:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، أكتوبر 20، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • تحتار في معرفة هل هذه اللوحة حياة ساكنة أم صورة مجزّأة. هل تتحوّل القدم إلى حذاء أم العكس، أم يتحوّل جسم الإنسان إلى مجرّد شيء، أو أن الحذاء يتحوّل في نهاية المطاف إلى إنسان بسبب كثرة ارتدائه؟!
    الرسّام لا يضع صورتي القدم والحذاء منفصلتين وجنبا إلى جنب، بل يدمجهما بطريقة هجينة، أي بتحويل واقع لآخر. وأحد التفسيرات الأكثر شيوعا للوحة هو أن أكثر الأشياء وحشيةً يمكن أن تصبح مقبولة بقوّة العادة. تشعر وانت تتأمّل اللوحة بأن التحام قدم الانسان بالحذاء الجلدي ينشأ في الواقع من عادة وحشية.
    وبحسب بعض النقّاد، تثير مشكلة الحذاء مسألة القدم وطبيعة الإنسان والقوّة المنفّرة للأعراف الاجتماعية. قد يبدو الحذاء للوهلة الأولى أكثر المنتجات تعرّضا للضرر، لكن وحشيته تتّضح من حقيقة أن قوّة العادة حوّلته إلى شيء طبيعي ولم يعد من الممكن إدراك خطورته. فالحذاء ليس مجرّد وسيلة حماية، بل هو أيضاً سجن لاإنساني، فهو يفرض توحيد حركة أصابع القدم الخمسة في حركة اجبارية واحدة ويضع فاصلاً أبدياً بيننا وبين الأرض التي نسير عليها.
    ومثل كلّ مبدعي الفنّ الخيالي، يعرف الرسّام رينيه ماغريت أن تمثيل غير الواقعي يكون أقوى عندما يبدو رمزيّا أكثر. وقد رسم سلسلة لوحات "العارضة الحمراء" ابتداءً من عام 1935. وربّما يتوافق اللون الأحمر في عنوان اللوحات مع محاولة ماغريت الثورية خلق لغز حقيقي من شيئين تقليديين واعتياديين، هما في هذه الحالة القدمان والأحذية.
    لكن ماغريت يقدّم لنا أيضا في هذه اللوحة تعريفاً جديداً للإزعاج، حيث تتضمّن الصورة أفكاراً متعدّدة حول معنى أن تكون غريباً ومزعجاً في نفس الوقت. فعود الثقاب والعملات المعدنية المتناثرة على الأرض تمنحنا إحساساً بأن شخصاً ما كان هنا، ولم يعد موجوداً لأسباب ربّما تكون مزعجة. كما أن قصاصة الصحيفة الممزّقة والمهترئة تأخذ شكل امرأة واقفة في وضع غريب، وليس من الواضح مدى ارتباطها بالمشهد.
    الأحذية هي أحد الأشياء التي تميّزنا عن الحيوانات، وبالنسبة للعديد من الناس، فإنها تساعد في تحديد هويّتنا. والحذاء والقدم في الصورة لا يقدّمان تلميحا يساعد على فهم ما يجري. فهل اختفى الشخص ولم يبق منه سوى حذاؤه؟ وهل حلّ الحذاء محلّ الشخص، وكلّ ما تبقّى الآن هو القدم؟ وهل استُبدل الحذاء بالشخص؟
    ربّما حدث أمر خطير، ولا يقتصر الأمر على الأحذية، بل ترَك الشخص وراءه أشياء. وهناك شعور قويّ بأنه لم يعد موجودا هنا، وقد غادر بسرعة كافية لإسقاط الأشياء التي كان يحملها. ولكن أكثر من ذلك فقد ترك وراءه جزءا من نفسه. والآن كلّ ما تبقّى هو أحذيته وبقايا إنسانيته. والأمر لا يتعلّق فقط بأننا تركنا أحذيتنا خلفنا، بل يبدو أن ماغريت يقول إن أحذيتنا هي نحن وأننا تُركنا خلفنا!
    كان ماغريت يفضّل الارتباطات المدروسة بشكل صحيح باللقاءات غير المتوقّعة التي ينادي بها السرياليون. ولتحقيق هذه الغاية، كان يحبّ أن يبتكر "مشكلات" للأشياء اليومية، من خلال زوج من الأحذية. وبدا التحوّل التدريجي للقدم إلى حذاء واضحا جدّا لماغريت، لدرجة أنه صنع سبع نسخ متقاربة من هذه اللوحة. والتصوير الدقيق للأشياء واللحم البشري يضيفان إلى غرابة هذا العمل الذي يبدو طريفا ومخيفا في آن.
    في تلك الفترة من حياته الفنّية، أصبح اكتشاف وتصوير هذا "التقارب الاختياري" الخفيّ بين اشياء غير ذات صلة ظاهريّا الغرضَ الدائم لفنّ ماغريت. وساعده هذا في رسم بعض أعظم لوحاته. فقد حلّ "مشكلة الطائر" من خلال تصوير بيضة في قفص، وحلّ "مشكلة الباب" من خلال رسم ثقب لا شكل له محفور فيه.. وهكذا.
    ذات مرّة كتب ناقد يقول: كان ماغريت يحبّ مواجهة الناظر بشيء غير مفهوم ولكنه مصوّر بطريقة واقعية مخادعة. ويبدو السياج الخشبي في هذه اللوحة عاديّا تماما، لكن الأحذية ليست كذلك. وعادةً ما يساعد العنوان في تقريب المعنى إذا كانت الصورة محيّرة، ولكن ليس هنا. فـ "العارضة الحمراء" تثير المزيد من الأسئلة، عارضة ماذا أو من؟ وحمراء؟!
    طوال حياته، كان ماغريت يرفض تفسير وتحليل صوره، مدّعيا أن فنّه يعكس ببساطة الغموض الكامن في العالم. وكتب إلى أحد أصدقائه يوماً يقول معلّقا على صورة القدم والحذاء هذه: إنه لأمر مرعب أن نرى ما يتعرّض له المرء عندما يصنع صورة بريئة".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في كتاباته، يعبّر الشاعر الآذاري نظامي، وبشكل متواتر، عن تعاطفه الشديد مع الحيوانات. ويبدو أن هذا نابع من حبّه واحترامه لكلّ مخلوق، مع أنه لم يكن نباتيّاً مثل المعرّي الذي امتنع حتى عن تناول العسل باعتباره سرقة لحصيلة النحل.
    لكن ربّما كان نظامي يشاطر الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل (القرن 11) وجهة نظره القائلة بأن الإنسان لا ينبغي له أن يقتل الحيوانات إلا إذا كان ذلك ضرورياً للحفاظ على حياته. كما أنه، أي نظامي، يعزو صفات أسطورية خاصّة إلى بعض الحيوانات ويعطي بعداً ميتافيزيقيا لعلاقة الإنسان بالحيوان يتجاوز الواقع إلى عالم السحر والحكايات الخرافية.
    واهتمام نظامي بالحيوانات واضح في كتابه "ليلى والمجنون"، إذ يتدخّل المجنون عندما يوشك صيّاد على قتل غزال لأنها تذكّره بحبيبته ليلى. كما يبدأ في العيش مع الحيوانات البريّة التي تحبّه وتُسالمه كما تسالم فرائسها الأخرى. وتُظهر هذه القصص رغبة نظامي في تصوير شخصية المجنون كنموذج للّاعنف.
    ويبدو أن هذا الدافع لحبّ الحيوانات يعود في الأصل إلى ملحمة أورفيوس، الموسيقيّ الذي كان يفتن الحيوانات والكائنات بألحانه. كما يعود إلى قصّة العهد القديم عن مملكة السلام التي يتعايش فيها البشر والحيوانات جنبا الى جنب بسلام.
    ثم يقدّم نظامي درسا في الإحساس بالعرفان بالجميل من قبل حيوان، عندما يتحدّث عن ملك يُدعى بهرام، يطارد في شبابه أنثى حمار وحشي، فتقوده إلى مدخل كهف يحرسه تنّين ضخم. ويدرك بهرام أن التنّين قد ابتلع ابن أنثى الحمار وأنها قادته إلى هناك كي ينقذ طفلها. وهنا يقتل بهرام التنّين ويطلق سراح المهر الذي كان ما يزال حيّا في بطن الوحش. ثم تقوده أنثى الحمار الوحشي بعد ذلك إلى داخل الكهف، حيث يجد كنزا ضخما مخبّأ في جِرار كثيرة. ثم يأمر بهرام بتحميل ذلك الكنز على الدواب لتقديمه كهدايا.
    كما يتحدّث نظامي كثيرا عن الحجارة الثمينة. وهي تظهر في الاستعارات والمقارنات لوصف الجمال. مثلا، في آخر وأطول مثنوي له في ديوانه "إسكندر نامه" أو كتاب الاسكندر، يورد حكاية عن الاسكندر المقدوني أثناء غزوه لبلاد فارس.
    فالإسكندر، الذي يُصوّر على أنه موحّد صارم، يدمّر الأضرحة والمعابد الوثنية "والإشارة هنا للزرادشتية والبوذية". وفي معبد في قندهار يوشك الاسكندر على تدمير تمثال ذهبي لبوذا للحصول على جوهرتين ثمينتين ونادرتين مثبّتتين في عينيه.
    لكن تظهر له فجأة فتاة صغيرة وتخبره بقصّة الجوهرتين. فقد أحضرهما ذات يوم طائران من جهة الصحراء. وأثارت الجوهرتان جشع بعض العظماء عندما رأوها. وبعد صراعات داخلية كثيرة فيما بينهم، اتفق هؤلاء على صنع تمثال ذهبي لبوذا واستخدام الجوهرتين لعينيه.
    وتكيل الفتاة إطراءً مبالغا فيه للإسكندر باعتباره السماء والشمس. ويكتب نظامي شعرا على لسان الفتاة تقول فيه: جوهرة جلبتها طيور السماء لن ترغب السماء في استعادتها. إن كلّ عين تتلقّى نورها من الشمس، فكيف ينبغي للشمس أن تسرق العيون. والسراج الذي يُفرح العميان لا ينبغي أن يطفئه البصير".
    كان كلام الفتاة موجّها الى "الشمس"، أي الاسكندر، وكأنها تتوسّل إليه بألا يهدم التمثال وألا يأخذ الجوهرتين. وقد تأثّر بشعرها وقرّر العدول عن رأيه واكتفى بنقش اسمه على التمثال ووضعه تحت حمايته الشخصية. والدرس الذي يقدّمه نظامي من إيراده القصّة هو أن العقل يمكن أن يجعل الأقوياء يتغلّبون على جشعهم ويمتنعون عن العنف والجشع.
  • ❉ ❉ ❉

  • في قديم الزمان، كان يعيش ملك حكيم وعادل وكان شعبه محبّاً له. وكان للملك ابن وحيد، وقد علّمه المهارات والحكمة اللازمة كي يخلفه في الحكم. وسنةً بعد أخرى، نشأ الأمير وتدرّج في الوظائف وأصبح رجلا راشدا وقائدا رحيما يليق به المُلك.
    وذات يوم استدعى الملك ابنه الأمير. وعندما دخل وجد والده مستلقيا على سريره وقد أنهكه التعب. فقال الملك لابنه: لقد تقدّم بي العمر كثيرا وبالكاد أستطيع الآن أن أتدبّر شئون البلاد، والشعب بحاجة إلى زعيم شابّ ونشيط. وأنا أفكّر أن أتخفّف من المسئولية وأرتاح. لكني أريد أن أتأكّد أنك قادر على أن تدير البلاد بكفاءة زعيم حقيقي".
    فقال الأمير: لقد ربّيتني أحسن تربية ودرّبتني كأفضل ما يكون التدريب، فأتقنت فنون القتال وقدتُ جيش بلادنا بنجاح لسنوات. أفلا تعتقد يا أبي أنني مستعدّ للحكم بعدل ورويّة؟"
    ردّ الملك العجوز: أنا أعلم أنك قد تهيّأت بأفضل ما تستطيع لتصبح ملكا. لكن تلك ليست بالمهمّة السهلة. وقبل أن أقرّر تنصيبك خليفة لي، أريد أن أتأكّد أنك مستعدّ لذلك. لذا أطلب منك أن تذهب غدا إلى الغابة التي تقع عند الطرف الشرقي لمملكتنا. وستجد هناك حكيما عجوزا يقضي وقته في التأمّل. أخبره أنك الأمير واسأله ما إذا كنتَ مهيّأ الآن لتكون ملكا. فإذا ردّ بالإيجاب، فسأتوّجك ملكا فور عودتك".
    فوجئ الأمير بطلب والده الغريب، لكنه كان دائما يحترم حكمته وبعد نظره. لذا انطلق في اليوم التالي إلى الغابة. وبعد أن مشى طويلا، لمح الحكيمَ جالسا بين الأشجار. ولما انتبه الحكيم لوجوده طلب منه أن يشاركه عشاءه المتقشّف، ففعل. ولما انتهيا من الأكل، سأله الحكيم عن سبب مجيئه الى الغابة. فقال: لقد أراد والدي الملك العظيم أن أعرف ما إذا كنت قد أصبحت مهيّئا لخلافته. فهل يمكنك أن تساعدني في معرفة الجواب؟
    وفهم الحكيم الرسالة العميقة التي أراد الملك أن يوصلها. فقال للأمير: حسنا ستنام هنا الليلة. وفي صباح الغد، إستيقظ مبكّرا واذهب إلى الغابة، واقضِ اليوم كلّه هناك ثم عُد إليّ مع غروب الشمس". أثار طلب الحكيم حيرة الأمير. لكن يجب عليه أن يسايره على أيّ حال، فذهب لينام. وفي الصباح، استيقظ الأمير باكرا وذهب إلى الغابة، ثم عاد عند غروب الشمس، ووجد الحكيم غارقا في تأمّله فانتظره حتى انتهى.
    ولما فتح الحكيم عينيه سأل الأمير: أخبرني الآن ماذا لاحظتَ في الغابة؟". فكّر الأمير قليلا محاولا تذكّر ما رآه ثم قال: عندما وصلت الى هناك، سمعت نهرا عظيما، ثم سمعت شجرة كبيرة تسقط، ثم سمعت فيلا يسحب العشب ويأكل، ثم صادفت شلالا هادرا. وخلال عودتي كان هناك رعد وبرق".
    سمع الحكيم كلام الأمير وهو يبتسم، ثم قال له: من فضلك إذهب وأخبر والدك أنك غير مستعدّ بعد لتصبح ملكا. ثم عُد الى هنا بعد عام". أصاب الأمير الإحباطُ من كلام الحكيم، لكنه التزم الصمت وعاد إلى والده. وعندما نقل إليه الخبر، قال والده بهدوء: حسنا بعد عام عُد الى الحكيم وانتظر ما سيقوله لك".
    ومرّ عام انشغل الأمير خلاله بمساعدة والده في إدارة شئون المملكة. وفي نهاية العام ذهب لمقابلة الحكيم. وعندما وصل الى الغابة كرّر عليه الحكيم نفس الطلب: اذهب إلى الغابة غدا واقضِ يومك هناك. ثم عُد عند غروب الشمس وأخبرني بما لاحظته".
    وعند عودته، قال الأمير للحكيم: رأيت ثورا يبحث عن الطعام، وسمعت صوت جدول يتدفّق على منحدر صغير، ورأيت سنجابا يطارد آخر، ورأيت ابن آوى يندفع عائدا إلى مسكنه، ورأيت ثعبانا يزحف على العشب الجافّ باتجاه الجدول".
    ابتسم الحكيم وقال: لست مستعدّا بعد لأن تصبح ملكا. إذهب وتعالَ بعد عام". غضب الأمير ممّا سمع لكنه لم يقل شيئا. وعاد وسأل والده ما إذا كانت تلك مزحة، ملمّحا إلى احتمال أن يكون الحكيم قد أصابه الخرَف. فقال والده: ثق بي يا بني، أنا متأكّد ممّا يقوله ويفعله ذلك الرجل".
    هزّ الأمير رأسه وواصل أنشطته اليومية كالمعتاد. وكان يراقب والده وهو يتخذ القرارات المهمّة المتعلقة بالاقتصاد والزراعة والقضاء والضرائب والعلاقات مع الممالك المجاورة وغير ذلك من الأمور.
    ومرّ عام آخر. وللمرّة الثالثة، عاد الأمير إلى الغابة ليقابل الحكيم. وابتسم له الحكيم لمّا رآه وسأله: والآن هل أصبحتَ على دراية بما يجب عليك فعله؟" أومأ الأمير برأسه، وذهب مباشرة إلى الغابة.
    وعند عودته، قال الأمير للحكيم: اليوم، سمعت النمل يزحف، ورأيت النحل يطنّ، وشاهدت حلزونا ينزلق على العشب، ورأيت ورقة تسقط بهدوء من شجرة. وشممت الزهور التي كان لكلّ منها عطر مختلف، وشربت من مياه النهر، وسمعت الصمت بين ملايين الأصوات في الغابة".
    سمع الحكيم كلام الأمير وهو يبتسم ثم قال له: الآن أنت مستعدّ لأن تصبح ملكا. إذهب وأخبر والدك أن يرتّب لعملية تتويجك في أقرب فرصة." كان الأمير سعيدا ولكنه حائر. لذا توجّه بالسؤال الى الحكيم قائلا: أيها الحكيم! هل يمكنك مساعدتي في فهم اختبارك للاستعداد لتولّي الملك؟"
    وردّ الحكيم: الأمر بسيط. في المرّة الأولى التي أتيتَ إليّ فيها، أمكنكَ ملاحظة الأشياء الأكبر والأصوات الأعلى فقط. وعلى مدار العامين التاليين، أمكنكَ رؤية وسماع الأشياء والأصوات الأصغر وحتى الصمت. والملك العظيم هو الذي يمكنه الاستماع إلى أصغر الأصوات، وأهمّ من ذلك.. الصمت!"
    وفهم الأمير هذا الدرس الثمين، وعاد الى والده الملك ونقل إليه رأي الرجل الحكيم. وبعد أسبوع نُوديَ به ملكا على البلاد. وبعد فترة أصبح مضربا للمثل في العدالة وحبّ الخير لشعبه والتفاني في خدمته.

