما في المكتبات الخاصّة وما يمكن أن تقوله عن أصحابها، خاصّة إن كانوا من المشاهير. الكاتب الأرجنتيني بورخيس تحدّث عن هذه الجزئية ذات مرّة في كتابه المشهور "مكتبة بابل". كما تناولتها الكاتبة آذر نفيسي في كتابها "أن تقرأ لوليتا في طهران". وتحدّث عنها أيضا البيرتو مانغويل في جميع كتبه وخاصّة في "المكتبة في الليل".
ومثل هذه النوعية من الكتب تقول لك الكثير عن حياة بعض القرّاء المشهورين ومتى يقرؤون أو يكتبون وما معنى أن تكون قارئا في المقام الأوّل.
وهناك اليوم اتجاه جديد ومتصاعد يتمثّل في حديث نجوم المجتمع عن الكتب التي يقرؤونها. ربّما كان هذا الأمر موجودا من قبل لكنه كان غير منظور، وجاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتكشف عنه أكثر.
وأصبح من المألوف هذه الأيّام أن يظهر بعض المشاهير على التلفزيون ليتحدّثوا من أمام مكتباتهم المنزلية. ومن هؤلاء الأمير الإنغليزي تشارلز الذي ظهر مؤخّرا وهو يقرأ كتابا عن حياة وفنّ جورج ستبس رسّام الخيول المشهور في القرن الثامن عشر.
أن يكون لديك مكتبة خاصّة فكرة روّج لها المجتمع بحجج عديدة، منها أن حبّ الكتب والقراءة مسألة أخلاقية، بينما في الحقيقة لا علاقة حتمية للأخلاق بالقراءة، لأن القراءة لا تنتج أشخاصا طيّبين أو صالحين بالضرورة.
ولو حدث وقابلت شخصا جاهلا أو متغطرسا ولديه نظرة سلبية ومؤذية عن العالم فإن أوّل ما ستفترضه انه لا يقرأ. غير أن هذا ليس معيارا سليما دائما لتقييم طبائع الناس. فهناك أشخاص يقرؤون كثيرا وهم أذكياء ولكنهم بلا أخلاق.
ويقال أحيانا انه لكي تستحقّ أن يُطلق عليك لقب جامع كتب، يجب أن يكون لديك مائة ألف كتاب على الأقلّ.


كارل لاغرفيلد، الاسم المشهور في عالم الموضة والأزياء، قيل انه كان مدمنا على القراءة وكان يمتلك في مكتبته المنزلية أكثر من ثلاثمائة ألف كتاب. وقبل خمس سنوات قال انه لم يعد مهتمّا سوى بجمع الكتب وأنه لم يبقَ في بيته فراغ يسع المزيد منه.
ومكتبة لاغرفيلد تضمّ كتبا بالفرنسية والألمانية والإنغليزية. ولكي يوفّر فراغا إضافيّا في بيته، قام برصّ الكتب بطريقة تجانبية، أي أفقيّا وليس عموديّا.
والحقيقة أن جمع الكتب لا يقتصر على فئة اجتماعية دون غيرها. فحتّى الفنّانين والفنّانات يقرؤون ويجمعون الكتب.
المغنّي مايكل جاكسون الذي كان يُلقب بملك البوب كان خلال حياته ملكا للكتب أيضا ومحبّا للقراءة وزبونا دائما للمكتبات. وكان يحتفظ في مكتبته بعشرة آلاف كتاب.
كان كاتبه المفضّل رالف ايمرسون. ولو زرت مكتبة جاكسون اليوم لرأيت الأماكن التي كان يفضّل الجلوس فيها في بيته، ولوجدت في مكتبته كتبا ما تزال علامات القراءة بين صفحاتها.
وهناك اليوم فنّانون كثر يزوّدون متابعيهم في شبكات التواصل بمعلومات منتظمة عن مكتباتهم الشخصيّة المليئة بالكتب، وينشرون على حساباتهم من وقت لآخر صورا للكتب التي يقرؤونها والأماكن التي يقرؤون فيها في منازلهم.
المخرج السينمائي جورج لوكاس أسّس في نهاية الثمانينات مكتبة تحتوي على سبعة وعشرين ألف فيلم وكتاب وصورة ودوريّة. ومكتبته ليست مفتوحة لعامّة الناس، بل للبعض فقط. وقد زارها من قبل كاري غرانت وهيتشكوك وكلينت ايستوود وغيرهم.
والمفكّرة الألمانية هانّا آرندت كان في شقّتها في نيويورك، حيث عاشت إلى حين وفاتها عام 1975، حوالي أربعمائة كتاب. كانت قراءاتها أدبية في الغالب. ومثل هذا العدد الذي قد يبدو متواضعا كان في مكتبة فرجينيا وولف أيضا.
ذات مرّة، قال توماس جيفرسون: لا استطيع أن أعيش بلا كتبِ". وطبقا لمكتبة الكونغرس فإنه عندما احرق الإنغليز العاصمة واشنطن عام 1814، كان جيفرسون قد بنى اكبر مكتبة شخصية في أمريكا.
وكانت مكتبته تحتوي على أكثر من ستّة آلاف كتاب. وقد باعها إلى الكونغرس مقابل خمسة وعشرين ألف دولار. ثم بدأ جمع الكتب من جديد. وباع المجموعة الجديدة عام 1829 لكي يسدّد بثمنها ديونه.
في السنوات الأخيرة، شاعت عادة تأليف بعض المشاهير لكتب أو مذكرات شخصية يتحدّثون فيها عن حياتهم وانجازاتهم وأفكارهم. ويقال انه كثيرا ما يلجأ الشخص المشهور إلى كاتب مستعار كي يؤلّف كتابه ويكتبه بالنيابة عنه.
ومثل هذه الكتب تبيع جيّدا على ما يبدو ويُقبل الناس على قراءتها بداعي الفضول والرغبة في معرفة التفاصيل المجهولة والحياة الداخلية للنجم، مع أن بعضها في واقع الأمر قد لا تستحقّ ثمنها ولا الوقت الذي يمكن أن يُهدر في قراءتها. لكن هذا لا ينفي أن من المشاهير من لا تعوزهم القدرة ولا المعرفة لتأليف كتب عظيمة وملهِمة.

Credits
bookriot.com

الأربعاء، سبتمبر 09، 2020

لوحات ناقصة

في عام 1481، تلقّى ليوناردو دا فنشي تكليفا من بعض الرهبان بأن يرسم قصّة الحكماء الثلاثة الذين ذهبوا إلى بيت لحم لرؤية المسيح الطفل. وبعد أن اعدّ الرسّام بعض الدراسات بدأ رسم اللوحة. لكن عمله فيها توقّف عندما كُلّف برسم "العشاء الأخير"، فترك اللوحة الأولى ناقصة ولم يعد لإكمالها أبدا.
والحقيقة أن فنّانين آخرين من عصور مختلفة مرّوا بنفس هذه التجربة، إذ يحدث أن يبدأ فنّان برسم لوحة معيّنة ثم يتخلّى عنها، إما لنقص المال، أو لانعدام الاهتمام أو الإلهام، أو لتدخّل الصدفة، أو لعدم القدرة على الذهاب إلى نقطة ابعد في الرسم، أو ببساطة لأن الرسّام توفّي فجأة.
بعد الثورة الأمريكية، ذهب الآباء المؤسّسون لأمريكا إلى باريس لعقد مفاوضات سلام مع فرنسا واسبانيا وانغلترا. وكُلّف الرسّام بنجامين ويست بأن يرسم تلك اللحظة التاريخية.
لكن الانغليز رفضوا الجلوس إلى الطاولة لرسمهم، وذلك لإحساسهم بالحرج بسبب هزيمتهم في الحرب. لذا رسم ويست المجتمعين وترك مكان الوفد الانغليزي على الطاولة فارغا لأنهم لم يكونوا هناك.
ورسّام البورتريه الأمريكي المشهور غيلبيرت ستيوارت الذي رسم صورا لأكثر من ألف شخصية، ترك بورتريه جورج واشنطن ناقصا.
وكان قد رسم للرئيس الأمريكي بورتريها ناجحا قبل ذلك. فكلّفته زوجة الرئيس برسم بورتريه ثانٍ له. لكن ستيوارت لم يستطع إكماله لسبب ما. ثم ظهر هذا البورتريه الناقص في ما بعد مطبوعا على ورقة نقدية من فئة الدولار.
ورسّام عصر النهضة الايطالي بارميجيانينو كُلّف ذات مرّة برسم صورة للمادونا وابنها (الأولى فوق). وكان هذا الرسّام معروفا بإتقانه وبراعته. وظلّ يرسم اللوحة إلى أن مات فجأة عام 1540 دون أن يكملها.
وقد قرّر راعيه أن يعلّق اللوحة في الكنيسة كما هي وأمر بأن تُكتب عليها عبارة تقول: القدر المحتوم منع الرسّام من إكمال هذه اللوحة".
والرسّام الفرنسي بول سيزان ترك بعض أجزاء من لوحته "طريق العودة" ناقصة. وقيل إن اختياره لفرشاة غير مناسبة هو ما دعاه إلى ترك اللوحة عند تلك النقطة.
وقال آخرون إن ضعف بصره لم يسعفه في ملاحظة النقص في الصورة. وعندما عرف لم يرغب في أن يتلفها عملا بقاعدة أن القليل يغني عن الكثير.
بعض خبراء الفنّ يقولون إن عدم اكتمال بعض الأعمال الفنّية هو ما يعطيها قيمة وأهمية أحيانا. فهي مثيرة بسبب نقصها لأنها تكشف عن قصص لم يُقدّر لها أن تظهر. كما أنها تقدّم فكرة عن العملية الإبداعية للفنّان وعن السياق التاريخي للعمل، حتى عندما يكون النقص متعمدّا.
المسوّدة الضخمة للوحة "الحكماء الثلاثة" التي تركها دا فنشي ناقصة تقدّم مثالا عن النقص عندما يصبح أداة ثمينة يوظّفها مؤرّخو الفنّ ومدراء المتاحف لسبر أغوار العمل الإبداعي.


