:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، ديسمبر 07، 2024

الرحلة الخيالية للإسكندر


مرّت قصّة وشخصية الإسكندر الأكبر بالكثير من التحوّلات في النصوص الشعرية والنثرية الشرقية على مدى ألف عام. وأكثر ما يلفت الانتباه في الأعمال المختلفة التي تناولت الموضوع هو مسار الرحلة الخيالي للبطل، أي الاسكندر، وخاصّة فيما يتعلّق بعلاقاته بالملكات من النساء اللاتي التقاهنّ أثناء حملاته العسكرية.
وأقدم معالجة شعرية معروفة للقصّة هي ملحمة الشاهنامة للفردوسي التي كُتبت حوالي عام 1010 م، ويظهر فيها الإسكندر ضمن سلسلة الملوك الإيرانيين القدماء. وعلى ما يبدو فإن مؤلّفي الروايات اللاحقة كانوا على دراية بعمل الفردوسي، لكنهم صوّروا شخصية الإسكندر بحرّية فنّية أكبر. وعلى رأس هؤلاء يأتي الشاعر نظامي في كتابه "اسكندرنامه"، أو كتاب الاسكندر (1202)، وهو مزيج من الملحمة والرواية الرومانسية.
ونظامي هو أحد أبرز شخصيات الشعر المكتوب بالفارسية. وقد عاش في أذربيجان في النصف الثاني من القرن الثاني عشر واشتهر بأنه شاعر صعب ومصقول، وشعره يتضمّن مفردات وتعبيرات وإشارات إلى العلوم المعروفة آنذاك. وفي كتابه عن الاسكندر، يصف نظامي مغامرات ومعارك القائد اليوناني أثناء سفره إلى نهاية العالم. وهو يقدّمه كبطل إسلامي، على غرار ما فعله كتّاب آخرون مثل أمير خسرو دهلوي وعبد الرحمن جامي.
والإسكندر في كتاب نظامي ينتقل بسهولة من كشمير، حيث يتزوّج ابنة الملك ماهافرين، إلى سيلان ثم إلى مكّة واليمن ومصر والأندلس والصين. ويصف النصف الثاني من الكتاب المزيد من المغامرات الخيالية مع المخلوقات الأسطورية وأوصاف العجائب. ويخصّص المؤلّف جزءا لا بأس به من السرد للحديث عن صراع الإسكندر مع "أراكيت" ملكة الفرس وزواجه منها لاحقاً.
ثم يتحدّث نظامي بتفصيل أكثر عن "نوشابا"، ملكة أرض "باردا" القوقازية، التي التقاها الاسكندر وهو في طريقه إلى بلاد الظلام. في البداية يصف الشاعر "باردا" بأنها جنّة أرضية وتبدو وكأنها معبد للأصنام. ويقارنها بـ "هاروم" أرض الأمازونيات في نصّ الفردوسي. ويسمع الإسكندر عن الملكة وأسلوب حياة أهل تلك الأرض وجميعهم من النساء الجميلات العفيفات.
ويقرّر الإسكندر أن يسير بجيشه إلى الملكة ليطلب منها أن تدعم حملاته. ويقيم له مخيّما بالقرب من أرضها. وعندما تعلم "نوشابا" عن مجيئه تبعث له بهدايا، ما يثير فضوله لاكتشاف سرّ هذه المرأة ومكانها الأسطوري. ثم يتخفّى على هيئة رسول من الاسكندر ويعِدّ نفسه كما يفعل الرسل ويتوجّه إليها في مكانها.
عندما علمت "نوشابا" عن وصول رسول الاسكندر الى مملكتها، زيّنت البلاط والطريق المؤدّي إليه وصفّت الفتيات المزيّنات بمختلف أنواع الزينة، ثم أمرت بإدخال الرسول عليها. فدخل الاسكندر وهو في هيئته المتنكّرة تلك واتجه كالأسد الهصور نحو عرشها، دون أن يخلع سيفه أو ينحني كما يفعل الرسل، ما دفع الملكة للشكّ في أمره.
كان من عادة "نوشابا" أن تحتفظ بصور العظماء. وعندما سمعت عن الإسكندر وشجاعته وفتوحاته وانتصاراته في الحروب وميله إلى الإصلاح، كلّفت أحد رسّاميها ليرسم له صورة تكون ضمن كنزها من الصور الشخصية. وكانت تلك الصورة عندها. فاستمهلت الرسول لبعض الوقت، ثم أحضرت الصورة وأخذت تقارنها بملامح وجهه، وتأكّدت أخيرا أنه الإسكندر. ثم صارحته بما في نفسها فأنكر. فأرته صورته، ولمّا رآها خاف واصفرّ لونه ووقع في حرج.


وعندما عرفت "نوشابا" أن الرجل القويّ قد خاف، تلطّفتْ معه وقالت له: أيّها الملك الشجاع! كم أحدث الدهر مثل هذه الحيل! أرجو ألا تفكّر في شيء، واعلم أن صداقتي لك أكثر من أيّ شيء آخر، وأن هذا المنزل منزلك وأنّي لك جارية مطيعة وخادمة منقادة، سواءً في ديارك أو في دياري".
ثم طلبت أن تقام للاسكندر وليمة على شرفه، ودعته للجلوس بجانبها على عرش من الذهب يحيط بهما خدم وموسيقيون. وأسرّت الى خدمها بأن يعدّوا للضيف مأدبة كبيرة عبارة عن أطباق من الأحجار الثمينة بدلاً من الطعام الحقيقي. وعندما اكتشف الاسكندر ذلك وقع في حيرة من تصرّف الملكة، فضحكت وسألته بدهاء: لماذا لا تأكل ما قضيتَ حياتك كلّها في السعي وراءه؟!" ويفاجأ الإسكندر بذكاء الملكة فيمتدحها ويثني على حكمتها.
وبعد أن انتهى الاسكندر وحاشيته من تناول طعام حقيقي، أهدته الملكة الكثير من الهدايا القيّمة والعظيمة، وانصرف الاسكندر من عندها شاكرا مسرورا. ثم سار باتجاه جبال البرز، بينما كان رجاله يحملون هداياه معهم ويسيرون ببطء لكثرة ما كان معهم من الجواهر والذهب إلى أن شعروا بالمشقّة والتعب. فشاور الإسكندر أصحابه في أمر تلك الهدايا، فأشاروا عليه بدفنها تحت الأرض وإقامة طلسم عليها كعلامة.
وواصل الاسكندر سيره حتى فتحَ قلعة دربند وأجلسه الأهالي على عرش كسرى ونثروا الأموال تحت قدميه وقدّموا له خمر الظفر في الكأس التي كان الملوك القدماء يشربون فيها الخمر.
ثم ذهب إلى الهند عن طريق خراسان، وكان ملكها قد قرأ رسالته، فأرسل إليه الهدايا، على أن يتعهّد له بعدم الإغارة على بلاده. وكانت الهدايا أربعاً ذكرها نظامي على لسان الملك: أبعثُ ابنتي إليك وهي فتاة جميلة كالشمس المشرقة وكالقمر المنير، وأرسلُ كأسا من الشراب نادر الوجود لا ينقص الشرب منه شيئا، وأبعثُ اليك فيلسوفا يحلّ شتّى المعضلات، وطبيبا عاقلا بارعا يجعل المرضى أصحّاء". ويقبل الإسكندر الهدايا ويتعاهد مع الملك، ثم يسير من الهند إلى التبت ومنها إلى أقاصي الصين.
وفي الطريق، أتى الاسكندرَ رسل من أرمينيا وأخبروه بأن الروس قد هجموا على أرض "نوشابا" فحطّموا ملكها وأسروها. فقرّر الانطلاق في حملة كبرى ضدّ الروس ودارت بين الجانبين سبع معارك انتهت بانتصار الإسكندر. وقد هُزِم الروس وقُتل منهم خلق كثير.
ونظامي يُجمِل نتيجة تلك الحرب بقوله: أمعنَ جيش الإسكندر في الروس قتلا وشنقا وأسراً. وخلّص الإسكندر "نوشابا" من الأسر وأعاد مملكتها إليها. وفي خطوة غريبة زوّجها إلى ملك أبخازيا وودّع الاثنين مشفوعين ببركاته. وقد غنم الاسكندر من تلك الحرب مغانم كثيرة وعلم أنه أصبح قريباً من بلاد الظلام، حيث يوجد ماء الحياة، فسُرّ بذلك وأظهر الكثير من الفرح والغبطة.
ثم سار في الظلام باحثا مع الخِضر عن ماء الخلود. وعندما وجد الخضر عين الماء، نزل وخلع ملابسه واستحمّ في مائها وشرب منه بقدر ما استطاع، فأصبح جديراً بالحياة الأبدية. أمّا الإسكندر فقد تاه في الطريق وظلّ يبحث عن الخِضر والعين أربعين يوماً، فلم يعثر لهما على أثر. وسمع في الظلمة هاتفاً يدعوه للعودة فعاد. ولمّا وصل إلى بلاد اليونان، كان قد حصل على مفتاح السعادة، لأنه أفاد من رحلته علما كثيراً وفُتح له باب الحكمة الإلهية.

Credits
nizamiganjavi-ic.org/en
blogs.bl.uk

الأربعاء، ديسمبر 04، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • لورانس ألما تاديما رسّام هولندي الأصل، استقرّ في انغلترا بدءا من عام 1870 وحصل هو وعائلته على وضع المواطنة ومُنحوا حقوقا قانونية كمستوطنين هولنديين. ومعظم لوحاته هي لأشخاص يجلسون في ديكور رخامي أو أمام الزرقة الغميقة لمياه وسماء البحر المتوسّط. وبسبب كثرة الرخام في صوره لُقب تاديما بالرسّام الرخامي.
    كان الرسّام منذ بداياته مهتمّا خاصّة بالدقّة المعمارية، وقد جمعَ كثيرا من الصور الفوتوغرافية لمواقع قديمة في انغلترا وإيطاليا ليستخدمها في لوحاته. وكان يرسم غالبا من الطبيعة ويستخدم الأزهار الطازجة ويضمّنها في صوره قبل ذبولها، ما دفعَ الكثيرين لوصفه بالمتفذلك.
    في حياته، لم ينل ألما تاديما تقديرا يُذكر، غالبا بسبب أسلوبه الأكاديمي وتركيزه على العصور القديمة وتمسّكه بالتقاليد في وقت بدأت فيه مدارس الفنّ الحديث في الظهور. وبدءا من النصف الأوّل من القرن العشرين، احتلّت الانطباعية والوحشية والتعبيرية والتكعيبية والتجريدية والمستقبلية مركز الصدارة في عالم الرسم. وفي نفس الوقت فقدت أعمال ألما تاديما شعبيّتها وصِلتها بالواقع.
    وكان الناقد جون راسكين قد وصف تاديما بأنه "أسوأ رسّام في القرن التاسع عشر!"، بينما قال ناقد آخر إن لوحاته لا تصلح سوى "لتزيين علب الحلوى"! ثم أصبح وجود لوحة لهذا الرسّام في منزل شخص مثارا للسخرية، وصارت صوره توصف بالفنّ الرخيص.
    وعندما بيعت احدى لوحاته في الستّينات، لم تحقّق أكثر من 350 دولار، أي أقلّ من قيمة القماش والألوان التي دُفعت لرسمها. ويعزو البعض تناقص حظوظ الفنّان الى اختلاف الاذواق وافتقار لوحاته الى العمق وإغراقها في العاطفية والمثالية وتركيزها على الزخرفة، رغم الجمال البصريّ لبعضها.
    وبعد وفاته، نُسي اسم ألما تاديما تماما تقريبا. ومع ذلك أُعجبت به هوليوود لاهتمامه بالتفاصيل، وظهرت بعض لوحاته في عدد من أشهر الأفلام مثل غلادييتور "المصارع" و"كليوباترا" و"الوصايا العشر" وغيرها.
    في الماضي، أي زمن ألما تاديما ومعاصريه من الرسّامين، كان للفنّ وظائف مختلفة، كالتعليم والترفيه وكسب رضا الكنيسة والملوك وطبقة النبلاء والبرجوازيين. لكن منذ بداية القرن العشرين، أصبح الفنّ أكثر صعوبة عندما طَغت عليه الفلسفة وعلم النفس، مع ميلٍ الى هدم المعايير ومخالفة توقّعات الجمهور. وإجمالا وبمقاييس هذه الأيّام، ليس مطلوبا من الفنّ ان يكون ممتعا أو جميلا ولا يتطلّب بالضرورة مهارات خاصّة أو مواهب استثنائية.
  • ❉ ❉ ❉