  • Credits
    renemagritte.org
    visions.az

    الأربعاء، أكتوبر 16، 2024

    ثورو عن العزلة


    إن كنت قد سئمت من التعامل مع البشر وترغب في إتقان فنّ العزلة المفكّرة والمتأمّلة، فهذا الكتاب هو دليلك المناسب لفعل ذلك وللبقاء على قيد الحياة. فقط تأكّد من أن لديك مقصورة مناسبة وإمدادات كافية من الطعام وكرّاسا للكتابة واستعدادا لتقطيع الحطب وجلب الماء من الغدير أو النهر القريب.
    إسم الكتاب "والدن"، أو الحياة في الغابات، لمؤلّفه المفكّر والفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو (1817 - 1862).
    كان ثورو خرّيجا لهارفارد ومعلّما سابقا وشاعرا وكاتب مقالات. وكان جزءا من مجموعة "كتّاب التسامي" الذين ظهروا في بداية القرن التاسع عشر في نيو إنغلاند. وهو يجمع في كتاباته بين الفلسفة والنثر والشعر والطبيعة والتفكير النقدي والمساعدة الذاتية.
    وقد ألّف هذا الكتاب أثناء إقامته في "والدن" في كونكورد بماساتشوستس لأكثر من عامين وشهرين. وكانت بِركة والدن وجوارها مملوكة لصديقه رالف إيمرسون الذي منحه حرّية استخدامها، فبنى ثورو كوخاً بالقرب من حافّة المياه ليعيش فيه. وخلال إقامته هناك، لم يكن منعزلاً تماما. كانت عمّته وابنة عمّه تزورانه كثيراً وتُحضران له الوجبات وتأخذان ملابسه المتّسخة لتنظيفها.
    في مقدّمة كتابه يقول ثورو: لقد ذهبت إلى الغابة لأنني كنت أرغب في أن أعيش حياة مدروسة، وأن أواجه فقط الحقائق الأساسية للوجود، وأن أرى ما إذا كان بإمكاني أن أتعلّم ما يجب أن تعلّمني إيّاه الحياة، لئلا أكتشف عندما يحين موعد موتي أنني لم أعِش. لم أكن أرغب في أن أعيش ما ليس حياة، فالحياة عزيزة للغاية. كنت أريد أن أعيش بعمق وأن أمتصّ كلّ رحيق الحياة وأن أعيش بطريقة تشبه أسلوب عيش الإسبارطيين بحيث أهزم كلّ ما ليس حياة".
    الدرس المهم الذي تَعلّمه ثورو في عزلته هو أن الأشياء التي نشعر بأننا بحاجة إليها لنكون سعداء لا يمكن العثور عليها إلا من خلال الطبيعة". وأفكاره حول الحياة البسيطة جديرة بالثناء، وهي بمثابة نسمة من الهواء النقيّ في مجتمع حديث يركّز على المادّيات.
    وهو يرى أن الكثير من المجتمع الحديث يعمل على عكس طبيعة الإنسان، وبالتالي فإن البشرية أصبحت تشعر بخيبة الأمل والتعاسة بشكل متزايد. كما يعلّمنا أن نكون مستقلّين وأن نتبع الطبيعة لنعيش حياة سعيدة. وبدلاً من وضع فلسفات فكرية معقّدة من شأنها أن تعكّر صفو حياتنا البسيطة، يجب أن نثق في أحكامنا ونسير على إيقاع طبولنا الخاصّة.
    كان ثورو يريد أن يعيش ببساطة قدر الإمكان وأن يُهدر أقلّ قدر ممكن من الوقت والطاقة في كسب لقمة العيش كي يتمكّن من الاستمتاع بحياته بالفعل وتكريسها للتعلّم وتطوير نفسه.
    ومن أجل تحقيق ذلك يقدّم للقارئ جملة من النصائح: عِش حياتك ودع بوصلتك الأخلاقية الداخلية ترشدك، وثق بنفسك، واتبع أحلامك، وانبذ الأفكار السخيفة حتى لو كان الجميع يؤمنون بها، ولا تتنازل عما يتعارض مع نزاهتك، وابحث عن الحقيقة في الفاصوليا التي تنمو في الأرض والبوم الذي ينادي في الليل والثعالب التي تهرول على الثلج في الشتاء والديك الذي يصيح عندما تشرق الشمس، وتذكّر أنك كائن روحي، واعرف أن هذه الحياة وُجدت للاستمتاع بها والاحتفال بها وأن أفضل طريقة لتفعل ذلك هي أن تعيشها على أكمل وجه.
    فترة إقامة ثورو في "والدن" أنتجت عملاً أدبيّا في الفلسفة السياسية بلغ من العمق حدّاً جعله يصل إلى عقول المهاتما غاندي ومارتن لوثر كنغ بعد أكثر من قرن من الزمان. كما ساعد في بناء المشاعر المناهضة للحرب في الجامعات الأميركية.
    يقول ثورو: كثيرا ما أجد من المفيد أن أكون بمفردي. فالتواجد في صحبة، حتى مع أفضل الناس، سرعان ما يصبح مرهقا ومُضجِرا. إنني أحبّ أن أكون بمفردي. ولم أجد رفيقا أفضل من الوحدة.
    وقد تعلّمتُ من تجربتي أنه إذا تقدّم المرء بثقة باتجاه أحلامه وسعى إلى عيش الحياة التي تخيّلها، فسوف يلقى نجاحا غير متوقّع ويتجاوز حدودا غير مرئية ويعيش بحريّة في مرتبة أعلى من بقيّة الكائنات".


    كان أتباع فلسفة التسامي الأمريكيون، بمن فيهم ثورو، يمارسون شكلاً من أشكال الإنسانية المسيحية. وربّما لو عاشوا الى اليوم لصُنّفوا باعتبارهم ديمقراطيين اشتراكيين. فقد كان لهم تأثير على التطوّر الفكري في نيو إنغلاند يتخطّى كلّ الحدود، مع أن عددهم لم يكن يتجاوز بضع عشرات من الأشخاص.
    أما عن تأثير ثورو وكتاباته، فربّما كانت كلمات صديقه رالف إيمرسون هي الأفضل للتعبير عن مبلغ هذا التأثير. فقد أشاد إيمرسون بثورو قائلا: لم يكن هناك رفيق مساوٍ له في نقائه وخلوّه من النفاق. وأعتقد أن مُثله العليا حالت دون حصوله على القدر الكافي من الاكتفاء الذاتي في المجتمع البشري".
    كان ايمرسون يتذكّر ثورو دائماً باعتباره أفضل صديق له. حتى عندما كان فقدان ثورو للذاكرة متقدّماً إلى الحدّ الذي لم يعد معه قادراً على تذكّر اسمه قال عنه ايمرسون: كان المشي معه متعة وامتيازا. كان يعرف البلاد كما يعرفها الثعلبُ أو الطائر، ويمرّ بها بحرّية من خلال مساراته الخاصّة. وكان يعرف كلّ أثر في الثلج أو على الأرض وأيّ مخلوق سلك هذا المسار من قبله. وكان يحمل تحت ذراعه كتابا عن النباتات وفي جيبه مذكّراته وقلمه ومنظارا للطيور ومجهرا وسكّينا وخيوطا. وكان يرتدي قبّعة من القشّ وحذاء متيناً وسراويل رمادية قويّة ليتحدّى أشجار السنديان والشجيرات ويتسلّق شجرة من أجل عشّ صقر أو سنجاب."
    يقول ثورو في مكان آخر من الكتاب: إذا كنتَ قد بنيتَ قلاعا في الهواء، فإن عملك لن يضيع لأن هذا هو المكان الذي يجب أن تكون فيه. والآن ضع أساسات تحت القلاع.
    ومهما كانت حياتك صعبة، واجهها وعِشها، لا تتجنّبها وتُطلق عليها صفات قاسية. إنها ليست بهذا السوء الذي تتصوّره. إن من يبحث عن العيوب سيجدها حتى في الجنّة. أَحبّ حياتك مهما كانت بائسة".
    كتاب ثورو ممتع ويمكن أن يعلّمنا الكثير. ولا تصدّق الفكرة الخاطئة الشائعة عن الرجل بأنه كان منفصلاً تماما عن المجتمع. كان إنسانا متفائلاً وكاريزماتيّاً وإنسانوياً. وهو يقدّم للقارئ دليلا لكي يعيش حياة كاملة حتى لا يندم عندما يموت.
    يقول في إحدى فقرات الكتاب: أخبرَني أحد معارفي الشباب، الذي ورث بعض الأفدنة عن والده، أنه يريد أن يعيش مثلي إذا كانت لديه الوسائل. لكنّي لا أريد لأيّ شخص أن يتبنّى أسلوبي في العيش لأيّ سبب. أتمنّى أن يكون هناك أكبر عدد ممكن من الأشخاص المختلفين في العالم، وأريد أن يحرص كلّ شخص على اكتشاف طريقه الخاص، وليس أسلوب أبيه أو أمّه أو جاره.
    ويقول أيضا: ينشغل الكثير من الناس بغسل جزيئات الذهب من مياه الأنهار. لماذا لا أقوم بغرس عمود من الذهب بداخلي وأعمل على استخراجه من منجمي!
    إذا كان النهار والليل على هذا النحو الذي يجعلك تستقبلهما بفرح، والحياة تنشر عطراً كشذى الأزهار والأعشاب العطرية، فهذا دليل على نجاحك وسعادتك".
    ويقول في مكان آخر: إن قراءة كتب التاريخ الطبيعي هي من أكثر المتَع المبهجة في فصل الشتاء. فعندما يغطّي الثلج الأرض، أقرأ بمتعة كبيرة عن أشجار الماغنوليا وجزر فلوريدا ونسمات البحر الدافئة، وعن سياج الأشجار وأشجار القطن وهجرة طيور الأرز، وعن نهاية الشتاء في لابرادور وذوبان الثلوج في نهر ميزوري، وأدين بالمزيد من الصحّة لهذه الذكريات عن الطبيعة الخصبة.
    لكن وكما هو الحال مع كلّ كاتب، كان لثورو نقّاد ومعترضون. يقول أحدهم متحدّثا عن صعوبة بعض كتاباته: تكمن المشكلة في التدفّق المتعرّج لعقله وهو يفكّر بعمق في بعض مواضيعه. أحيانا يكون ما يقوله مباشرا وواضحا، خاصّة عندما يصف بيئته الطبيعية والعالم الجغرافي لنيو إنغلاند.
    لكن أحيانا ينقل ثورو رسائل أعمق إلى القارئ وكأنه يقول: إتبعني عبر عقلي المعقّد وانظر إن كنت تستطيع ملاحقتي". وهذا على الأرجح هو ما منع ثورو من إحداث تأثير حقيقي خلال حياته على العالم الأوسع. فعندما يتعمّق الشخص في أفكاره ويرغب في أن يسكن الآخرون معه فيها، فإن هذا غالبا ما يخيف الناس منه ويدفعهم للابتعاد عنه".
    توفّي هنري ثورو بمرض السلّ في مايو عام 1862. وكان عمره 44 عاما. ورغم أنه لم يأخذ حقّه من التقدير في حياته، إلا أنه يُعتبر اليوم واحداً من أعظم الكتّاب في الأدب الأميركي وأحد الآباء المؤسّسين لحركة الحفاظ على البيئة. كما أصبح كتاب "والدن" من الكتب المقرّرة في العديد من المدارس هناك.

    Credits
    thoreausociety.org

    الخميس، أكتوبر 10، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • يقال أن تاجرا اشترى لوحة تحمل توقيع الرسّام بابلو بيكاسو. وسافر الرجل إلى باريس ليتحقّق من بيكاسو نفسه ممّا إذا كانت الصورة أصلية أم لا. كان الفنّان يعمل في مرسمه عندما وصل الرجل حاملا اللوحة. وقد ألقى نظرة واحدة على اللوحة ثم قال على الفور: إنها مزيّفة".
    وبعد بضعة أشهر، اشترى التاجر لوحة أخرى تحمل توقيع بيكاسو أيضا. وسافر ثانيةً إلى باريس ليستفسر من الرسّام عن رأيه في أصالة اللوحة من عدمها. وبعد أن تفحّصها بيكاسو قال بسرعة: هذه أيضا لوحة مزيّفة". قال له التاجر: لكنّي رأيتك بعيني ترسم هذه الصورة قبل سنوات، فكيف تكون مزوّرة؟!
    وهنا هزّ بيكاسو كتفيه وقال: أنا أيضا أرسم أشياء مزيّفة في كثير من الأحيان".
    والمعنى الكامن في كلام بيكاسو هو أن أيّ لوحة، مهما كانت أصلية، قد تبدو وكأنها تكرار أو تنويع على موضوع أو فكرة رُسمت من قبل. وقد يكون المقصود أن اللوحة أعيد رسمها، لكن صانعها الجديد لم يُضِف إليها شيئا أو لم يمنحها روحا جديدة.
  • ❉ ❉ ❉


  • كان آرثر كوستلر (1905 - 1983) مفكّرا وصحفيّا بريطانيّا من أصل مجري. وقد عُرف بتناوله للقضايا السياسية والفلسفية. ودفع اهتمام كوستلر بالفلسفة والعلم إلى استكشاف مواضيع الوعي والإبداع وطبيعة الوجود البشري. وبصفته مثقّفا يهوديّا، اضطرّ للفرار بعد صعود الفاشية في أوروبّا وعانى من صدمة المنفى. ولذا أصبح النزوح والبحث عن هويّة وعن معنى للحياة من الأفكار المتكرّرة في كتاباته.
    وقد نال كوستلر عددا من الجوائز ورُشّح لنيل جائزة نوبل. روايته "الظلام عند الظهيرة" تُعتبر واحدة من أعظم الأعمال المناهضة للستالينية. ومن أشهر كتبه الأخرى "السائرون نياماً" الذي يعتبره بعض النقّاد كتابا ملهِما وتحفة في التاريخ السردي.
    تجارب كوستلر الحياتية اتسمت بالاضطرابات السياسية والصدمات الشخصية والاستقصاء الفلسفي وأسهمت في صوغ صوته الأدبي وأثّرت عميقا على كتاباته وفلسفته. ولا تزال أعماله يتردّد صداها الى اليوم بسبب نقاشاتها المعمّقة للظرف الإنساني في مواجهة الإيديولوجيات القمعية.
    هنا بعض أهمّ آراء ومقولات آرثر كوستلر المشهورة المستمدّة من كتبه ومقابلاته..
    -إذا كانت الطبيعة تكره الفراغ، فإن العقل يكره ما لا معنى له. أظهِر لشخص بقعة حبر وسيبدأ على الفور بترتيبها في تسلسل هرمي من الأشكال والمخالب والعجلات والأقنعة.
    -إن فضاء آينشتاين ليس أقرب إلى الواقع من سماء فان غوخ. ومجد العلم لا يكمن في حقيقة أكثر عمقا من حقيقة باخ أو تولستوي، بل في فعل الخلق ذاته.
    -ذهبتُ إلى الماركسية كما يذهب المرء إلى نبع ماء عذب. وغادرتها كما يخرج المرء من نهر مسموم مليء بحطام المدن الغارقة وجثث الغرقى.
    -منذ عام 408، كانت أوربا كلّما وجدت نفسها في مأزق أو في مزاج بحثي، تتجه بحنين إلى الهند، أرض التوابل الطبخية والروحية. وكان أوغستينوس الشخص الأكثر تأثيرا خلال العصور المظلمة. وقد تأثّر ببلوتينوس الذي تأثّر بدوره بالتصوّف الهندي. وقبل وقت طويل من اكتشاف ألدوس هكسلي أن اليوغا علاج "لعالمنا الجديد الشجاع"، وصف شوبنهاور ملحمة الأوبانيشاد الهندية بأنها عزاء حياته.
    -ينبغي أن يكون طموح الكاتب هو استبدال مائة قارئ معاصر بعشرة قرّاء بعد عشر سنوات، وبقارئ واحد بعد مائة عام!
    -لا يوجد في السجن ما هو أسوأ من وعي الإنسان ببراءته، فهو يمنعه من التأقلم ويقوّض معنوياته.
    -لقد علّمَنا التاريخ أن الكذب غالباً ما يخدم مصالحه بشكل أفضل من الحقيقة. فالإنسان بطيء الحركة ويجب أن يُقاد عبر الصحراء لأربعين عاماً قبل أن يخطو خطوةً في تطوّره. ثم لا بدّ أن يُقاد عبر الصحراء بالتهديدات والوعود وبالمخاوف والتعزيات الخيالية، حتى لا يجلس قبل الأوان للراحة ويَشْغل نفسه بعبادة العجول الذهبية.