وبحسب بعض النقّاد فإن الصورة غير الكاملة تشبه الأشعّة التي تسمح لك برؤية ما وراء سطح اللوحة كالنُسخ المبكّرة والرسوم الأوّلية والمعمار المؤسّس للصورة.
لكن هناك سؤالا يثار أحيانا وهو متى يُعتبر عمل فنّي ما منتهيا فعلا، وهل يحتاج لأن يبدو منتهيا كي يصبح كاملا وذا معنى؟
معلّمو عصر النهضة مثل دوناتيللو وليوناردو وميكيل انجيلو وغيرهم تركوا لنا بعض أهمّ الأعمال الفنّية غير المنتهية. وليس مصادفة أن الأخيرين بالذات، وهما أعظم فنّاني ذلك العصر، تركا اكبر عدد من اللوحات غير المكتملة.
الصور الناقصة لليوناردو ورفاقه شكّلت سابقة للفناّنين في القرن السادس عشر وما بعده. فقد أصبح من قبيل الموضة أن يترك فنّانون أعمالهم غير كاملة، لدرجة أنه ظهر مصطلح جماليّ جديد هو "نون فينيتو" الذي يعني بالايطالية الصورة غير المكتملة.
وقد قيل إن ميكيل انجيلو وجد في وقت ما أن من المستحيل بالنسبة له أن يعبّر بما فيه الكفاية عن مفاهيم الفخامة والرهبة باستخدام يديه وعدّة النحت. لذا فقد تخلّى عن الكثير من أعماله، بل وأتلف بعضها خوفا من أن يبدو في أعين الناس اقلّ براعةً وإتقانا.
أما ليوناردو فمعروف انه كان يلزمه سنوات لإكمال قطعة فنّية واحدة، لأنه كان يعتقد أن الجودة تأخذ وقتا، وهذا هو السبب في أن معظم أعماله تُركت ناقصة.
في مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أعلن بعض النقّاد أن بعض لوحات كلود مونيه (مثل اللوحة الثانية فوق) غير كاملة. واتّهم الناقد جون راسكين الرسّام جون ويسلر بأنه لا يرسم شيئا وإنما يكتفي بإلقاء الأصباغ في وجوه الجمهور.
وقد دافع بودلير عن الاثنين بقوله إن الكامل ليس منتهيا بالضرورة وإن المنتهي من حيث التفاصيل قد يفتقد إلى وحدة الشيء الكامل.
وهناك نظرية تقول إن للعمل الفنّي غير المكتمل أو الناقص جمالا فريدا يجعل الناظر يظنّ انه أكثر تلقائية وأكثر أصالة، كما انه يمسك أكثر بالحركة وبالجوهر الداخليّ للشخصية.
ويقول ناقد إن الصورة غير الكاملة تصنع تاريخا بسبب الظروف التي جعلتها تبدو ناقصة، كما أنها تعجب الناس أكثر من غيرها أحيانا لأنها تتيح رؤية الرسوم التمهيدية وأفكار الفنّان الحقيقية.
كان أفلاطون يرى أن الفن مجرّد وهم ويمكن أن يكون خطيرا إذا بدا حقيقيا أكثر ممّا ينبغي.
وفي مراحل مختلفة من تاريخ الفنّ ظهرت أصوات تدعو لإنتاج أعمال فنّية غير مكتملة، وكان ذلك انعكاسا لتغيّر أذواق الناس واختلاف معايير الجمال من عصر لآخر.
وهناك أعمال فنّية تُركت ناقصة عمدا مثل تلك لتي تحدّث عنها الروائي امبرتو ايكو واصفا إيّاها بالأعمال المفتوحة التي تعتمد بنيتها على عدم وجود نهاية. ويدخل ضمن ذلك أعمال بعض الموسيقيين مثل السيمفونية الناقصة لشوبيرت.
ورغم أن كثيرا من الفنّانين لم يكن في نيّتهم أن يرى الناس أعمالهم الناقصة، إلا أن تلك الأعمال تظلّ جديرة بالتقدير لأنها تقول لنا الكثير عن الروح الداخلية لأصحابها.
في عام 1998، بيعت لوحة للرسّام الهولندي بيت موندريان بـ 40 مليون دولار. وكان الرسّام قد ترك هذه اللوحة ناقصة إثر موته المفاجئ في نيويورك عام 1944.

Credits
artsheaven.com

الثلاثاء، سبتمبر 01، 2020

مدن في البال

اسم هيرات يثير في الذهن صورة لمدينة تاريخية وثقافية بامتياز. وهي تشبه من بعض الوجوه سمرقند. ومثل الأخيرة، هناك سمة رومانسية تطبع تاريخ هيرات، مع أن تاريخها أكثر اضطرابا من تاريخ سمرقند.
عمر هيرات أزيد من ثلاثة آلاف عام. وقد وصفها هيرودوت بأنها سلّة خبز آسيا الوسطى. بينما وصفها العالمان الجغرافيّان المسلمان ابن حوقل والاصطخري بأنها مدينة مترفة ومتعدّدة الأديان، إذ تضمّ عددا من المساجد والكنائس والمعابد الزرادشتية.
وبدءاً من القرن العاشر الميلادي، توالى على حكم هيرات العديد من الأقوام، كالساسانيين والغزنويين والعرب والسلاجقة وغيرهم. وتعايشت فيها بسلام قوميات مختلفة، كالطاجيك والأوزبك والهزارا والهندوس والأرمن واليهود وغيرهم.
وأيّام طريق الحرير القديم الذي كان يربط أسيا بأوربّا، كانت هيرات محطّة تجارية مهمّة. وبسبب موقعها الجغرافي، اجتذبت العديد من التجّار والفاتحين في فترات مختلفة من التاريخ. فقد غزاها المغول ودمّروها بالكامل وذبحوا سكّانها وتركوها خرابة، بناءً على أمر من جنكيز خان.
وفي مرحلة تالية، اتّخذها التيموريون عاصمة لمملكتهم المزدهرة. وما تزال المدينة إلى اليوم تضمّ بقايا حضارات من فارس وتركيا واليونان وغيرها.
وتتميّز هيرات بتراثها الفنّي والثقافي الكبير. ففيها أكثر من ثمانمائة موقع اثري وتاريخي. كما أنها مسقط رأس العديد من الشعراء والكتّاب المشهورين، كالرسّام كمال الدين بهزاد والعالم التفتزاني والشاعر الفارسي نور الدين جامي والفيلسوف أبي بكر الرازي والرسّام محمّد الهيراوي، بالإضافة إلى الرسّامين رضا عبّاسي ودوست محمّد وغيرهم.
في حوالي عام 320 قبل الميلاد، انتزع الاسكندر المقدوني هيرات من الفرس الإخمينيين وأسّس فيها قلعة باسمه. لكن القلعة تعرّضت للدمار مرارا بسبب الحروب المستمرّة، إلى أن أُعيد ترميمها مؤخّرا.
وكانت القلعة تُستخدم في الماضي كإقامة ملكية وكمخزن للسلاح. وأدّت قرون من الصراع والإهمال إلى تدهورها، لكنها ظلّت معلما سياحيا مهمّا حتى السبعينات.
المسجد المعروف بمسجد الجمعة هو أعجوبة هيرات الدينية والثقافية. ويُعتبر أجمل مسجد، ليس فقط في هيرات، بل في عموم وسط وجنوب آسيا. وقد بناه السلطان غياث الدين الغوري عام 1200. وطوال ثمانمائة عام، كان عرضة لآثار الحروب والزلازل. وكان معروفا بموزاييكه البديع الألوان والذي تلاشى على مرّ القرون إلى أن أُعيد ترميمه حديثا.
ومن أشهر معالم هيرات الأخرى المنارات التيمورية الخمس وضريح الشاعر الصوفي عبدالله أنصاري المتوفّى عام 1098. وقد أمر ببناء الضريح شاه روك ابن تيمورلنك. كان أنصاري يُلقب بحكيم هيرات، وكان معروفا ببلاغته وبمعرفته الواسعة بالقرآن الكريم وعلوم الدين.
في القرن الخامس عشر، أُعيد بناء هيرات كعاصمة لآسيا الوسطى. وكانت قبل ذلك محكومة من شمس الدين كرت الذي ازدهرت في عهده العلوم والفنون، وأصبحت هيرات آنذاك تُعرف بلؤلؤة خراسان.


ذكريات هيرات كعاصمة للتيموريين في آخر أيّامهم ما تزال حيّة في الأذهان. وكان من أشهر أمرائهم الذين حكموا المدينة غياث الدين بيسونغور، الذي عُرف بكونه راعيا للفنون والآداب وخطّاطا بارعا وجامعا للكتب.
وهناك أيضا حسين ميرزا بايكارا آخر سلاطين هذه السلالة والذي كان هو أيضا محبّا للعلم والمعرفة.
ومنذ منتصف القرن الثامن عشر، أي بعد اغتيال نادر شاه عام 1747، أصبحت هيرات مركز تَنافس إقليمي وصراع على السلطة دام مائة عام. ولم ينتهِ ذلك الصراع إلا عندما أعلن الفرس القاجار سيادتهم على المدينة عام 1857.
وقد التزم ملوك القاجار الأوّلون بالمحافظة على هيرات كجزء ممّا كانوا يسمّونه "ممالك إيران المحروسة" وتعاملوا معها كمنطقة حدودية ينبغي حمايتها.
وقد اتخذ الصفويون من هيرات عاصمة ثانية لهم وأسموها دار السلطان. لكن قبضتهم على أطراف الإمبراطورية سرعان ما تراخت، ما وفّر فرصة مواتية لقبيلة عبدالعلي الأفغانية للسيطرة على المدينة اعتبارا من القرن الثامن عشر.
ومع تحلّل الإمبراطورية الصفوية، بدأت حرب قبائل في المنطقة، أُلحقت هيرات خلالها بالمناطق التي حولها، إلى أن استولى عليها احمد شاه دُرّاني وضمّها إلى البلد الذي أسّسه حديثا، أي أفغانستان. لكن بسبب الصراعات التي نشأت داخل عشيرة دُرّاني، احتفظ القاجار بسيطرتهم الهشّة على هيرات.
في القرن التاسع عشر، كان عدد سكان هيرات حوالي مائة ألف يتشكّلون من ناطقين بالفارسية من مجموعات إثنية متعدّدة. وفي ذلك الوقت، وبفضل بازاراتها الكبيرة وقاعدتها الصناعية، أصبحت مركزا تجاريّا مهمّا بين الهند وكشمير وكابول وبخارى ويزد وخراسان.
في عصور هيرات الذهبية، لعبت النساء أدوارا مهمّة في الثقافة والفنّ. وهناك مدارس وأماكن كثيرة فيها سُمّيت على أسماء كاتبات وشاعرات، مثل مهري الهيراوي ونادية انجومان وغيرهما.
لكن أشهر امرأة في تاريخ هيرات هي جوهرشاد بيغوم التي عاشت في القرن الخامس عشر. كانت زوجة للإمبراطور التيموري شاه روك، وعُرف عنها شغفها بالفنون والآداب، كما كانت مستشارة عظيمة لزوجها ومعاونة له في شئون الحكم والدولة.
رغم تاريخها الطويل والمضطرب، ظلّت هيرات كالجوهرة الثمينة. لكنّها تغيّرت كثيرا في السنوات الأخيرة، فحلّت مباني الخرسانة محلّ البيوت الطينية البسيطة. لكن أهلها ظلّوا مضيافين وكرماء.
وأرض هيرات تنتج أكثر من خمسين نوعا من العنب الذي يُصدّر معظمه للخارج. وفي الماضي، كانت المدينة مشهورة بنبيذها المميّز. وهناك لوحة للرسّام بهزاد تُصوّر حفلة في حديقة يُقدّم فيها النبيذ.
ويجري في أرض هيرات نهر يُسمّى هاريرود، أي مياه الحرير، وهو يسهم إلى حدّ كبير في تخضير المدينة. كما تشتهر بينابيعها الطبيعية وبكونها مركزا مهمّا لإنتاج نوعية عالية من القماش المسمّى بالكشمير.