  • كان كينكو المنعزل يسجّل أفكاره الحادّة اللاذعة على قصاصات من ورق لم تنجُ عبر القرون إلا بالصدفة. وكان من الممكن أن تتحلّل على الجدران التي ألصقها عليها أو أن تُرمى في سلّة المهملات. ولكن انظر إلى سحره الآن، إذ يمكنك البحث عن كينكو في غوغل، وإذا كان لديك كيندل أو نوك أو آيباد أو أيّ قارئ إلكتروني آخر، فيمكنك إعادة تجميع كلّ أعماله هو أو دانتي أو دي مونتين إلكترونياً على شاشة مسطّحة رقيقة. وقد تختفي هذه الأعمال أيضاً بلمسة واحدة وفي جزء من الثانية.
    إن الكُتاب الثمينين ينتشرون على نحو عجيب عبر الإنترنت، فأنت تحصل عليهم من الهواء بنفسك. وربّما يختفون بسرعة أكبر من أزهار كينكو أو أقماره المخفية، ما يدلّ على أن هذا الكون عبارة عن خداع بصريّ وليس شيئاً صلباً.
    ولو تخيّلنا أن دي مونتين أو كينكو أو دانتي يكتبون اليوم على موقع فيسبوك أو تويتر ويتبادلون الرسائل النصّية، فماذا سيكتبون؟ هل سيتناولون مواضيع مثل المنفى أو الانسحاب أو العزلة في عالم سكايب والخلية العالمية؟ وهل تعمل الشبكات الاجتماعية الجديدة على تحسين نوعية التفكير والكتابة؟ وكيف وإلى أيّ مدى؟ لا نعرف بعد.
    إن الكاتب العظيم لا يحتاج بالضرورة لأن يكون ناسكاً منعزلا. ولم يكن شكسبير كذلك. والغريب أن الكتابة في غرفة صاخبة أسهل أحيانا من الكتابة في صمت وعزلة. فلفترة من الزمن، كنت أحبّ الكتابة أثناء ركوب القطار السريع. كانت خشخشة العربات وصرير القضبان يحسّنان من قوّة تركيزي، وكنت أفضّل أن يكون معي رفيق وأنا أكتب. وقد أذهلني بروتوكول مترو الأنفاق، الذي يتطلّب أن تكون وجوه كلّ الركّاب المتنوّعي الخلفيات والاعراق، وطيلة مدة الرحلة، جامدة وغير قابلة للقراءة، وألا يكون هناك اتصال بالأعين في ما بينهم.
    لانس مورو
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • طلب منّي المعلّم أن أكتب موضوعا عن "من أنا؟"، وجلست طويلا أفكّر في الإجابة. لم تكن المشكلة أنني لا أعرف نفسي، بل كان الأمر يتعلّق بحيرتي في اختيار أيّ نسخة منّي يمكن أن أكتب عنها. فأنا عدّة أشخاص مختلفين. واستغرقَ الأمر منّي بعض الوقت لأدرك أن نسختي المفضّلة من "الأنا" هي تلك التي تظهر عندما لا يكون أحد حولي، أي عندما لا يتمّ تسجيل أفعالي.
    هل نكون أشخاصا مختلفين حين لا يراقبنا أحد؟ حين لا تحكم علينا عيون الآخرين؟ طريقتنا في المشي، نبرات أصواتنا، تعبيرات وجوهنا، ملابسنا، وكلّ ما يحدّد شخصياتنا يتغيّر في غمضة عين. نضحك بهستيريا، نغنّي بأعلى أصواتنا وحتى نرقص بجنون. تلك الأجزاء الجميلة والغريبة من شخصيّاتنا لا تظهر إلا عندما نكون بمفردنا.
    إن لدى كلّ انسان منّا أجزاء شرّيرة في داخله، زوايا مظلمة وممرّات ودهاليز سرّية تتنفّس في أعماقنا. وعندما لا يكون هناك أحد حولنا، تَخرج كل تلك المشاعر المدفونة فنصبح أنانيين وحسَدة وعدوانيين وقد نتمنّى الشرّ لأعدائنا.
    ولكنْ هناك بداخلنا خير أيضا، فعندما لا يراقبنا أحد فإننا نبتسم للفقير بحبّ ونعيد المال الذي سقط من جيب شخص غريب، ونحاول أن نكون أفضل نسخة من أنفسنا. إننا الأسرار المظلمة التي نخفيها والأخطاء التي نرتكبها والحبّ الذي لا نعبّر عنه واللطف الذي لا نلاحظه.
    من أنت حين لا يراقبك أحد؟! ماذا تفعل حين لا يراك أحد؟ حين لا يُحكم عليك على كلّ فعل تقوم به؟ حين لا يلاحظ أحد خطواتك وتحرّكاتك؟ هل تظلّ أنت نفسك، أم تصبح شخصا آخر؟!
  • ❉ ❉ ❉

  • يشير مصطلح "الحكمة القديمة Ancient wisdom " إلى وجود رؤى وحقائق قيّمة يمكن أن نجدها في تعاليم الحضارات القديمة والتقاليد الروحية والنصوص القديمة. وغالبا ما يشير هذا المصطلح إلى شعور باحترام معارف وتجارب الأجيال السابقة والاعتراف بأهمية تعاليمهم وضرورتها الدائمة في الحياة المعاصرة.
    وقد يلجأ الناس إلى الحكمة القديمة طلباً للإرشاد والإلهام ومن أجل فهم أعمق للحقائق الأساسية حول الوجود البشري والأخلاق والروحانية والعالم الطبيعي. وكثيراً ما ترتبط ممارسات مثل التأمّل واليوغا والطب التقليدي والتعاليم الفلسفية بتقاليد الحكمة القديمة.
    وإجمالا، تنقل "الحكمة القديمة" فكرة مفادها أن هناك حِكَما يمكن اكتسابها من المعرفة المتراكمة ومن تجارب الماضي، وأنه بدراسة تلك التعاليم القديمة والتمعّن فيها يمكن للأفراد أن يحصلوا على فهم أعمق عن معنى الحياة والغرض منها.
    وتتضمّن "الحكمة القديمة" المعرفة والرؤى والتعاليم والمعتقدات والممارسات التي تناقلتها الأجيال في مختلف الثقافات والمجتمعات على مدى فترة طويلة من الزمن. وغالبا ما تُعتبر هذه الحكمة خالدة وعالمية وتتجاوز السياقات الثقافية المحدّدة التي نشأت فيها.

  • Credits
    alma-tadema.org
    smithsonianmag.com

    الثلاثاء، ديسمبر 03، 2024

    عربي في بلاط سلطان المغول


    كان العلّامة أبو الفضل ابن المبارك (1551 - 1602) مؤرّخا وأديبا ومفكّرا ووزيرا أعظم للسلطان المغولي أكبر في الهند. وينحدر أسلاف أبي الفضل من اليمن ويعود نسبهم إلى الشيخ موسى الذي هاجر مع بعض قومه إلى السند في أواخر القرن الخامس عشر. وما أن استقرّوا في الهند حتى انتظموا في الحركات الصوفية، وخاصّة حركة طائفة الشيستي في راجستان.
    كان والده مبارك فقيها معروفا وقد أسّس له مدرسة فقهية في أغرا حيث كان مجال اختصاصه الفلسفة. وقد جذب عددا من العلماء إلى محاضراته، كما أمضى بعض الوقت في "بدوان" التي كانت تُعتبر الأرض المقدّسة للصوفية. لكن فيما بعد انتقد العلماء مبارك واتهموه بتغيير قناعاته الدينية حسب المصلحة. فمثلا كان سنيّا في عهد السلطان إبراهيم لودي، ثم أصبح مهدويّا في عهد همايون فَبَطلاً للفكر الليبرالي في عهد أكبر.
    يتحدّث أبو الفضل عن السنوات العشرين الأولى من حياته فيقول: في ليلة الأحد السادس من محرّم 958هـ، خرجت روحي الطاهرة من الرحم إلى هذا الفضاء الجميل من العالم. وفي سنّ تزيد قليلاً عن عام، اكتسبت موهبة النطق الطليق. وفي سنّ الخامسة اكتسبت مخزوناً غير عاديّ من المعلومات وعرفت القراءة والكتابة. وفي سنّ السابعة أصبحت أميناً على مخازن والدي من المعرفة وحارساً أميناً لجواهر المعاني الخفيّة، وكنت أحرس الكنز كأفعى".
    ويضيف: كان والدي يستحضر بطريقته سحر المعرفة ويعلّمني القليل من كلّ فرع من فروع العلم. ورغم نموّ ذكائي، إلا أنني لم أكتسب انطباعات عميقة من مدرسة التعلّم. وفي بعض الأحيان لم أكن أفهم شيئا على الإطلاق. وفي أحيان أخرى كانت تلوح في الأفق شكوك لم يكن لساني قادرا على تفسيرها. فإمّا أن الخجل يجعلني أتردّد أو أنني لم أكن أمتلك القدرة على التعبير. وكنت أبكي في الأماكن العامّة وألقي باللوم كلّه على نفسي".
    ثم يقول: وذات يوم تعرّفت على شخص أصبح صديقا مقرّبا منّي فتعافت روحي من هذا الجهل وعدم الفهم. ولم تمرّ أيّام قليلة حتى استعاد عقلي المشتّت هدوءه. ورغم أنني كنت أتمتّع بموهبة خاصّة نزلت عليّ من عرش القداسة، إلا أن إلهام والدي الجليل كان مفيدا للغاية وأصبح أحد أهم أسباب تنويري. ثم ولعشر سنوات أخرى، تحرّرت روحي مرّة أخرى من نيرها ونشأ في داخلي قلق جديد. فلم أعد أفرّق بين الليل والنهار أو بين الشبع والجوع، ولم أميّز بين الخصوصية والمجتمع، ولم تكن لديّ القدرة على فصل الألم عن اللذّة. ولم أعترف بأيّ شيء آخر غير رباط الإثبات والمعرفة".
    ويضيف: ثم اعترضتُ على الكتّاب القدامى وخالفت الرجال الذين علّموني في شبابي، وانزعجَ عقلي وكان قلبي في حال من الاضطراب. كنت كلّما قوِيتْ إرادتي استنار فكري، إلى أن وصلتني بشرى استقلاليّتي وتخلّصَ عقلي من قيوده السابقة وعادت حيرتي المبكّرة. لم أكن أعلم كيف سينتهي كلّ شيء ولا في أيّ مكان سأستقرّ في رحلتي الأخيرة. لكن منذ بداية وجودي وحتى الآن، ظلّت نعمة الله تحميني باستمرار. وأتمنّى أن أقضي لحظاتي الأخيرة في تنفيذ إرادته وأن أنتقل إلى الراحة الأبدية متخفّفاً من أيّ أعباء".