  • -إن المشنقة ليست رمزاً للموت فحسب، بل هي أيضاً رمز للقسوة والإرهاب وعدم احترام الحياة. وهي القاسم المشترك بين الوحشية البدائية وتعصّب العصور الوسطى والاستبداد الحديث.
    -شهد القرن السادس قبل الميلاد ظهور بوذا وكونفوشيوس ولاو تسو والفلاسفة الأيونيين وفيثاغوراس. كما كان ذلك القرن المُعجز نقطة تحوّل في تاريخ البشرية. وبدا وقتها وكأن نسيم شهر مارس يهبّ عبر الكوكب من الصين إلى ساموس فيثير وعي الإنسان. وكان الفكر العقلاني ينبثق من عالم الأحلام الأسطوري، وهو ما أدّى الى إحداث تغيير جذري في حياة البشر على مدى الألفي عام التالية وبأكثر ممّا فعلته المائتا ألف عام السابقة.
    -إن الرغبة في مقابلة مؤلّف لأنك تحبّ كتبه أمر سخيف مثل الرغبة في مقابلة الإوزّة لأنك تحبّ فطيرة كبد الإوز.
    -يمكن للغة أن تصبح بمثابة حاجز بين المفكّر والواقع. ولهذا السبب فإن الإبداع الحقيقي يبدأ في كثير من الأحيان حيث تنتهي اللغة.
    -من غير المستغرب أن ترتكز شهرة غاليليو على اكتشافات لم يقم بها قط، وعلى مآثر لم يكتسبها أبدا. وعلى النقيض ممّا تذكره كتب العلوم الحديثة، فإن غاليليو لم يخترع التلسكوب ولا المجهر ولا مقياس الحرارة ولا ساعة البندول. كما أنه لم يكتشف قانون القصور الذاتي ولا متوازي الأضلاع للقوى أو الحركات ولا البقع الشمسية. ولم يقدّم أيّ مساهمة في علم الفلك النظري ولم يُسقِط الأثقال من برج بيزا المائل ولم يُثبت صحّة نظام كوبرنيكوس. كما أنه لم يتعرّض للتعذيب من قبل محاكم التفتيش ولم يذق طعم الذلّ في زنزانات تلك المحاكم ولم يقل "افعلوا ما يحلو لكم" ولم يكن شهيدا للعلم.
    -إن الصوت الأكثر استمرارا والذي يتردّد صداه عبر تاريخ الإنسان هو صوت طبول الحرب.

    ❉ ❉ ❉


  • ذات صباح ربيعي، كان رجل يتمشّى في حديقة عامّة عندما رأى من بعيد شجرة طويلة تتدلّى من أغصانها الجافّة العارية ثمار طويلة متيبّسة. وبدافع الفضول، أسرع في السير باتجاه الشجرة الغامضة التي كانت تقف بعيداً وفي عزلة عن بقية الأشجار. وعندما اقترب منها، نظر إليها وهو غير مصدّق ما رآه.
    فمن أدنى الأغصان الى أعلاها، كانت شرائط طويلة ملوّنة اقتُطعت من أكياس بلاستيكية ترفرف في رياح الربيع مثل رجل أصلع يضع شعراً مستعاراً. نظر الرجل حوله متلهّفاً للحصول على تفسير. فأخبره شخص رآه يحدّق في الشجرة أنه بعد شتاء قاسٍ، ظلّت الشجرة يابسة لمدّة عامين متتاليين وقرّر جنايني تعليق كلّ تلك الشرائط البلاستيكية الملوّنة على أغصانها لإعطائها بعض الأمل في أنها ما تزال قادرة على حمل الثمار إذا أرادت.
    لم يكن واضحا ما إذا كان قلب الشجرة قد تحمّس لتلك الشرائط الملوّنة أو أنه أصبح أخضر مرّة أخرى. لكن ما حدث يمكن أن يكون رمزا لجهد الإنسان في خلق مساحة من الأمل حتى عندما لا يكون هناك مجال لأيّ أمل.
  • ❉ ❉ ❉


  • ما الفرق بين الفنّ الحديث والفنّ المعاصر؟
    بعض النقّاد يشيرون الى ان مفهوم الفنّ الحديث modern art يغطّي الفترة من عام ١٨٠٠ الى ١٩٧٠. وقد ظهر هذا الفنّ كردّ فعل على الثورة الصناعية.
    وقبل القرن التاسع عشر، كان الفنّانون يعملون لحساب رعاة أثرياء او مؤسّسات متنفّذة كالكنيسة الكاثوليكية. وقد سمح الفنّ الحديث للفنّان بأن يتحرّر من إملاءات الرعاة، فيرسم مواضيع من اختياره وبحسب نظرته هو للعالم.
    بالنسبة للفنّ المعاصر contemporary art، لا يوجد له تعريف مجمَع عليه ولا اجابة عن أين ينتهي الفنّ الحديث ويبدأ المعاصر. لكنّ هناك اتفاقا على ان الفنّ المعاصر يتعلّق بالزمن الحاضر الذي قد يكون ١٢ شهرا او ١٠ سنوات. كما انه يستخدم الاساليب الرقمية والديكور وكثيرا من الألوان.

  • Credits
    arthurkoestler.com
    pablopicasso.org

    الجمعة، أكتوبر 04، 2024

    تأمّلات تحت أشجار الكرَز


    منذ أواخر القرن العاشر، راج في اليابان نوع من الأدب يُسمّى "أدب الأكواخ القشّية"، أو أدب الانعزال، الذي يشبه أسلوب كتابة اليوميات أو المدوّنات الحديثة في هذه الأيّام. وهو نوع من الكتابة المسترسلة التي تسمح لقلم الكاتب بتدوين الأفكار كما ترد الى ذهنه بعفوية وعشوائية والانتقال من موضوع إلى آخر ومن فكرة لأخرى دون ترتيب مسبق. وقد أصبح ذلك التقليد حركة أدبية قائمة بذاتها في أواخر فترة حكم هييان وأوائل فترة كاماكورا في أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثالث عشر.
    وأصل هذا الأدب أن بعض الأشخاص عندما يتقاعدون من الخدمة العامّة يذهبون الى الجبال ويبنون لهم أكواخا منعزلة ويمارسون هناك العزلة والتواصل مع الطبيعة والتأمّل والكتابة. وأحيانا يأتي قرار العزلة من عدم الرضا عن المعايير المجتمعية كالتعلّق بالبيوت "التي مآلها الزوال"، أو بسبب الضغوط التي تصاحب الفقر. وفي حياة العزلة، يمكن نقل الكوخ بسهولة، ويمكن للمرء أن يتخفّف من الانشغال بحسن المظهر، إذ لن يوجد أحد حوله ليحكم عليه.
    وذهاب بعض الأشخاص الى الجبال للعيش في عزلة وممارسة الكتابة المتأمّلة تقليد متجذّر بعمق في "الزِن" الياباني ويرتبط تاريخيّا بممارسات روحية أخرى. وكتابات هؤلاء المنعزلين كثيرا ما تعكس تأثير البوذية على حياتهم اليومية، والتي تؤكّد على أهميّة العزلة وعدم التعلّق بشيء والبقاء قريبا من الطبيعة.
    وقد يتضمّن نشاط الكتابة المنعزلة ممارسة فنّ الخط الذي يُنظر إليه باعتباره فعلا تأمّليا، وكذلك كتابة قصائد الشعر "الهايكو غالبا". وهذه الأشكال القصيرة من الكتابة تسمح بالتعبير عن رؤى روحية عميقة بطريقة موجزة. وقد أثّرت الكتابات من هذا النوع بشكل كبير على الفنّ والأدب والجماليات اليابانية وعزّزت قيم البساطة واليقظة وحبّ الطبيعة.
    ومن أشهر رموز هذا النوع من الكتابة يوشيدا كينكو الذي كان راهبا ورجل بلاط وخطّاطا وشاعرا وعالم آثار. وبعد تقاعده وابتعاده عن صخب العمل في البلاط الإمبراطوري، قضى كينكو أيّامه وحيداً في كوخ جبلي في كيوتو، وشغل نفسه بتدوين أفكاره على قصاصات من الورق. وبعد وفاته، أُزيلت تلك القصاصات من مكانها وصُنّفت ونُسخت في كتاب بعنوان "كوب من الساكي تحت أشجار الكرز".
    وصورة كينكو كما تتجلّى في كتاباته هي صورة راهب وقور يجلس وحيداً في كوخه الصغير، متأمّلا لفائفه وأوراقه وممسكا بريشته بينما يستمع الى تدفّق مياه النهر الذي يجري بالجوار. وعلى الرغم من توقّع الكاتب أن صفحاته سوف تُتلف وغالبا لن يراها أحد، إلا أن تأثيرها على نظرة اليابانيين إلى السلوك والجمال لم يكن بسيطا ولا عابراً على الإطلاق. وفي الحقيقة فإن الكتاب يُعتبر اليوم واحدا من أكثر الأعمال دراسةً في الأدب الياباني، كما أنه يعطينا لمحة عن عالم اليابان في العصور الوسطى.
    أفكار كينكو ونصوصه القصيرة المدوّنة في كتابه الصغير هي في معظمها تأمّلات في الحياة وفي لحظات السعادة العابرة وفي الجَمال الموجود في الأشياء البسيطة. وهي تشبه بعض أفكار الفلسفة الغربية ومقولات الحكمة الروحانية القديمة، من قبيل كتابات الرواقيين وغيرهم. وهناك من يشبّهه بباسكال وثورو وايمرسون وسواهم. لكن لكتابه بريقا خاصّا يتمثّل في لغته الرشيقة وأوصافه الشعرية.
    ويقال ان كينكو كان شخصا متقلّب المزاج وعاطفيّا وعلى شيء من الزهد. ولم يستطع الفكاك من شوقه الى أسلوب الحياة في الماضي. وفي زمانه لم يكن هناك الكثير من الكتب. وكان يدرك أن الصديق قد يبتعد ويعيش في عالم منفصل، لكن الإنسان الذي يعيش بمفرده مع كتبه ومع أفكاره التي تحلّق متخفّفةً وحرّة يمكنه أن يجد السعادة الحقيقية.
    والكاتب يتحدّث عن مشاكل الوجود التي تواجه الإنسان. وهو يفعل ذلك بوعي حديث للغاية. كما أنه مدرك تماما لتلك المشاكل ولعجزه. فهو لا يستطيع حلّها، لذا فهو يكتبها ويضمّنها رؤاه الهادئة والحكيمة.
    بعض النقّاد يصفون هذا الكتاب بأنه نسخة مختصرة من رواية "والدن" لثورو، ولكن من منظور ياباني. لكن كينكو كتب خواطره قبل ظهور كتاب ثورو بعدّة مئات من السنين واستوحى مادّته بشكل أساسي من الفلسفة البوذية وليس من فلسفة التسامي. ومع ذلك فكلا الكتابين، أي كتابي كينكو وثورو، يروّجان لأسلوب الحياة المنعزل ويتغنّيان بفضائل الحياة في كوخ ريفي صغير في بيئة طبيعية تتّسم بالبساطة وعيش الكفاف.
    السطور التالية تتضمّن بعض كلمات يوشيدا كينكو التي تذكّرنا أنه في خضمّ حالة الاضطراب وعدم اليقين التي تسود هذا العالم، يمكن العثور على الرضا الحقيقي في الحياة البسيطة وفي احتضان اللحظات العابرة وفي البحث عن العزاء في جمال الطبيعة.

    ❉ ❉ ❉

  • يا له من شعور غريب أصابني عندما أدركت أنني قضيت أيّاماً كاملة أمام زجاجة الحبر هذه، لأنه لم يكن لديّ ما أفعله، وأنا أدوّن أيّ أفكار عشوائية ولا معنى لها قد تخطر ببالي.
  • في صباح أحد الأيّام، بعد تساقط الثلوج بغزارة، كان لديّ سبب لكتابة رسالة إلى أحد معارفي، وعندما كتبتها أهملت ذكر تساقط الثلج. وقد سُررت عندما ردّ قائلا: هل تتوقّع منّي أن أهتمّ بكلمات شخص غبيّ لدرجة أنه يفشل في التساؤل عن كيفية العثور على هذا المشهد الثلجي؟ يا لها من قلّة حساسية مؤسفة!"


  • لقد تخلّيت عن كلّ ما يربطني بالعالم، لكن الشيء الوحيد الذي لا يزال يطاردني هو جمال السماء.
  • حتى مع مرور الزمن، لا يُنسى الميّت بأيّ حال من الأحوال، لكن "الموتى يبتعدون عن بعضهم البعض كلّ يوم"، كما يقول المثل. وهكذا، فعلى الرغم من كلّ الذكريات، يبدو أن حزننا على الراحلين لا يعود قويّا كما كان عند موتهم، حيث نبدأ في الثرثرة بلا مبالاة والضحك مرّة أخرى."
  • إن ترك شيء ما غير مكتمل يجعله مثيراً للاهتمام ويعطي المرء شعوراً بإمكانية النموّ والتجاوز.
  • قال المعلّم لأحد أتباعه: لا ينبغي للمبتدئ أن يحمل سهمين، لأنك ستستخدم السهم الأوّل بلا اهتمام عندما تتذكّر أن لديك سهما ثانيا. يجب أن تكون عازما دائما على إصابة الهدف بالسهم الوحيد الذي معك، وألا تفكّر في أيّ شيء آخر غير هذا.
  • كلّما طال أمَد مكوثك على هذه الأرض، زادت حصّتك من العار! ومن الأفضل أن تموت قبل سنّ الأربعين على أقصى تقدير. وبمجرّد تجاوز هذه السنّ، ينشأ لدى الناس رغبة في الاختلاط بالآخرين دون أدنى شعور بالخجل من حالتهم المزرية.
  • إنه لأمر مريح للغاية أن تجلس بمفردك تحت ضوء مصباح، وأمامك كتاب مفتوح تتواصل من خلال ما هو مكتوب فيه مع شخص عاش في غابر الأزمان ولم تقابله أبدا.
  • في الوقت الحاضر، أنت تُقيَّم وفقا لجمال وجهك. لكن بالنسبة لي فإن الأخلاق والسلوك هما الجمال الحقيقي. لا يهمّ أن تكون جميلا إن لم تكن متمتّعا بأخلاق وخصال طيّبة.
  • الجميع يرغبون في ترك أسمائهم لتتذكّرها الأجيال القادمة. لكن النبلاء وعلية القوم ليسوا بالضرورة أشخاصا طيّبين. إن الإنسان البليد الغبيّ قد يولد في بيت طيّب ويحظى بمكانة عالية ويعيش في قمّة الرفاهية بفضل الصدفة، في حين يختار العديد من الأشخاص الحكماء والصالحين البقاء في وظائف متواضعة ويُنهون أيّامهم دون أن يصادفهم حظّ سعيد.
  • في النهاية، الأشياء التي تفكّر فيها ولا تقولها تتعفّن بداخلك.
  • الرغبة الشديدة في المكانة العالية تأتي في المرتبة الثانية من الحماقة بعد الرغبة في الثروة. إننا نتوق إلى أن نترك وراءنا سمعة وشهرة، لكن لو فكّرت في الأمر بجديّة فستعرف أن الرغبة في السمعة الطيّبة ليست أكثر من مجرّد الاستمتاع بثناء الآخرين. لكن لا الذين يمدحوننا ولا الذين يذمّوننا سيبقون طويلا في هذا العالم، ولسوف يرحل حتى الذين يستمعون إلى آرائهم عنّا بعد وقت قصير أيضا. لذا من الذي يجب أن نخجل منه وما نوع التقدير الذي يجب أن نتوق إليه طالما أننا سنموت؟!
  • لو دامت إلى الأبد حياتنا كبشر ولم تذبل وتختفي مثل ندى القبور، لما حرّك هذا العالم مشاعرنا ولما أحببناه. إن الطبيعة الزائلة للأشياء هي التي تجعل هذه الحياة رائعة حقّا.
  • من بين جميع الكائنات الحيّة، الإنسان هو الذي يعيش أطول من غيره. فالذباب يموت قبل حلول المساء، وبعض الحشرات لا تعرف الربيع ولا الخريف لأنها تموت في الصيف. يا له من ترف رائع أن تتذوّق الحياة على أكمل وجه حتى ولو لعام واحد! إن كنت ممّن يندمون باستمرار على انصرام الحياة، فإن ألف عام طويلة ستبدو لك مجرّد حلم ليلة واحدة.
  • من الحماقة أن تكون عبداً للشهرة والثروة، منخرطاً في كفاح مؤلم طوال حياتك دون لحظة سلام وهدوء. ورغم أنك قد تترك وراءك عند وفاتك جبلاً من الذهب مرتفعاً بما يكفي لبلوغ نجمة الشمال نفسها، إلا أنه لن يسبّب سوى المشاكل للذين سيأتون بعدك. ولا جدوى من كلّ تلك الملذّات التي تسعد عيون الحمقى: العربات الكبيرة والخيول المطهّمة والذهب اللامع والمجوهرات، أيّ رجل عاقل سينظر إلى مثل هذه الأشياء على أنها غباء فادح. ألقِ ذهبك بعيدا في الجبال وارمِ جواهرك في الأعماق!
  • حتى الأشخاص الذين يبدون وكأنهم يفتقرون إلى أيّ مشاعر راقية، قد يقولون أحيانا أشياء مثيرة للإعجاب.
  • بدلاً من القبض على اللصوص ومعاقبتهم على جرائمهم، سيكون من الأفضل أن نجعل هذا العالم مكانا لا يعاني فيه الناس من الجوع أو البرد. إن من القسوة أن نجعل الناس يعانون بحيث يضطّرون إلى خرق القانون، ثم نعامل الفقراء كمجرمين. يجب تعريف المجرم الحقيقي على أنه شخص يرتكب جريمة على الرغم من أنه يتغذّى ويلبس بشكل لائق.
  • كقاعدة عامّة، يمكن التعرّف على شخصية الإنسان من المكان الذي يعيش فيه. إن المنزل الذي صقله عدد كبير من العمّال بكل عناية، حيث ترى فيه الأثاث الصيني والياباني الغريب والنادر، وأعشاب وأشجار الحديقة المرتّبة بشكل غير طبيعي، لهو منزل قبيح المنظر وجالب للاكتئاب.
  • الثلاثاء، أكتوبر 01، 2024