Credits
Yama Karimi & Aziz Ahmad Photography

الثلاثاء، أغسطس 25، 2020

وحيداً في كوخ سيبيري

قبل إتمام دراسته الجامعية، طاف الفرنسي سيلفان تيسون العالم على درّاجة ناريّة لمدّة عامين مع صديق. ثم عبرا معا جبال الهمالايا على الأقدام، وقطعا مسافة خمسة آلاف كم في خمسة أشهر من بوتان إلى طاجيكستان.
ثم عبَر تيسون بصحبة مصوّرة صحفية سهوب آسيا الوسطى، من كازاخستان إلى أوزبكستان، على ظهور الخيل. وقد سلكا نفس الطريق الذي سلكه من قبل سلومير راويتش في هروبه من سجن الغولاغ والذي وثّقه في كتابه "الرحلة الطويلة".
وفي عام 2010، قرّر تيسون أن يذهب إلى سيبيريا ويعيش هناك في عزلة لمدّة ستّة أشهر. وقد وصل إلى وجهته في ذروة فصل الشتاء واختار لسكناه كوخا قديما يقع على ضفاف بحيرة بايكال.
في الكتاب الذي ألّفه عن تجربته في العيش في سيبيريا وهو بعنوان "السُّلوان في الغابة: وحيدا في كوخ بسيبيريا"، يتحدّث تيسون عن الأسباب التي دعته للذهاب إلى هناك فيقول: في فرنسا اعتدت على أن أتحدّث كثيرا وأصبحت بحاجة للصمت".
ويضيف: كنت منشغلا بأناس كثيرين، ومع الأيّام أصبحت مهام العمل عبئا كبيرا. وصرت اكره الهاتف وكثرة الحركة والضجيج. وأحيانا كنت أغار من روبنسون كروزو، ولطالما أردت أن أجرّب نوعية الحياة التي عاشها وحيدا في غابة. كنت أريد مكانا استطيع أن اصرخ فيه على راحتي وأن أتخفّف من ملابسي دون أن يثير هذا حفيظة احد".
في كوخه السيبيري، لم يكن تيسون وحيدا تماما، بل كان معه عدد من الأصدقاء الجيّدين، مثل نيتشه وشوبنهاور وكازانوفا وبايرون ود. هـ. لورانس ويوكو ميشيما والرواقيين. كما اخذ معه بودلير ليغذّي تأمّلاته ويعيد اكتشاف معنى الحياة.
"الكتب أفضل كثيرا من كتابات التحليل النفسي، إنها تقول أشياء أكثر ممّا تقوله الحياة. وعندما تعيش في كوخ منعزل فإن الكتب توفّر لك أصحابا مثاليين يخفّفون عنك الحزن والسأم".
كلّ هؤلاء وغيرهم وجدوا طريقهم إلى خزانة الكتب التي أخذها معه تيسون إلى كوخه السيبيري. "كنت استمع إلى شوبيرت وأنا أراقب الثلج، وأقرأ ماركوس اوريليوس بعد أن أفرغ من تقطيع الخشب، وأدخّن الهافانا لأحتفل بصيد السمك في المساء".
ويضيف: اوريليوس ساعدني، وجيوفاني أراني الرجل الذي كان عليّ أن أكونه، وتشيس اظهرَ حقيقتي كما أنا".
ولم ينسَ المؤلّف أن يجلب معه أشياء مهمّة من عالم الأدب، عبارة عن مجموعة صغيرة من الكتب عن الحياة في الغابات: دانيال ديفو للأساطير، وألدو ليوبالد للأخلاق، وثورو للفلسفة، وكتاب "أوراق العشب" لوالت ويتمان.
"كنت قد قرأت الكتاب الأخير قبل شروعي في الرحلة، ولم يدر بخلدي أبدا أن قراءته ستقودني إلى السكن في كوخ. حقّا كم هو خطير أحيانا أن تفتح كتابا!"


وفي جزء آخر من الكتاب يقول: تذكّرت مقطعا من كتاب "رثائيات تيبولوس" يقول فيه: كم هو جميل أن تتمدّد في سريرك لتستمع إلى عويل الرياح في الخارج. كانت الرياح تزمجر خارج الكوخ في بعض الليالي، بينما كنت اقرأ قصائد الشاعر الروماني".
كانت غاية المؤلّف من رحلته كما قال هي الهرب من فوضى الحياة الحديثة وإعادة اكتشاف نعمة العزلة. وهو يعبّر عن تقديره العميق لأرض سيبيريا القاسية، لكن الجميلة، وللرجال والنساء الذين يقطنونها وللتاريخ الغريب والمأساوي الذي منح هذه البرّية الفسيحة والمثلجة مكانا أسطوريّا في مخيّلة الكثيرين.
والكتاب غنيّ بالملاحظات والتأمّلات العميقة في الفلسفة والعلاقات الإنسانية والأدب والطبيعة. وهو يطرح سؤالا مهمّا: لو أتيحت لك الحرّية المطلقة في امتلاك وقتك، فما الذي ستفعله؟
ولأن الكاتب قاصّ موهوب، فإن تجربته في العزلة تحوّلت إلى مغامرة غير عادية يستمتع بها الجميع. كان يسجّل انطباعاته في حضور الصمت، ويناضل في بيئة غرائبية، ويعبّر عن آماله وشكوكه وعن لحظات السعادة النقيّة في اجتماعه مع الطبيعة.
"كنت أمضي ساعتين يوميّا وكأنّني د. غاشيه جالسا في حضرة فان غوخ، اجلس ساكنا وأنا اتأمّل سربا من الطيور أو قطيعا من الدببة أو الذئاب. وفي بعض الأحيان كنت أفكّر في الروح الروسية والسلافية. الروس امّة غريبة، إنهم يرسلون الصواريخ إلى الفضاء بينما يقتلون الذئاب بالحجارة".
ورغم الثلج والبرودة القاسية، ينجح تيسون في رسم صورة لمكان صامت ومنعزل على ضفاف اكبر بحيرة في العالم. "البرد والصمت والعزلة ستكون في السنوات القادمة أغلى من الذهب، لذا علينا أن نتمتّع بهذه الأشياء الآن ما دامت متاحة ورخيصة نسبيّا".
لكن رحلة الكاتب لم تكن عزلة دائمة، فقد صادق العديدين ممّن قابلهم. "عندما تكون وحيدا، ستحاول أن تشغل وقتك بالقراءة والصيد والمشي والتأمّل، وستبحث عن أفضل البشر لتستمتع بصحبتهم. البحيرة متجمّدة طوال الوقت تقريبا، والناس الذين يعيشون في هذا المكان يبدون غريبي الأطوار أحيانا. احدهم كان يمجّد ستالين ويتّهم الفرنسيين بالشذوذ".
أتى تيسون إلى الغابة كي يهرب من توحّش العالم الحديث، كما قال. لكن الغابة، وبسبب كثرة الفِخاخ المنصوبة فيها للأيائل والخنازير البرّية، هي مكان موحش أيضا.
وفي نهاية الكتاب، يبدي حزنه على انه سيغادر الكوخ ويرحل عن سيبيريا. لكنه لا يترك انطباعا بأنه يريد أن يبقى هناك إلى الأبد.
كتاب سيلفان تيسون هو احتفاء جميل بالعيش البطيء وبالاستمتاع بالأشياء البسيطة والتخلّص من ملهيات الحياة الحديثة والعودة إلى أنفسنا.
ممّا يجدر ذكره أن الكتاب تحوّل مؤخّرا إلى فيلم فرنسي صُوّرت أحداثه في طبيعة سيبيريا نفسها.

Credits
nypl.org

الخميس، أغسطس 20، 2020

مخطوطات قرآنية نادرة


كلمة (manuscript) أي مخطوطة، مشتقّة من اللاتينية وتعني "مكتوب باليد". والكلمة تشير إلى المجهود اليدويّ الذي يبذله الكاتب في استنساخ النصوص.
والمخطوطات تتضمّن عادةً أدلّة عن تاريخ التقنيات والأساليب المتّبعة في إعدادها، مثل تحضير الورق والحبر والألوان وأوراق الذهب والفراشي والأقلام وتخطيط الصفحات والرسوم والزخارف والتجليد وخلافه.
في هذا الموضوع نتوقّف عند ثلاث مخطوطات تُعتبر بحقّ تحفاً فنّية عظيمة ونادرة. وما يميّزها أنها مخطوطات للمصحف الشريف. وسنشير إلى كلّ مخطوطة بالاسم الذي أصبحت تُعرف به في المتاحف والمزادات. الأولى هي مخطوطة المصحف التيموريّ، والثانية مخطوطة مصحف روزبيهان، والثالثة مخطوطة المصحف الفاطميّ.
ومن الواضح أن أحد الأهداف من وراء إخراج هذه المصاحف النادرة بهذا الشكل هو استثارة ردّ فعل جماليّ في نفس وعين الناظر وإثراء التجربة الشعورية في الإمساك بالمصحف الشريف وتصفّحه.
ولنبدأ أوّلا بالمصحف التيموريّ الذي بيع في المزاد مؤخّرا بمبلغ سبعة ملايين جنيه استرليني. هذا المصحف زُيّن بطريقة رائعة وكُتبت آياته على ورق ملوّن من زمن حكم سلالة مينغ الصينية.
ويُرجّح أن مخطوطته كُتبت في بلاط أمير تيموريّ، إما في أفغانستان أو إيران. وقصّته تعكس التاريخ الغنيّ للهدايا الدبلوماسية والتبادل الثقافيّ بين الصين والعالم الناطق بالفارسية وقتها.
الخصائص الجمالية لهذه المخطوطة مذهلة، فكلّ ورقة من أوراقها التي تربو على الـ 500 مصبوغة بألوان غميقة قوامها الأزرق والفيروزيّ والكريمي والأخضر.
والورق نفسه مصنوع بطريقة لا يُعرف عنها اليوم سوى القليل، لكنّها تعتمد على مزج الصفحات بالرصاص الأبيض لإنتاج ورق بنعومة الحرير. كما أن كلّ صفحة مزخرفة بالذهب مع صور لأشجار وأزهار تشعّ وهجاً أخّاذا.
ورغم أن الورق الملوّن استُخدم في العالم الإسلامي طوال قرون قبل ذلك، إلا أن الورق الصينيّ المستخدم في هذا المصحف له جاذبية خاصّة، بسبب لمعانه ونسيجه الحريريّ وألوانه الحيّة وتصاميمه الغرائبية.
والحقيقة انه ليس فقط النسيج المخمليّ هو ما يجعل هذا الورق متميّزا ومرغوبا فيه، بل هناك أيضا نطاق الألوان المكثّفة في هذا المصحف، بما فيها الأزرق والزهري واللافندر والأصفر والأخضر وغيرها.
والكثير من صفحات المصحف مزيّنة إما بالذهب أو بموتيفات صينية مثل أزهار المشمش وعناصر المعمار والطبيعة. وكلّها تذكّر بالأنماط التي يمكن رؤيتها على حرير المينغ والبورسلان الصينيّ الأبيض.
ويشير مصدر صينيّ من القرن الرابع عشر إلى أن صنع الورق المشمّع ارتبط بمدينة تشاوسنغ على ساحل بحر الصين الجنوبيّ. ويُعتقد أن رُزَماً من هذا الورق اُحضرت من الصين من قبل مبعوث أرسله السلطان التيموري شاه روك إلى هناك حوالي عام 1420.
وقبل اكتشاف هذا المصحف، كانت هناك ستّ مخطوطات أدبية وأربعة مصاحف أخرى صُنعت من ورق صينيّ. وأحد المصاحف موجود في معهد ديترويت للفنّ، بينما يوجد آخر في متحف باسطنبول.
المصحف التيموريّ هو مثال مذهل عن الابتكارات الفنّية التي أبدعتها ورش الفنّانين في كلّ من الصين وبلاد فارس في القرن الخامس عشر. كما انه يوفّر دليلا عن العلاقات الثقافية والدبلوماسية التي كانت تربط صين أسرة المينغ بفارس التيمورية.
كان التيموريون قد حكموا معظم إيران وآسيا الوسطى في القرن الخامس عشر. كانوا رعاة للفنون، فأسّسوا مكتبات ملكية (أو كتاب خانة) في سمرقند وهيرات، وأنتجوا مصاحف رائعة كي يُظهروا من خلالها صلاحهم وتقواهم. وكُتبت هذه المصاحف بخطوط منثنية وذُهّبت بزخارف وموتيفات وأنماط تفتن العين بجمالها الأخّاذ.