    واصل أبو الفضل ولعه بالقراءة ودفن نفسه في قراءة المصادر العربية واليونانية الكلاسيكية، مع اهتمام خاص بالفلسفة والتصوّف. وفي عام 1574، دخل الى بلاط السلطان أكبر، وكان عمره 23 عاما. وبسبب اعتدالهما وتسامحهما، نشأت بين السلطان والفقيه علاقة عميقة، حيث أثّر كلّ منهما على الآخر فكريّا وإنسانيّا. كان أبو الفضل يحظى باحترام كبير لعلمه وفضله، ولم يلبث أن أصبح يشار اليه باعتباره إحدى "الدّرر التسع" في بلاط السلطان.
    وعلى امتداد السنوات الخمس والعشرين التالية، عمل كمستشار لأكبر وكمتحدّث باسمه، حيث صاغ وروّج لأفكار وسياسات السلطان. ثم عُيّن مسؤولاً عن "بيت العبادة" العلماني، حيث كان الفلاسفة والمفكّرون من ديانات مختلفة يناقشون شتّى القضايا، الأمر الذي جرّ عليه غضب بعض الزعماء الأصوليين الذين اتهموه بالتأثّر بالأفكار الصوفية "المتساهلة".
    ثم عهد إليه السلطان بتأليف كتاب "أكبر نامه" أو كتاب أكبر، وهو وثيقة لتاريخ حكم السلطان موزّعة على ثلاثة مجلّدات. ويحتوي الكتاب على تاريخ أسلاف السلطان من تيمور إلى همايون وحتى العام السادس والأربعين من حكم أكبر. وقد عمل أبو الفضل على هذا المشروع الضخم لمدة 12 عاما تقريبا وحتى مقتله في عام 1602. "في اللوحة التي فوق، يظهر العلّامة أبو الفضل وهو يسلّم الكتاب الى السلطان أكبر الجالس على عرشه محاطا بعدد من أفراد حاشيته وخدمه".
    في الكتاب، تناول أبو الفضل القيم الطيّبة في الديانات المختلفة وجمَعها معا من أجل الحفاظ على السلام ومساعدة الناس على أن يتحرّروا من الأفكار المكبّلة، وقدّم "أكبر" كحاكم عقلاني وتبنّاه باعتباره "بطله" الشخصي، مشيدا بسياساته العلمانية والمتفتّحة. كما ذكر أن الهدف الأساسي من فتوحات أكبر كان إخضاع أكبر عدد ممكن من الناس لإدارته وحكمه الليبرالي والمتسامح والعادل والمسالم، من أجل تحقيق أقصى قدر من الفوائد السياسية لأكبر عدد ممكن من الهنود.
    وقد ذكر أبو الفضل أسباباً عديدة لظهور الخلافات بين أتباع الديانات المختلفة في الهند. فرأى مثلا أن تنوّع اللغات يُعدّ من بين هذه الأسباب وأن اختلافها يجعل من الصعب على الأفراد فهم الموضوعات الدينية والطقوس والعادات التي يتبنّاها أتباع الديانات الأخرى. وذكر أيضا أن هناك نقصاً في الحماس بين مختلف الناس لمحاولة فهم تعاليم الديانات المختلفة. وبحسب أبي الفضل فإن الحكّام الضيّقي الأفق والمهووسين هم أيضا مسؤولون عن ذلك لأنهم يمارسون أفعالا وسياسات معادية لأتباع الديانات الأخرى.
    كتاب "أكبر نامه" يُعتبر عملا تاريخيا وأدبيّا مُهمّا يوفّر رؤية عن المشهد السياسي لإمبراطورية المغول وجهود "أكبر" لتعزيز التسامح الديني والتوليف الثقافي. وما يزال الكتاب مصدرا قيّما للمؤرّخين المهتمّين بدراسة تلك الفترة من تاريخ الهند. ويتّفق الكثيرون على أن الإرث الدائم لأبي الفضل هو أنه أسهم في وضع رؤية لإمبراطورية كبيرة وموحّدة يحكمها زعيم مسلم يمارس "الإسلام العالمي".
    كان قُرب أبي الفضل من "السلطان أكبر" سببا في شعور الكثيرين بالغيرة منه. وقد اغتيل الرجل عام 1602 في مؤامرة دبّرها الابن الأكبر لأكبر الأمير سليم الذي أصبح فيما بعد الإمبراطور جهانغير. وقيل إن سبب مقتله كان معارضته لتولّي سليم للعرش. كان أبو الفضل وقتها في الخمسين من عمره. وقد أُرسل رأسه المقطوع إلى سليم في الله أباد. وفي عام 1608، عُيّن ابن أبي الفضل، الشيخ أفضل خان، حاكما على بيهار بأمر من جهانغير نفسه.

    Credits
    static-cdn.edit.site

    الأحد، ديسمبر 01، 2024

    سيكولوجيا لوم الضحيّة


    أقوى إساءة يمكن أن توجّهها لإنسان هي عدم تصديقك لمعاناته. وأسوأ من هذا أن تلومه وهو الضحيّة وتبرّيء مرتكب الجريمة!
    إلقاء اللوم على الضحيّة يمكن أن يكون له عواقب ضارّة، لأنه يساوي الجاني بالمجني عليه ويستخفّ بمعاناة الضحايا ويمكن أن يثنيهم عن طلب المساعدة أو الإبلاغ عن الجرائم المرتكبة ضدّهم أو التحدّث عنها علنا بسبب الخوف أو المزيد من اللوم.
    أحيانا ينشأ لوم الضحيّة عن الصور النمطية والمواقف المجتمعية، مثل الاعتقاد أنه كان ينبغي على الضحايا أن يمنعوا الضرر أو أنهم تسبّبوا به أو استحقّوه أو أنهم يبالغون في تجاربهم أو يختلقونها. ويمكن أن تكون مثل هذه المواقف متأصّلة بعمق في الأعراف الثقافية وفي صور وسائل الإعلام والخطاب العام.
    وأحيانا يلوم الناس الضحيّة ليُبعدوا عن أنفسهم احتمال أن يصبحوا هم أيضا ضحايا. وهذا السلوك يوفّر إحساسا زائفا بالأمان من خلال الاعتقاد بأنه إذا كان الضحايا مخطئين فيمكن للشخص تجنّب الوقوع ضحيّة وذلك باتخاذ خيارات مختلفة.
    وكثيرا ما يتضمّن لوم الضحيّة بعض الصيغ والعبارات الشفهية مثل "لا بدّ أنك تعلم أن هذا سيحدث" و"لماذا لم تتكلّم من قبل" و"لا بدّ أنك أخطأت أو استفزّيت أحدا" و"لماذا بقيت في ذلك المكان؟" أو "أين دليلك" أو "يجب أن تصمت لأن خصومك أقوى منك وسيدمّرونك!" الخ. ومثل هذه التعليقات والكليشيهات الفجّة والمبتذلة تُسهم في حرمان الأشخاص المتضرّرين وضحايا العنف بأشكاله من التعاطف والدعم الذي يحتاجونه ويستحقّونه.
    ويمكن أن يتقاطع إلقاء اللوم على الضحيّة مع أشكال أخرى من التمييز والقمع المجتمعي، مثل العنصرية أو الطبقية والمذهبية وما في حكمها من صور نمطية وتحيّزات، ما يؤدّي إلى تفاقم آثار إلقاء اللوم على الضحيّة وإدامة دائرة الإفلات من العقاب.
    وهناك أيضا سبب آخر لميلنا إلى إلقاء اللوم على الضحيّة، يتمثّل في الاعتقاد بأن هذا العالم مكان عادل ومنصف وأن باستطاعة الناس التنبّؤ مسبقا بأيّ مشكلة قد تصيبهم ومن ثمّ منعها، وبالتالي فإنهم يستحقّون ما يحدث لهم على أيّ حال. ومثل هذه الأفكار المغلوطة تجعل الناس يستسهلون لوم الضحيّة وتعزّز وهمهم بأن الأشياء الفظيعة لا يمكن أن تحدث لهم أبداً.
    وعادةً عندما يحدث شيء سيء لشخص آخر غيرنا، فإننا غالبا ما نعتقد أن ذلك الشخص لا بدّ أنه فعل شيئا يستحقّ مثل ذلك المصير وأن الناس يحصلون على ما يستحقّونه. لكن المنطق يقول إن الأشياء السيّئة يمكن أن تحدث لأيّ شخص، حتى أنت وأصدقاؤك وعائلتك، بغضّ النظر عن مدى طيبتك وحذرك ونوعية ضميرك.

    ويمكن أن ينشأ إلقاء اللوم على الضحيّة من عدم التعاطف مع الآخرين كطبيعة متأصّلة في بعض الناس. فهناك أشخاص يفتقرون بشدّة إلى التراحم والعطف على الآخرين ويكرهون التعامل مع المواقف الإنسانية ولا يفكّرون في مآسي الغير أو تجاربهم. وبسبب هذا الفقر العاطفي والجفاف الإنساني، فإنهم أكثر ميلاً لإلقاء اللوم على الآخرين عندما تحدث لهم أشياء سيّئة كما أنهم أقلّ عرضة لتقديم المساعدة.
    إن إلقاء اللوم على الضحيّة يمكن أن يكون له عواقب وخيمة على الأفراد الذين عانوا بالفعل من الظلم. إذ يمكن أن يدفعهم ذلك إلى العزلة والامتناع عن الإبلاغ عن الجرائم المرتكبة ضدّهم أو طلب العدالة، لخشيتهم من التعرّض لمزيد من التشكيك أو التحامل وعدم التصديق.
    ويمكن أن يكون إلقاء اللوم على الضحيّة مدمّرا للأشخاص المعتدى عليهم. فهو يؤدّي الى لوم الذات ولا يشجّعهم على طلب المساعدة بتركيزه على سلوكيات الضحايا بدلاً من تصرّفات المعتدين. كما أنه يجعل من الصعب على الضحايا الحصول على المساعدة والدعم الذي يحتاجونه ويسهم في مشاكل تتعلّق بالصحّة العقلية، مثل الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة وحتى التفكير في الانتحار.
    في المجتمعات المتحضّرة، يتطلّب التعامل مع ظاهرة لوم الضحايا جهدا جماعيّا لخلق ثقافة تدعم الضحايا وتنتصر لهم وتتحدّى المواقف والمعتقدات التي تساهم في هذه الظاهرة. وهذا بدوره يؤدّي الى تعزيز ثقافة الاحترام والتفاهم والتعاطف والعدالة للجميع ومساءلة الجناة مباشرة وتشجيع الضحايا على التعبير عن مظالمهم دون خوف من حكم الناس أو لومهم.
    وبدلا من لوم الضحيّة والتركيز على ما فعله الضحايا أو لم يفعلوه، يجب إعادة صياغة المناقشات حول المسؤولية والمساءلة والتركيز على سلوك الجناة ومعالجة الأسباب الكامنة وراء الضرر، مثل المواقف المؤسّسية والمجتمعية أو الأنظمة التي تشجّع على العنف والتحامل.
    إن كلّ انسان عرضة لأن تحدث له أشياء مؤسفة في هذه الحياة، وربّما تحدث لك أنت في مرحلة من حياتك. لذا، عندما تجد نفسك تتساءل عمّا فعله شخص آخر ليتسبّب في سوء حظّه، توقّف للحظة وفكّر في التحيّزات النفسية التي تؤثّر على حكمك. وبدلاً من إلقاء اللوم على الضحيّة، حاول أن تضع نفسك مكان ذلك الشخص وعامله بالحدّ الأدنى من التعاطف الإنساني بدل لومه وتحميله المسئولية عن ظلم غيره له.