    غابة الصَّنوبر


    رسم هاسيغاوا توهاكو لوحته "أشجار الصنوبر" في أواخر القرن السادس عشر في اليابان باستخدام تقنية الرسم بالحبر الصيني، كي يعبّر من خلالها عن ثراء سمات الطبيعة في اليابان. واللوحة تُصنّف منذ عام 1952 ككنزٍ وطني ياباني. كما تُعتبر واحدة من أشهر الأعمال الفنّية في اليابان. وهي الآن من مقتنيات متحف طوكيو الوطني.
    هذا العمل عبارة عن لوحة جانبية كبيرة مكوّنة من ستّة ألواح يبلغ ارتفاعها خمسة أقدام وعرضها أحد عشر قدما. وهي تصوّر غابة من أشجار الصنوبر يكتنفها الضباب، مع جبال ثلجية خافتة تلوح من مسافة. وعند رؤية اللوحة عن بعد، تبدو جذوع الأشجار كما لو أنها تتأرجح أو تؤدّي رقصة في الرياح بفعل الطبقة الثقيلة من الهواء الرطب البارد. التأرجح الإيقاعي للأشجار يقال أنه صدى لرقصة يابانية كلاسيكية كانت شائعة خلال فترة حياة الرسّام.
    كان هاسيغاوا توهاكو تلميذا لسين ريكيو، أشهر معلّم شاي وممارس للزِن في اليابان وقتها. لذا فإن جماليات وتقنيات الزِن واضحة وملحوظة في تفاصيل اللوحة. كما أن حجمها الضخم وعناصرها البسيطة والحبر ذا اللون الواحد، كلّها عوامل تتضافر لخلق تأثير بصريّ درامي هادئ وتأمّلي. ومثل حفل الشاي الياباني، تُعزّز أشجار الصنوبر والزِن نموّ العقل والروح.
    ويقال إن الرسّام توهاكو صوّر في "غابة الصنوبر" جزءا من مشهد كان قد رآه في مسقط رأسه في جزيرة نوتو، حيث يستخدم السكّان المحليّون أشجار الصنوبر لحماية أنفسهم من رياح البحر. ومع ذلك، فإن لفحات البرودة التي تنقلها اللوحة ليست تصويرا لمنظر من بلد بعيد، بل هي صورة تعبّر عن المشاعر الداخلية.
    وهناك احتمال بأن يكون الفنّان استلهم في عمله لوحات سابقة، خاصّة تلك التي أبدعها الفنّان الصيني موكي في نهاية عهد أسرة سونغ الجنوبية. كان موكي راهبا بوذيّا عاش في القرن الثالث عشر ورسم مناظر طبيعية بمهارة لا تُضاهى. وكان يعرف فكرة الضباب المعتم الذي يلفّ الأشكال المحجوبة. لكن توهاكو طوّر الفكرة بأسلوب أكثر تحفّظا ودقّة.
    وأشكال أشجار الصنوبر تعدّ عنصرا واحدا من المناظر الطبيعية الجبلية لموكي. لكن عبقرية توهاكو تكمن في انه أخذ نمطا فنّيا واحدا وحوّله الى موضوع رئيسي في لوحة كبيرة. وكان فنّانا ثوريّا بهذا المفهوم.
    على الرغم من انطباعاتها الأوّلية البسيطة، تبدو "أشجار الصنوبر" معقّدة. كما أنها متقشّفة مقارنة بمعظم لوحات تلك الفترة عندما كانت خلفيات الصور تُصنع من رقائق الذهب. وعدم وجود الذهب فيها دفع بعض مؤرّخي الفن إلى التساؤل عمّا إذا كانت اللوحة رسما تمهيديا لنسخة نهائية مفقودة أو غير مكتشَفة. ومع ذلك، فإن افتقارها إلى الذهب قد يكون سبب تفرّدها وجاذبيّتها.
    ومن الملاحظ أن الفنّان رسم مشهد الرياح والضوء باستخدام تدرّجات الحبر على ورق أبيض. وعند رؤية الصورة عن قرب، تتّضح أكثر ضربات الفرشاة القويّة المستخدمة لتجسيد إبر الصنوبر. وربّما استخدم الرسّام لتصوير الأشجار عدّة فُرَش متّصلة ببعضها البعض أو عصا خيزران ذات نهاية مشقوقة أو حزمة من قشّ الأرز. كما استخدم ألوانا بسيطة من الأبيض والأسود وتدرّجاتهما لتصوير غابة الصنوبر التي تلوح في الأفق وسط الضباب والندى.
    قوّة الضوء المتباينة عبّر الرسّام عنها من خلال تدرّجات الحبر، ما أعطى لبستان الصنوبر الضبابيّ حياة. أيضا استخدم تقنيات وأجهزة بصرية مختلفة لتصوير المنظر، حيث يتسرّب ضوء خفيف من خلال الفجوات في الضباب، وتظهر الجبال المثلجة عن بعد، وينتشر الهواء البارد الرطب في عموم المشهد. أشجار الصنوبر المختفية في الضباب تبدو قويّة ومورقة، مع بقع حبر سميكة تخدش تيجان الأشجار. وبينما تتعرّج الأشجار إلى أسفل، يتغيّر لون الحبر تدريجيا طبقة بعد طبقة.


    وبالإضافة الى تأثير الحبر اللامع، يبدو كما لو أن الناظر يشعر بالنسيم ويشمّ رائحة المطر في الهواء ويستشعر الشذى المنعش لأشجار الصنوبر. ويلاحَظ أن هناك كميّة كبيرة من المساحات البيضاء في الغابة. وبدلاً من رسم الأشجار، من الأفضل أن نقول إن ما رسمه الفنّان كان عبارة عن مساحة بيضاء وأنه ركّز على المساحات الفارغة بين الأشجار أكثر من تصويره الغابة نفسها. لذا يمكن القول إن موضوع اللوحة هو الضباب والمساحات الفارغة التي أبدع الفنّان خلقها بجهد كبير.
    ومن خلال المساحات الفارغة الكبيرة وتصوير عمق المكان، أضاف الفنّان نكهة فلسفية للصورة ونقل عقل المشاهد إلى جانب آخر غامض منها. وتحوّلت اللوحة الى "مساحة إلهية يمكن لروح المشاهد أن تتجوّل فيها دون قيود"، بحسب كلام ناقدة يابانية.
    الهواء الكثيف الذي ابتكره الرسّام بعناية في اللوحة يجعل الناظر يشعر كما لو أنه يطفو في الفضاء ويخطو وسط الضباب البارد. وهو يستخدم الضباب لاستحضار لحظة مستدامة من عالم وهمي صامت وخيالي ولجعل المتلقّي يستشعر الوحدة في هذا العالم. ويقول بعض النقّاد إن الطريقة التي ابتدعها الفنّان في رسم اللوحة وضعت الأساس لبناء إطار لوحات الحبر اليابانية اللاحقة، كما أسّست جوهر الجماليات اليابانية في الرسم.
    ولد هاسيغاوا توهاكو في شبه جزيرة نوتو اليابانية عام 1539. وفي الثلاثينات من عمره، انتقل إلى العاصمة كيوتو وعمل على مجموعة واسعة من الموضوعات، من اللوحات الدينية إلى البورتريه إلى صور الطيور والأزهار.
    الأعمال التي رسمها توهاكو حتى وفاته عن عمر يناهز 72 عاماً ما تزال تحتفظ بلونها وقوّتها وسحرها حتى اليوم. وقبل سنوات، وتخليدا للذكرى الـ 400 للرسّام، نُظّم في مسقط رأسه معرض استعاديّ كبير لأعماله التي تنقل نبض عصره والدراما الإنسانية التي رافقت إبداعه لتلك الأعمال.
    في الثقافة اليابانية، غالبا ما ترمز أشجار الصنوبر إلى المرونة وطول العمر والهدوء والقدرة على التحمّل. كما أنها ترتبط بمعتقدات الشنتو وتمثّل الحياة الأبدية. وخلال فترة حكم الإيدو التي شهدت زيادة في شعبية لوحات المناظر الطبيعية، ظهرت أشجار الصنوبر بشكل متكرّر في المطبوعات الخشبية وفي أشكال أخرى من الفن.
    ومن أشهر الفنّانين اليابانيين الذين رسموا الصنوبر هوكوساي الذي كثيرا ما كان يضمّن هذه الأشجار في مناظره الطبيعية ليرمز إلى جمال الطبيعة. وأيضا هناك هيروشيغي الذي صوّر أشجار الصنوبر في مواسم مختلفة، ملتقطاً جمالها والبيئة المتغيّرة المحيطة بها.
    أما في ثقافات العالم الأخرى فقد ارتبطت أشجار الصنوبر بمعاني معيّنة كالخلود والرخاء. وكانت هذه الأشجار موضوعا مفضّلا في الرسم لعدّة قرون بسبب أشكالها المميّزة والعواطف التي تثيرها. وكثيرا ما تمثّل في الرسم لكونها رمزا للتحمّل والقوّة بالنظر الى نموّها في ظروف قاسية.
    كما أن أشجار الصنوبر تثير مشاعر السلام والهدوء، ما يجعلها خيارا شائعا للوحات التي تصوّر المناظر الطبيعية. وقد رسمها فنّانون مثل كاسبار دافيد فريدريش وكلود مونيه وأندرو وايت وفنسنت فان غوخ وديفيد هوكني لنقل جمالها وسموّها في الطبيعة ولاستثارة الاستجابات العاطفية.

    Credits
    nhk.or.jp

    الجمعة، سبتمبر 27، 2024

    فكرة الخلود في الفنّ الصيني


    احترام المجتمع الصيني للمعمّرين يُعتبر قيمة كونفوشية عريقة. وبحثُ الفرد الصينيّ عن العمر المديد هو هَمّ ابتدعته الطاويّة وأنتج انشغالا بصحّة الإنسان وبمسألة الخلود، وانعكس ذلك كلّه على الفنون التي انتجتها الصين على مدى ثلاثة آلاف عام وما اتّسمت به من تنوّع وثراء.
    الفنّ الصيني اهتمّ منذ القدم بإبراز الأشخاص الخالدين والأسطوريين، كما ركّز على بعض الموتيفات المرتبطة بالخلود، كثمرة الخوخ والغزال وطائر الكركي والصخور والماء وعشبة الشباب الأبدي وغيرها.
    وتتواتر في الفلكلور الصيني قصص عن "ملكة الأرض الغربية"، وهي إلهة قديمة كانت تحكم جنّة في جبال كونلون غرب الصين. وكان أهل تلك الأرض يعيشون حياة مخلّدة، فهم لا يعرفون الموت أو الشيخوخة ولا يشعرون بمرور الزمن أو ضغوط الحياة. والفضل في ذلك لأشجار الخوخ التي كانت تنمو في بستان الملكة السماويّ وتمنح إكسير الخلود والحياة الأبدية لكلّ من يأكل من ثمارها.
    وأشهر قصّة تُروى عن ملكة الأرض الغربية هي تلك التي تتحدّث عن اتصالها بالملك مو، أحد أعظم حكّام تشو القديمة. فقد انطلق الملك ذات يوم في رحلة مع فرسانه إلى المناطق الغربية البعيدة عن إمبراطوريته. وعلى جبل كونلون الأسطوري، التقى بملكة الأرض الغربية ونشأت بينهما علاقة حبّ.
    وقد أهدى الملك مو الملكة الأم كنوزا مهمّة على أمل أن تمنحه الخلود. لكنه فشل في الاستفادة من تعاليمها السرّية، وفي النهاية كان عليه أن يعود إلى عالم البشر ولا ينال الخلود. وكثيرا ما تقارن العلاقة بين ملكة الأرض الغربية والملك بعلاقة معلّم وتلميذ طاويّ. لكن في النهاية، يموت التلميذ مثله مثل بقيّة البشر الفانين.
    وبسبب ارتباط الخوخ بالخلود في الثقافة الصينية، فإنه يظهر مرسوما بكثرة على كؤوس الشاي والأواني المنزلية وأدوات الزينة وعلى مختلف منتجات الحرف اليدوية وغيرها. وعادةً ما تظهر تلك الملكة في الرسم وهي ترتدي غطاء رأس مميّزا تتدلّى من أطرافه ثمار الخوخ.
    ومن رموز الخلود الأخرى في الثقافة الصينية عشبة الشباب الأبدي الغامضة التي تمنع ظهور الشيخوخة والمرض لأيّ شخص يتعاطاها ولو مرّة واحدة. ويقال إنها تنمو في "أرض الخالدين" مع شروق الشمس في الاعتدالين الربيعي والخريفي.
    ومنذ قديم الزمان، اعتقد الصينيون أن الغزال يمتلك قوى سحرية لطرد الحظّ السيّئ والمرض. كما ينُظر إليه على أنه حيوان مبارك ويمكن أن يجلب الحظ السعيد، وبالتالي أصبح يرتبط بالحياة الأبدية أو الولادة المتجدّدة.
    وقدرة الغزال على أن يتخلّص من قرنيه في وقت متأخّر من كلّ عام، ومن ثم نموّ قرنين جديدين له في الربيع التالي، مرتبطة بالولادة المتجدّدة والخلود. ولآلاف السنين عاش الغزال في الفنّ الذي يزيّن المعابد البوذية.
    وهناك أيضا "الكركي" الذي يعتبره الصينيون طائرا ميمونا، وكان يُعتقد أن الخالدين يمتطون ظهر هذا الطائر إلى عالمهم السماوي. وحسب الأسطورة، يمكن لهذه الطيور أن تقطع مسافات طويلة وأن تصل الى أماكن بعيدة مثل مجرّة درب التبّانة وأن تعيش حتى 1600 عام دون أن تأكل أيّ شيء.


    وفي المعتقدات الشعبية الصينية، يرتبط طائر الكركي بالأشياء النظيفة والجميلة فقط وبتجنّب المشاعر السيّئة حتى يتمكّن من إطالة عمره. كما يُنظر إليه على أنه أنبل أنواع الطيور على الإطلاق. وهو رمز للحكيم الذي يعيش بهدوء في عزلة بعيدا عن العالم الدنيوي.
    ولهذه الأسباب، اعتُبرت هذه الطيور رمزا للحياة الطويلة، وكانت صورها تزيّن الهدايا التي تتمنّى للمُهدى إليهم حياة مديدة. وكان العلماء الصينيون يضعون شعار طائر الكركي المطرّز على صدور وظهور أرديتهم، في حين كانت صوره تُنقش على الأشياء اليومية كتعبير عن التمنيّات بالحياة الطويلة والحظّ السعيد.
    ومن موتيفات طول العمر الأخرى عند الصينيين الصخور. ولأنها من بين أكثر الأشياء صلابةً في البيئة الطبيعية، فإنها عصيّة على البِلى أو التلف وتقف بثبات في صمت على مدى آلاف السنين، متحديةً الرياح والأمطار، كالشخص المثالي في التقاليد الكونفوشية. وفي الوقت نفسه، فإن أشكال الصخور الرشيقة التي نحتتها قوى الطبيعية جعلتها موضوعا جذّابا لتصويرها في الفن.
    والماء أيضا رمز للخلود عند الصينيين، فهو مشبع بالحيوية وقوّة التطهير ومصدر لكلّ أشكال الحياة على الأرض التي بدأت في بيئة مائية. ويقدَّم الماء في الأساطير على أنه أصل الحياة ومنقذها، وهذا ما يفسّر اختياره كرمز للحياة الطويلة.
    وفي ثقافة الصين، يُعتبر جبلا بانغلاي وكونلون المقدّسان فردوسَي الخلود. ووفقا لسجلات مؤرّخين من القرن الأوّل قبل الميلاد، أرسل حكّام الصين في فترة الممالك المتحاربة مبعوثين للبحث عن الجبال المقدّسة. وقيل إن هذه الأماكن مقارّ لإقامة الحكماء الخالدين وأراضٍ للثروات الوفيرة، مع وحوش أسطورية ونباتات غريبة.
    وفي وقت لاحق، في فترة الأُسَر الستّ حتى أسرة تانغ، حفّز صعود الطاوية المتزايد أتباع هذه الفلسفة على اعتبار بعض الجبال ملاذات للخالدين. وبالنسبة للباحثين عن الخلود، أصبحت الجبال الشهيرة وملاجئ الكهوف وسيلة للقاء الخالدين والصعود إلى عالم الحياة الأبدية.
    ومنذ أقدم العصور كان الصينيون وشعوب أخرى غيرهم يتصوّرون أن الآلهة تعيش على قمم الجبال الشاهقة بحكم قربها من السماء. وفي الأساطير الصينية، نجد مصطلحات مثل الجبال الثلاثة المقدّسة والجبال الخمسة وغيرها.
    ومن أشهر هذه الجبال كونلون، وهو جبل مهيب ومليء بالطاقة الخالدة وذو ارتباط وثيق بالعديد من الأساطير التي وُجدت على أرض الصين منذ أقدم الأزمنة. وفي التاريخ الثقافي للأمّة الصينية، يُعتبر كونلون جبلا مقدّسا و"سلفاً لجميع الجبال"، كما أنه مسقط رأس الأمّة الصينية وموئل أجدادها. وهو أيضا مركز السماء والأرض والدرَج المؤدّي إلى السماء. وقد اجتذب الجبل، وما يزال، العديد من الشعراء الذين اتخذوه مكانا لسكناهم، ومن بين هؤلاء كلّ من "لي باي" و"دو فو"، أشهر شاعرين صينيين.
    وتعدّ المياه الذائبة للأنهار الجليدية في جبل كونلون مصدرا للعديد من الأنهار الرئيسية في البلاد، مثل اليانغتسي والنهر الأصفر ونهر لانتسانغ ونهر تريم وغيرها. وقد اكتُشفت في هذا الجبل مئات من عظام الديناصورات. ويروي الناس الذين يعيشون هناك قصصا عن التنانين التي تعيش في كهوف الجبل.
    ويقال إنه في هذا الجبل أيضا عاش الحكماء الخالدون، وهم جزء من آلهة الطاوية والدين الصيني. وكثيراً ما يصوَّر هؤلاء في الفنون البصرية على أنهم يعيشون في قصور سماوية فخمة ويتمتّعون بقدرة خارقة على ركوب الوحوش الغريبة والطيران في السماء أو المشي على مياه البحار. وقد استخدم الرسّامون من الماضي قوّة خيالهم لمحاولة تَصوّر هذه العوالم. وتعرض اللوحات، خاصّة تلك التي تعود إلى أسر سونغ ويوان ومينغ وتشينغ، الجوانب الغنيّة والمتنوّعة لتلك الجبال الخالدة.