ولنتحوّل الآن للحديث عن المخطوطة الثانية، وهي ما تُعرف بمصحف روزبيهان.
في نهاية القرن السادس عشر، كانت هناك إمبراطوريتان إسلاميتان كبيرتان في حالة حرب لمدّة عشرين عاما: الفرس الصفويون بقيادة الشاه تاهماسب والترك العثمانيون بقيادة السلطان سليمان القانوني. ورغم أن تلك الحرب كانت تخاض للسيطرة على الأرض، إلا أنها كانت ملوّنة بالتنافس المذهبيّ. فسليمان كان يرى في نفسه مدافعا عن الإسلام السنّي، بينما أراد تاهماسب أن يؤكّد على تمسّكه بالإسلام الشيعي.
لكن في نهاية الأمر، كان الرجلان مسلمين. فعندما توفّي سليمان القانوني عام 1566، أي بعد مرور 11 عاما على إبرام معاهدة أماسيا للسلام، أرسل تاهماسب وفدا من لدنه مع أربعة وثلاثين جملا محمّلة بالهدايا النفيسة للسلطان الجديد. وكان من بينها مصاحف ذات جمال استثنائي.
كان القرآن الكريم وما يزال رمزا لتوحيد المسلمين. لكن الاهتمام الكبير بتصميمه وإخراجه في أحسن صورة كان يتضمّن رسالة أخرى، وهي أن الشيعة مسلمون كالسنّة وأنهم يكرّمون كلام الله ويوقّرونه بطريقتهم.
ويعتقد بعض المؤرّخين أن مخطوطة القرآن المعروف بـ "مصحف روزبيهان" والموجودة اليوم في متحف مكتبة تشيستر بيتي في دبلن، كانت موضوعة داخل إحدى الحقائب التي حملتها الجمال كهديّة من الشاه إلى حاضرة القسطنطينية.
ورغم انه لا يُعرف من أمر بكتابة وتصميم ذلك المصحف، إلا انه من المرجّح انه خرج من شيراز حوالي عام 1550. أما الخطّاط الذي وقّع اسمه على المخطوطة فلم يكن سوى روزبيهان محمّد الشيرازي الذي عُرف بمهارته الكبيرة في فنّ الخط. وكانت عبقريته هو والمذهّبين المجهولين الذين عملوا معه هي التي أبدعت هذا العمل الفنّي المدهش.
جامع الفنون الأمريكي تشيستر بيتي كان مفتونا بهذا المصحف عندما رآه أوّل مرّة. ويُرجّح انه اشتراه في نهاية عشرينات القرن الماضي من تاجر كتب في اسطنبول. وفي الخمسينات احضر المصحف وضمّه إلى مكتبته الجديدة في دبلن.
لكن لأن بعض الألوان في المصحف أصبحت شاحبة وبعض الصفحات ملتصقة بعضها ببعض، فقد اتّخذ المالك الجديد قرارا بفصل الأوراق وإعادة الألوان إلى سابق عهدها. وأُنجزت تلك المهمّة بعد أربع سنوات من العمل المتواصل.
الاهتمام بالتفاصيل يعكس دقّة روزبيهان الذي استخدم في المصحف خطوطا مثل المحقّق والثلث والنسخ. وقد رُشّت على الصفحات ذات الخطوط الكبيرة ألوان ذهبية وزهرية قبل أن يكتب عليها. وعلى حوافّ خطّ النسخ رُسمت تصاميم وأنماط زهرية ثريّة الألوان.
ولا بدّ وأن المصحف الذي يضمّ حوالي ستّة آلاف آية تطلّب صبرا رهيبا لإتمام كتابته وتزيينه. وفي النهاية أنجز الخطّاط والفنّيون الآخرون عملا عظيما من أعمال الفنّ ومصدر ابتهاج لأيّ شخص يقلّب صفحاته.
وقد ساد اعتقاد بأن هذا المصحف المتفرّد كان يُقرأ في المناسبات الشرفية الخاصّة فقط. وشهرته تأتي أوّلا من اسم الخطّاط الذي كتبه. ولكن هناك أيضا الجودة والزخرفة التي نهض بها فريق كامل من الفنّانين والحرفيين المجهولين الذين جعلوا من هذا المصحف مميّزا عن بقيّة المخطوطات التي ظهرت في القرن السادس عشر.
كان روزبيهان خطّاطا لامعا. وهذا المصحف هو ولا شكّ تحفته بلا منازع. مع أن هناك خمسة مصاحف أخرى تحمل توقيعه.

ولننتقل الآن للحديث عن المخطوطة الثالثة، وهي ما تُعرف بالمصحف الفاطميّ أو المصحف الأزرق.
كان بعض مؤرّخي الفنّ قد أشاروا من قبل إلى أن هذا المصحف خرج إمّا من شيراز أو من اسبانيا الإسلامية. لكن الدراسات التي أجراها المؤرّخ البارز م. بلوم أكّدت أنه يعود إلى الدولة الفاطمية (909 - 1171)، وأنه كُتب في حوالي القرن العاشر الميلادي في تونس، وتحديدا في مدينة القيروان.
ويُعتبر هذا المصحف احد أكثر قطع الفنّ الإسلامي شهرةً واحتفاءً. وثمّة احتمال بأن الفاطميين الذين حكموا مصر وسوريا وأسّسوا مدينة القاهرة أرادوا أن يكون المصحف وقفاً لجامع القيروان في بداية ذلك القرن.
وقد استُخدم فيه الذهب والفضّة بسخاء. واختيار الأزرق أو النيليّ، المستورد غالبا من الهند، مع الذهب والفضّة ربّما كان محاولة لتسجيل موقف سياسيّ ودينيّ ولمنافسة المخطوطات الرومانية التي كانت تُصبغ عادة باللون الأرجواني الثريّ.
ويُلاحَظ أن المصحف كُتب بالخطّ الكوفيّ المغربيّ المذهّب ودون تنقيط. ومعظم صفحاته موجودة في تونس، لكن بعضها الآخر متوزّعة على متاحف العالم وبعض المجموعات الفنّية الخاصّة. وقبل عشر سنوات، بيعت صفحة واحدة منه في مزاد بلندن بسعر قياسيّ هو 530 ألف جنيه إسترليني.
تقول موظّفة في متحف المتروبوليتان الذي يقتني بعض صفحات من المصحف الأزرق: انأ لست مسلمة ولا اعرف العربية. لكني اعرف أن المصحف الأزرق مكتوب بالخطّ الكوفي. وقد جذبني إليه اللون الأزرق الغامق والأحرف الذهبية. وكثافة هذا اللون تقول إننا إزاء قطعة فنّية ذات مضمون روحانيّ عميق".



وقبل الختام، أشير في عجالة إلى مخطوطتين أخريين للمصحف الشريف وتستحقّان أن تُذكرا في هذا الموضوع لقيمتهما المتحفية والجمالية.
الأولى لمصحف كُتب كلّه بالذهب، ويمثّل نموذجا في الكتابة الإبداعية بالخطّ الكوفيّ. وللأسف لا تتوفر معلومات كافية عن هذا المصحف باستثناء انه كُتب في حوالي القرن الثامن الميلادي في عهد دولة الأغالبة في شمال أفريقيا أو أثناء حكم العبّاسيين. والمصحف هو اليوم من مقتنيات متحف كليفلاند للفنّ في الولايات المتّحدة.
أما المخطوطة الثانية فلمصحفٍ يعود إلى حوالي القرن التاسع الميلادي. ويُحتمل انه جاء من احد بلدان المشرق أو شمال أفريقيا. وهو مكتوب بالخطّ الكوفي الذهبيّ مع نقاط حمراء وخضراء وزرقاء لضبط التشكيل ونهايات الآيات. وهذه المخطوطة مملوكة لمجموعة ناصر خليلي الفنّية في لندن.

