:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، أكتوبر 12، 2019

ميلودراما يان ستين

في تاريخ الرسم، هناك مرحلة اتّفق مؤرّخو الفنّ على تسميتها بالعصر الذهبيّ للرسم الهولندي والذي امتدّ طوال القرن السابع عشر. والحقيقة انه ليس من السهل أن يعجب المرء اليوم بالكثير من الفنّ الذي أُنتج خلال تلك الفترة. وهناك الآن منه الكثير في المتاحف وفي المجموعات الفنّية الخاصّة. ومعظمه عصيّ على الفهم بمعايير هذه الأيّام.
لكن بطبيعة الحال فإن رمبراندت وفيرمير، وإلى حدّ ما هولس، يُعتبرون متميّزين عن غيرهم. ثم هناك تيربورش الذي يجبرك على أن تتوقّف أمام لوحاته لتتأمّل تفاصيلها وألوانها المدهشة.
وهناك اسم خامس هو يان ستين الذي يبدو انه ما يزال يتمتّع حتى اليوم بحضور لافت بدليل المعارض التي تقام لأعماله من وقت لآخر. تفاصيل لوحاته المرحة والمليئة بالحياة لا بدّ وأن تدفع كلّ من يراها للابتسام، مع أن المرح سمة نادرة في الرسم عموما.
ربّما كان الناس في الماضي يظنّون أن كون الفنّان مرحا ينزع عنه لباس الوقار والجدّية ويجرّده من العظمة. غير أن العصر الذهبيّ للرسم الهولنديّ أنتج عددا كبيرا من الفنّانين الهزليين. وما من شك في أن سخريّتهم التي تُشيع السعادة هي من بين انجازات ذلك العصر.
كان يان ستين أفضل هؤلاء. مناظره المنزلية التي تمتلئ بالفوضى تبعث على الابتسام، على الرغم من الرسائل الأخلاقية الثقيلة التي تحملها. لكن ستين رسم، بالإضافة إلى صوره المنزلية، عددا من اللوحات التي تتناول قصصا من العهد القديم.
وإحدى لوحاته من النوع الأخير اسمها "غضب اخشورش". واخشورش (أو Xerxes كما يُكتب اسمه باللاتينية) كان ملكا فارسيّا حكم قبل أكثر من ألفي عام إمبراطورية واسعة كانت تضم بالإضافة إلى بلاد فارس أراضي تركيا والأردن ولبنان وفلسطين وغيرها.
وفي اللوحة التي رسمها ستين (فوق)، يظهر الملك مرتديا عمامة مع ملامح وجه غضوبة، وأمامه يجلس كبير وزرائه هامان الذي ينتسب إلى العماليق الذين عُرف عنهم كراهيّتهم الشديدة لليهود.
تقول القصّة إن ايستر زوجة اخشورش اليهودية الظاهرة في اللوحة (يقال أن اسمها مشتقّ من اسم الإلهة عشتار) دعت زوجها الملك ووزيره هامان إلى وليمة في القصر. ولوحة ستين تصوّر جانبا من تلك الوليمة، أو بالأصح اللحظة الدرامية التي تنتقم فيها ايستر من هامان كاره قومها.
المصادر التاريخية تذكر أن هامان كان قد نجح في استصدار قرار من الملك بقتل جميع اليهود في الإمبراطورية. لكن هذه المرأة بدهائها وجمالها استطاعت أن تحبط الخطّة وأن تقنع اخشورش بقتل هامان، بل وجميع أعداء اليهود. وقد تحقّق لها ما أرادت ثم خلا لها الجوّ وأصبحت المتصرّفة بلا منازع في شئون الإمبراطورية.
في الصورة تبدو ايستر بهيئة امرأة جميلة ترتدي فستانا زهريا رائعا، بينما اخشورش يقفز في غضب من على كرسيّه بعد سماعه كلامها ويحكم على هامان من فوره بالموت. وقد صوّر ستين تلك اللحظة بالكثير من التفاصيل. لكن ستين ليس رمبراندت. وإن كنت تبحث عن العمق الانفعاليّ أو الإحساس بالخلاص فلن تجد من هذا شيئا في هذه اللوحة. لكن بعض تفاصيلها لا تخلو من كوميديا. فالملك الشرقيّ الشموليّ كامل بلحيته وعمامته. والمرأة التي ترتدي ثوبا هولنديا من ذلك الزمن تبدو صغيرة على اللباس وغير مقنعة في دور المرأة اليهودية المغرية. أما هامان، بتعابيره التي تنطق بالصدمة والهلع، فيذكّرنا بالمهارات التمثيلية المبالغ فيها في بعض المسارح.
استمرّ ستين في رسم المزيد من اللحظات المسرحية المسليّة والمستمدّة من القصص الدينية، فرسم شمشون لحظة قصّ شعره وكأننا أمام حفلة عشاء صاخبة لمجموعة من السكارى في هارلم.
حادثة اخشورش و ايستر وقعت حوالي عام 480 قبل الميلاد. ومنذ تلك الحادثة واليهود يحتفلون بما يسمّونه عيد البوريم، أي اليوم الذي قُتل فيه هامان ومن ثم مُنحوا الرخصة بقتل كلّ من يعتبرونه عدوّا.
كلّ الدراما والإيماءات والملابس في هذه اللوحة تحمل علامات المسرح الشعبي الهولندي. وفي كلّ لوحاته يكشف ستين عن تأثّره بذلك المسرح. كانت المسارح آنذاك تعرض قصّة ايستر وزوجها بانتظام. وكانت هولندا واقعة بين براثن الاحتلال الاسبانيّ، لذا فإن فكرة أن "شعبا مختارا" تنقذه بطلة جميلة كان لها وقع وطنيّ قويّ في نفوس الهولنديين في ذلك الوقت.

Credits
thetimes.co.uk