    Credits
    mandarinblueprint.com
    asia-archive.si.edu

    الأربعاء، سبتمبر 25، 2024

    أرواح دانتي


    في ملحمته المؤلّفة من ثلاثة أجزاء، يصف دانتي رحلته الخيالية عبر الجحيم والمطهّر، وأخيراً رؤيته لرحلة مذهلة عبر الجنّة (أو الفردوس). وعلى طول الطريق، يواجه مجموعة من الأفراد الذين كان يعرفهم جيّداً أو يعرفهم عن قرب، فيتوصّل إلى طريقة مثالية لمكافأة أولئك الذين كان يوافقهم ومعاقبة الذين اعتبرهم أشراراً. فيحمل معه الأشخاص الذين كان يعتقد أنهم يستحقّون الجنّة، بينما يملأ جهنّمه بأولئك "الخطّائين والدنيئين" من عصره ومن عصور سابقة.
    وقد كُتبت مجلّدات عديدة عن الشاعر وكتابه. لكن إجمالا لم تسفر تلك الكتابات عن أيّ نتائج مهمّة، بسبب ضياع سيرته الذاتية إلى الأبد. كان دانتي رجلاً متجوّلاً وحزيناً، ولم يدوَّن عنه الكثير من المعلومات أثناء حياته. وما كُتب عنه اختفى معظمه في غبار الزمن الطويل الذي يفصلنا عنه الآن.
    فقد مرّت سبعة قرون منذ توقّف عن الكتابة والعيش. وبعد كلّ التعليقات، فإن الكتاب نفسه، أي "الكوميديا الإلهية"، هو كلّ ما نعرفه عن دانتي. وربّما نضيف صورة للرجل تُنسب إلى الرسّام جيوتو. وهناك لوحة أخرى "فوق" رسمها له الفنّان الإنغليزي من أصل إيطالي غابرييل روزيتي.
    وفي كلا الصورتين، يظهر دانتي ملفوفاً بالحزن والألم. هذا هو الوجه الأكثر حزنا على الإطلاق؛ وجه مأساويّ ومثير للمشاعر، تشي ملامحه وكأن صاحبه متجمّد في تناقض حادّ، في حالة إنكار وعزلة وألم ويأس. روح ناعمة خفيفة، لكن تبدو صارمة ولا تقبل المساومة!
    ومع ذلك، فهو أيضا ألم صامت واحتقار صامت: تنثني الشفاه في نوع من الازدراء للشيء الذي يأكل قلبه كما لو كان شيئا حقيرا تافها، وكأن من كانت لديه القدرة على تعذيبه وخنقه أعظم منه. إنه وجه شخص يحتجّ تماما ويخوض معركة مدى الحياة بلا استسلام. كلّ المودّة تحوّلت إلى سخط، سخط لا هوادة فيه، بطيء وهادئ وصامت مثل عين قدّيس قديم!
    والعين أيضا تنظر في نوع من المفاجأة والتساؤل: لماذا حدث ما حدث؟ غضِبَ الأمير فلماذا يغضب الآخرون؟! هذا هو دانتي، هكذا ينظر هذا الصوت الذي صمت سبعمائة عام وهكذا يغنّي لنا أغنيته الصوفية التي لا يمكن فهمها.
    القليل الذي نعرفه عن حياة دانتي يتوافق جيّدا مع هذه الصورة ومع هذا الكتاب. ولد في فلورنسا، في الطبقة العليا من المجتمع، في عام 1265. وكان تعليمه هو الأفضل في ذلك الوقت: الكثير من اللاهوت المدرسي والمنطق الأرسطي وبعض الكلاسيكيات اللاتينية.
    وبطبيعته الذكيّة الجادّة، اكتسب من كلّ علم أفضل ما فيه. كان لديه فهم واضح ودقّة كبيرة. وكان يعرف بشكل جيّد ما يكمن بالقرب منه. ولكن في مثل ذلك الوقت، حيث لم تكن هناك كتب مطبوعة أو علاقات حرّة، لم يكن بوسع دانتي أن يعرف جيّدا ما هو أبعد. وفي حياته، خرج مرّتين في حملة عسكرية كجنديّ لدولة فلورنسا. وفي عامه الخامس والثلاثين، وبفضل تدرّج طبيعي في الموهبة والخدمة، أصبح قاضيا كبيرا في فلورنسا.
    وقد التقى في صباه بفتاة صغيرة جميلة تُدعى بياتريس "أو بياتريتشا بالايطالية" بورتيناري. كانت في مثل سنّه ورتبته. وكبُر منذ ذلك الحين وأصبح يراها من وقت لآخر ومن بعيد. ويعرف الناس روايته المؤثّرة عن هذه العلاقة ثم انفصالهما وزواج الفتاة من شخص آخر ثم وفاتها بعد ذلك بفترة وجيزة. وبياتريس شخصية عظيمة في قصيدة دانتي. ويبدو أنها لعبت دورا مهمّا في حياته.


    وعندما كتب عنها كمرشدة له عبر الأفلاك الدوّارة إلى الفردوس، وفَى دانتي أخيراً بوعده أن يكتب عنها ما لم يكتبه أحد قطّ عن امرأة. ومن بين جميع الكائنات، بدا وكأنها بعيدة عنه في الأبدية المظلمة رغم أنها الوحيدة التي أحبّها بكلّ عاطفته. لكنها ماتت فجأة، أما دانتي نفسه فقد تزوّج. لكن يبدو أنه كان بعيدا جدّا عن السعادة. ولم يكن من السهل إسعاد ذلك الرجل الصارم الجادّ ذي الانفعالات القويّة والطبيعة الحادّة.
    ولو سارت الأمور على ما يرام وكما أراد دانتي، لكان ممكنا أن يصبح عمدة لمدينة فلورنسا أو بوديستا أو أيّ مدينة أخرى. لكن شاء القدر أن يكون للشاعر مصير أسمى، وهو الذي كافح كرجل يقاد الى الموت والصلب. لم يكن يعرف، أكثر منّا، ما هي السعادة الحقيقية أو التعاسة الحقيقية.
    في دير دانتي، ارتفعت الاضطرابات المربكة إلى مستوى عالٍ، حتى أن دانتي، الذي بدا أن حزبه الأقوى، أُلقي مع أصدقائه فجأة الى المنفى وحُكِم عليه منذ ذلك الحين بحياة من البؤس والتجوال وصودرت كلّ ممتلكاته وأكثر. وكان لديه شعور شرس بأن هذا كان ظلما فادحا وشرّا في نظر الله والإنسان. وقد حاول بكلّ ما في وسعه أن يعاد النظر في الحكم بلا جدوى.
    وهناك سجلّ لا يزال موجودا في أرشيف فلورنسا يقضي بإحراق دانتي أينما تمّ القبض عليه حيّا، نعم الحرق حيّا! هكذا تقول وثيقة مدنية غريبة للغاية. وهناك وثيقة أخرى غريبة أيضا، صدرت بعد سنوات عديدة، وهي رسالة كتبها دانتي إلى قضاة فلورنسا ردّاً على اقتراح أكثر اعتدالاً قدّموه له، وذلك بأن يعود بشرط الاعتذار ودفع غرامة. فأجاب بفخر صارم وعزيمة ثابتة: إذا لم أستطع العودة دون أن أتهم نفسي بالذنب فلن أعود أبداً".
    الآن لم يعد لدانتي وطن في هذا العالم. وأصبح يتنقّل من راعٍ إلى راعٍ ومن مكان لآخر وأثبت بكلماته المريرة كم هو صعب الطريق!". لم يكن دانتي، الفقير المنفيّ، بطبيعته الجادّة المغرورة ومزاجه المتقلّب، رجلاً قادراً على استرضاء الحكّام. ويروي عنه بترارك أنه عندما كان في بلاط الأمير "ديلا سكالا"، وقف هذا الأخير بين حاشيته مبتهجا مسرورا يحيط به المهرّجون والمضحِكون.
    وعندما التفت إلى دانتي، قال له وهو يشير الى أحد المهرّجين: أليس من الغريب الآن أن يجعل هذا الأحمق المسكين نفسه مسليّا للغاية، بينما أنت الرجل الحكيم تجلس هناك يوما بعد يوم وليس لديك ما تسلّينا به على الإطلاق؟". وقيل ان دانتي أجاب بطريقة أغضبت الدوق. وثبت أن مثل هذا الشاعر، بطريقته الصامتة المتغطرسة وسخريته وأحزانه، غير مقدّر له أن ينجح في البلاط.
    وبمرور الوقت، أصبح من الواضح أنه لم يعد لديه أيّ مكان للراحة في هذه الأرض. لقد طرده العالم الأرضي ليتجوّل طويلا طويلا. وأخيرا وجد له ملاذا عند دوق ڤيرونا. وأصبح هناك الآن قلب يحبّه ومكان يأوي إليه ويواري فيه بعض حزنه المقيم.
    الممالك الثلاث في "الكوميديا الإلهية"، الجحيم، والمطهّر، والفردوس، تطلّ على بعضها البعض وكأنها أقسام من مبنى عظيم. إنها كاتدرائية عالمية خارقة للطبيعة، متراكمة هناك، وصارمة ومهيبة ورهيبة. هذا هو "عالم أرواح" دانتي! وقد اعتاد أهل ڤيرونا عندما يرون الشاعر في الشوارع أن يقولوا: أنظروا! هذا هو الرجل الذي كان في الجحيم!". نعم، لقد كان في الجحيم، في الجحيم بما فيه الكفاية، في حزن شديد وصراع طويل، كما هو الحال بالتأكيد مع أمثاله.
    ذات مرّة، قال كاتب معاصر عن "الكوميديا الإلهية" إنها نشأت من المناظر الطبيعية الخضراء المزروعة بعناية فائقة في الشعر الإيطالي القديم، وكأنها جبل صخري ضخم مغطّى بالغيوم بشكل لا يمكن اختراقه". في عمل دانتي، كلّ شيء يبدو وكأنه منصهر في حرارة الشمس. ونحن لا نصبح كاملين إلا من خلال المعاناة. وربّما نستطيع أن نقول إن الشدّة هي السمة الغالبة على عبقرية الشاعر. وهو لا يظهر أمامنا كعقل كاثوليكي كبير، بل كعقل ضيّق، بل وحتى طائفي. إنه ثمرة عصره ومكانته وجزء من طبيعته الخاصّة.
    يخبرنا الرسّامون أن رافائيل كان أفضل رسّامي البورتريه على الإطلاق. لكن لا يمكن لأيّ عين موهوبة أن تستنفد أهمّية أيّ شيء. ففي أبسط وجه بشري يوجد أكثر مما يستطيع رافائيل أو غيره أن يأخذه معه. ولوحات دانتي التي رسمها في قصيدته الطويلة كانت موجزة ومكثّفة وحيوية كالنار في الليل البهيم.

    Credits
    worldofdante.org
    digitaldante.columbia.edu

    الاثنين، سبتمبر 23، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • يقول رينيه ماغريت في كتابه "كلمات وصور": يمكن للشيء أن يوحي بوجود أشياء أخرى خلفه". ويقول أيضا: الفنّ يمكن أن يكون أكثر تعقيدا ممّا نراه في الحياة الواقعية. يمكنني مثلا أن ارسم طائرا، حتى عندما لا أرى سوى بيضة. لكن هذه البيضة ستصبح يوما ما طائرا. لذا فإنني - بمعنى ما - أتخيّل مستقبلها وأرسمه".
    لم يكن ماغريت يشعر بأيّ انجذاب نحو الأشياء غير المرئية. الخفاء الوحيد الذي كان يعترف به هو خفاء الأشياء التي لا يمكن رؤيتها لأنها مخفية أو مغطّاة بأشياء أخرى. وبالتالي فإن الحجر الكبير المتموضع أو الساقط على باركيه شقّة يمكن أن يُخفي عالما كاملاً خلفه. هل "العالم غير المرئيّ"، وهو عنوان لوحته التي "فوق"، هو العالم الذي تفترضه النافذة "أو الشُرفة؟" ولكنّه غير مرئي داخل حدودها؟
    من ناحية أخرى، فإن البحث عن العالم المعلَن، ولكن غير المحسوس، يبعدنا عن الأدلّة الموجودة أمامنا، والتي يوصي ماغريت بأخذها بعين الاعتبار أوّلاً. إن أيّ شخص يمكنه أن يحتفظ بحجر في شُرفته. وماغريت لا يجعل الحجر يطفو في الهواء ولا يحوّله الى سمكة أو تفّاحة، كما يفعل عادةً في لوحاته. لكن الحالة الطبيعية الظاهرة للصورة تثير بقوّة السؤال الأهم: ما المعنى الذي تحمله هذه الصورة؟
    عندما تواجه صورة لماغريت، فمن غير المجدي البحث عن إشارات إلى شيء آخر. والأكثر فائدة هو التساؤل عن حيرتنا أمام الصورة التي يظهر منها، مثلا، أن الحجر، حتى لو كان مثبّتا على الأرض، يزعجنا لأنه - بحضوره - يحجب الرؤية ويُنكِر وظيفة الشُرفة التي يُفترَض أنها تُظهِر لنا العالم خارجها.
  • ❉ ❉ ❉

  • طلب أحدهم ذات مرّة من "بروس لي" أن ينصحه حول كيفية كسر الطوب بيديه العاريتين. فردّ عليه: إذا كنت تريد كسر الطوب، فيمكنك فقط استخدام المطرقة!"
    منذ زمن طويل وبعض الأشخاص يقومون بتكسير الطوب بأيديهم، ولكن للاستعراض فقط وللترفيه عن الناس. ومع ذلك، أخذ بعض الأشخاص الذين شاهدوا مثل تلك العروض الأمر على محمل الجدّ واعتقدوا أنهم إذا أرادوا كسر الطوب فما عليهم الا أن يتدرّبوا لأجل ذلك.
    أليست الحياة هكذا؟! بعض الناس عليهم أن "يؤدّوا" من أجل أن يكسبوا عيشهم ويبقوا على قيد الحياة. لكن الأشخاص الذين يشاهدون الأداء يعتقدون أن الحياة هكذا، ثم يصبحون أكثر فأكثر توّاقين إلى هذا النوع من الحياة "الأدائية".
    الحياة مسرح كبير كما يقال، وكلّ شيء فيها تقريبا يعتمد على الدراما والتمثيل.
  • ❉ ❉ ❉

  • يذكر المؤلّف لويس مامفورد كيف أن المبشّرين سعوا إلى تحويل السكّان الأصليين عن دياناتهم، بالأقناع حيناً وبالسيف أحياناً، واعدين إيّاهم بالسلام والأخوّة والنعيم السماوي. وفي نفس الوقت خطّطوا لتدميرهم بالمشروبات الكحولية وأجبروهم على تغطية أجسادهم وسخّروهم للعمل في المناجم حتى الموت المبكّر.
    كانت حياة الإنسان البدائي، على حدّ تعبير هوبز، قصيرة ووحشية وبغيضة. وأصبحت هذه الوحشية مبرّرا لنظام مطلق، مثل عالم ديكارت المثالي، تأسّس من خلال عقل وإرادة إله واحد. ومن المؤسف - يضيف مامفورد - أن العداء الذي أظهره الأوروبيّون تجاه سكّان البلاد الأصليين الذين غزوهم انتقل إلى أبعد من ذلك؛ إلى علاقتهم بالأرض.
    فقد عوملت المساحات المفتوحة الشاسعة في القارّتين الأمريكيتين، بكلّ مواردها غير المستغلّة، باعتبارها جزءا من حالة القتل والتدمير. وكان المستعمرون يؤمنون بأن الغابات وُجدت هناك لتُقطع والمروج لتُحرث والحياة البرّية لتُقتل من أجل الرياضة السقيمة، حتى لو لم تُستخدم للغذاء أو الملابس.
    وفي عملية "غزو الطبيعة"، كان الأوروبيّون في كثير من الأحيان يعاملون الأرض بازدراء ووحشية مثلما كانوا يعاملون سكّانها الأصليين، فيقضون على أنواع حيوانية عظيمة مثل البايسون وغيره ويستخرجون التربة بدلاً من تجديدها سنويّا. وحتى اليوم ما يزالون يغزون آخر المناطق البرّية الثمينة لمجرّد أنها لا تزال موطنا للحياة الفطرية والأرواح البشرية المنعزلة.
    والمشكلة أن المناطق البدائية، بمجرّد تدنيسها بالطرق السريعة الواسعة ومحطّات الوقود والمتنزّهات الترفيهية وشركات قطع الأخشاب، لا يمكن استعادتها أو إعادتها الى سابق عهدها أبدا".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • جلس الإنسان وحيداً غارقاً في حزنه العميق. واقتربت منه جميع الحيوانات وقالت له: لا نحبّ ان نراك حزينا هكذا. أُطلب منّا ما تتمنّى وسوف تحصل عليه. قال الإنسان: أريد أن أتمتّع ببصر حادّ. فردّ النسر: سوف تحصل على عينين كعينيّ. وقال الإنسان: وأريد أن اكون قويّا. فقال النمر: ستكون قويّا مثلي. ثم قال الإنسان: وأتطلّع لمعرفة أسرار الارض. ردّ الثعبان: سوف أريك إيّاها. وهكذا كان الحال مع جميع الحيوانات.
    وعندما حصل الإنسان على كلّ المنح الثمينة التي يمكن للحيوانات أن تقدّمها له، غادر المكان. ثم قالت البومة للحيوانات الأخرى: الآن صار الإنسان يعرف الكثير، وسيستطيع القيام بالعديد من الأشياء. لذا أنا خائفة". وقال الغزال: الإنسان لديه الآن كلّ ما يحتاجه، ولن يكون هناك بعد الآن سبب لحزنه.
    لكن البومة ردّت قائلة: لا، لقد رأيت فجوة عميقة بداخله، كعمق الجوع الذي لا يشبعه شيء. وهذا ما يجعله حزيناً وما يدفعه لطلب المزيد. سيستمرّ في الأخذ بلا هوادة حتى يقول له العالم ذات يوم: لم يتبقَّ لديّ شيء لأعطيك إيّاه".
  • ❉ ❉ ❉