Credits
christies.com
chesterbeatty.ie

الجمعة، أغسطس 14، 2020

ديلاكروا: الرحلة الجزائرية

غادر الرسّام اوجين ديلاكروا فرنسا متوجّها إلى المغرب في يناير من عام 1832، أي بعد عامين من احتلال بلده للجزائر. كان قد أصبح فنّانا مشهورا بعد أن رسم "دانتي" و"موت ساردانابولوس" و"الحرّية تقود الشعب".
وقد سافر بمعيّة دبلوماسيّ يُدعى شارل دي مورناي الذي كان يرأس وفدا كلّفه الملك لوي فيليب بمقابلة سلطان المغرب مولاي عبدالرحمن الذي أدّى دعمه للمقاومة الجزائرية إلى تهديد استمرار التوسّع الفرنسيّ غرباً.
وأثناء توقّف ديلاكروا في الجزائر، استُجيب لرغبته في الدخول إلى جزء من بيت احد الأهالي، حيث تعيش النساء فيه في عزلة عن الرجال. وقد لاحظ الرسّام الحريم من مسافة عبر رواق يؤدّي إلى غرفتهن. وفي نهاية الغرفة رأى ثلاث نساء مع خادمتهن وهن يجلسن حول أرغيلة وفي جوّ يوحي بلحظات من الخصوصية.
في ذلك المكان، تشكّلت في ذهن ديلاكروا الملامح الأوليّة للوحته "نساء الجزائر" التي وصفها احد النقّاد في ما بعد بأنها انجازه الأكبر.
وهناك غموض يحيط بهويّة اثنتين من النساء، الأولى وتُدعى منى بنسلطان، وتظهر في أقصى يسار اللوحة متكئةً على أريكة وجالسةً في مواجهة الناظر. أما الثانية فتُدعى زهرة بنسلطان التي تجلس متربّعة في الوسط وهي تتحدّث بهدوء مع رفيقتها إلى اليمين.
قد تكون المرأتان شقيقتين أو ابنتي عمّ أو زوجتين لنفس الرجل. والاسمان العربيان ليسا دليلا كافيا على أنهما مسلمتان بالضرورة. كما أن لباسهما ليس ممّا ترتديه عادةً النساء اليهوديات في شمال أفريقيا.
النساء الثلاث يجلسن بين الظلّ والضوء، وأذرعهنّ وأقدامهنّ المشمّرة توحي بأن الوقت صيف. وهنّ يجلسن على سجّاد تركيّ الطراز مزيّن بموتيفات امازيغية، مع وسائد من مخمل. واللون الأرجوانيّ الغالب على اللوحة يخلق جوّا غامضا وحالماً.
الأشياء الظاهرة في الغرفة، كالباب الخشبيّ المذهّب والستارة والزخارف والنقوش على الجدار، كلّها عناصر تشي بالروابط الوثيقة بين الجزائر وموانئ الشرق في القرن التاسع عشر.
الاكسسوارات والأزياء والديكور والمجوهرات وطريقة الجلوس رُسمت أوليّا وبتفصيل كبير أثناء زيارة ديلاكروا للجزائر. وقد أضاف إليها ملحقات وموادّ أخرى عندما جلس ليرسم اللوحة في باريس.
المعروف أن الفنّان رسم نسختين من هذه اللوحة تفصل بينهما 15 عاما. لكن اللوحة فوق هي الأشهر. وقد اشتراها ملك فرنسا عام 1834 وقدّمها هديّة إلى متحف لوكسمبورغ. ثم انتقلت في ما بعد إلى متحف اللوفر حيث ظلّت فيه إلى اليوم.
الأسطورة الأوربّية عن فانتازيا الحريم تكرّست في القرن التاسع عشر بعد ترجمة انطوان غالان لكتاب "ألف ليلة وليلة" إلى الفرنسية عام 1717. ثم تعمّق المفهوم الأوربّي عن الشرق أكثر فأكثر من خلال صور ديلاكروا.
وقد كتب الرسّام في ما بعد إلى صديق له يقول: لم أرَ في حياتي اغرب مما رأيته في طنجة. فهذه المدينة هي حكاية خارجة من كتاب الليالي العربية. إنها مزيج مدهش من الأعراق والأزياء والألوان".
لوحة "نساء الجزائر" تُوازن بين الكلاسيكية والرومانسية. الإلهام الشرقيّ وثروة الألوان التعبيرية هي ملامح رومانسية. والنظام الإيقاعي للأشكال والشغف المحسوب هي ملامح كلاسيكية. الضوء والظلّ يلعبان هنا دورا مهمّا. والتلوين يخلق جوّا من الدفء قيل إن رسّاما لم يحقّقه من قبل باستثناء فيلاسكيز في لوحته "النسّاجات".
وعندما تنظر إلى اللوحة سيُخيُّل لك أن الوقت فيها متوقّف. وليس فيها أيّ حبكة أو فعل أو قصّة. إنها صورة نقيّة، لكنها ساحرة وجذّابة بما لا يُوصف.


والسمات العديدة فيها، كالنظرات المتلصّصة والظلال المنوّمة والألوان اللامعة والهدوء المهيمن، كلّها عناصر عن الطبيعة المتناقضة للوحة كثمرة للمزاوجة بين الواقع والخيال.
مزيج الألوان ووضعيات الأيدي وطيّات الملابس والضوء غير المتوقّع والتباين بين الشخصيات دفعت احد النقّاد للقول إن اللوحة مليئة بالأفكار والرؤى.
وقال ناقد آخر: إن هذه اللوحة تعكس الحياة المملّة لهؤلاء النساء اللاتي يفتقرن للأفكار الجادّة والعمل المفيد الذي يمكن أن يمنع عنهن الشعور بالسأم في هذا السجن الذي يقبعن وراء جدرانه".
ألهمت لوحة "نساء الجزائر" أجيالا متعاقبة من الرسّامين، مثل فان غوخ وغوغان وسيزان. كما كانت مصدر إلهام لبيكاسو وماتيس والانطباعيين الذين أتوا في ما بعد.
كان بيكاسو مهجوسا كثيرا بـ "نساء الجزائر". وفي عام 1954، أي بعد مرور 120 عاما على رسم ديلاكروا للوحة، رسم بيكاسو 15 لوحة، بالإضافة إلى مئات الاسكتشات. وكانت كلّها عبارة عن تنويعات على لوحة ديلاكروا.
وإحدى تلك اللوحات أصبحت أغلى لوحة في العالم، عندما بيعت قبل خمس سنوات بـ 180 مليون دولار. ونُقل عن بيكاسو وقتها قوله: لو رأى ديلاكروا لوحتي لأحبّها وقدّرها. لقد رسم لوحته وفي ذهنه روبنز. ورسمتها أنا وفي ذهني ديلاكروا. لكني فعلتها بشكل مختلف".
كان ديلاكروا أوّل رسّام فرنسي يعبر البحر المتوسّط. وقد تأثّر في استشراقه بنموذج اللورد بايرون الذي شارك في حرب الاستقلال التي خاضها اليونانيون ضد الأتراك العثمانيين.
وكان عمر ديلاكروا عندما زار الجزائر والمغرب 34 عاما. وقد مكث فيهما ستّة أشهر فُتن خلالها بهذا الشرق الجديد وبألوانه الساطعة وبالعرب ونسائهم وخيولهم الساحرة، وهي العناصر التي ظلّ يرسمها طوال حياته.
وفي الجزائر والمغرب رأى نسخة من الشرق الأسطوريّ والرائع الذي طالما تخيّله. ولم توفّر له تلك الرحلة الفرصة ليرسم ما رآه فحسب، وإنّما أتاحت له فرصة للتأمّل الفلسفيّ. وقد كتب في مذكّراته يقول: عشت في الجزائر والمغرب ستّة أشهر فقط. ومع ذلك أحسست أنني عشت هناك أكثر ممّا عشت في باريس بعشرين مرّة".
كان ديلاكروا يعتقد بأن أسلوب حياة الأقدمين يوشك على الانتهاء، وهو انطباع ظلّ معه حتى مماته. كما كان يؤمن بأن الحلقات المفقودة من الحضارة موجودة في الشرق، وأن حجم الإرث الحضاري للشرق يكفي لإلهام عشرين جيلا من الرسّامين.
لكن لأن ديلاكروا سافر إلى شمال أفريقيا كجزء من بعثة دبلوماسية فرنسية بعد عامين من غزو فرنسا للجزائر، فقد ظنّ البعض بأن اللوحة كانت شكلا من أشكال الدعاية لطموحات فرنسا الاستعمارية. غير أن النظر إلى اللوحة عن قرب يثبت أنها بعيدة عن رسم الآخر الغرائبي، أي نموذج اللوحات الاستشراقية السائد آنذاك.
كان ديلاكروا يؤمن بأن حضارة الجزائر، رغم كونها اقلّ تطوّرا من فرنسا، إلا أنها اقرب إلى الطبيعة، كما أن فيها بعضا من قيم روما القديمة التي كانت تتآكل في الغرب. صحيح أن الرسّام كان متأثّرا بفكرة التفوّق الأوربّي، لكنه فوجئ بنبل الناس في الشرق مقارنةً بما كان يعتبره "فساد الفرنسيين".
كان ديلاكروا جزءا من حركة فلسفية وفنّية تتضمّن الفنون الفكرية والبصرية والأدبية. وهو نفسه كان شاعرا ومؤلّفا وعاشقا للتاريخ والأدب. وقد تضمّنت تجربته في شمال أفريقيا لوحات أخرى مثل "متعصبّو طنجة" و"زواج يهودي" وغيرهما.

Credits
louvre.fr
eugenedelacroix.net

الأحد، أغسطس 09، 2020

تشيكوف: نظرة مختلفة

لأكثر من مائة عام، يجلس رجلان ملتحيان وطاعنان في السنّ على أكتاف الروس الذين ينوءون تحت حملهما الثقيل: تولستوي وديستويفسكي. تولستوي يجلس على الكتف الأيمن وديستويفسكي على الكتف الأيسر، أو العكس.
العبء الثقافي الذي يمثّله هذان الرجلان ستشعر به بعد لحظات قليلة من لقائك مع أيّ شخص غريب يكون على دراية بسيطة بالأدب الروسيّ. فعندما يعرف انك روسيّ، سرعان ما يهتف: آه تولستوي وديستويفسكي"!
الميراث الأدبيّ الضخم للرجلين يثقل كواهلنا كـ "رُوس"، بل ويسحقنا بلا رحمة. والمشكلة انه يتوجّب علينا أن نحملهما معنا أينما ذهبنا أو ارتحلنا إلى أن نموت.
ما من شكّ في أن الرجلين عبقريّان. لكن المحزن أن حجم وعمق كتاباتهما حَجَب بريق كتّاب روس آخرين لا يقلّون أهميّة وموهبة. وأعرف على الأقل كاتبا واحدا ينافسهما، بل ويتفوّق عليهما أحيانا. هذا الكاتب اسمه انطون تشيكوف. وهناك عدد من الأسباب التي تجعل من تشيكوف ندّاً قويّا لتولستوي وديستويفسكي.
السبب الأوّل هو أن تشيكوف كان كاتبا موجزا. صحيح أن طول أو حجم كتاب ما ليس معيارا صالحا للحكم على جودته وقيمته. فهناك روايات كثيرة طويلة وضخمة، لكنها مملّة وثقيلة، لدرجة انه يتعذّر عليك قراءة بضع صفحات منها. لكن تشيكوف مختلف من هذه الناحية.
وعندما تقرأ المجلّدات الأربعة لرواية "الحرب والسلام" مثلا، فستقدّر عالياً ميزة الإيجاز والاختصار التي يفتقر إليها تولستوي، وبدرجة اقلّ ديستويفسكي.
تشيكوف هو ملك القصّة القصيرة. وهو عادةً لا يحتاج سوى لبضعة اسطر وتفاصيل صغيرة ليصوّر قصّة الحياة الكاملة لشخصية من شخصياته، وهي مهمّة تتطلّب من ديستويفسكي أو تولستوي عشر صفحات كاملة من الحشو والإطناب الذي لا لزوم له. وتشيكوف هو الذي قال ذات مرّة جملة مهمّة أصبح الروس يردّدونها كما لو أنها حكمة: الإيجاز هو توأم الموهبة".
والسبب الثاني هو أن أبطال تشيكوف هم من النوع الذي يسهل عليك أن تتعاطف معهم. والحقيقة أن الأدب الروسيّ حافل بالقصص التي تستثير الحزن وتكسر القلب. لكن الطريقة التي يتعامل بها تشيكوف مع المسألة مختلفة تماما.
في المقابل، فإن شخصيات تولستوي وديستويفسكي معقدّة جدّا وتعاني كثيرا، وهو أمر مألوف في أدب القرن التاسع عشر. كما أن كتاباتهما تتضمّن أفكارا كثيرة عن الله والحبّ وعن الروح الروسية. وكلّ هذا أصبح نوعا من الكلام المملّ والمزعج.
وعلى النقيض من شخصيات هذين الاثنين الذين يشبهون أبطال الكتب المقدّسة، فإن أبطال قصص تشيكوف أناس عاديّون، وأحيانا مضحكون ومثيرون للشفقة. لكنهم دائما يحلمون بحياة أفضل، على الرغم من أنهم غارقون في مشاكلهم اليومية.
وكلّ الطيف الواسع من المشاعر التي يعبّر عنها تشيكوف في قصصه يمكن اختزالها بقوله الساخر: هذا يوم جميل، ولا اعرف ما إذا كان يتعيّن عليّ أن اشرب كوبا من الشاي أو اشنق نفسي".