    Credits
    psychologytoday.com

    الجمعة، نوفمبر 29، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • اللوحة فوق رسمها فنّان يُدعى روبيرت وارثموللر من القرن الثامن عشر، وفيها يظهر فريدريش العظيم ملك بروسيا المعروف بـ "ملك البطاطس" وهو يتفقّد ثمار البطاطس التي زرعها بعض الفلاحين في حقولهم. كان الملك يبحث عن طرق لإطعام شعبه وخفض سعر الخبز. واقترح البطاطس كإضافة جديدة ومناسبة للنظام الغذائي في البلاد.
    لكن الفلاحين قاوموا زراعة البطاطس على أساس أن مظهرها غير نظيف ولا طعم لها. فقرّر الملك إعادة تسميتها وأطلق عليها "الخضرة الملكية"، وزرع حقلاً كاملا بالبطاطس وأمر حرّاسه بحمايتها. لكنه أمر الحرّاس سرّاً بأن يتغافلوا عن أيّ مواطن يأتي الى حقل الملك ليسرق البطاطس. وبعد فترة وجيزة، بدأ الفلاحون في سرقة "البطاطس الملكية" وزراعتها سرّاً في حقولهم. ثم فجأة أصبح الجميع يأكلون البطاطس. كان الملك ذكيّا بما يكفي لأن يفهم أن كلّ شيء يستحقّ الحراسة فإنه يستحقّ السرقة.
    وقد أصبحت البطاطس بعد ذلك الغذاء الجديد والأكثر أهمية في القرن التاسع عشر. وكانت تتمتّع بثلاث مزايا رئيسية على الأطعمة الأخرى، فمعدّل تلفها منخفض وحجمها ضخم ومشبع وثمنها رخيص. وانتشر المحصول ببطء في مختلف أنحاء أوروبا. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر احتلّ هذا المحصول ثلث الأراضي الصالحة للزراعة في آيرلندا.
    وقبل ذلك بثلاثة قرون، رأى مجموعة من الغزاة الإسبان ثمرة بطاطس لأوّل مرّة أثناء إغارتهم على قرية في بيرو بحثاً عن الذهب والفضّة. ووصلت البطاطس لأوّل مرّة إلى أوروبّا في وقت ما قبل نهاية القرن السادس عشر.
    بالنسبة للشعوب الاصلية في أمريكا الجنوبية، لم يكن للبطاطس أهميّة دينية أو ثقافية كبيرة كالذرة مثلا. لكن تلك الشعوب فُتنت بالطبيعة البارزة والمشوّهة للبطاطس وظهرت في فنونهم على هيئة حيوانات وبشر مشوّهين.
    فريدريش العظيم حكمَ بروسيا من عام 1740 إلى عام 1786. ورغم أنه كان معروفًا بحملاته العسكرية، إلا أنه كان أيضا من روّاد التحديث الاجتماعي والاقتصادي.
    وعندما ظهر خطر المجاعة في مملكته، قدّم الى شعبه البطاطس التي كان الإسبان قد جلبوها مؤخّرا معهم من أمريكا الجنوبية. كانت زراعتها سهلة ويمكن أن تكون مصدرا غذائيا جديدا وحيويا. ولكن لم يكن الفلاحون البروسيون متحمّسين للفكرة. وكانوا يؤمنون بمثل يقول "ما لا يعرفه الفلاح لن يأكله". لكن تلك الحيلة "التسويقية" الذكيّة من الملك أقنعتهم بتغيير رأيهم. وتحوّلت قصّة البطاطس هذه إلى أسطورة. ففي مدينة بوتسدام، يوجد قبر فريدريش العظيم وسط بستان للكروم. وإلى اليوم ما يزال الناس يأتون إلى المكان ليضعوا البطاطس على قبره تكريما لذكراه.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • يقول مطلع قصيدة للشاعر حافظ: ألا يا أيّها الساقي أدر كأسا وناولها.. الى آخر القصيدة. الساقي تعني حرفيّا حامل الكأس. لكنها في شعر المتصوّفة تُستخدم كإشارة إلى معلّم روحي، والمعلّم بدوره رمز لحضور الحبيب الواحد والوحيد.
    لكن السؤال: كيف ومتى انتقلت مفردة "ساقي" الى اللغة الانغليزية؟
    هناك رأي شائع يقول إن المفردة Saqi/Sagi قُدّمت للقرّاء الناطقين بالإنغليزية لأوّل مرّة في عام 1868 في الطبعة الثانية من ترجمة إدوارد فيتزجيرالد لرباعيّات عمر الخيّام. وقد نشر فيتزجيرالد أربع طبعات مختلفة من ترجمته للخيّام. في الطبعة الأولى عام 1859، لم تظهر كلمة "ساقي"، على الرغم من أن غوته وآخرين قدّموها من قبل إلى اللغات الغربية في ترجماتهم للشعر الشرقي.
    لكن مع مرور الوقت، بدا أن فيتزجيرالد شعر بشكل متزايد أن الاستخدام الإنغليزي لكلمة "ساقي" مناسب، فقدّمها في طبعة الرباعيّات لعام 1868 في البيت الذي يقول: ما أهرقَ الساقي سُلافا في الثرى إلا وأطفأ نارَ قلبٍ مُولعِ". ثم أضاف ظهورا ثانيا للمفردة في الطبعتين الثالثة والرابعة.
    كانت رباعيّات فيتزجيرالد واحدة من أنجح ترجمات الشعر إلى الإنغليزية على الإطلاق، وربّما كانت الأكثر نجاحا، لذلك كثيرا ما شوهدت كلمة "ساكي" (أو ساقي) في اللغة الإنغليزية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وخاصّة بعد ظهور جمعيات أدبية نشطة عن عمر الخيّام في معظم العواصم الناطقة باللغة الإنغليزية.
    بل إن كاتب قصّة قصيرة أسكتلنديّا يُدعى هـ. مونرو (1870-1916) اختار "ساقي" كاسم مستعار له، وهو ما يفترض أن هذه المفردة موثّقة جيّدا في المعاجم الإنغليزية. لكن الأمر غير ذلك، فقاموس أكسفورد الإنغليزي لا يقدّم أيّ مدخل لكلمة "ساقي" بهذا المعنى، بل كاسم يصف نوعا معيّنا من قرود أمريكا الجنوبية! أما قواميس ميريام وبستر فتذكر أن "ساقي" يمكن أن تكون تهجئة مختلفة لكلمة (Sake/sake/saki) التي تشير الى نوع من نبيذ الأرُزّ الياباني.
    من الكلمات العربية الأخرى التي دخلت الى الإنغليزية kazi بمعنى قاضي بالعربية والتركية والفارسية، وأيضا كلمة vizier أي وزير بالعربية والتركية. ويعود اوّل استخدام للمفردة الثانية في الإنغليزية إلى حوالي عام ١٥٩٩م.
  • ❉ ❉ ❉

  • أحيانا يمكن أن نتعلّم من بعض الكائنات الضعيفة دروسا مهمّة قد لا نتمكّن من تعلّمها من بعضنا البعض كبشر. فبحسب بعض العلماء، يمكن أن يعلّمنا طائر الإوز مثلا العديد من الدروس المفيدة في الحياة.
    فعندما ترفرف كلّ إوزة بجناحيها، أثناء الطيران، فإنها تخلق رافعة للطيور التي تتبعها. ومن خلال الطيران على شكل حرف "V"، يضيف السرب بأكمله مدى أكبر بنسبة 70% ممّا لو طار كلّ طائر بمفرده. والدرس المستفاد هو أنه يمكن للأشخاص الذين يشتركون في حسّ مشترك بالاتجاه وبالجماعة أن يصلوا إلى حيث يتجهون بشكل أسرع وأسهل، لأنهم يسافرون معا ويدعم بعضهم بعضا.
    وهناك حقيقة ثانية، فعندما تخرج إوزّة من التشكيل أو السرب، فإنها تشعر فجأة بمقاومة الطيران بمفردها، فتعود بسرعة إلى التشكيل للاستفادة من قوّة رفع الطائر الذي أمامها مباشرة. والدرس المستفاد هو أنه إذا فكّرنا مثل الإوزّة، فإننا نبقى مع أولئك الذين يتجهون إلى حيث نريد أن نذهب، ونبدي استعدادنا لقبول مساعدتهم وتقديم مساعدتنا للآخرين.
    والحقيقة الثالثة هي أنه عندما تتعب الإوزّة القائدة، فإنها تدور مرّة أخرى في التشكيل وتطير إوزّة أخرى إلى موضع النقطة. والدرس المستفاد هو أنه من المفيد التناوب في أداء المهام الصعبة وتقاسم القيادة والاعتماد على المهارات والموارد البينية، كما هو الحال مع الإوز.
    والحقيقة الرابعة هي أن طائر الإوزّ المحلّق في التشكيل يُطلق صفيرا لتشجيع من هم في المقدّمة على الحفاظ على سرعتهم. والدرس المستفاد هو أن علينا أن ندرك أهمية التحفيز والتشجيع. ففي المجموعات التي يوجد فيها تشجيع، تكون الإنتاجية أكبر بكثير.
    والحقيقة الخامسة: عندما تمرض أو تُجرح أو تسقط إوزّة، تخرج إوزّتان من السرب وتتبعانها لمساعدتها وحمايتها، وتبقيان معها إلى أن تموت أو تتمكّن من الطيران مرّة أخرى وتلتحق بالسرب. والدرس المستفاد هو أنه إذا كان لدينا نفس عقل الإوز، فسنقف بجانب بعضنا البعض في الظروف الصعبة ووقت الحاجة.
  • ❉ ❉ ❉

  • سأل صحفيّ شغوف بالصحراء أحد أفراد قبيلة الطوارق: لماذا يتحدّث الطوارق قليلاً". فأجاب: لأنه بعد قول ما هو ضروري، يصبح كلّ شيء آخر هدرا. وفي الصحراء اعتدنا على توفير كلّ شيء حتى الكلام".
    ويعلّق الصحفي بقوله: رغم أنني أكتب الكلمات لكسب العيش، إلا أنني أخاف بشدّة من إهدارها بلا حساب". أحد خبراء الإعلان قال مرّة: لم أجلس قطّ لكتابة مقالة طويلة، بل أجلس لمحاولة بيع شيء ما. والقاعدة الصحيحة هي أن تقول ما تريد قوله ثم تتوقّف".
    بشكل عام، لم يعد أحد يقرأ النصّ الطويل اليوم. لذا إجعل مقالتك أقصر وأقوى وحديثك أكثر إيجازا.

