:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، مايو 02، 2009

نساء موديلياني

من السهل التعرّف على لوحات اميديو موديلياني وتمييزها عن لوحات غيره من الرسّامين. إذ تبدو نساؤه بأعناق طويلة وعيون لوزية ووجوه بيضاوية. كما أن في لوحاته طبيعة غنائية يمازجها بعض الغموض الذي يختصر رؤية موديلياني عن الجمال الخالد وروح الإنسان.
غير أن بعض أعماله لا تخلو من حسّية لإظهارها بعض المناطق الخاصّة من الجسد. ونساؤه إجمالا رقيقات مع شيء من الحزن والتأمّل. وميلان الشفاه الخفيف والأعين المظلمة أو الغائرة وسمات زوايا الجسد تعطي إحساسا بالهجر والغربة والانفصال.
وليس في نساء موديلياني شيء من رعونة نساء روبنز أو أناقة محظيّات انغر أو فخامة آلهة بوتيشيللي أو تمثالية ملامح نساء مايكل انجيلو.
أما نساؤه العاريات فيبدين جادّات وأحيانا كئيبات. وبالتأكيد هنّ لسن لعوبات ولا جذّابات كثيرا، كأنما علّمتهن الحياة أن الرومانسية مجرّد حماقة وعبث.
ولوحات موديلياني تعكس إلى حدّ كبير شخصيّته الأسطورية. فقد توفّي بمرض السلّ وعمره لا يتجاوز الخامسة والثلاثين. وهو كان نموذجا للرسّام الوسيم الذي عاش حياة بوهيمية في باريس مطلع القرن الماضي. كان إباحيا، مشاكسا، هشّا وموهوبا. غير انه مات فقيرا في غرفة بائسة فوق سطح إحدى البنايات القديمة. وبعد يومين من موته لحقت به صديقته وأمّ ابنه جان إيبيتيرن التي كانت تصغره بتسعة عشر عاما بعد أن ألقت بنفسها من النافذة لتقتل هي وجنينها الذي لم يكن قد ولد بعد.
وأسطورة موديلياني ليست واضحة في فنّه. قد يكون في لوحاته حزن وصمت وإحساس بالهدوء والعزلة، لكنها تخلو من مشاعر الغضب والتمرّد أو الإحباط.
وقد ظلّ حبّه لوطنه الأصلي ايطاليا ملازما له على الدوام. وألوانه الخفيفة والباردة يبدو أنها تحاكي ما ترسّب في لاوعيه من ذكريات عن مناظر متلاشية لمبان وطبيعة كان قد رآها في مطلع حياته في بلدته توسكاني.
درس موديلياني الرّسم في فلورنسا وروما. وكان معجبا كثيرا بـ تيشيان وغيوتو وبوتيتشيللي، كما عُرف عنه شغفه بالفنون الأفريقية والمصرية واليونانية والهندية القديمة.
وقد أخذ عن الايطاليين الأوائل إنسانيتهم الروحانية وعن المتأخّرين منهم إعجابهم حدّ التقديس بجسد الأنثى وتصويرهم العميق للطبيعة الإنسانية. كما ورث عن اليونانيين نقاء وعظمة الشكل وبساطة ورمزية الشكل الأنثوي الاسطواني، وعن الهنود الحسّية العالية وحركة الآلهة الهندوسية الراقصة، وعن المصريين هالة الآلهة والنبل الذي تعكسه ملامح الملكات.
انتقل موديلياني إلى باريس في العام 1906 وعاش جنبا إلى جنب مع الرسّامين الطليعيين. كما صاحب النحّات الروماني برانكوزي الذي تعلّم على يديه فنّ النحت. وفي ما بعد صنع بعض الأعمال النحتية أشهرها رأس مصنوع من الحجر الجيري يبيّن بوضوح تأثّره بالفنّ الأفريقي.