السبب الثالث هو أن تشيكوف لا يقدّم في كتبه مواعظ من أيّ نوع، في حين أن لدى تولستوي وديستويفسكي منظومتهما القيمية الصارمة: في حالة ديستويفسكي هناك نسخة متشدّدة من الأرثوذوكسية المُطعّمة بولاء لا يفتر للقيصرية المحافظة. وفي حالة تولستوي هناك الفوضوية السلمية المتطرّفة على طريقة غاندي.
صحيح أن تلك القيم والمفاهيم لا تهيمن على نثرهما دائما، لكنها تطلّ من كتاباتهما بشكل متواتر ومن حين لآخر. وإن كنت من النوع الذي يكره الخطب والمواعظ الفجّة، فستجد أن من الصعب عليك تقبّلها أو هضمها.
قال شخص ذات مرّة: عندما اقرأ تولستوي اشعر انه يعبس في وجهي. ورغم انه يقول كلاما صحيحا أحيانا، إلا أن الأمر يظلّ مزعجا".
لكن هذا لا يحدث مع تشيكوف. فهو لا يقدّم دروسا أو مواعظ أبدا، فقط يحفزّك على أن تظلّ إنسانا نبيلا وصبورا أمام تحدّيات الحياة. وهناك دائما في مسرحياته وقصصه القصيرة بصيص من الأمل، هذا الأمل بشيء ما أفضل يتخلّل جميع أعماله.
السبب الرابع هو أن تشيكوف كان إنسانا عظيما وصاحب مبدأ. كان يمزج بين الأدب وبين الطبّ مهنته الأولى والأساسية. وقد قال مرّة: الطبّ زوجتي الشرعية والأدب عشيقتي". ولم يكن يدخّر جهدا أبدا في مساعدة جميع الناس، وخاصّة الفلاحين والعمّال الفقراء الذين كان يعالجهم مجّانا.
في عام 1890، ذهب إلى جزيرة سخالين التي تبعد عن موسكو أكثر من 6400 كيلومتر. وأثناء تلك الرحلة ألّف كتابا عن المعاملة غير الإنسانية التي يتلقّاها السجناء الذين يُرسلون إلى هناك.
السبب الخامس هو أن تشيكوف معروف عالميّا بسبب إرثه المسرحيّ. وهو يُعتبر احد اكبر الكتّاب الذين تُمثّل أعمالهم بشكل دائم على خشبة المسرح، جنبا إلى جنب مع شكسبير وإبسن وسترندبيرغ. تحفه الأدبية الكبيرة مثل "طائر النورس" و"بستان الكرز" و"الأخوات الثلاث" لا تشيخ أبدا، لأن فيها عمقا ولأنها مفتوحة دوما على مختلف التأويلات.
كان وسيما، ذكيّا وعطوفا. وفي سنواته الأخيرة، افتتح عيادة لمعالجة ضحايا الكوليرا والمجاعة بالمجّان. كما بنى ثلاث مدارس لمساعدة أبناء المزارعين الفقراء ومدّهم بالتعليم بلا مقابل.
في عام 1901، تزوّج تشيكوف من ممثّلة كانت قد شاركت في بعض مسرحياته. وبعد 3 سنوات توفّي في ألمانيا وعمره لا يتعدّى الـ 44 بعد معاناة طويلة مع مرض السلّ. وحتى عندما علم بموته الوشيك ظلّ يتصرّف بكرامة، ولم يغادره حسّ الدعابة إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، وضرب مثالا ممتازا للشخص الذي لا يشتكي لأحد ولا يتذمّر من الحياة.
إجمالا كانت كتابات تشيكوف أكثر إمتاعا وتشويقا وواقعية من كتابات كثيرين غيره. وفي النهاية ستجد انك بطل من أبطال تشيكوف ولا يمكن أن تكون بطلا من أبطال تولستوي أو ديستويفسكي ما لم تقتل سيّدة عجوزا بفأس أو تهزم نابليون!

Credits
lithub.com
rbth.com

السبت، أغسطس 01، 2020

غويا: إعلان ضدّ الحرب

كان في ذهن الرسّام الإسباني فرانسيسكو دي غويا وهو يرسم هذه اللوحة الأيقونية أن تكون تخليدا للعمل الأكثر بطولة في نضال الشعب الاسباني ضدّ "طاغية أوربّا"، أي نابليون، الذي كان قد احتلّ اسبانيا في بداية عام 1808 وأجبر الملك تشارلز الرابع على التنحّي.
في الثاني من مايو من ذلك العام، حاولت جماعة موالية للعرش الاسباني أن تستعيد السلطة في مدريد. لكن تلك الانتفاضة انتهت بفشل دمويّ كامل. وفي صباح اليوم التالي، ألقت القوّات الفرنسية القبض على المئات ممّن اشتبه في مشاركتهم في ذلك التمرّد، وجمعتهم في مكان خارج المدينة ثم أطلقت عليهم النار ليلا.
وبعد ستّ سنوات، وكانت إمبراطورية نابليون على وشك السقوط وابن تشارلز يجلس على العرش الاسبانيّ، أنهى غويا رسم لوحته الأكثر شهرةً وإثارةً للانزعاج.
كثيرا ما توصف لوحة "الثالث من مايو 1808" بأنها أعظم لوحة معادية للحرب وأوّل عمل من أعمال الفنّ الحديث، كما أنها تحفة غويا بلا منازع. والغريب أن هذه اللوحة قضت أوّل أربعين عاما من عمرها في المخازن. ثم حُوّلت بعد ذلك إلى متحف برادو في مدريد. ولم يهتمّ المتحف بإدراجها ضمن مقتنياته إلا في عام 1872. في ذلك الوقت، كانت الفظائع التي رسمها غويا في اللوحة قد أصبحت خارج الذاكرة الجمعية للناس.
طوال فترة انشغاله بالرسم، كان غويا بارعا في إقناع رعاته بعمل شيء ثم انجاز شيء آخر. والحقيقة أن "الثالث من مايو" حافظت على ذكرى التمرّد الإسباني حيّة في الأذهان. ومع ذلك فإن من المشكوك فيه ما إذا كان الرسّام أراد إظهار تلك المذبحة كحادث مقترن بالبطولة أو المجد. لكن المؤكّد أن غويا استطاع من خلال هذا العمل توسيع أعراف الرسم الأكاديمي كي يُبرز الوقائع المريرة والدامية للصراعات الحديثة.
في عام 1975، نشر الكاتب الفرنسي اندريه مالرو مقالا قال فيه إن الرسم الحديث بدأ باللوحات السوداء التي تناول فيها غويا فظائع الحرب. لكن غويا رسم في "الثالث من مايو" لوحة حداثية مروّعة كانت بلا وجه ولا مشاعر".
الجنود الفرنسيون الذين يظهرون في الجانب الأيمن من اللوحة لا يمكن مساومتهم أو مجادلتهم بالعقل. ولأننا لا نستطيع رؤية تعابير وجوههم وهم يطلقون النار، فإننا لا يمكن أن نعرف ما الذي كان يعتمل في رؤوسهم في تلك اللحظات.
وبدلا من ذلك فإن خوذاتهم السوداء التي تشبه الأقنعة ووقفتهم الموحّدة هي التي تلفت انتباه الناظر. ومن الواضح أن هؤلاء الجنود أتوا إلى هذا المكان ليلا لإنجاز مهمّة لا مكان فيها للتفكير أو المشاعر. كانوا فقط ينفّذون الأوامر التي أُعطيت لهم.
وإذا كان منفّذو إعدامات الثالث من مايو جنودا متبلّدي المشاعر وعديمي الرحمة، فإن غويا لا يُظهر منهم سوى القليل في اللوحة. لكن ضحاياهم لا يمكن نسيانهم، لأن مشاعرهم وردود فعلهم تُفصح عن نفسها.
مؤرّخو الحرب، من ناحيتهم، أراقوا حبرا كثيرا في تحليل شخصية الرجل الشهيد ذي القميص الأبيض والعينين المفتوحتين على اتساعهما.
في السيرة الرائعة التي كتبها الناقد روبيرت هيوز لغويا، يصف الكاتب هذا الشخص الظاهر في اللوحة بأنه واحد من أكثر الشخصيات حضورا في كل أعمال الفنّ، بينما شبّه آخرون وقفته بوقفة المسيح على الصليب. وإذا نظرت إلى الرجل عن قرب فستلاحظ أثر جرح على إحدى يديه، في إشارة إلى معاناة المسيح.
لكن غويا لا يسمح لتلك الإشارات الأيقونية الموحية بأن تُسقط لوحته في مأزق العاطفية الفجّة. فهذا الرجل ضحيّة، لكنه ليس شهيدا تماما. فهو لم يختر لنفسه أن يموت، ناهيك عن أن يموت في سبيل قضيّة. إن موته يثير الغضب ولا شكّ، لأنه غير مفهوم، كما لا يمكن تبرير قتله بدافع من دين أو وطنية. ولم تكن للقتل أهداف عليا، فقط الطغيان الذي يعلن عن نفسه في الليل.
يمكن أن تُكتب مئات الصفحات عن وقفة هذا الرجل المشهور وعن تعابير وجهه. وقد فعل هذا العديد من مؤرّخي الفنّ. لكن "الثالث من مايو" هي من اللوحات النادرة التي لا يخلو تفصيل فيها من فكرة أو إيحاء.