  • Credits
    motivatedbynature.com
    pure-potential.co.uk

    الأربعاء، نوفمبر 27، 2024

    إيقاعات عصرية


  • عندما أبدأ الكتابة، لا يكون في ذهني أيّ خطّة على الإطلاق. فقط أنتظر القصّة حتى تأتي. ولا أختار نوع القصّة أو ما سيحدث. فقط أنتظر. أكتب رواية كلّ ثلاث أو أربع سنوات. ونَثري سهل القراءة للغاية، فهو يحتوي على روح الدعابة، كما أنه درامي ومثير للاهتمام. وهناك نوع من التوازن السحري بين هذين العاملين، وربّما يكون هذا سبباً آخر لنجاحي كروائي. هاروكي موراكامي
  • هل تستطيع رؤية ذلك النجم؟ إنه جميل، أليس كذلك؟ هل تعتقد أنه يعلم أننا نراه؟ وأننا منبهرون بجماله؟ لا أعتقد. ومع ذلك فهو مستمرّ في التألّق. عليك أن تكون مثل ذلك النجم تماما. حاول أن تتألّق دائما، فحتى لو لم تعرف، هناك دائما من هو معجب بك كما أنت. مارك هيلبيرن
  • كنّا نعتقد بأن البطل الذي يُقتل في خدمة سيّد عظيم أو يُضحّى به تكريما لإله هائل، كان مضمونا له حياة أبدية في أكثر عوالم الآخرة بهاءً، حيث سيكافَأ بنعيم أبدي. والآن تخبرنا الأديان أنه يمكننا جميعا أن نأمل في حياة أخرى بجنّة رائعة مماثلة.
    ولكن فكّر في الأمر، حتى أكثر الأبطال شجاعةً الذين يموتون في أكثر القضايا شرفا، حتى أكثر الشهداء تديّنا الذين يموتون وهم على يقين من الوصول إلى الجنّة، لن يعودوا يعرفون أبدا ضوء القمر كما يبدو في هذا العالم ولن يمشوا ثانيةً تحت أشجار السرو. هذه متعة تافهة وصغيرة جدّا، ولكن لن تُعرف أبدا مرّة أخرى." غاري جينينغز
  • تتحدّث رواية "جسر إلى تيرابيثيا" لكاثرين باترسون عن شجرة تفّاح برّي تنمو في ريف فرجينيا بالقرب من وادٍ جافّ، ويتدلّى من فرعها الرئيسي حبل قديم. تتأرجح جيس وليزلي، الطالبتان والصديقتان المقرّبتان، على الحبل لدخول الغابة، حيث يحكمان كملك وملكة على مملكتهما الخيالية تيرابيثيا.
    عالم جيس وليزلي الساحر له قواعده، وإحداها هي أنه لا يمكن دخول تيرابيثيا إلا بالتأرجح على شجرة التفّاح البرّي. إنها الطريقة الوحيدة لجعل السحر يعمل. وبصفتي كاتبة، أحبّ هذا، فمن خلال ترسيخ الأطفال في عالمهم المادّي يصبح دخول عالم الخيال ممكنا. الخيال ليس هروبا من الواقع، بل يسمح لنا خيالنا باختراق اللمعان السطحي الذي نسمّيه الواقع، من أجل الكشف عمّا هو حقيقي وما هو أكثر صدقاً من الحقيقة. كاترينا ڤاندينبيرغ
  • يقال أحيانا أن "زبالة شخص ما قد تكون كنزَ شخص آخر". والمعنى هو أن ما قد يعتبره البعض عديم القيمة أو غير مرغوب فيه يمكن أن يحمل قيمة وإمكانات كبيرة بالنسبة للآخرين. فأيّ شيء تملكه ولا تحتاج إليه حقّا أو لا تريده هو مجرّد متاع مهمَل أو خردة بالنسبة لك. ولكن بالنسبة لشخص آخر قد يكون هذا الشيء من الممتلكات الثمينة والتي لا تُقدّر بمال لأنه يحتاجه، لكنه لا يمتلكه.
    وهذا القول يؤكّد الترابط المتأصّل والتنوّع في المجتمع، وأن الأرض بما فيها من موارد وفيرة تكافئ الذين يمتلكون المرونة اللازمة للكشف عن الكنوز المخفيّة أو تلك المهمَلة أو المتجاهَلة. كما تؤكّد العبارة أيضا على تقدير قوّة الاستكشاف والإبداع وتسخير الإمكانيات والموارد الكامنة.
    هل تتذكّر أسطوانات الموسيقى القديمة أو أشرطة الكاسيت؟ إنها بالنسبة للكثيرين مجرّد خردة أو زبالة، لكنها بالنسبة لعشّاق الموسيقى وجامعي التسجيلات "كنوز" ذات قيمة عالية، لأنها توفّر ارتباطا بالماضي وتجربة استماع فريدة. وهناك من يقدّرون عيوب هذه الوسائط ويفضّلون الصوت القديم والخبرة التي تتضمّنها على الكمال الرقمي الحديث.
    ونفس الشيء ينطبق على الملابس والأزياء القديمة والأثاث العتيق والسيّارات الكلاسيكية والكتب المستعملة "خاصّة إن كانت نادرة أو نفدت طبعتها" والإلكترونيات المكسورة أو القديمة أو المهملة والخردة المعدنية وما إلى ذلك. رون تالبوت
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • يجب أن نقبل أولئك الذين يقبلوننا وأن نتجاوز الذين لا يفهموننا أو لا يقبلوننا. إن محاولة إجبار الآخرين على قبولنا هي الطريق إلى التعاسة وإلى الأذى. لا يوجد شيء يمكننا القيام به لتغيير أولئك الذين لا يحبّوننا أو لا يفهموننا. وفي النهاية، يتعيّن علينا ترك مثل هؤلاء الأشخاص وراءنا، لأن السماح للأشخاص الخطأ بسحبنا إلى أسفل سيجعل من الصعب علينا أن نُبقي أعيننا على المكان الذي نحتاج لأن نكون فيه. پول كوربيه
  • لا شيء عشوائي. حتى الإلكترونات التي يُفترض أنها مثال للتقلّبات غير المتوقّعة، هي كائنات صغيرة أليفة ومطيعة تندفع بسرعة الضوء وتذهب بالضبط إلى حيث يُفترض أن تذهب. إنها تُصدر أصوات صفير خافتة. وعندما تُدرَك في مجموعات مختلفة، فإنها تكون ممتعة كالريح التي تطير عبر الغابة، وهي تفعل بالضبط ما تُؤمر به. مارك هيلبيرن
  • بدأتُ قراءة كتاب بوتيرتي السريعة المعتادة. ولكن سرعان ما أدركت أنني سأحتاج إلى العودة والبدء من جديد، لأن القصّة والأسلوب يتطلّبان مزيدا من التركيز والوقت. ثم بدأت أضع خطّا تحت الكلمات والعبارات التي أذهلتني بجمالها أو قوّتها.
    كانت هذه الكلمات والعبارات قليلة في البداية. لكنْ شيئا فشيئا أصبحت كلّ صفحة تقريبا مليئة بها، غالبا جمل وأحيانا فقرات كاملة. إن وضع خطّ تحت الكلمات هو وسيلة للابتهاج والمتعة وإخبار شخص غير موجود بمدى حبّك لقراءة هذا الكتاب.
    كان تأثير القراءة مهدّئا وتأمّليا، وهو ما أبطأ من سرعتي أكثر، وجعلني أشعر بأنني جزء من كلّ ما يُكتب. كان شعورا جسديّا وحسّيا معا، وأنا متأكّد من أن دقّات قلبي وكذلك عقلي تباطأت. كنت أبتسم في بعض الأحيان وأقرأ بصوت عالٍ لأستمتع بسماع إيقاعات اللغة. وليام هارت
  • كان أداء ألبيرت آينشتاين السيّئ للغاية في المدرسة سببا في دفع معلّميه إلى إخبار والديه بإخراجه من المدرسة لأنه "غبيّ جدّا بحيث لا يستطيع التعلّم"، واقترحوا أن يحصل على وظيفة سهلة تعتمد على العمل اليدوي. لكن بدلاً من ذلك، اشترى له والده كمانا ليتعلّم عليه العزف.
    كانت الموسيقى هي المفتاح الذي ساعد آينشتاين على أن يصبح أحد أذكى الأشخاص الذين عاشوا على الإطلاق. وقد أحبّ موسيقى موزارت وباخ أكثر من غيرهما. وقال أحد أصدقائه المقرّبين إن الطريقة التي اكتشف بها آينشتاين مشاكله ومعادلاته كانت من خلال الارتجال على الكمان، وأن الموسيقى هي التي أظهرت عبقريّته. روبيرت سپولدينغ
  • إحدى أكبر الإهانات التي يمكنك توجيهها إلى الحبيب في العالم الحديث هي أن تقول له: أريد أن أغيّرك". كان لدى الإغريق القدماء وجهة نظر عن الحبّ، تستند في الأساس إلى التعليم، وهي أن الحبّ عملية خيرية يحاول من خلالها شخصان تعليم بعضهما البعض كيف يصبحان أفضل نسخة من نفسيهما. آلان دي بوتون
  • أدركُ، كأمريكي، بأن هذا المكان هو الذي يعتبره ملايين الناس في العالم الأفضل على وجه الأرض ولطالما حلموا بالعيش فيه. ومن المؤكّد أن جزءاً كبيراً من الأمريكيين هم أناس طيّبون حقاً. ونحن نعلم أن أسلافنا جاءوا إلى هذه القارّة وسرقوا أراضي السكّان الأصليين وقتلوا الكثيرين منهم، بل وأساءوا معاملة من نجوا.
    لقد كان ما حدث ظلماً فظيعاً، ولكنني لا أستطيع تغيير ما حدث آنذاك ولست على استعداد لتحمّل المسئولية عمّا حدث قبل ولادتي بفترة طويلة. إنني ضدّ الأفكار الشوفينية وعبادة الدولة، وأدرك أن هذه البلاد ليست مثالية ولا أستطيع أن أزعم أنني أحبّ الحكومة القسرية هنا. ولكنّي أحبّ ما كان مفترَضا أن تكون عليه أميركا ذات يوم، بل إنني أتطلّع إلى السبل التي قد تنجو بها هذه الفكرة وتزدهر. ديڤيد ماكلروي
  • يبدو أننا، كبشر، مبرمجون ليكون لدينا حاجة عميقة لسماع صوت شخص نحبّه، حتى لو لم نكن نعرف ذلك عن وعي. أتمنّى لو كانت لديّ تسجيلات لعائلتي منذ كنت صغيرا. كنّا نمتلك مسجّلات شرائط كاسيت منذ وقت مبكّر جدّا، وقد سجّلنا الكثير من الشرائط لأنفسنا. وأتذكّر أنني كنت أسجل ساعات وساعات من أفكاري عندما كنت صغيرا. كنت مستعدّا لبذل أيّ شيء لسماع صوتي وما كنت أتحدّث عنه.
    أتمنّى لو كان لديّ اليوم تسجيلات لوالديّ أو تسجيلات لأجدادي. كان جدّي يحكي لي قصصا مذهلة عن حياته عندما كان صبيّا فقيرا في الريف. ولا زلت أستطيع سماع صوته في ذاكرتي، لكنني لن أسمعه في أذني أبدا. كان رجلا لامعا ومتعلّما رغم أنه لم يتجاوز الصفّ السادس في المدرسة. هل تعرفون أفلام الخيال العلمي القديمة التي يفتح فيها صوت شخص ما باباً أو قبواً؟ لا أعلم ما إذا كانت قلوب الآخرين تعمل بنفس الطريقة، ولكن الصوت قادر على تنشيط شيء ما في القلوب وفتحها. ستيڤ نيلسون
  • الأشياء الأكثر أهميّة هي التي يصعب قولها. الكلمات تقلّل من حجم الأشياء التي تبدو بلا حدود عندما تكون في رأسك. لكن الأمر أكثر من ذلك. الأشياء الأكثر أهميّة تكمن بالقرب من أيّ مكان دُفن فيه قلبك السرّي، مثل المعالم التي تشير إلى كنز يحبّ أعداؤك سرقته. وقد تكشف عن أشياء تكلّفك غاليا. إن أسوأ شيء هو عندما يظلّ السرّ محبوسا في الداخل، ليس بسبب عدم وجود راوٍ، ولكن بسبب افتقاره إلى أذن متفهّمة. ستيڤن كنغ

  • Credits
    garyjennings.com
    harukimurakami.com

    الاثنين، نوفمبر 25، 2024

    كبريت مينيرڤا


    لقد توصّلت إلى اقتناع بأن العالم كلّه لغز. وقد أصبح هذا اللغز مرعبا بسبب محاولاتنا المجنونة لتفسيره كما لو أنه حقيقة.
    أومبيرتو إيكو