  • من طبيعة الأشياء أن يتحمّل كلّ شخص المسؤولية الكاملة عن نفسه. لكن لا بأس في أن نساعد الآخرين ونتعاطف معهم بقدر ما نستطيع، وفي نفس الوقت أن نتوقّع منهم أن يقدّرونا ويساعدونا في وقت الحاجة. فالحبّ كما يقال يسير في اتجاهين لا اتجاه واحد.
    وهناك نظرية تُسمّى نظرية تقشير البرتقال. وتفترض أنه إذا قشّر شريكك لك برتقالة، فهذا يدلّ على حبّه الحقيقي والصافي. لكن من الأهمية بمكان أن نتعلّم أوّلاً كيف نقشّر برتقالنا. وقبل أن نحبّ الآخرين بشكل كامل ودون تردّد، يجب أن نفهم قيمتنا ونحبّ أنفسنا.
    لذا أعطِ الأولوية لحبّ ذاتك. قشّر برتقالك بنفسك واعطِ لنفسك نفس الحبّ الذي تعطيه للآخرين. كن مساحتك الآمنة. أحيانا وعندما تكون بمفردك، لا بأس أن تكون مستقلاً وألا تعتمد على شخص آخر ليقشّر البرتقال لك نيابةً عنك. إجعل من نفسك الشخصية الرئيسية في قصّتك.
    ولكن هذا لا يعني أننا لا ينبغي أن نسمح للآخرين الذين يرغبون في مساعدتنا في تقشير البرتقال لنا ومشاركتنا متعة النجاح. لكن يجب أن نكون حريصين على ألا نهشّم اللبّ ونفقد العصير. ومن المهم أن نعرف الطريقة التي نحبّ أن نقشّر بها البرتقال وكيف يفضّل الآخرون تقشيره.
  • ❉ ❉ ❉

  • يُعتبر مستنقع أوكيفينوكي، أو "الأرض المرتعشة"، أحد أكثر الأماكن سحرا وغموضا. ويقع في الزاوية الجنوبية الشرقية من جورجيا. ومنذ آلاف السنين ارتبط المكان بسكّان المستنقع الأصليين من قبيلة السيمينول.
    وإحدى أساطير السيمينول من العصور القديمة تتحدّث عن جزيرة غامضة ومعزولة في أعماق نهر أوكيفينوكي كانت تسكنها قبيلة من النساء. وحدث ذات يوم أن قامت مجموعة من السيمينول المغامرين باختراق المستنقع ووصلوا إلى الجزيرة المسحورة حيث تعيش تلك القبيلة. وعندما رأوا النساء ذهلوا لجمالهنّ وأطلقوا عليهنّ "بنات الشمس".
    وبعد أن قدّمت النساء الطعام لزوّارهن، توسّل أفراد السيمينول إليهن أن يسمحن لهم بالبقاء على الجزيرة. لكنهنّ رفضن ذلك الطلب وحذّرنهم من أن رجالهن سوف يعودون قريبا من الصيد، ويجب ان يتوقّعوا حدوث مشاكل لو رأوهم على تلك الجزيرة.
    وقد تظاهر السيمينول بالامتثال لتحذير النساء وغادروا إلى الطرف البعيد من المستنقع. كانت الغاية من عودتهم تأمين التعزيزات اللازمة ليعودوا الى الجزيرة ويقتلوا رجال القبيلة ويأخذوا النساء ليتّخذوا منهنّ زوجات.
    وشقّت المجموعة الشرسة من المقاتلين طريقها بحذر إلى المستنقع للمرّة الثانية. وعندما اقتربوا من الجزيرة الغامضة، استخدموا أقصى درجات الرصد والبراعة لكي يشنّوا هجوما مباغتا. وبينما كانت زوارقهم مبحرة عبر النهر، تردّدت فوقهم صرخة نصفها لإنسان ونصفها لكائن مجهول. وبعد لحظات قليلة اجتاحت موجة مدّ عظيمة المياه الهادئة للمستنقع.
    لكن هذا لم يؤثّر في حماس السيمينول، بل احتفظوا برباطة جأشهم ومضوا في طريقهم الى أن وصلوا إلى نقطة لم يعد يفصلهم فيها عن الجزيرة سوى جدارٍ سميك من الأشجار والنباتات. ووسط صرخاتهم الوحشية وأصوات مجاديفهم المتوتّرة، شقّوا طريقهم عبر أوراق الشجر واندفعوا إلى الأمام. لكنهم توقّفوا فجأة في ذهول.
    ففي المكان الذي كانت تقوم فيه قبل أيّام الجزيرة الأسطورية الجميلة "لبنات الشمس" الساحرات، لم يعد هناك الآن سوى مساحة مفتوحة من مياه المستنقع ترفرف فوقها وتحطّ على سطحها الهادئ أسراب من البطّ البرّي، قبل أن تنطلق في الهواء.
    تقول الأسطورة أنه منذ ذلك اليوم وإلى الآن، لم يُعثر على أيّ أثر لجزيرة النساء تلك ولم يُكتشف أبدا سرّ أو سبب اختفائها الغريب والغامض. ومنذ ذلك الوقت ظلّ الناس يتناقلون خبر تلك الجزيرة جيلا بعد جيل ويروون عنها قصصا وتكهّنات أكثرها شاطحة وأشبه ما تكون بالخيال.

  • Credits
    magritte.com
    archive.org

    السبت، سبتمبر 21، 2024

    يوساميتي: الفردوس الأمريكي


    بفضل لوحات البيرت بيرستادت، أصبح لوادي يوساميتي في كاليفورنيا تاريخ، وباتَ أيقونة للبراري الأمريكية. كان بيرستادت أوّل رسّام أمريكيّ يُمسك بالقوّة الرمزية لجبال سييرا نيڤادا ويوساميتي. وعندما رأى الوادي لأوّل مرّة في صيف عام 1863، ذُهل من جماله وكتب إلى صديق له يصفه بأنه "الفردوس الأمريكي".
    لوحاته الخمس والعشرون التي رسمها للمنطقة أصبحت محفّزا لحماية تلك الطبيعة البكر. وأشهرها لوحة تصوّر منظرا مثاليّا تظهر فيه مجموعة من الغزلان وهي ترعى بسلام في المروج. ولا بدّ أن فكرة الجنّة كانت في عقل الفنان، لذا رسم برّية مثالية لا تعيش فيها سوى الحيوانات.
    وقد أضاف الى المنظر لمسة لامعة من خلال وهج الشمس الغاربة المصطبغ بالألوان الصفراء والبرتقالية المنعكسة على المكان بأكمله. هذه اللوحة وغيرها أضفت طابعا رومانسيّا على يوساميتي باعتباره مكانا رعويا وفطريا وخالدا وغير مأهول، وخلعت عليه طابعا من القداسة والسموّ.
    يوصف وادي ومتنزّه يوساميتي بأنه أحد أعظم مَعابد الطبيعة بسبب جمال وسحر طبيعته. وقد تَشكّلَ الوادي من الأنهار الجليدية التي يصل سمكها الى 4000 قدم منذ ما يقرب من مليون عام. ومن هناك، بدأت القطع الكبيرة من الجليد تتحرّك إلى أسفل مشكّلة الوادي على شكل حرف U.
    وتدعم المنطقة أكثر من 400 نوع من الكائنات الحيّة، بما في ذلك الأسماك والبرمائيات والزواحف والطيور والثدييات. وتضمّ بعضا من أروع الشلالات على وجه الأرض. ووادي يوساميتي معروف بأشجار السيكويا العملاقة التي يُعتقد أن عمر بعضها يبلغ حوالي 3000 عام. ويمكن أن تنمو هذه الأشجار حتى يصل عرضها إلى 30 قدما وارتفاعها إلى أكثر من 250 قدما.
    وقد عاش البشر في الوادي منذ ما يقرب من 8000 عام. وأقدم قبيلة قطنت المنطقة من السكّان الأصليين يُطلق عليها اسم "هواهنيتشي". ولم يكن ذلك الشعب هم السكّان الوحيدون في يوساميتي، فقد عاشت فيه شعوب أخرى مثل البايوت والميوك واليوكوت وغيرهم. وقد تفاعلت هذه القبائل مع بعضها وخاضت الحروب فيما بينها وتاجرت وتزاوجت مع بعضها البعض على مرّ قرون.
    في الفترة من 1850 إلى 1851، نشبت حرب بين القبائل الهندية في المنطقة، ما أدّى الى دخول أوّل بعثة من الأمريكيين غير الأصليين الى منطقة يوساميتي. وفي ربيع ذلك العام، قام بعض الهنود بمهاجمة موقع البعثة.
    وكانت تصرّفات كتيبة ماريبوسا التابعة للحكومة بمثابة بداية النهاية لقبائل يوساميتي ولقبائل أخرى في كاليفورنيا. وكان للإزالة القسرية لهنود المنطقة من أراضيهم وتدمير منازلهم ومصادر غذائهم أثر مدمّر على أسلوب حياتهم. ومات الكثيرون منهم بسبب الجوع والمرض نتيجة النزوح القسري. ويُعدّ هذا الفصل المأساوي في تاريخ يوساميتي بمثابة تذكير بالآثار المدمّرة للاستعمار وإزالة الشعوب الأصلية من أراضيها.
    عالِم الطبيعة الأمريكي من أصل أسكتلندي جون موير كان له دور فعّال في إنشاء متنزّه يوساميتي في عام 1890. وأدّى حبّ موير للحياة البرّية وفهمه العميق للعالم الطبيعي إلى أن يصبح واحدا من أكثر علماء الطبيعة والمحافظين على البيئة تأثيرا في عصره. ثم أصبح عضوا مؤسّسا لنادي سييرا ومدافعا قويّا عن الحفاظ على المناطق الطبيعية. وما يزال إرثه في إلهام الناس لحماية الأماكن البرّية وتقديرها مستمرّا الى اليوم.
    زار جون موير يوساميتي لأوّل مرّة عام 1868. وقد أعجب بالمكان لدرجة أنه عاد إليه في العام التالي. كان موير روحا حرّة، وقد وجد عملاً كعامل مزرعة وكراعٍ مقابل 30 دولارا شهريا. وبينما كان موير يرشد قطيع أغنامه إلى مروج تولومني في سييرا نيفادا، كان يدرس النباتات والحيوانات ويرسم المناظر الجبلية. ثم سجّل لاحقا هذه التجارب في كتابه "صيفي الأوّل في سييرا".
    وهذا الكتاب يعتبر بمثابة مذكّرات يومية. وهو يشبه رسالة حبّ إلى جبال سييرا نيفادا، حيث يتحدّث عن الجوانب المختلفة لجمالها ويُعرّف القارئ على تضاريسها المختلفة بأسلوب شاعري. وهو يصف الأراضي البرّية كما كانت موجودة في أواخر القرن التاسع عشر. ولم يكن أحد سوى السكّان الأصليين يعرف الجبال أفضل من موير الذي كان لديه متّسع من الوقت للتجوال والانغماس في الجبال.
    هنا بضع فقرات مترجمة من كتاب جون موير عن مشاهداته وانطباعاته عن جبال سييرا ووادي يوساميتي..

  • الغابات الصنوبرية في متنزّه يوساميتي، وفي سييرا بشكل عام، تتفوّق على كلّ الغابات الأخرى من نوعها في أمريكا وحتى في العالم، ليس فقط من حيث حجم وجمال الأشجار، ولكن أيضا من حيث عدد الأنواع وعظمة الجبال التي تنمو عليها. وعندما نترك الأراضي المنخفضة العادية ونتجوّل في قلب الجبال، نجد عالما جديدا ونقف في صمت وذهول بجوار أشجار الصنوبر والتنّوب والسيكويا المهيبة، وكأننا في حضرة كائنات متفوّقة وصلت حديثا من نجم آخر، فهي هادئة ومشرقة وشبه إلهية.
  • إن الذهاب إلى الغابة هو العودة إلى الوطن، لأنني أفترض أننا أتينا في الأصل من الغابة. ولكن في بعض غابات الطبيعة، يبدو المسافر المغامر مخلوقا ضعيفا غير مرحّب به، حيث تحاول الوحوش البرّية والطقس قتله، بينما تسدّ طريقه النباتات المتشابكة المسلّحة بالرماح والإبر اللاذعة وتجعل الحياة صراعا صعبا.
  • هنا كلّ شيء مضياف ولطيف وكأنه مخطّط لإسعادك، يلبّي كلّ احتياجات الجسد والروح. حتى العواصف تبدو ودودة وتنظر إليك كأخ. وجمالها وجديّتها المصيرية الهائلة ساحرة على حدّ سواء. حتى المكفوفين يجب أن يستمتعوا بهذه الغابات ويتشمّموا عبيرها ويستمعوا إلى موسيقى الرياح في بساتينها ويلمسوا أزهارها وريشها وأقماعها وجذوعها المتعرّجة.
  • قبل بضع دقائق، كانت كل شجرة متحمّسة تنحني للعاصفة الهادرة، تلوّح وتدور وترمي أغصانها بحماس مجيد مثل العبادة. ولكن على الرغم من أن هذه الأشجار صامتة الآن بالنسبة للأذن الخارجية، فإن أغانيها لا تتوقّف أبدا.
  • في كلّ صباح، بعد موت النوم، تبدو النباتات السعيدة وكلّ مخلوقاتنا الحيوانية الكبيرة والصغيرة وحتى الصخور وكأنها تصرخ: استيقظوا، ابتهجوا، تعالوا وأحبّونا وانضمّوا إلى أغانينا!
  • هذه الأيّام الجبلية الشاسعة الهادئة تحثّ على العمل والراحة في آن! إنها أيّام يبدو كلّ شيء في ضوئها إلهيّا بنفس القدر، تفتح ألف نافذة لتُظهر لنا الله. لن يضعف أبدا أيّ شخص، مهما كان متعبا، في الطريق الذي يكتسب فيه بركات يوم جبليّ واحد. وأيّا كان مصيره، حياة طويلة أو قصيرة، عاصفة أو هادئة، فهو غنيّ إلى الأبد.
  • إن النسر المحلّق فوق جرف شديد الانحدار يذكّر بالكائنات الأخرى التي تعيش في عزلة: الغزلان في الغابة التي ترعى صغارها، والدببة القويّة ذات الفراء الجيّد، وحشد السناجب النابض بالحياة، والطيور المباركة الكبيرة والصغيرة التي تحرّك البساتين وتجّملها، وسُحب الحشرات السعيدة التي تملأ السماء بالطنين المبهج كجزء لا يتجزّأ من أشعّة الشمس الغزيرة.
  • ماذا يستطيع البشر المساكين أن يقولوا عن السُحب؟ بينما نحاول وصف قبابها الضخمة المتلألئة وتلالها وخلجانها وأوديتها المظلمة ووديانها ذات الحوافّ الريشية، فإنها تختفي دون أن تترك أيّ أنقاض مرئية. ومع ذلك، فإن هذه الجبال السماوية العابرة لا تقلّ أهميّة عن الاضطرابات الغرانيتية الأكثر ديمومة تحتها. كلاهما يتشكّلان ويموتان، وفي تقويم الله لا يوجد فرق في المدّة.