شهرة موديلياني تجاوزت فنّه بكثير. كما أن أسلوب حياته المنغمس في المتع حجب عن الأعين كثيرا من تراثه وإبداعه الفني. وقد كانت النساء منجذبات بقوّة إلى هذا الشابّ المتخلّع الآسر. كان يقول: عندما تستعدّ امرأة للجلوس أمام رسّام فيجب أن تهبه نفسها بالكامل". وربّما لهذا السبب لم يسمح لصديقته جان إيبيتيرن بأن تجلس أمام رينوار لرسمها.
كان موديلياني مصرّا منذ البداية على خلق نموذجه الصوري الخاصّ والشائك عن الجمال. وقد نجح في اختراع جنس جديد من الكائنات ذوات الأطراف المستطيلة والخصور الضّيقة والوجوه الدقيقة اللاتي يغلب على ملامحهنّ الهدوء والبرود وأحيانا الانفعالات الجامدة والمحايدة.
الشاعرة والناقدة الانجليزية بياتريس هاستنغز كانت ملهمة موديلياني ورفيقته طوال سنتين. وقد وصفته بقولها إن موديلياني شخصية معقّدة، أحيانا يأخذ شكل خنزير وأحيانا لؤلؤة".
كانت علاقتهما عاصفة، ومع ذلك فـ اللوحة التي رسمها لها لا تكشف الشيء الكثير عن شخصيّتها. فملامح وجهها الصغير وعنقها الطويل يوفّران قناعا يحجب عن الناظر انفعالاتها الداخلية.
أما لوحاته التي رسمها لرفيقة عمره جان إيبيتيرن فتبدو هاجسية وتوصل إحساسا بفجيعة هذه المرأة الخجولة وضعفها وخضوعها للرّجل الفنّان. في إحدى اللوحات التي رسمها لها، تبدو جان بملامح ملائكية، عيناها الخضراوان الشاحبتان وشفتاها الرقيقتان ونظراتها الواهنة تؤكّد هشاشة وبراءة تلك الفتاة التي كان مقدّرا لها أن تموت قبل الأوان مثل الرجل الذي عشقته.
موديلياني نفسه كان يعرف على ما يبدو انه سيغادر الحياة مبكّرا. وهناك بورتريه رسمه لنفسه قبل وفاته بعام يبدو فيه كما لو انه يرتدي قناع الموت. ورغم هذا ما يزال يمسك بلوحة الرسم بيده وكأنه يطلب من الناظر أن لا يغفل عن رؤية الفنان في شخصه.
كانت لونيا تشيكوميسكا إحدى موديلات الفنان المفضّلات. وقد روت قصّة مثيرة للاهتمام حدثت قبيل موته، عندما كانت تجلس أمامه لرسمها. تقول: بينما كنت أقوم بتحضير العشاء طلب مني أن ارفع رأسي للحظات. وعلى ضوء شمعة رسم اسكتشا جميلا كتب عليه عبارة تقول: الحياة هبة، سواءً للذين يعرفون ويملكون أم لأولئك الذين لا يعرفون ولا يملكون شيئا".
تورا كلينكوستروم، الطالبة في كلية الفنون، كانت آخر من جلس أمام موديلياني ليرسمه. تقول: كان اميديو شخصا رائع الجمال لكنه كان قد فقد الكثير من وسامته بعد الحرب نتيجة معاقرته الخمرة والمجون".
كان يرسم كلينكوستروم وهو يسعل دما. وما لبث أن توفّي بعد ذلك بوقت قصير، وبالتحديد في العشرين من يناير عام 1920 نتيجة إصابته بالسلّ الذي رضعه مع حليب آمّه وهو بعد طفل.
اليوم يُنظر إلى موديلياني باعتباره جسرا ما بين تولوز لوتريك ورسّامي الفنّ الديكوري الذين ظهروا في عشرينات القرن الماضي.
ولوحاته النسائية الممتلئة بالحبّ الرثائي والتوق والخشوع ما تزال تذكّر الناس به وبموهبته التي تستحقّ الإعجاب والاحترام اللذين ُحرم منهما في حياته. وقد بيعت إحدى لوحاته مؤخّرا بأكثر من 27 مليون دولار أمريكي.
وفي العام 2004 أنتج فيلم سينمائي عن حياة موديلياني قام ببطولته الممثّل الأمريكي اندي غارسيا القريب الشبه بالرسّام فيما لعبت دور جان إيبيتيرن الممثلة الفرنسية إلسا زيلبيريستين.