    ❉ ❉ ❉

    كان أومبيرتو إيكو (1932 - 2016) شخصية رائدة في أدب ما بعد الحداثة وأحد مؤسّسي علم العلامات الحديث، وهو معروف على نطاق واسع بعمله في علم الجمال وفلسفة اللغة. كما أنه مشهور عالميّا برواياته الخيالية، وخاصّة "اسم الوردة" الصادرة عام 1980، والتي تحوّلت عام 1986 الى فيلم سينمائي بنفس الاسم من بطولة شون كونري.
    وبالإضافة الى عمله كمحاضر جامعي وروائي وصحفي، كان إيكو يكتب للصحف الإيطالية مقالات مثيرة يتناول فيها مواضيع كثيرة ولا يجمع بينها شيء، مثل الهواتف المحمولة والانترنت ومقدّمي البرامج والمسلسلات التلفزيونية وجماعة فرسان الهيكل وتويتر والقراصنة والمهرجانات الأدبية والخطّ العربي وستيفن هوكينغ ومسابقات الأغاني وعيد الهالووين وسائقي سيّارات الأجرة وجيمس بوند وغير ذلك.
    وباعتباره مدخّنا قديما، اعتاد إيكو تدوين ملاحظاته وأفكار مقالاته على الغطاء الداخلي لعلب الكبريت. وفيما بعد جُمعت تلك المقالات في كتاب باسم "علبة كبريت مينيرڤا" على اسم علامة تجارية قديمة. كانت المقالات مرتجلة وقاسية وحادّة، وكلّ منها ناريّ ومتفجّر مثل أعواد الثقاب المشتعلة، ما دفع المخرج السينمائي المشهور پاولو پازوليني لانتقاده بقوله: يعرف إيكو كلّ ما يمكن معرفته ويقذفه في وجهك بأكثر الطرق لامبالاة وكأنك تستمع إلى روبوت".
    كان ايكو في مقالاته يكشف ببراعة عمّا يرى أنه سخيف ومتناقض في السلوك الإنساني المعاصر، كقوله: البعض ينتقدون الحجاب والشادور، بينما يعشقون السيّدة العذراء المحجّبة، ليس فقط في الكنيسة بل وفي آلاف التحف الفنّية من عصر النهضة". ومثل قوله: هناك الان هوس سياسي بالاعتذار عن الفظائع التي ارتُكبت في القرون الماضية، لكن من ينبغي له أن يطلب العفو عن حادثة الصلب؟ وبما أن المسيح قُتل تحت سلطة روما، فإنه لا مسئول عن الصلب سوى رئيس الدولة الحالي في إيطاليا (وكان آنذاك شيوعيّا).
    سخرية إيكو ساحرة وذكاؤه مبهر. ومع ذلك، كان يعبّر من وقت لآخر عن بعض المشاعر غير السارّة. ففي حديثه عن الأشخاص المنغمسين في هواتفهم إلى الحدّ الذي يجعلهم يصطدمون بك في الشارع، يصف كيف أدار ذات مرّة ظهره عمداً لامرأة تقترب منه، فسمح لها بالاصطدام به، ثم هنّأ نفسه عندما ارتطم هاتفها بالرصيف. وأضاف: أتمنّى فقط أن يكون الهاتف قد انكسر، وأنصح كل من يمرّ بنفس الموقف أن يفعل ما فعلته. ثم يتساءل هل كان ليحسّ بنفس الشعور لو كانت المرأة منحنية على كتاب أثناء سيرها؟!


    ثم يكتب كيف أنه أثناء دراسته لتوما الإكويني في الجامعة توقّف عن الإيمان بالله وترك الكنيسة الكاثوليكية نهائيا. ويعلّق: أستطيع القول إن توما الإكويني قد شفاني من الإيمان بأعجوبة".
    ويتحدّث في بعض مقالاته الأخرى عن بعض المفارقات في الحياة كقوله: نبشّر بتفوّق الكمبيوتر على القلم والورق، ثم نحوّل الكمبيوتر إلى شاشة لوحية نكتب عليها بقلم!". وأيضا: علّمني والدي ألا آخذ الأخبار على محمل الجد. فالصحف تكذب والمؤرّخون يكذبون والتلفزيون اليوم يكذب، وحتى العلم يكذب أحيانا!".
    وفي مقالات أخرى يتناول إيكو مسائل لها علاقة بالأدب والرواية. فعن سبب تأخّره في كتابة الرواية قال: لا أعرف لماذا تأخّرت. لكن هناك علماء قضوا حياتهم كلّها يتمنّون أن يكونوا روائيين. خذ مثلا رولان بارت العظيم. لقد مات وهو يشعر بالمرارة لأنه لم يمارس ما يسمّيه الحمقى "الكتابة الإبداعية"، وكأن أفلاطون وأرسطو لم يكتبا بشكل إبداعي. في الواقع، كان بارت يكتب إبداعا طوال حياته. والحقيقة أن جميع مقالاتي تتمتّع بنوع من البنية السردية. لذا أقول دائما إنني كنت أمتلك دافعا سرديّا. وكنت أُشبِع جزءا من هذا الدافع بسرد القصص لأطفالي، ولكنهم الان كبروا لسوء الحظ".
    ويضيف: منذ أصبحت روائيّاً توقّفت عن قراءة أعمال الكتّاب المعاصرين. لأنني لا أستطيع أن أتحمّلهم، وأشعر بالإحباط الشديد إذا كانوا يكتبون أفضل منّي. لذا أقرأ المزيد من أدب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والكثير من الكتب التاريخية".
    وفي أحد المقالات كتب يقول: إن إيطاليا دولة ما تزال تؤمن بالخرافات إلى حدّ كبير. فقد تحدّث عدد من العلماء عن طقوس دينية في نابولي رافقتها "معجزة" تتمثل في تحوّل دم أحد القدّيسين الذي قُطع رأسه عام 305 إلى سائل. ووفقا للتقاليد، فإن تحوّل دماء القدّيس المحفوظة في قارورتين يحمي المدينة من الكوارث، مثل الزلازل أو ثورات جبل فيزوف". وقد انتقد إيكو على ملاحظته تلك واتُهم بمحاولة تقويض المعتقدات الدينية لأعداد متناقصة من المؤمنين، ووُصف بأنه "مُفسد للمتعة وساحر يكشف عن حِيَله".
    الفكرة التي يتردّد صداها في كلّ كتابات إيكو هي أننا نعيش في عالم يشبه الى حدّ ما جحيم العصور الوسطى. وهو عالم يصعب فهمه، ولكنه في تناقضاته مفتوح دوماً على تفسيرات مختلفة. وحتى أيّامه الأخيرة، لم يتخلّ الكاتب أبدا عن دوره الفكري في محاولة فهم الظواهر الاجتماعية والثقافية المتغيّرة، مسترشداً بالفضول البشري والعقلانية والاعتدال مع قدر كبير من روح الدعابة.

    Credits
    umbertoeco.com
    pierpaolopasolini.net

    السبت، نوفمبر 23، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • ترى لو كان الإسكندر الأكبر على قيد الحياة اليوم، كيف ستُقارن ثروته بثروات أباطرة ومليارديرات العصر الحديث؟
    يذكر المؤرّخ ڤيكتور هانسون في كتابه "حروب الإغريق القدماء" أن ثروة الإسكندر المقدوني التي جمعها من خلال سلسلة من الفتوحات الجريئة، جعلت منه أحد أغنى وأقوى الشخصيات في زمانه.
    في سنّ الثلاثين، غزا الإسكندر الإمبراطورية الأكثر قوّة وثراءً آنذاك، أي الإمبراطورية الفارسية التي كانت منجم ذهب حقيقيّا. كان الفرس قد راكموا ثروتهم نتيجة مزيج من الإدارة الذكيّة وشبكات التجارة الواسعة والجزية الضخمة التي فرضوها على الأراضي التي فتحوها. وكانت هذه البلاد الواقعة عند مفترق طرق التجارة الرئيسية، بما في ذلك طريق الحرير الشهير، مركزا مزدحما حيث كانت السلع والذهب والفضّة تتدفّق من جميع أنحاء آسيا والشرق الأدنى.
    أضف إلى ذلك الثروات الطبيعية التي كانت تتمتّع بها الإمبراطورية من الأراضي الخصبة والمعادن الثمينة والوفيرة. كان الفرس -بحسب هانسون- بارعين في توحيد جمع الجزية والضرائب، ما ضمِن تدفّقا ثابتا للثروات إلى خزائن الإمبراطورية. لذا عندما أطاح الإسكندر بداريوس الثالث واستولى على العواصم الفارسية مثل سوسا وبابل وبرسيبوليس، لم يكن يوسّع أراضيه فحسب، بل كان يحقّق الفوز بالجائزة الكبرى، أي إمكانية الوصول إلى الموارد الاقتصادية الهائلة التي احتكرها الفرس لقرون.
    يقول هانسون: بموازين اليوم يمكن وضع حصيلة الإسكندر من سوسة وحدها على قدم المساواة مع صافي ثروة جيف بيزوس مؤسّس أمازون. أما برسيبوليس فكانت خزانتها لوحدها تحتوي على حوالي أربعة ملايين كيلوغرام من الفضّة. ويمكن ان يبلغ إجمالي قيمة هذه الفضّة بأسعار هذه الأيّام أكثر من ثلاثة مليارات دولار.
    وهانسون يناقش في كتابه كيف أن فتوحات الإسكندر أعادت توزيع الثروة عبر إمبراطورتيه بحيث أن تدفّق السبائك الذهبية والفضّية في التداول يشبه الطريقة التي تعمل بها استثمارات مليارديرات التكنولوجيا على تحفيز النشاط الاقتصادي هذه الايّام.
    وبينما لا يقترب هذا المبلغ تماما من ثروة بيزوس، إلا أنه يمكن مقارنته بصافي ثروة أباطرة التكنولوجيا الآخرين مثل مارك زوكربيرغ أو جاك دورسي مؤسّسي فيس بوك وتويتر. والإسكندر، باعتباره صاحب رأس المال الاستثماري الأصلي الذي نشر الثروة في جميع أنحاء الإمبراطورية وعزّز النمو الاقتصادي يمكن مقارنته بإيلون ماسك الذي استثمر في الطاقة المتجدّدة وفي السفر إلى الفضاء.
    كان الإسكندر الأكبر هو الملياردير الأصلي الذي جمع ثروة مذهلة حتى بمعايير اليوم. وعمليات الاستحواذ الاستراتيجية التي قام بها في باكتيريا وسوغديانا، إلى جانب الكنوز التي استولى عليها من الإمبراطورية الفارسية، تبيّن النطاق الهائل لثروته. وكما يؤثّر المليارديرات المعاصرون مثل زوكربيرغ وماسك وبيزوس على عالمنا، أعادت ثروة الإسكندر تشكيل المشهد الاقتصادي للعالم القديم بالكامل.
  • ❉ ❉ ❉



    ❉ ❉ ❉

  • هذه اللوحة هي إحدى أشهر لوحات ماتيس، كما تُعتبر تحفة في فنّ رسم البورتريه في القرن العشرين. ويتجلّى تميّزها في بنيتها الهندسية البسيطة وفي الطريقة التي مُزجت بها الألوان. رسم ماتيس اللوحة لزوجته اميلي في خريف عام 1905، عندما عاد إلى باريس بعد قضائه عطلة قصيرة في الريف انهمك خلالها، هو وزميله أندريه ديرين، في تجارب ثورية تهدف إلى تحرير اللون من وظيفته الوصفية والسماح له بالعمل كقوّة في حدّ ذاته، من خلال الاستخدام غير التقليدي او المألوف للألوان.
    وباعتبار اللوحة تركيبة لونية في الأساس، فإنها تبدو جريئة وحيوية في الوقت نفسه. وقد استخدم ماتيس هذه الألوان القويّة لإرضاء العين القادرة على رؤية وتقييم كلّ شيء من مسافة بعيدة. وكان سعيدا تماما بإخضاع الشخصية المرسومة وتحويلها إلى زخرفة أو زينة.
    عنوان اللوحة، أي الشريط الأخضر، يشير الى الشريط العمودي أسفل منتصف وجه المرأة والذي يتّسق مع تقنيات وقيم الوحشية. اللوحة حظيت بالثناء والنقد بسبب هذه التقنيات، بالإضافة إلى التمثيل الفنّي المبتكر للشخصية.
  • ❉ ❉ ❉

  • يُحكى أن سلطانا على بلاد بعيدة سمع أن في السوق جارية ثمنها يفوق ثمن مائة جارية أخرى. فأرسل في طلبها ليرى ما الذي يجعلها مختلفة عن غيرها إلى هذا الحدّ. وعندما جاءت، وقفت أمامه بكبرياء لم يرَ مثله في أيّ من خدمه وجواريه الآخرين من قبل.
    وسألها السلطان: لماذا سعرك مرتفع هكذا؟ فقالت: لأني أتميّز بالذكاء". تعجّب السلطان من ردّ المرأة وثقتها بنفسها وفكّر للحظات ثم قال لها بفضول: حسنا، سأسألك سؤالاً، فإذا أجبتِ عليه بشكل صحيح فسأهبك حرّيتك، وإن لم تجيبي فسأقتلك". هزّت الجارية رأسها بالموافقة، فسألها: ما أجمل الثياب؟ وما أطيب العطر؟ وما أشهى الطعام؟ وما أنعم الفِراش؟ وما أجمل البلاد؟"
    فالتفتت الجارية إلى الحاضرين وقالت: جهّزوا أمتعتي وجوادي، فإني خارجة من هذا القصر الليلة وأنا حرّة". ثم قالت: أجمل الثياب قميص الفقير الذي لا يملك إلا واحداً، فإنه يجده مناسباً للشتاء والصيف. وأطيب العطور هي رائحة الأم، حتى لو كانت مجرّد نافخة نار في كوخ. وأشهى الطعام هو الذي يأكله الإنسان عندما يجوع، لأن الجائع يجد حتى الخبز اليابس لذيذاً. أما أنعم الفِراش فهو الذي تنام عليه مطمئنّ البال، فإن كنت ظالماً فإن الفراش، حتى لو كان مصنوعا من الذهب، سيبدو لك مليئاً بالأشواك."
    وما أن أكملت الجارية كلامها حتى توجّهت نحو الباب، فناداها السلطان: لكنكِ لم تجيبي على سؤالي الأخير بعد". فالتفتت اليه وقالت: أجمل بلد هو البلد الحرّ الذي لا يحكمه الجهلاء".
    وكان جوابها صحيحا، فحصلت على حرّيتها في الحال.