  • البحيرة مرآة مثالية تعكس السماء بنجومها والجبال بأشجارها ومنحوتاتها البديعة. وكلّ عظمتها المكرّرة والمضاعفة صورة رائعة ومؤثّرة، تبدو وكأنها تنتمي إلى السماء أكثر من الأرض. عندما نتأمّل النسيج الحريري للجداول الممتدّة فوق الجبال، نتذكّر أن كلّ شيء يتدفّق، يذهب إلى مكان ما، الحيوانات والصخور التي يُقال إنها بلا حياة، بالإضافة إلى الماء.
  • من الغريب أن يتأثّر زوّار يوساميتي قليلاً بعظمتها الجديدة، وكأن أعينهم معصوبة وآذانهم مسدودة. كان معظم من رأيتهم بالأمس ينظرون إلى أسفل وكأنهم غير مدركين تماما لأيّ شيء يدور حولهم، بينما كانت الصخور السامية تهتزّ مع نغمات المياه المتغيّرة العظيمة التي تجمّعت من جميع الجبال المحيطة، مُصدرةً موسيقى تجذب الملائكة من السماء. الربّ نفسه يبشّر بأسمى عِظاته عن الماء والحجر!
  • يبدو من المستحيل أن يتمكّن أيّ شخص من الفرار من التأثير الإلهي لهذه الغابات السرخسية المقدّسة. ومع ذلك، فقد رأيت هذا اليوم راعيا يمرّ عبر واحدة من أجمل هذه الغابات دون أن يُظهر مشاعر أكثر من مشاعر خِرافِه. الهواء هنا معطّر برائحة البلسم والراتنغ والنعناع، وكلّ نفَس منها هديّة من الربّ. وأنا واقف مثل ذبابة على قبّة يوساميتي، أنظر وأرسم وأستمتع، وغالبا ما أستسلم لإعجاب صامت دون أمل واضح في تعلّم الكثير، ولكن مع الشوق والقوّة التي تكمن في داخلي.
  • بعد أن أخبرت مرافقي أنه يجب أن يكون حريصا على ألا يقتل أيّ شيء، لفت نظري لأوّل مرّة الأرنب الصغير الذي يقطع كمّيات كبيرة من نبات الترمس والنباتات الأخرى ويتركها لتجفّ في الشمس لتُستخدم كقشّ، يخزّنها في حظائر تحت الأرض لتدوم طيلة الشتاء المثلج الطويل.
    إن رؤية هذه النباتات المقطوعة حديثا والمكدّسة في أكوام هنا وهناك على الصخور لها تأثير مذهل على الحياة المزدحمة على قمّة الجبل المنعزلة. هؤلاء، صنّاع القش الصغار الموهوبون بعقول لا تختلف كثيرا عن عقولنا، الله هنا يعتني بهم، ويا له من درس.
  • إن المرء ليشعر وكأنه في مسرحية إلهية لا تنتهي. وما أعظم الخطب والموسيقى والتمثيل والمشاهد والأضواء! الشمس والقمر والنجوم والشفق القطبي. إن الخلق بدأ للتوّ ونجمة الصباح ما تزال تغنّي وكلّ أبناء الله يصرخون فرحاً.
  • إن حوض هذا النهر الشهير في يوساميتي صخري للغاية. ويبدو أنه مرصوف بقباب تشبه الشوارع الممهّدة بقطع الحصى الكبيرة. أتساءل عمّا إذا كان سيُسمح لي باستكشافه يوما ما. إنه يجذبني بقوّة، لدرجة أنني على استعداد للتضحية بأيّ شيء لمحاولة قراءة دروسه. أشكر الله على هذه اللمحة منه. إن سحر هذه المياه الجبلية يستعصي على كلّ منطق وغامض مثل الحياة نفسها.
  • ظلال أشجار السنديان الحيّة واضحة ومميّزة بشكل خاص، وهي في غاية الأناقة والرقّة، تارةً ساكنة وكأنها مرسومة على الحجر، وتارةً تنزلق بهدوء وكأنها تخاف من الضوضاء، وتارةً ترقص وتتمايل في دوّامات سريعة ومبهجة، أو تقفز على الصخور المشمسة وتنزل منها في اندفاعات سريعة مثل تطريز الأمواج على منحدرات شاطئ البحر. كم هو حقيقي وجوهري هذا الجمال الظليل.
  • تتمتّع جبال سييرا نيڤادا بأروع طقس وألمع صخور مصقولة كالجليد وأوفر رذاذ من شلالاتها الرائعة وألمع غابات تنّوب وصنوبر فضّي وألمع نجوم وأصفى مياه. وربّما كانت أكثر بريقا من أيّ سلسلة جبلية أخرى، وبحيراتها العاكسة التي لا تُعدّ ولا تُحصى والتي يصبّ فيها المزيد من الضوء، تلتمع وتتلألأ أكثر من أيّ شيء آخر. وما أجمل اللمعان بعد زخّات المطر الصيفي القصيرة وبعد الليالي الباردة عندما تنثر شمس الصباح أشعّتها البلّورية على قمم الجبال وعلى العشب وأشجار الصنوبر.
  • بدا لي أن سييرا لا ينبغي أن تُسمّى نيڤادا أو سلسلة جبال الثلج، بل سلسلة جبال النور. وبعد عشر سنوات قضيتها في قلبها، مبتهجا ومتعجبا، مغمورا في فيضانات ضوئها المجيد ورؤية أشعّة الشمس في الصباح بين القمم الجليدية وإشراقة الظهيرة على الأشجار والصخور والثلوج، وتوهّج الجبال، وألف شلال رائع، لا تزال تبدو لي أجمل سلسلة جبال رأيتها على الإطلاق.
  • عندما تتشكّل السحب اللؤلؤية والمرمرية الرائعة لهذه العواصف في منتصف النهار، لا أهتم بأيّ شيء آخر. لا يوجد جبل أو سلسلة جبال، مهما كانت مغطّاة بالنور الإلهي، لها سحر أكثر ديمومة من تلك الجبال الهاربة من السماء.
  • كنت أسير على شواطئ بحيرة شادو عاما بعد عام دون أن أكتشف أيّ أثر آخر للإنسانية سوى بقايا نار المخيّم الهندي. ولا أشكّ في أن الوقت سيأتي عندما تُحرَث المنطقة بأكملها، ما سيؤدّي إلى ظهور مدن مزدهرة وثروات وفنون وما إلى ذلك. حينها، أفترض أنه لن يتبقّى سوى قِلّة، حتى بين العلماء، ليتأسفوا على انقراض النباتات البدائية.
  • أشعلتُ النار في جذعي صنوبر، والأشجار المجاورة تقترب من دائرتي الساحرة من النور. جذوع الأشجار تعيد ضوءها الذي جُمع ببطء من شمس مائة صيف في خلايا منقطّة وفي حبّات من صمغ العنبر. ومع تدفّق هذا الضوء، تنثال كلّ ثروات حياتها الأخرى وينظر رفاقها الأحياء إلى أسفل كما لو كانوا يشهدون موتهم المثالي والجميل.
  • ولنتذكّر أن هذه الشلالات من مياه الامطار لم تكن تدفّقات صغيرة وعابرة، بل كانت مخلوقات مائية عريضة ونبيلة وسامية في كلّ سماتها. وصخور يوساميتي الجديرة بالثناء تنطلق في رغوة كالسهام من ارتفاع يقارب ثلاثة آلاف قدم، ويمكن سماع أصغرها على بعد عدّة أميال. عاصفة مثالية من الشلالات تنبض بحياتها في أغنية واحدة مذهلة.
  • ركضتُ إلى المنزل في ضوء القمر بخطوات طويلة وثابتة، لأن حبّ الشمس جعلني قويّا. وبين أشجار العرعر والتنّوب، تتلامع بلّورات الصقيع كالنجوم في كلّ السماء أعلاها. كلّ هذا الخبز الجبليّ الضخم ليوم واحد! إنه أحد الأيّام الغنيّة الناضجة التي تطيل حياة المرء. الكثير من الشمس على جانب واحد منها، والكثير من القمر على الجانب الآخر.
  • لا يمكن لأيّ كلمات مكتوبة، مهما جُمعت معا، أن تنقل وصفا مناسبا لعظمة النهر الجليدي ونِسَبه الرائعة وشلالاته وحدائقه وزخارف الغابات والمياه الهادئة بينها والجدار الجليدي الأبيض والأزرق العظيم الممتدّ في المنتصف وقمم الجبال المكلّلة بالثلوج وراءها.
  • إنه يوم مشمس من أيّام يونيو، حيث تتمايل أشجار الصنوبر وتجد نفسك غارقا في الأعشاب والزهور. وإذا نظرت عبر الوادي والبساتين المفتوحة فسترى جدارا من الغرانيت العاري يبلغ ارتفاعه 1800 قدم يرتفع فجأة من بين النباتات الخضراء والصفراء ويسطع بأشعّة الشمس. وأمامه الخريف يلوح مثل وشاح ريشي لامع فضيّ اللون يحترق بضوء الشمس الأبيض. إنه طوفان من الهواء والماء وأشعّة الشمس نُسِج في قماش لترتديه الأرواح.
  • أثناء استيطان البلاد، كان الخبز مطلوبا أكثر من الخشب أو الجمال. وفي عمى الجوع، اعتبر المستوطنون الأوائل، الذين ادّعوا أن السماء دليلهم، أشجار الله مجرّد نوع من الأعشاب الضارّة التي يصعب التخلّص منها. وبالتالي، وبدون النظر إلى المستقبل، شنّ هؤلاء المدمّرون المتديّنون حروبا لا هوادة فيها ولا نهاية لها على الغابات.
  • كلّ المناظر الطبيعية التي في القارّة تقتل الهموم: البحيرات الجميلة المتشكّلة من الأنهار الجليدية، والجبال الشاهقة المغمورة في سماء زرقاء صافية جميلة ومغطّاة بالغابات والأنهار الجليدية، والشلالات المليئة بالطحالب والسراخس في جوفها والتي لا اسم لها ولا عدد، والحدائق المروجية التي تزخر بالأفضل من كلّ شيء. أعطِ شهرا على الأقل لهذا الاحتياطي الثمين. لن يُؤخذ وقت من مجموع حياتك. بدلاً من تقصيرها، سيطيلها إلى أجل غير مسمّى وسيجعلك خالدا حقّا.
  • الآن يأتي الغسَق، يتلاشى لمعان الجبال متحوّلا إلى ظلام ترابي قاتم. لكن لا تدع عادات مدينتك تجذبك بعيدا إلى الفندق. إبقَ على جبل النار الجميل هذا واقضِ الليل بين النجوم، وشاهد بريقها المجيد حتى الفجر. ولسوف تتذكّر هذه المناظر البرّية الجميلة وتنظر بفرح إلى تجوالك في بلاد العجائب القديمة المباركة في "يلوستون".

  • Credits
    gutenberg.org
    albertbierstadt.org

    الخميس، سبتمبر 19، 2024

    بريدجمان: الرحلة الجزائرية


    تأثّر الفنّان الأمريكي فريدريك بريدجمان كثيرا بثقافات وطبيعة الجزائر التي زارها بشكل متكرّر في أواخر القرن التاسع عشر. وغالبا ما تعكس أعماله رؤية رومانسية لطبيعة شمال إفريقيا، بالتقاطها التفاعل الفريد بين الضوء والظلّ الذي يميّز المنطقة.
    وقد اتّسمت الفترة التي قضاها بريدجمان في الجزائر بتحوّلات تاريخية وثقافية كبيرة. إذ كانت البلاد واقعة تحت الحكم الفرنسي منذ عام 1830، مع ما نتج عن ذلك من تغييرات ديموغرافية واجتماعية وسياسية كبيرة. وقد سّافر الرسّام على نطاق واسع في الجزائر وتوفّرت له تجارب مباشرة أثّرت على فنّه. وغالبا ما تصوّر لوحاته الحياة المحلية والهندسة المعمارية والبيئة الطبيعية وما الى ذلك.
    كان وقت بريدجمان في الجزائر مزيجا من الاستكشاف الفنّي والتفاعل الثقافي وتأثيرات الاستعمار. وهو نفسه كان جزءا من الحركة الاستشراقية الأوسع، حيث صوّر الفنّانون الغربيون موضوعات ترتبط بثقافات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
    أعمال بريدجمان الجزائرية ساعدت في ترسيخ مكانته كشخصية بارزة في الفنّ الأمريكي وكمفسّر مهم لبيئات شمال أفريقيا في الفنّ الغربي. وبشكل عام، أثّرت تجربته في الجزائر على ممارسته الفنيّة وشكّلت حياته المهنية، ما سمح له بإنشاء أعمال ثريّة بصريّا وذات صدى ثقافي واضح.
    وقد ألّف بريدجمان كتابا لخّص فيه بعض جوانب تجربته في الجزائر وتناول بعض مشاهداته وانطباعاته أثناء زياراته لذلك البلد. هنا فقرات مترجمة من الكتاب..

    ❉ ❉ ❉

  • مهما كان شكل البيت العربي، لابدّ أن يتضمّن فناءً مربّعا، وفي بعض الأحيان يكون هناك نافورة في الوسط وأعمدة تحيط بالفناء وتدعم الأعمدة الأصغر، عمود واحد في كلّ زاوية وبينها درابزين مزخرف. الطابق العلوي على شكل أقواس حدوة الحصان، ويتكرّر نفس العدد من الأعمدة والأقواس لدعم السقف، ثم تُبنى الغرف بكلّ الأشكال التي يمكن تصوّرها لتناسب راحة المالك وتضمن الاستفادة القصوى من كلّ شبر من الأرض.
  • عندما استأجرنا غرفنا في الفندق، لفت انتباهنا مجموعة من العرب في ساحة الأسلحة الواسعة المفتوحة والمزروعة بالأشجار والتي تقع قبالة نوافذنا. وأمام محلّ الجِزارة العربي، بجوار مقهى، كان قد سُلخ أسدان قُتلا مؤخّرا في الجوار ونُظّف وقُشّر جلداهما اللذان كانا ما يزالان ساخنين. ومن المؤسف أن جثّتيهما قُطّعتا، وإلا لكانت فرصة نادرة لدراسة علم تشريحيهما. ومنذ الاحتلال الفرنسي للجزائر، اختفت الأسود وغيرها من الوحوش الشرسة تقريبا. ولا تزال المنطقة محاطة بالغابات والتلال حيث يمكن رؤية معظم الأسود وصيدها.
  • يشكّل بنو مْزَاب، أو المْزابيون، مجموعة إثنية منفصلة تقيم شمال الصحراء الكبرى بولاية غرداية. وهم أمازيغ من عشيرة زناتة ومسلمون على المذهب الإباضي. وتواجدهم في تلك المنطقة يعود إلى العصر الحجري. والمزابيون من صنّاع المال ويمارسون التجارة على نطاق واسع في جميع أنحاء المستعمرة. والعرب الآخرون ينفرون منهم بقدر ما ينفرون من اليهود بسبب ادّخارهم واجتهادهم. وهم يرتدون زيّا مختلفا، عبارة عن ثوب واحد يسمى القندورة، وهو مربّع الشكل بلا أكمام ويصل إلى الركبتين، مع فتحتين كبيرتين للذراعين وفتحة واحدة للرأس.
  • وطموح المزابي هو أن يصبح ثريّاً وأن يعود إلى موطنه الأصلي الذي يقع على بعد أكثر من مائة ميل ويمثّل في حد ذاته نهاية كلّ شيء. ويتطلّب الوصول اليه رحلة شاقّة تستغرق أربعة أو خمسة أيّام في الصحراء. والبلد الذي يتوق المزابي إلى الوصول إليه ويأمل أن ينهي أيّامه فيه هو واحد من أغرب المناطق على وجه الأرض. فهو أكثر بقاع الصحراء جفافاً واحتراقاً، وتحيط به واحة تشبه شبكة هائلة من الصخور وقشور الكهوف السوداء. ويبدو المكان بعيداً للغاية وطموح المزابيين غير مبرّر إلى الحدّ الذي يجعل المرء يتذكّر حكايات ألف ليلة وليلة.


  • عندما ذهبت لزيارة صديقنا بلقاسم وعائلته في بيتهم، كان المطر يتدفّق غزيرا في الفناء المفتوح لمسكنه. وكان أطفاله الخمسة يقفون على أقدامهم العارية مثل الدجاج المبلّل الحزين. وكانت أمّهم تحمل طفلا رضيعا بين ذراعيها. منازل الطبقات الدنيا من اليهود، مثل بلقاسم، متواضعة عموما. حتى الأرضيات والجدران المصنوعة من البلاط المزجّج، والتي يسهل غسلها، تختفي تماما تحت الأوساخ المتراكمة.
    والفوضى في غرف المعيشة لا يمكن وصفها. والتعويض عن هذا العنصر المثير للتعاطف هو استقبال الغرباء بأدب والسماح للفنّانين برسم اسكتشات في أيّ جزء من مساكنهم والتي تختلف قليلاً عن البيوت العربية. وقد جرت العادة أن تُترك الأبواب مفتوحة على مصاريعها وأن تعيش عدّة عائلات في غرف مختلفة تطلّ على الفناء.
  • رأينا جماعة من الناس يقومون بالعديد من حيل السحر التي تُسعد الناظرين، كالوقوف والاستلقاء على حدّ السيف وحمل الجمر المشتعل في أفواههم وحرق وجوههم وأذرعهم الى أن تنبعث منها رائحة اللحم. وأخيرا الحيلة "إن جاز أن نسمّيها حيلة"، وهي التهام أرنب حيّ بشعره ولحمه. ويشارك في هذه الوجبة الفاخرة عربيّان يعضّان الحيوان المسكين بشكل محموم مثل الذئاب ويمزّقانه بأسنانهما وأيديهما وفمهما وأصابعهما التي تفوح منها رائحة دماء الأرنب الساخنة، والذي لا يزال يحاول عبثاً الفرار من بين أيديهما.
  • كان العرب من ذوي الدخل المتوسّط الذين لم يكن بوسعهم شراء فيلات وحدائق كبيرة، يُسكنون زوجاتهم في غرف صغيرة في المدينة. وبسبب دوافع الغيرة أو العيب، لا يُسمح للنساء برؤية ضوء الشارع المفتوح. وبسبب افتقارهنّ إلى التمارين الرياضية، أصبحن بديناتٍ إلى الحدّ الذي جعلهنّ لا يستطعن التحرّك إلا بصعوبة بالغة. وتُعَد السمنة من مظاهر الجمال عند العرب. لكن بصرف النظر عن ذلك، فقد كانت النساء يعانين من عدد من الأمراض والأسقام الناجمة عن الحبس الضيّق.
  • أدرنا ظهورنا للمناظر الطبيعية الجبلية ودرجات الحرارة، وانغمسنا في النباتات الاستوائية. كانت أشجار اللوز والبرتقال والليمون تحيط بالفندق الذي استُقبلنا فيه لتناول الإفطار. لكن الإحساس الذي تغلّب حتى على جوعنا كان متعة تمديد أجسادنا التي أُنهكت لطول ما حُشرنا داخل عربة ضيّقة وعلى وسائد جلدية غير مريحة. ركضنا في ضوء الشمس الساطع ورأينا بحرا من أشجار النخيل التي تشكّل كتلة خضراء داكنة تسرّ العين، وقد أحاطت بالصحراء الصخرية التي تنوء تحت درجة حرارة لاهبة.
  • كانت الأيّام الأولى من شهر مايو تُنذر بدرجة حرارة الصيف المرهقة التي بدأت في إضعاف طاقاتنا واجتهادنا بعد ما عانيناه من ضيق وتعب خلال الشهرين الماضيين. ولكننا كنّا متردّدين في ترك الحياة الهادئة السهلة في الصحراء، متأثّرين بمثال العرب في التمتّع بالوجود ورعاية أنفسهم. فطوينا أدوات الرسم، وفي الساعة الثانية صباحا، وهو وقت تكون فيه الحرارة خانقة بالفعل، أدرنا ظهورنا للواحة النائمة وبدأنا في تسلّق الطريق الطويل إلى جانب الجبل بصعوبة.
  • أبدى فنّان مشهور وصاحب مقهى معروف بكونه ملاذا لمدخّني الحشيش اهتماما معيّنا باسكتشاتي، لكنه أكّد لي أن جهوده في الرسم كانت مصحوبة بصعوبات أكبر بكثير من تلك التي مررت بها، بينما لفت انتباهي إلى نتاجاته الأخيرة على الجدران البيضاء. كان كلّ شيء مرتّبا لإسعاد المدخّنين: حصائر جديدة وطاولات صغيرة عليها جرار زجاجية زرقاء كبيرة تحتوي على ماء وأسماك ذهبية، وأوانٍ ذات أشكال مختلفة مملوءة بالزهور والنباتات، وأعمدة محاطة بشرائط وورق ملوّن مقصوص بتصاميم خيالية.
  • في بداية شهر رمضان كانت الأمسيات تغري السكّان بالخروج من منازلهم وكانت المقاهي تكتظّ بالرجال الذين وضعوا برانيسهم جانباً أو تركوها في المنزل، والذين كانوا يدخّنون ويغنّون ويصفّقون للموسيقيين والراقصين. وكان الأخيرون من الصبية أو النساء الذين يؤدّون عروضاً في الجزء الخلفي من المقاهي المضاء بشكل غريب. وكان قد أُعيد تزيين هذه المنتجعات بلوحات بدائية للسفن والقاطرات والأسود والطيور للاحتفال الكبير بشهر رمضان الذي بدأ للتوّ.