Credits
modigliani-foundation.org
theartstory.org

الجمعة، مايو 01، 2009

جولة في الناشيونال غاليري


دخلت مع جموع الزائرين إلى مبنى الناشيونال غاليري صباحا. كان الجوّ ما يزال مشبعا برائحة المطر والسماء متّشحة بغلالة كثيفة من الغيوم الرمادية الداكنة.
وكنت قبل ذلك قد مررت بأحد المقاهي المنتشرة حول المكان لأسأل عن موقع "تيت غاليري" وكم يبعد عن ذلك المكان. فقال لي شخص انجليزي وقد علت وجهه ابتسامة مهذّبة كما هي عادة غالبية الانجليز: يلزمك نصف ساعة لكي تبلغه. لكني أنصحك بزيارة الناشيونال غاليري، فهو أولا أشهر، وثانيا لأنه قريب جدّا من هنا، وثالثا لأنه يضمّ اكبر مجموعة من الأعمال الفنية في العالم، ورابعا وأخيرا لأنني شخصيا أعمل هناك".
دخلنا المبنى الرخامي ذا التصميم الفخم والأنيق. كنا مجموعة كبيرة من السيّاح. رجال ونساء من بلدان وجنسيات شتّى. هنا لا تحتاج لأن تدفع شيئا مقابل مشاهدة الأعمال الفنية. فالدخول مجّاني. لكن بإمكانك التبرّع بما تجود به ممّا يذهب لدعم أنشطة المؤسّسة الراعية للغاليري.
والواقع أن الناشيونال غاليري عبارة عن متاهة كبيرة. ممرّات فسيحة وصالات واسعة كلّ واحدة تفتح على الأخرى. والأعمال الفنية التي تمتلئ بها الصالات لا تقدّر بثمن. بعضها يعود إلى ستّة قرون. والبعض الآخر ينتمي إلى مدارس الفنّ الحديثة والمعاصرة.
وكلّ شيء في الغاليري مرتّب له جيّدا. فدرجة الضوء والعتمة محسوبة بعناية زيادة في المحافظة على اللوحات وحمايتها من عوامل البلى والتلف. وهنا وهناك تنتشر مجموعات نقاش، كلّ واحدة تتناول لوحة أو عملا ما. وقد لمحت تلاميذ صغارا بصحبة معلماتهن وهم يطرحون الأسئلة والتعليقات عن هذه اللوحة أو تلك.
وفي الحقيقة، كان من النادر أن ترى زائرا لا يحمل في يده قلما وكرّاسا يدوّن فيه بعض الملاحظات من واقع ما يشاهده أو يقرأه أو يسمعه عن كلّ عمل.
اللوحات المعروضة تتفاوت من حيث كبرها. أكبر لوحة رأيتها هي إعدام الليدي جين غراي لـ بول دولاروش. وقد شدّ انتباهي كثرة الزوّار الذين تجمّعوا لمشاهدة هذه اللوحة والتمعّن في تفاصيلها رغم عنف ومأساوية مضمونها. وربّما لا يداني هذه اللوحة من حيث الضخامة سوى لوحة مستحمّون في انيير لـ جورج سورا.
والواقع أن الذي يرى اللوحات الأصلية سرعان ما يلحظ الفرق الكبير بينها وبين النسخ الموجودة على الانترنت من حيث التفاصيل والألوان والخطوط إلى ما غير ذلك.
وليس من قبيل المبالغة إن قلت انه يندر أن تكون قد سمعت باسم رسّام ما، سواءً في الماضي أو في الحاضر، دون أن ترى له لوحة واحدة على الأقل في هذا الغاليري. من رافائيل إلى دافنشي إلى بيسارو إلى ديغا إلى رينوار إلى بوتيشيللي إلى فراغونار إلى فيلارد إلى لوتريك إلى كليمت إلى فيلاسكيز إلى غوغان إلى بيكاسو إلى سيزان إلى كورو إلى بيرنيني إلى دوميير إلى همرشوي.. والقائمة تطول.
أهمّية الناشيونال غاليري تكمن، كما سبقت الإشارة، في ضخامته وكثرة الأعمال الفنية التي يضمّها. في هذا الغاليري فقط، يمكنك أن ترى لوحات مشهورة جدّا مثل دير في غابة السنديان لـ كاسبار ديفيد فريدريش، والأحزان لـ غيوتو، وأزهار عبّاد الشمس و أشجار السرو لـ فان غوخ "الأخيرة عادت إلى الغاليري مؤخّرا بعد إعارتها لمتحف الفنّ الحديث بنيويورك"، ولوحة الجواد ويسل جاكيت لـ جورج ستبس، والبارجة تيميرير لـ وليام تيرنر، وبورتريه شخصي لـ فيجيه لابران، وعشاء في ايموس لـ كارافاجيو، وبورتريه ايزابيل دي بورسيل لـ غويا، وعذراء الصخور لـ دافنشي، وارنولفيني وزوجته لـ فان ايك، وبورتريه شخصي لـ رمبراندت، إلى غير ذلك من اللوحات المعروفة والمألوفة.
وأثناء تجوالي في صالات الغاليري توقفت كثيرا عند لوحات الرسّام البريطاني جون كونستابل. أحسست إلى حدّ ما بأنني كنت أعيد اكتشاف كونستابل الذي تثير لوحاته إحساسا بفخامة الطبيعة وسحرها. ومن حسن الحظ أن الغاليري يضمّ أكثر من لوحة للفنان منها لوحته الأشهر عربة القشّ ولوحته الأخرى التي لا تقلّ شهرة كاثدرائية ساليزبوري . اللوحة الأخيرة تأخذ الأنفاس بجمال تفاصيلها وبألوانها الرائعة وتأثيرات الضوء والظلّ فيها، ما يوحي بمهارة كونستابل الاستثنائية وبشغفه الكبير بجمال الطبيعة وبهائها. والنسخ الكثيرة الموجودة على الانترنت لهذه اللوحة لا تشبه أبدا اللوحة الأصلية ولا تنقل سوى جزء يسير من رونقها وبهائها. هذه اللوحة، مثل بقيّة لوحات كونستابل، شديدة الواقعية، لكنها واقعية ممزوجة بفنتازيا من نوع خاصّ بحيث تشعر وأنت تراها أنها صورة عن عالم آخر يموج بعناصر الحلم والدهشة.
كان مسك ختام الجولة في الناشيونال غاليري رؤية رائعة فيلاسكيز فينوس في المرآة . وقد لاحظت أن معظم من توقفوا عند اللوحة كانوا من الأسبان واللاتينيين.
ومن بعيد ونحن في ذلك المكان كانت تنساب إلى أسماعنا، رقيقة ناعمة، نغمات موسيقى استورياس "أو لييندا" للموسيقي الاسباني إسحاق آلبينيث؛ ما أضفى على المكان لمسة شاعرية إضافية.