  • Credits
    open.smk.dk
    librarything.com

    الخميس، نوفمبر 21، 2024

    أسفار ناصر خسرو


    يُعتبر "كتاب السفر"، أو "سفرنامة"، للشاعر والرحّالة والفيلسوف الفارسي ناصر خسرو (1004 - 1072) وثيقة تاريخية قيّمة عن العالم الإسلامي خلال العصور الوسطى. وفيه يسرد الكاتب تفاصيل رحلاته خلال القرن الحادي عشر الميلادي والتي دامت سبع سنوات وضمّنها مشاهداته وتجاربه وانطباعاته.
    والكتاب ليس مهمّا لمزاياه الأدبية فقط، بل أيضا لأهميّته التاريخية والثقافية. وما يميّزه عن كتب الرحلات الأخرى أن سرده يعكس نهجا فلسفيا وتأمّليا ويركّز على النموّ الشخصي للكاتب والدروس الأخلاقية التي استفادها من ترحاله.
    يقول ناصر خسرو في بداية الكتاب: في يوم اقتران كوكب المشتري والقمر، وهو اليوم الذي يقال إن الله يستجيب فيه لكلّ دعاء، اعتزلتُ في زاوية وصلّيت ركعتين، سائلاً الله أن يمنحني ثروة. وذات ليلة، رأيت في المنام شخصا يقول لي: إلى متى تستمرّ في شرب المُدامة التي تدمّر عقل الإنسان؟ لو بقيت واعيا لكان ذلك أفضل لك".
    فأجبته: لم يستطع الحكماء أن يأتوا بشيء آخر يخفّف من حزن هذا العالم". فأجابني: إن فقدان الحواسّ ليس راحة. ولا يمكن أن يسمّى حكيما من يقود الناس إلى الجنون، بل يجب على المرء أن يبحث عمّا يزيد العقل والبصيرة". فقلت: وأين أجد مثل هذا؟" قال: إبحث تجد". ثم أشار إلى جبل ولم يقل شيئا آخر.
    ولما استيقظت تذكّرت كلام الرجل وقلت لنفسي: لقد استيقظتَ من نوم الليلة الماضية، فمتى ستستيقظ من نوم الأربعين عاما؟". وفكّرت في أنني إن لم أغيّر من نفسي فلن أجد السعادة أبدا. وفي اليوم التالي تطهّرت من الرأس إلى القدمين، وذهبت إلى المسجد، وصلّيت إلى الله طلبا للمساعدة في إنجاز ما كان عليّ القيام به والامتناع عمّا نهى عنه. ثم عزمت على أن أذهب إلى مكّة لأداء فريضة الحج. وسدّدت ما عليّ من ديون وتركت سائر أمور الدنيا إلا ما كان منها ضروريّا".
    بدأ ناصر خسرو رحلته من ساحل بحر قزوين في إيران إلى شرق الأناضول في تركيا ثم إلى سوريا وفلسطين ولبنان. وقد زار القدس وعكّا وحيفا وطبريّا، ومن هناك ذهب إلى مصر والقاهرة، مقرّ الخلافة الفاطمية. ومن مصر واصل طريقه إلى الحجاز عبر شبه الجزيرة العربية حيث أدّى الحج مرّتين وتوقّف في الطائف وجدّة، ليعود بعد نحو سبع سنوات من الترحال إلى موطنه في بلخ.
    في هذا الكتاب استوقفني بشكل خاص حديث المؤلّف عن زيارته لمدينتي حلب وسرمين وعن لقائه بالشاعر أبي العلاء المعرّي. يقول: على بعد ستّة فراسخ من سرمين، تقع معرّة النعمان، وهي مدينة مكتظّة بالسكّان ولها سور حجري. وقد وجدت أسواقها مزدهرة، وبُني مسجد الجمعة فيها على تلّة بحيث يتعيّن على من يريد الصعود إليه أن يرقى ثلاث عشرة درجة. وتتكوّن زراعتها أساسا من القمح، كما يكثر التين والزيتون والفستق واللوز والعنب. وتأتي مياه المدينة من الأمطار والآبار.


    وكان في هذه المدينة رجل اسمه أبو العلاء. ورغم أنه أعمى، إلا أنه كان عمدة للمدينة وعلى جانب من الثراء. كما أن عنده العديد من العبيد والخدم، لكنه اختار حياة الزهد. وكان يلبس الثياب الخشنة ويلازم البيت ويقسم نصفا من خبز الشعير إلى تسعة أجزاء ويكتفي بقطعة واحدة منه طوال النهار والليل، ولا يأكل شيئاً غير ذلك.
    ويضيف: وسمعت أن باب داره يظلّ مفتوحاً دائماً، وأن وكلاءه يقومون بكلّ أعمال المدينة، إلا الإشراف العام الذي كان يتولّاه بنفسه. كان يصوم ويسهر الليل ولا يشارك في شئون الدنيا ولا يحرم أحدا من ثروته. وقد بلغ هذا الرجل من المكانة في الشعر والأدب ما جعل علماء الشام والمغرب والعراق يعترفون بأنه لا يوجد في هذا العصر من يضاهيه.
    ثم يذكر الرحّالة أن المعرّي ألّف كتاباً اسمه "الفصول والغايات" تحدّث فيه بأمثال غامضة. ويضيف: ورغم فصاحته وعجيبه، إلا أن هذا الكتاب لا يفهمه إلا القليلون ممّن قرأوه معه. ويجتمع حول الرجل دائماً أكثر من مائتي شخص من كلّ مكان لقراءة الأدب والشعر. وسمعت أنه نظَم أكثر من مائة ألف بيت من الشعر. وقد سأله أحدهم ذات مرّة لماذا، وقد أعطاه الله كلّ هذه الثروة، يوزّعها على الناس ولا يأخذ منها شيئا لنفسه. فقال: لا أملك شيئا أكثر ممّا آكله".
    ثم يتحدّث ناصر خسرو عن رحلته الى بلدة يقال لها زوزان وتقع الى الجنوب من هيرات، وعن لقائه فيها مع رجل يُدعى أبا منصور محمد بن دوست. فيقول: كان هذا الرجل يعرف شيئاً من الطبّ والفلك والمنطق. فقال لي: خارج الأفلاك والنجوم، ماذا يوجد؟" قلت: إن الأشياء التي داخل الأفلاك لها أسماء، ولكن ليس لها أيّ شيء خارجها." فسألني: فما تقول إذن؟ هل يوجد جوهر خارج الأفلاك أم لا؟"
    فقلت: لا بدّ أن يكون الكون محدوداً بالضرورة. وحَدُّه هو الكرة الأخيرة". فقال: لذلك فإن الجوهر الذي يجب أن يعتقد العقل أنه موجود إنما هو محدود وينتهي عند هذا الحدّ. فإذا كان محدوداً، فإلى أي حدّ يكون موجوداً؟! وإذا كان لانهائياً، فكيف يمكن أن يزول من الوجود؟!" ثم قال في نهاية حديثه: لقد عانيت من حيرة شديدة بسبب كلّ هذا"، فأجبته: ومن لم يعانِ من هذه الحيرة؟!".
    ويختم الرحّالة كتابه بهذه الكلمات المعبّرة: على الرغم من أن مشقّة وتعب العالم طويلان، فإن له نهاية ولا شك. إن الكواكب والنجوم تسافر ليلا ونهارا، وكلّ ما مضى يأتي بعده آخر. ونحن نسافر عبر ما يمكن تجاوزه حتى تأتي تلك الرحلة التي لا يمكن تجاوزها.
    ويضيف: كانت المسافة التي قطعناها من بلخ إلى مصر ومنها إلى مكّة ثم عبر البصرة إلى فارس ثم بلخ مرّة أخرى، عدا رحلات زيارة الأضرحة وغيرها، أكثر من ألفي فرسخ. وقد سجّلت مشاهداتي كما رأيتها. وإذا كان بعض ما سمعتُه من حكايات الآخرين لا يتفّق مع الحقيقة، فأرجو من قرّائي أن يسامحوني ولا يعاتبوني. والحمد لله ربّ العالمين".

    Credits
    dokumen.pub

    الثلاثاء، نوفمبر 19، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • يرى بعض المؤرّخين أن زُوّارا آخرين وصلوا الى الأميركتين قبل كولومبوس، ومن هؤلاء الڤايكنغ والأيرلنديون والإتروسكان والرومان والويلزيون والأفارقة واليابانيون والصينيون. ولكن في نهاية المطاف، لم يكتشف أحد من هؤلاء شيئا بمثل أهميّة الاكتشاف الذي حقّقه كولومبوس في عام 1492.
    ولا يرجع هذا إلى كون كولومبوس هو الأوّل أو إلى كونه شخصية محبوبة. فهو لم يكن كذلك. ولكن هذا البحّار الإيطالي فعل شيئاً غير مسبوق غيّر العالم إلى الأبد، وذلك عندما أضاف قارّة بأكملها إلى العالم المعروف آنذاك.
    يقول المؤرّخ فرانك جيكوبس: قبل كولومبوس، كانت الأميركتان عبارة عن نظام بيئي مكتفٍ ذاتيّا ومعزول عن بقيّة العالم بمحيطين هائلين. وبعد كولومبوس جاء الغزو والإبادة الجماعية، ولكن جاءت معهما أيضا الشعوب والأفكار والحيوانات والنباتات والأمراض الجديدة في كلا الاتجاهين.
    فقد تدفّقت أشياء جديدة إلى العالم الجديد من أوروبّا وأفريقيا وآسيا، والعكس صحيح. وهذا هو ما يُعرف بـ تبادل كولومبوس The Columbian Exchange، وهو المصطلح الذي صاغه لأوّل مرّة مؤرّخ أمريكي يُدعى ألفريد كروسبي في عام 1972، وقصد به التبادل على نطاق واسع للأشخاص والثقافات والأفكار والحيوانات والنباتات بين الأميركتين وبقيّة العالم في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، نتيجة لاكتشاف كولومبوس للعالم الجديد.
    وكان كولومبوس نفسه هو الذي بدأ التبادل الكولومبي. ففي رحلته الأولى، عاد معه إلى أوروبّا بعدد من سكّان الكاريبي الأصليين وبعض الطيور والنباتات. وفي رحلته الثانية، جلب معه إلى الأميركتين القمح والفجل والبطّيخ والحمّص. وقد صنع هذا التبادل العالم كما نعرفه. وقبله، لم يكن هناك أناناس في هاواي ولا شوكولاتا في سويسرا ولا قهوة في كولومبيا.
    وقبل كولومبوس لم تكن أميركا معزولة بالكامل، وإلا لما قابل أيّ شعب عندما نزل الى أرضها. وكان أوّل سكّان أميركا من البشر قد عبروا من أوراسيا عبر مضيق بيرينغ قبل آلاف السنين. لكن تلك الرحلة كانت قاسية وباردة جدّا، لذا فإن "تبادل ما قبل كولومبوس" كان مقتصراً في الأساس على البشر.
    ولنتخيّل لو أن الغزاة الإسبان ماتوا بعد وقت قصير من وصولهم إلى أميركا بسبب بكتيريا أميركية غير معروفة. لربّما كان تدفّق الفتوحات قد انعكس، ولكانت مدن أوروبّا اليوم تزيّنها أهرامات الأزتيك بدلاً من الكاتدرائيات المسيحية. لكن ذلك لم يحدث. فالمرض الرئيسي الوحيد الذي انتقل في الاتجاه الآخر، أي من العالم الجديد الى أوربّا، كان مرض الزُهري.
    ولعلّ المساهمة الأكثر أهمية التي قدّمتها أميركا للنظام الغذائي العالمي كانت البطاطس. فقد دعمت القيمةُ الحرارية العالية لهذه الغلّة المتواضعة الأمن الغذائي للفلاحين، أولاً في أوروبّا ثم في أماكن أخرى، الأمر الذي ساعد في دعم الطفرة السكّانية.
    لكن كان لهذا النجاح جانب مظلم. فعندما فشل محصول البطاطس، أعقب ذلك مجاعة. وأودت آفة البطاطس في ايرلندا في أربعينات القرن التاسع عشر بحياة مليون شخص بسبب المجاعة. وهاجر مليون أيرلندي آخر، معظمهم إلى أمريكا، الأمر الذي أدّى إلى ظهور اتجاه استمرّ حتى بضعة عقود مضت.
    كان التبادل الكولومبي ولا شكّ التجربة الأولى للعالم في التعامل مع الظاهرة المسمّاة اليوم بالعولمة. وكانت بعض آثاره مفيدة، في حين كانت بعض آثاره الأخرى مدمّرة. وبهذا المعنى أصبح كولومبوس يمثّل الشخصية المثالية لهذه الظاهرة، فهو البطل والشرّير في الوقت نفسه.
    لكن الموازنة بين الخير والشرّ ليست دائما ذات جدوى. فقد أصبح العالم بعد التبادل الكولومبي أشبه بعجينة لا يمكن فصل أجزائها. ثم من الذي يرغب في العودة إلى زمن ما قبل ظهور الخيول في أميركا أو الفراولة في أوروبّا أو الكاساڤا في أفريقيا أو الأناناس في هاواي؟!
  • ❉ ❉ ❉