لاحظ، مثلا، انثناءة السيف اللامع لآخر جنديّ فرنسيّ إلى اليسار. إنه مجرّد تفصيل صغير في هذه اللوحة الضخمة والتي - بحسب هيوز - تتفوّق فعليّا على أيّ شيء في الرسم الأوربّي بعفويّتها وحيويّتها الملهمة. السيف المتقادم الذي يتدلّى من خصر صاحبه بلا فائدة هو رمز للرومانسية الباهتة للحرب.
مالرو لاحظ أيضا منظر المدينة البعيدة المتّصل بالمقدّمة بسلسلة من الأسرى الذين لا يكادون يبينون فوق رؤوس الجنود الفرنسيين، وهم يراقبون من ذلك المكان العالي عمليات القتل. إن غويا في هذا التفصيل يستثير أشباحا من المدن دون أن يضطرّ لرسم أطلال أو خرائب، وهو شيء لم يسبقه إليه احد من قبل، بحسب مالرو.
والحقيقة أن هذا الوصف يمكن أن ينطبق على أيّ من انجازات غويا الأخرى. لكن لا يمكن القول أن رسّامين آخرين لم يحاولوا أن ينجزوا ما فعله. فإدوار مانيه مثلا في لوحته "إعدام ماكسيميليان" لم يحاول إخفاء تأثّره بـ "الثالث من مايو"، في حين اعتُبرت "غورنيكا" بيكاسو عملا مناظرا للوحة غويا، ولكن في القرن العشرين. وهاتان مجرّد علامتين فقط على النجاح المبهر للوحة باعتبارها إعلانا ضدّ الحرب.
المسئولون الإسبان الذين كلّفوا غويا برسم اللوحة أرادوا لها أن تصبح عملا تذكّريا يحتفي بإسبانيا وبوطنية الإسبان. لكنهم في النهاية لم يحتفوا بشيء سوى شجب واستنكار الحرب. ولم يعد مهمّا معرفة من الذي خاضها ولماذا.
وعندما تلاشت حروب نابليون من كتب التاريخ، أصبحت عالمية "الثالث من مايو" أكثر وضوحا في القرن العشرين. إذ لا يبدو الأشخاص في اللوحة على أنهم فرنسيون أو إسبان تحديدا. ومن السهل أن تتخيّل حدوث هذا المنظر الرهيب والغارق في الدماء في ألمانيا عام 1942، أو في تشيلي عام 1973، أو في العراق عام 2006.
على الأرجح، لم يكن غويا شاهد عيان على ما حدث. ولم تكن اللوحة مجرّد تسجيل لحادث بعينه، بل كانت تأمّلا كئيبا عن طبيعة السلطة وشرور الحرب. ورغم انه اشتغل معظم حياته كرسّام للقصر، إلا انه ظلّ يتحلّى بالاستقامة الثورية.
كان غويا يكره كافّة أشكال السلطة: الكهنة، الجنود والمسئولين. وكان يعرف أن كلّ هؤلاء لو توفّرت لهم السلطة لنكّلوا بالضعفاء ولسحقوهم بلا رحمة. وشعوره هذا هو الذي منح قوّة ورمزية للرجل صاحب القميص الأبيض وللضحايا الآخرين المضرّجين بدمائهم.
لم تكن الدماء منظرا يحظى بالشعبية في الرسم التاريخيّ في القرن التاسع عشر. لكن المعركة هنا رهيبة وليس فيها أيّ قدر من النبل أو البطولة. لقد رسم غويا جنودا يقتلون بدم بارد أفرادا عُزلا، وأبقى وجوه القتلة بلا ملامح لكي لا يتماهى معهم الناظر. غير أن الضحايا أو معظمهم لهم وجوه، وهذا من أعظم خصائص اللوحة.
مع "الثالث من مايو" بدأ ظهور الصورة الحديثة للحرب، وللقتلة المجهولي الهويّة، بينما وصلت التقاليد الطويلة عن الحرب كمظهر من مظاهر الشجاعة والفروسية إلى نهايتها.
ليس بالمستغرب أن يلجأ الفنّانون من جميع أنحاء العالم إلى غويا عندما يريدون التعبير عن رؤاهم المضادّة للحرب. وبسبب عالمية وأيقونية "الثالث من مايو" وبوحي منها، ثابر العديد من الفنّانين، وعلى مدى قرنين، على تصوير فظائع الحروب، وبطريقة بليغة أحيانا. لكنهم لم يستطيعوا منع الحروب ولو مرّة.
بطبيعة الحال، ليس مطلوبا من الفنّانين أن يوقفوا الحروب وليست تلك مهمّتهم على أيّ حال. لكن من الصعب ألا تنظر إلى الوراء؛ إلى عشرات الصور المذهلة والمشحونة سياسيّا التي استُلهمت من "الثالث من مايو"، ثم تمنع نفسك من التساؤل: لماذا كانت تلك الحروب أصلا، وما الذي فعلته أو جلبته غير القتل والدمار.
ويمكنك أن تشعر بنفس القدر من الحزن والمرارة وأنت تتأمّل تفاصيل لوحة غويا. لقد كانت فكرته وهو يرسمها هي انه رأى كلّ شيء وخَبِر وعايش احد أكثر الأوقات عنفا وهمجية في التاريخ الأوربّي الحديث.
كانت موهبة غويا الغامضة تتمثّل في انه رأى في ذلك الوقت أكثر ممّا استطاع أيّ شخص آخر رؤيته. لقد رأى كلّ ما كان يحدث لبلده وتوصّل إلى انه لا يستطيع فعل أيّ شيء حياله، غير أن يرسمه.
وهذا بحدّ ذاته انجاز كبير.

Credits
smarthistory.org
khanacademy.org

الأحد، يوليو 26، 2020

الذئب والإنسان

سمعت مؤخّرا قصّة غريبة رواها شخص على لسان شخص آخر. قال: ذهبت في احد الأيّام بمعيّة صديق لتفقّد حظيرة لنا في خلاء قريب. وعندما وصلنا إلى المكان، وجدنا الحارس في حال من الخوف والارتباك. سألته ما الخبر فقال: داهمَنا ذئب وانتزع خروفا واتجه به إلى الجبل ليأكله". فتناولت الرشّاش والمنظار ومضيت أنا وصديقي لاقتفاء اثر الذئب.
وبعد دقائق رأيناه واقفا بجوار صخرة عالية. كان يقضم قطعا من لحم الخروف ويضعها أمام ذئب آخر بدا كبيرا وعاجزا كان واقفا بالقرب منه. فقال صديقي: أرجوك ألا تقتله، هذا الواقف إلى جواره إمّا أن يكون والده أو أمّه، والذئاب معروفة ببرّها بوالديها. قلت: لا بدّ أن اقتله، إذ لا يجوز أن يفتك بحلالنا ثم نتركه". وعندما رآني الذئب اصوّب الرشّاش باتجاهه، لم يهرب بل اخذ ينظر إلينا بصمت. ثم استدار ليحمي بجسمه الذئب الآخر.
وصاح بي صديقي ثانية يرجوني ألا أقتله ويعدني بدفع ثمن الخروف. لكنّي ضغطت على الزناد وأطلقت رصاصة قتلت الذئب على الفور. ثم اقتربنا من الذئب الكبير الذي كان يعوي بألم وحرقة ويدور حول جثّة الذئب القتيل. وعندما تيقّن من مقتله، ألقى بنفسه من ذلك العلوّ الشاهق منتحرا.
وعلى ما يبدو فعل ذلك بدافع من شعوره بالقهر وعجزه عن حماية رفيقه. يقول الرجل: حدثت هذه القصّة منذ خمسة وثلاثين عاما. وطوال هذه الفترة تزوّجت ثلاث مرّات طمعا في ولد، لكن لم اُرزق بذريّة أبدا. وما زلت أرى تلك الحادثة في منامي إلى اليوم. وقد أدركت أن الله عاقبني على فعلتي تلك بحرماني من النسل. ومن وقتها حرّمت على نفسي قتل أيّ حيوان أو مخلوق لأيّ سبب وتحت أيّ ظرف".
العلاقة بين الإنسان والذئب علاقة إشكالية منذ القدم. وعلى الدوام، ظلّ البشر ينظرون إلى الذئاب كأكثر المخلوقات شرّا وخبثا. ومع مرور الزمن، كانت سمعتها تسوء أكثر فأكثر. كانت على الأخص أعداءً للرعاة. ورغم أنها لم تكن تهاجم الإنسان، إلا أنها كانت تصطاد الماشية. وقد وصف الشاعر الروماني فرجيل في "الإنيادا" كيف أن مجرّد عواء ذئب كان يزرع الرعب والهلع في قلوب الأغنام والرعاة.
وتذكر بعض الروايات كيف أن سكّان إحدى القرى دأبوا على نصب شراك في الأرض في محاولة للامساك بذئبة كانت تفتك بقطعانهم. ومع ذلك استمرّوا يفقدون أغنامهم كلّ ليلة.
كانت الذئاب تشكّل هاجسا قويّا في مخيّلة الأقدمين، ولطالما اعتبروها نقيضا للخير والحضارة ورمزا للجوانب السيّئة في طبيعة الإنسان. وكلّ من كان يهدّد نظام المجتمع أو يتجاوز أعرافه كان يوصف بالذئب.
في صالة بأحد المتاحف الأوربية ستفاجأ بذئب. ليس ذئبا حقيقيا، بل صورة من القرن الخامس عشر. هذه اللوحة الصغيرة تصوّر مشهدا من حياة فرانسيس الأسيسي. تقول أسطورة انه عندما كان هذا الكاهن يعيش في بلدة غوبيو في بداية القرن الثالث عشر، كانت البلدة هدفا لهجمات ذئب مسعور. في البداية، كان يُغير على حظائر الماشية. لكن لم يمرّ طويل وقت حتى أصبح يشتهي لحم البشر. ولم يكن احد يجرؤ على فتح بوّابات البلدة، ناهيك عن أن يغامر بوضع قدميه خارجها.
وبمجرّد أن اقترب فرانسيس وبعض أتباعه من المكان الذي يكمن فيه الذئب حتى كشّر عن أنيابه. وهنا أمره الناسك بأن يهدأ "بحقّ الربّ". فهدأ الذئب لبرهة ثم تطلّع إلى فرانسيس قليلا قبل أن يخطو باتجاهه ويريح رأسه في حضنه. وقد عرض عليه الكاهن اتفاقا بأن يتوقّف عن تهديد الأهالي مقابل أن يُقدّم له من الطعام ما يكفيه كلّ يوم. وقد رفع الذئب مخلبه موافقاً. وعندما عاد الناسك إلى الأهالي المذهولين، طلب منهم توثيق ذلك الاتفاق كتابة وإنفاذه.
الفنّان الذي رسم اللوحة، واسمه ستيفانو دي كونسولو، ركّز على عنصر "المعجزة" في الحكاية. لكن هناك ما هو أكثر. فمقابل تعبيرات السكّان المبالغ فيها، يبدو الذئب هادئا أكثر من اللازم. ورغم أن العشب في الخلفية ما يزال مفروشا بعظام وأشلاء ضحاياه، إلا أن الذئب يبدو وكأن لا علاقة له بتلك الأشياء.