  • Credits
    frederickarthurbridgman.org
    archive.org

    الثلاثاء، سبتمبر 17، 2024

    إطلالة على عالم بورخيس


    كان خورخي لويس بورخيس (1899 - 1986) أحد أبرز كتّاب أمريكا اللاتينية وأحد أهم الرواة والشعراء في القرن العشرين والكاتب الأرجنتينيّ الأكثر عالميةً.
    "كتاب الرّمل" كان أوّل ما قرأت له، ثم كتاب "الأَلِف وقصص أخرى". وقد دهشت للغته وسرده البديع ومزجه الرائع بين الخيال والفلسفة والسوريالية وما يُسمّى بالواقعية السحرية. وفيما بعد توسّعت قراءتي له بعض الشيء، وصرت أتابع مقابلاته (وبعضها ذات قيمة أدبية كبيرة)، وتوقّفت عند أحاديثه عن الذاكرة وطبيعة الواقع والأحلام والزمن، وكذلك رؤاه المدهشة والمبثوثة في كتاباته عن دلالات المرايا والممرّات والمتاهات الأدبية. وأعجبني خاصّة تأثّره الواضح بالأدب العربي، وخاصّة كتاب ألف ليلة.
    من الأفكار التي كان بورخيس مفتونا بها فكرة التكرار الدائري للتاريخ والطبيعة الهذيانية للعالم. كتب ذات مرّة يقول:
    في مرحلة ما من الماضي أو المستقبل، سأولد من نفس الوالدين مرّة أخرى. وسيُمسك والدي بيدي مرّة أخرى بينما نتجوّل في سوق الأزهار. وسيعلّمني زوج أمّي كيف أشكّل قلائد من الخرَز بينما نجلس على سجّادة بيضاء. وستأخذني أمّي مرّة أخرى إلى أماكن بعيدة كلّ صيف وننطلق إلى الصحراء على حصان عربيّ أسود.
    سأكره المدرسة مرّة أخرى، وسأرسب في كلّ الموادّ الدراسية مرّة أخرى، وسأتعرّض للخيانة من قبل أعزّ أصدقائي. سيدخل كلب إلى حياتي وسأسمّيه "جوي" ولن أحبّ كلبا آخر بهذه الطريقة مرّة أخرى.
    سأشتري طاولة زرقاء صغيرة لأعمل عليها، وأفعل مرّة أخرى كلّ الأشياء التي أقسمت أنني لن أفعلها أبدا وأترك كلّ شيء من أجل الحب. سأجد طريقي إلى كاليفورنيا وأقرّر بألم وبلا هوادة أنها وطني."
    ويكتب في نصّ آخر:
    لا يوجد شيء أستطيع كتابته لم يُكتَب من قبل. ولا شيء أستطيع طهيه أو أكله أو فعله أو قوله أو حتى التفكير فيه. الأمر لا يقتصر على أن كلّ هذا قد تمّ، بل إنني أخشى أن يكون كلّ هذا قد تمّ من قِبَلي، من قِبَل نسخ سابقة منّي. فأنا لست حتى النسخة الأصلية".
    عندما كان بورخيس في الخامسة عشرة من عمره، اضطرّ والده إلى التقاعد بسبب ضعف بصره، وانتقلت الأسرة إلى جنيف حتى يتمكّن والده من استشارة طبيب عيون. وفي جنيف اكتشف بورخيس الأدب الرمزي الفرنسي وشوبنهاور ووالت ويتمان، بل وكوّن بعض الصداقات الأدبية. وعندما بلغ العشرين من عمره، عادت الأسرة إلى بوينس آيرس، ونُشرت مجموعته الأولى بعد بضع سنوات.
    وبعد فترة، تبيّن أن العمى الذي أصاب والده كان وراثيّا. وفي العشرينات من عمره، خضع بورخيس لأوّل عملية جراحية من بين عمليات عديدة لإزالة إعتام عدسة العين، لكن لم تنجح أيّ منها. وبحلول ذلك الوقت كان قد فقد بصره تماما، ومن هنا جاء تعليقه: أتحدّث عن سخرية الله الرائعة عندما منحني في وقت ما 800 ألف كتاب والظلام."
    كانت إصابة بورخيس بالعمى أحد الأسباب التي دفعته للعودة إلى الشعر، وهو الشكل الذي يسهل تأليفه بالكامل في الرأس والاحتفاظ به في الذاكرة. وفي مقابلة معه قال: هناك تطهير في العمى. إنه يطهّر المرء من الظروف المرئية. تضيع الظروف، ويصبح العالم الخارجي - الذي يحاول دائما الاستيلاء علينا - أضعف."
    بعد انتخاب خوان بيرون رئيسا للأرجنتين عام 1946، عُيِّن بورخيس "مفتشاً للدواجن والأرانب!" في الأسواق العامّة، عقابا له على سلسلة المقالات السياسية التي كان يكتبها في انتقاد صعود الفاشيّة. كان ليبرالياً مناهضاً للفاشية، ولكنه كان أيضا مناهضاً للشيوعية. وسرعان ما طُرد من وظيفته. وقد قال واصفا ما حدث: إن الدكتاتوريات تشجّع على الخضوع وعلى القسوة. والأمر الأكثر بشاعةً أنها تشجّع على الغباء. ومحاربة هذه الرتابة الحزينة هي واحدة من الواجبات العديدة التي تقع على عاتق الكتّاب".
    كان بورخيس معجبا كثيرا بالمرايا وخائفا منها في نفس الوقت. وربّما من المستحيل تحديد سبب واحد وراء هذا. وقد ذكر أكثر من مرّة أنه كان مهتمّا بالمرايا منذ صغره. يقول: هناك شيء فظيع في المرايا. في إحدى قصص إدغار آلان بو، يصل البطل إلى المنطقة القطبية الجنوبية، حيث يوجد أشخاص يرون أنفسهم في المرآة ثم يُغمى عليهم. أي أنهم يدركون أن المرآة شيء رهيب. ولا شكّ أن "بو" شعر هو بذلك لأن له مقالا يتحدّث فيه عن كيفية تزيين الغرفة وتجنّب وضع مرايا فيها بطريقة تجعل الشخص الجالس يبدو مكرّرا".
    ولبورخيس قصيدة عنوانها "المرايا" يقول فيها: أنا الذي شعرت برعب المرايا، أسأل نفسي ما هو القدَر الذي جعلني خائفا جدّا من المرآة اللامعة. لقد خلق الله الليل وزوّده بالأحلام والمرايا، ليجعل الإنسان يدرك أنه مجرّد انعكاس وغرور، ومن هنا ربّما جاءت هذه المخاوف".
    ذات مّرة زاره صحفيّ ليجري معه مقابلة. ووصفه بقوله: عندما يدخل بورخيس المكتبة، مرتدياً قبّعة وبدلة رمادية داكنة تتدلّى بشكل فضفاض من كتفيه، يتوقّف الجميع عن الحديث للحظة، ربّما من باب الاحترام، أو من باب التعاطف مع رجل شبه أعمى.
    مشيته متردّدة، ويحمل عصا يستخدمها مثل عصا العرّافة. ملامحه غامضة خفّفها تقدّم العمر ومحاها جزئياً شحوب بشرته. صوته غير واثق، أشبه ما يكون بالطنين، إيماءاته وتعبيراته خاملة، وجفنه متدلٍ لا إراديّاً. ولكن عندما يضحك، وكثيرا ما يفعل، تتجعّد ملامحه إلى ما يشبه علامة استفهام ساخرة.
    ويضيف: بورخيس يتميّز بفصاحته وأسلوبه المميّز في الكلام. وتتخذ أغلب عباراته شكل أسئلة بلاغية. ولكن عندما يطرح سؤالاً حقيقياً، فإنه يُظهِر فضولاً شديدا ثم عدم تصديق مثيرا للشفقة.
    لكن بورخيس خجول في المقام الأوّل. فهو منعزل ويتجنّب التصريحات الشخصية قدر الإمكان ويجيب بطريقة غير مباشرة على الأسئلة التي تدور حول نفسه بالحديث عن كتّاب آخرين، مستخدماً كلماتهم وكتبهم كرموز لفكره هو".


    هناك روائيون تتردّد في كتاباتهم أصداء من بورخيس، من حيث التشابه في الأسلوب وفي تناول نفس الموضوعات، كالخيال الميتافيزيقي والبُنى السردية المبتكرة والمزج بين الخيال التاريخي والسرد المعقّد والموضوعات الفكرية واستكشاف الذاكرة والحالة الإنسانية والأفكار الوجودية والعبثية. ومن أهم هؤلاء غارسيا ماركيز وإيتالو كالفينو وخوليو كورتازار وفرانز كافكا وأومبرتو إيكو وغيرهم.
    قضى بورخيس جزءاً كبيراً من شبابه في جنيف، ثم عاد إليها في نهاية حياته. وفي يونيو 1986، توفّي عن عمر يناهز 86 عاما بعد إصابته بسرطان الكبد، ودُفن في مقبرة الملوك في جنيف.
    الفقرات التالية هي عبارة عن مجموعة مختارة من بعض عبارات بورخيس المستقاة من كتبه ومن الحوارات والمقابلات التي أجريت معه في أوقات متفرّقة وضمّنها بعض تصوّراته وأفكاره عن الأدب والفنّ والحياة..

  • باستثناء الإنسان، كلّ المخلوقات خالدة، لأنها تجهل الموت.
  • لا أتحدّث عن الانتقام أو التسامح، فالنسيان هو الانتقام الوحيد والغفران الأوحد.
  • ارتكبت أسوأ خطيئة يمكن أن يرتكبها المرء. لم أكن سعيدا.
  • هذا العالم غريب جدّا لدرجة أن أيّ شيء يمكن أن يحدث أو لا يحدث. كوني "لاأدريّا" يجعلني أعيش في عالم أكبر وأكثر روعة وغموضا تقريبا، ويجعلني أكثر تسامحا.
  • لست متأكّداً من أيّ شيء، لا أعرف أيّ شيء. هل يمكنك أن تتخيّل أنني لا أعرف حتى تاريخ وفاتي؟!
  • كلّ ما يحدث لنا، حتى إذلالنا ومصائبنا وعارنا، كلّ شيء إنّما يُعطى لنا كمادّة خام مثل الطين، حتى نتمكّن من تشكيل فنّنا.
  • نحن نقبل الواقع بسهولة، ربّما لأننا نشعر أنه لا يوجد شيء حقيقي.
  • ليفتخر الآخرون بعدد الصفحات التي كتبوها. أنا أفضّل التباهي بما قرأته.
  • لست متأكّدا من وجودي في الواقع. أنا كلّ الكتّاب الذين قرأتهم، وكلّ الأشخاص الذين قابلتهم، وكلّ النساء اللاتي أحببتهن، وكلّ المدن التي زرتها. كلّ ما نواجهه طوال حياتنا ينتهي به الأمر إلى أن يصبح جزءا منّا.
  • الأبوّة والمرايا مكروهة لأنهما تُضاعفان عدد البشر.
  • ما تقدّره حقا هو ما تفتقده، وليس ما لديك.
  • في حياتي القادمة سأحاول ارتكاب المزيد من الأخطاء.
  • الشعراء مثل العميان يستطيعون الرؤية في الظلام.
  • أسوأ متاهة ليست ذلك الشكل المعقّد الذي يمكن أن يحاصرنا إلى الأبد، بل هو خطّ مستقيم واحد ودقيق.
  • عندما يموت الكتّاب يصبحون كُتبا، وهذا في نهاية المطاف ليس تجسيدا سيّئا.
  • إن كنتُ غنيّا بشيء، فبالحيرة لا باليقين.
  • لقد وقّعت على العديد من النسخ من كتبي. وفي اليوم الذي أموت فيه، ستكون للنسخ التي لا تحمل توقيعي قيمة أكبر.
  • عليك أن تكون حذرا عند اختيار أعدائك، لأنك في النهاية ستشبههم.
  • نحن ذاكرتنا، ذلك المتحف الوهمي للأشكال المتقلّبة، تلك الكومة من المرايا المكسورة.
  • الموت هو الحياة التي نعيشها. والحياة هي الموت الذي يأتي.
  • دع كلّ رجل يبني كاتدرائيته الخاصّة. لماذا نعيش على أعمال الآخرين وعلى الأعمال الفنّية القديمة؟
  • عادة البحث عن المعنى في الكتب هي عادة خرافية وعبثية، تشبه البحث عن المعنى في الأحلام أو في الخطوط الفوضوية للأيدي.
  • هناك هزائم أكثر كرامة من النصر.
  • هناك من لا يستطيع أن يتخيّل عالماً بلا طيور، وهناك من لا يستطيع أن يتخيّل عالماً بلا ماء. أما أنا فلا أستطيع أن أتخيّل عالماً بلا كتب.
  • لطالما تخيّلت الجنّة على هيئة مكتبة.
  • رأيت كلّ مرايا الأرض ولم يعكسني أيّ منها.
  • لا يوجد شيء في العالم ليس غامضا. ولكن الغموض يظهر في أشياء معيّنة أكثر من أخرى: في البحر، في عيون المسنّين، في اللون الأصفر وفي الموسيقى.
  • ننسى أننا جميعا أموات نتحدّث مع أموات.
  • كرة القدم تحظى بشعبية لأن الغباء شائع.
  • الحقيقة المركزية في حياتي كانت وجود الكلمات وإمكانية نسج تلك الكلمات وتحويلها الى شعر.
  • لا أستطيع أن أسير في الضواحي في عزلة الليل دون أن أفكّر في أن الليل يسعدنا لأنه يقمع التفاصيل الخاملة، كما تفعل ذاكرتنا.
  • أنا قارئ مستمتع، ولم يسبق لي أن قرأت كتابا لمجرّد أنه قديم. أقرأ الكتب لما تقدّمه لي من مشاعر جمالية وأتجاهل التعليقات والانتقادات.
  • أودّ أن أكون كاتبا آخر غير بورخيس. فأنا لا أحبّ ما أكتب. ولو كنت أكثر حذرا لقرأت أكثر ولما أرتكبت حماقة الكتابة.
  • من بين جميع أدوات الإنسان، الأداة الأكثر روعةً هي بلا شك الكتاب. أما الأدوات الأخرى فهي امتدادات لجسده. فالمجهر والتلسكوب هما امتدادان لبصره. والهاتف امتداد لصوته، ومن ثم لجسده. والمحراث والسيف امتدادان لذراعه. لكن الكتاب شيء آخر مختلف، الكتاب امتداد للذاكرة والخيال.
  • لم أقرأ كتابا واحدا من كتبي، ولا كتابا واحدا كُتب عنّي. ولو أعدت قراءة أعمالي، فقد أشعر بالإحباط.
  • إزرع حديقتك الخاصّة وزيّن روحك بدلاً من انتظار شخص ما ليحضر لك الزهور.
  • المستقبل لا مفرّ منه، لكنه قد لا يحدث. الله يكمن في الفجوات.
  • هل نحن جميعا عالقون في تعلّم نفس الدروس حتى بعد أن تعلّمناها، ومضطرون إلى التسامح مع نفس الأشخاص الذين لن نفهمهم أبدا، ومعتادون على أن نسافر إلى نفس الأماكن كما لو كانت أماكن جديدة؟!
  • لا أشرب الخمر ولا أدخّن ولا أستمع إلى الراديو ولا أتعاطى المخدّرات. أودّ أن أقول إن رذائلي الوحيدة هي دون كيشوت والكوميديا الإلهية.
  • كان والدي يعتقد أن علم النفس علم تافه للغاية. لا أفهم الأشخاص الذين يزعمون أنهم أتقنوا علم النفس. وأشعر بالشفقة عليهم لاهتمامهم بذواتهم إلى هذا الحدّ وبتحليل أنفسهم. أنا بالكاد أعرف نفسي، لا أحد يعرفني.
  • الشعر الجيّد لا يجوز أن يُقرأ بصوت منخفض أو بصمت.
  • ليست هناك حاجة لبناء متاهة عندما يكون الكون بأكمله متاهة.

  • Credits
    borges.pitt.edu