في القرون الوسطى، تواتر الحديث عن أسطورة الرجل الذئب "أو المستذئب" التي وجدت طريقها إلى الأدب والفن. وتفترض الأسطورة أن بعض البشر، وبفعل قوى خفيّة وشرّيرة، يتحوّلون في الليل إلى ذئاب تعوي وتتجوّل في الغابات والجبال بحثا عن فرائس. فإذا ما بزغ الفجر تخفّفوا من شخصياتهم الذئبية وعادوا إلى طبيعتهم البشرية.
عنف الذئب وطبيعته المتوحّشة كانت حاضرة بقوّة في عقول القدماء. كان يُصوّر كمخلوق أناني ولا عقلاني ومفتقر لأيّ إحساس بالرحمة. وغالبا ما كانت الذئاب تقارن بقدرة بعض البشر على ارتكاب أعمال عنف لا يقرّها العقل. ثم أصبحت هذه الحيوانات رمزا للطغيان والاستبداد.
في كتاب "الجمهورية"، يتحدّث أفلاطون عن رجل أصبح طاغية وأشبه ما يكون بالذئب المتعطّش لطعم الدم. وفي إحدى أساطيره، يتحدّث ايسوب عن ذئب يرفض الاستماع إلى دفاع حمل عن نفسه. ويسوق الراوي تلك الحكاية كنموذج للاستبداد. وفي ملحمة غلغامش، يرفض البطل تودّد عشتار له بحجّة أنها حوّلت عددا من عشّاقها إلى ذئاب. وفي اوديسا هوميروس، يكتشف اوديسيوس أن الساحرة سيرشي فعلت نفس الشيء.
غير أن الذئاب ليست شرّا مطلقا دائما. الرومان كانوا يعتبرونها مخلوقات مقدّسة ويقيمون مهرجانا سنويا على شرفها. وكان محظورا على الناس صيدها.
وقد وضعت العديد من الثقافات الذئاب في صدارة أساطيرها المؤسّسة. وطبقا لأسطورة قديمة، عمد احد الشياطين إلى وضع زارادشت في عرين ذئبة على أمل أن تفترسه، لكنها عاملته برحمة وأحضرت له غذاءً لتطعمه. والشعوب التركية القديمة تزعم أنها تنحدر من ذئبة تُدعى "ارسينا" كانت قد أنقذت طفلا هو جدّهم القديم من قرية دمّرتها غارات الصينيين.
وفي كتاب العهد القديم، استمرّت الذئاب كرمز لكلّ ما هو شرّير في الطبيعة الإنسانية، وأيضا كرمز لأعداء المسيح نفسه. والرسل المزيّفون يصوّرون في نفس الكتاب كذئاب شرّيرة في ثياب حملان. والذين يضطهدون المؤمنين يُنبذون باعتبارهم ذئابا متوحّشة.
وكان لتلك الأفكار مفعول مدمّر. فبسببها انتشر صيد الذئاب في بلدان الشرق والمتوسّط. وفي أرجاء الإمبراطورية الرومانية المسيحية أصبح قتل الذئاب واجبا دينيا. ورغم أن فرانسيس الأسيسي أوصى بالرحمة بالحيوانات، إلا أن هذا لم يغيّر من واقع الحال شيئا.
صيد الذئاب كان منتشرا في الجزر البريطانية. وكان لذلك سبب وجيه هو كثرة الغابات الكثيفة التي كانت تغطّي معظم الجزر والتي أدّت إلى ازدياد أعداد الذئاب. وبسبب وفرة حظائر الماشية، كان هناك دائما ما يكفي من الطعام لتتغذّى عليه. لكن الوحشية التي كانت تُقتل بها الذئاب كانت غير عاديّة.
وفي زمن تالً، أمر إدوارد الأوّل بإبادة الذئاب في مملكته. وبحلول عام 1500، كانت قد انقرضت تقريبا من أراضي بريطانيا. وفي روسيا كانت هناك وفرة من الذئاب. وقد صوّر تولستوي جوانب من طقوس صيدها في رواية "الحرب والسلام". وفي القرنين الخامس عشر والسادس عشر، لعبت الذئاب دورا مهمّا في قصص مطاردة الساحرات. وفي القرن التاسع عشر، أصبحت تقترن بحكايات مصّاصي الدماء في الرعب القوطي.
ورغم كثرة القصص التي تشيطن الذئب وتصوّر عنفه، إلا أن هناك بالمقابل قصصا أخرى تدلّل على أنه يمكن أن يكون صديقا للإنسان. في الفيديو فوق، تظهر امرأة تعود بعد غياب لترى مجموعة من الذئاب سبق أن ارتبطت بها على مدى عامين. وردّ فعل الذئاب على رؤية المرأة بعد أن غابت عنها شهرين كان غريبا.
فبمجرّد أن جلست على الثلج ورأتها الذئاب، حتى اندفعت باتجاهها من على جانب إحدى التلال ثم أخذت تتنافس على احتضانها وتقبيلها. كانت هذه الذئاب قد ألِفت المرأة بعد أن تعهّدتها بالرعاية منذ أن رأتها في متنزّه في أقاصي شمال النرويج. وقد تصرّفت الذئاب معها وكأنها كلاب وليست جوارح مفترسة. واشتياقها لرفيقتها الإنسانة واعترافها بجميلها كان واضحا وأبلغ من أيّ كلام.
الذئاب عنصر مهم في توازن البيئة. وهي ليست بالضرورة أو دائما مخلوقات شرّيرة تبحث عن الدم. وليس هناك من سبب يمنع البشر من أن يسمحوا لها بأن تعيش معهم بتناغم وسلام.

Credits
wolfworlds.com
historytoday.com

السبت، يوليو 18، 2020

إزرع حديقتك

يقال أنه قلَّ أن تمتّع كاتب بشهرة كبيرة في حياته بمثل ما تمتّع فولتير. روايته الفلسفية الساخرة "كانديد"، أو التفاؤل، كانت أشهر رواية ظهرت في القرن الثامن عشر. والغريب أنه كتبها في ثلاثة أيّام فقط من عام 1759.
وقتها كان فيلسوف عصر الأنوار الفرنسي في ذروة تشاؤمه وغضبه. فقد رأى أن العلم لم يؤدِّ إلى تحسين العالم، بل أعطى قوّة إضافية لقوى الاستبداد والفساد، وأن الفلسفة لم تنجح في تفسير مشكلة الشرّ في العالم، بل استُخدمت لإظهار مباهاة وغرور الإنسان.
كان فولتير يرى أيضا أن الحبّ وهم والبشر أشرار والمستقبل عدم. وفي تلك الظروف ألّف رواية "كانديد" ليقدّم من خلالها رؤيته عن حال المجتمع والأفكار والنظريات التي طرحها معاصروه.
"كانديد"، بطل الرواية، شابّ متفائل جدّا. وأستاذه الذي علّمه التفاؤل فيلسوف يُدعى بانغلوس. وشخصية الأخير يوظّفها فولتير للسخرية من أفكار الفيلسوف الألماني لايبنتز الذي كان يرى أن عالمنا هو أفضل العوالم لأن الله خلقه.
وكانديد وأستاذه يسافران في أرجاء العالم فتُحدِق بهما المصائب أينما حلّا. فيشهدان، مثلا، هزّة أرضية في البرتغال، ويطارَدان في الأرجنتين من قبل محاكم التفتيش، ويُسجنان كخادمين على متن سفينة فرنسية. لكنهما ينجوان من هذه الكوارث وغيرها ويظلان على الرغم من كلّ شيء متمسّكين برؤيتهما المتفائلة للعالم.
وبعد أشكال متعدّدة من المعاناة، يجد كانديد ومعلّمه نفسيهما في تركيا، وهو بلد كان فولتير معجبا به. ويعيش الإثنان هناك في حقل صغير في إحدى ضواحي اسطنبول.
وأثناء إقامتهما، سمعا ذات يوم خبرا عن بعض المتاعب في بلاط السلطان. فقد قُتل وزيران مع مفتي البلاد خنقاً، بينما لقي عدد آخر من زملائهم حتفهم على الخازوق.
وشعر كانديد وأستاذه بالهلع مما سمعاه. وعندما لمحا رجلا تركيّا مسنّاً يجلس بسلام وبلا اكتراث أمام باب بيته، بادره بانغلوس بسؤاله عن اسم المفتي القتيل. فقال: لا أعرف، بل إنني لم أعرف اسم أيّ مفتي أو وزير في حياتي. وليس لديّ أيّ فكرة عمّا تتحدّث.
وأضاف الشيخ المسنّ: إن من يتدخّل في السياسة كثيرا ما يلقى المتاعب، وأنا لا يشغلني أبدا ما يحدث في هذه المدينة. وأضاف: إن ما يهمنا حقّا هو أن نرسل محاصيل أرضنا إلى السوق لكي تباع هناك ونعيش على ما تدرّه من مال قليل".

في ما بعد، دعا الشيخ المسنّ كانديد ومعلّمه إلى بيته، وقدّم لهما ألوانا من المشروبات، مع برتقال وليمون وأناناس وتفّاح وفستق من إنتاج حديقتهم. ثم دخلت ابنتا الشيخ الصغيرتان ورشّتا عطرا على لحيتي الضيفين زيادةً في إكرامهما والاحتفاء بهما.
ثم سأل كانديد الشيخ قائلا: لا بدّ أن لديكم مزرعة واسعة هنا". فقال: لدينا فقط حديقة صغيرة، وأنا وأولادي نزرعها ونهتم بها، وعملُنا فيها يحمينا من شرور ثلاثة: الملل والزلل والعوز".
في طريق العودة إلى البيت، فكّر كانديد في كلام الشيخ وقال لأستاذه: هذا التركي الطيّب يبدو أنه أفضل حالا من كثير من الحكّام. ونحن أيضا يجب أن نزرع حديقتنا".
وقد تناقش النقّاد مطوّلا حول معنى ومغزى هذه العبارة الأخيرة.
قيل مثلا أن فولتير أراد بها أن ينصح البشر بأن يشغلوا أنفسهم بالأنشطة اليومية البسيطة عوضا عن التفكير في مسائل لا يفهمونها وغير ذات قيمة. وربّما كان المعنى أن الإنسان يجب أن يحتفظ بمسافة كافية من العالم، لأن اقترابنا من الهموم العامّة والقضايا الكبيرة قد يكون طريقا لا يؤدّي إلا إلى الأخطار والمتاعب.
قد يكون من الحكمة فعلا بالنسبة للإنسان أن يعيش في فضائه الصغير، وأن يشغل نفسه بأعمال بسيطة تبعده عن الفراغ والقلق، كالبدء في مشروع صغير أو تأليف كتاب أو زراعة المساحة الصغيرة أمام بيته.
أن تنشغل بزراعة حديقتك يعني أن تعيش مثل ذلك الشيخ التركي، وأن تستمتع بالشمس في فناء بيتك، وتراعي احتياجاتك الخاصّة قبل رعاية الآخرين. إننا يجب أن نتوقّف عن محاولة تعليق الآمال على الإنسانية إن أردنا أن تحقّق لأنفسنا السلام الداخلي وراحة البال.
هذا هو الدرس المستفاد من هذه الرواية: اهتمّ بنفسك وسيهتمّ العالم بنفسه.
والحقيقة أن تعمّد فولتير وضع تلك الكلمات عن زراعة الحديقة على لسان شخص مسلم لم يكن مصادفة. فقد درس الكثير عن تاريخ الإسلام وثقافة المسلمين. وكان يدرك أن الزراعة ليست مجرّد مهنة لإزجاء الوقت، بل طريقة مهمّة لحماية أنفسنا من تأثير العالم الخطير والفوضويّ من حولنا. وهي تتيح لنا أن نركّز قوانا وطاقاتنا على شيء يمكن أن يحقّق لنا بعضا من الخير والاكتفاء الذي نتطلّع إليه.

Credits
newyorker.com