  • لا تستطيع اللغة أن تنقل الحقيقة التي لا يمكن وصفها لغوياً. صحيح أن هناك صوراً يمكنك أن تتخيّلها: رجال يطيرون بأجنحة ريشية، وعملاق مبتسم، وامرأة يجرّها حصان. لكن الطريقة التي صوّر بها فرانسيسكو غويا هذه الأشياء تجعلها أكثر غرابة مما تبدو عليه. فكلّ خطّ وكلّ ظلّ له صفة غير مادّية تجعلك تشعر وكأنك تنظر إلى عالم منسوج من الكوابيس الليلية في هذه الصور التي صَنَعتها شخصية غويا الشبحية قبل أكثر من 200 عام.
    والحقيقة أن ليس هناك فنّان يمكن أن يدخل في معركة مع غويا ويخرج منها سالماً، حتى فرانسيس بيكون. ولو أقام متحف برادو الإسباني معرضاً للوحات بيكون في نفس الغرفة التي يعرض فيها لوحات غويا السوداء، لبدا بيكون نفسه مثيراً للشفقة.
    وربّما يلزمك أن تكون في إسبانيا تحت حكم نابليون في أوائل القرن التاسع عشر، لترى الجثث المقطّعة الأوصال المعلّقة على الأشجار والمحتجّين المسعورين، ولترى كيف يُنتِج نوم العقل وحوشاً، ولتكتشف كيف يمكن أن يصبح الفنّ مرعباً ومروّعا ومتطرّفا كما في أعمال غويا. لكي تكون مثل غويا عليك أن تذهب إلى حافّة الهاوية!
    جوناثان جونز
  • ❉ ❉ ❉



    ❉ ❉ ❉

  • يُحكى أن رجلا حكيما أراد أن يعلّم أبناءه درسا مهمّا في الحياة، فطلب منهم مراقبة شجرة برتقال، كلّ واحد في موسم مختلف: الابن الأكبر في الشتاء والثاني في الربيع والثالث في الصيف والأصغر في الخريف.
    وقد ذهبوا جميعا، ولمّا عادوا وصفوا ما رأوه. قال الأوّل: رأيت شجرة قبيحة ومنحنية وملتوية .وقال الثاني: لا، بل كانت مغطّاة ببراعم خضراء ونضِرة. ولم يوافق الابن الثالث على كلام الاثنين وقال إن الشجرة بدت جميلة كثيرا ومحمّلة بالأزهار الشذيّة. ولم يوافق الابن الأخير على كلام إخوته وقال إن الشجرة كانت ناضجة وملأى بالفاكهة وبالحياة.
    وعندما انتهوا من أوصافهم، أوضح لهم الأب أن كلام كلّ منهم صحيح لأنه لم يرَ سوى فصل واحد في حياة الشجرة. وأضاف: لا يمكنك الحكم على شجرة أو شخص من خلال فصل واحد فقط، وأن جوهر الحياة وما فيها من متعة وفرح وحزن وحبّ لا يمكن قياسها إلا عندما نعيش جميع الفصول. وإذا استسلم الإنسان لقسوة الشتاء، مثلا، فسيفقد وعد الربيع وجمال الصيف ومتعة الخريف.. وهكذا..
  • ❉ ❉ ❉

  • من غريب ما قيل عن طقوس بعض أشهر الكتّاب في الكتابة أن ڤيكتور هوغو كان يكتب على مكتب أمام مرآة. وكان يبتلع بيضتين نيّئتين ويحبس نفسه في الشرفة الى أن ينتهي من الكتابة في جلسة الصباح. وبعدها يخرج إلى سطح البيت ويغتسل من حوض ماء يتركه هناك طوال الليل، ويسكب الماء المثلّج على نفسه ويفرك جسمه بليفة مصنوعة من شعر الخيل.
    وكان هوغو يستيقظ كلّ يوم عند الفجر على صوت إطلاق نار من حصن قريب من مقرّ اقامته في جزيرة بريطانية تقع قبالة ساحل نورماندي. وبعدها يتناول قهوة طازجة ويكتب حتى الساعة الحادية عشرة صباحا. وقد كتب في ذلك المكان بعضا من أهمّ رواياته.
    أما هاروكي موراكامي فيلتزم بجدول زمني منتظم، إذ يستيقظ في الرابعة صباحا ويعمل ستّ ساعات متواصلة. وفي فترة ما بعد الظهر يمارس الجري أو السباحة ويقرأ ويستمع إلى الموسيقى ثم ينام في التاسعة مساء.
    وموراكامي يعتقد أن القوّة البدنية ضرورية بقدر أهميّة الحساسية الفنّية. وقد انتقل للعيش في منطقة ريفية وتوقّف عن التدخين وأصبح يشرب كميّات أقلّ من الكحول ويتناول نظاما غذائيّا يتكوّن في الغالب من الخضراوات والأسماك. كما بدأ في ممارسة الجري يوميّا، وهي العادة التي ظلّ يمارسها لأكثر من ربع قرن.
    أما تشارلز ديكنز فكان ملتزما في طقسه للكتابة بثلاثة شروط، أوّلها الهدوء المطلق في مكتبه، ثم أن يكون مكتبه أمام النافذة وان يكون مرتّبا بعناية. والثالث التزامه بروتين زمني صارم، فقد كان يستيقظ في السابعة صباحاً ويتناول الإفطار في الثامنة ويصل إلى مكتبه في التاسعة.
    وكان يبقى هناك حتى الثانية ظهراً، ثم يأخذ استراحة قصيرة لتناول الغداء. كان ديكنز كاتبا غزير الإنتاج. كان يوميّا يكتب حوالي ألفي صفحة، وألّف ما مجموعه 15 رواية وعددا كبيرا من القصص والمقالات والرسائل والمسرحيات.

  • Credits
    franciscodegoya.net
    bigthink.com
    harukimurakami.com

    الأحد، نوفمبر 17، 2024

    الأصول الأولى للرسم


    لطالما انشغل البشر بالأصول الأولى للأشياء. وكانوا يعتمدون دائما على الأساطير لتفسير كثير من الأمور. ولم يكن الرسم استثناءً. فقد قدّمت ثقافات مختلفة من العالم قصصها الخاصّة عن نشأة الرسم. والشيء الوحيد المشترك بين تلك القصص هو أن الرسم بدأ عندما رسم شخص ما ظلّ شخص آخر.
    وطبقا لقصّة كتبها بليني الاكبر، المؤرّخ الروماني من القرن الأوّل الميلادي وضمّنها كتابه "التاريخ الطبيعي"، فإن أوّل لوحة في التاريخ على الإطلاق رسمتها ابنة خزّاف من بلدة كورينث باليونان، والتي اشتهرت منذ القدم بصناعة الخزف. كانت الفتاة، واسمها ديبوتاديس، مخطوبة لشابّ وكان على وشك السفر بعيدا عن بلدتهم. وقبل رحيله ليلا، أحبّت الفتاة أن تتذكّره فرسمت محيط رأسه على الحائط باتباع الظلّ الناتج عن ضوء مصباح. ثم طلبت من والدها أن يصنع لذلك الشكل قطعة خزفية. وقد ملأ والدها تلك الصورة الظلّية بالطين، ثم أحرق الطين في الفرن وأصبحت تلك أوّل منحوتة عرفها الانسان.
    وكانت تلك الصورة الشعرية مشهورة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصُوّرت في العديد من الأعمال الفنّية، وأصبحت موضوعا شائعا بين الفنّانين الغربيين من سبعينات القرن الثامن عشر إلى عشرينات القرن التاسع عشر.
    ولو سلّمنا جدلا بصحّة تلك القصّة، فإن هذا يعني ان الرسم لم يولد كوسيلة اتصال، بل كأداة للتذكّر. فابنة الخزّاف لم تحتفظ بصورة لخطيبها، بل احتفظت بمحيط رأسه، وهو تفصيل يكفي لأن يتمكّن أيّ شخص يعرفه من تذكّره.
    الرسام الانغليزي جوزيف رايت (1734 - 1797) رسم شخصية خطيب الفتاة الكورينثية على غرار تمثال نائم رآه في روما. وكان قد قضى في إيطاليا حوالي عامين وسجّل في كرّاسه الخاص الآثار القديمة والمنحوتات التي رآها. واستند في رسمه للمفروشات والملابس وحتى في تسريحة شعر المرأة الظاهرة في لوحته إلى أدلّة أثرية. كما رَتّب الشخصيات بإيقاع محسوب بعناية.
    وبصفته معلّما في الإضاءة الاصطناعية، أخفى رايت مصباحا معلّقا خلف الستارة ليشير إلى مصدر الضوء الذي يلقي بظلّه على الشابّ. ولم ينسَ أن يضمّن المنظر صورة لكلب نائم كرمز للإخلاص. كان رايت أستاذا في الرسم القديم. لذلك، كانت البيئات المظلمة مناسبة تماما لأسلوبه. وكان الانغليز في أواخر القرن الثامن عشر يستمتعون بتجسيد فكرة المرأة المخلصة التي تنتظر حبيبها الغائب.
    وقد تداول الناس أسطورة ديبوتاديس على مرّ العصور. وأشار إليها ليوناردو دافنشي وجورجيو ڤاساري في كتاباتهم. ومنذ القرن السابع عشر، ازدادت شعبية القصّة بين الفنّانين الغربيين. ومن الغريب أنهم غيّروا في الرواية لتناسب الرسم فقط وتغافلوا عن نموذج الطين/النحت الذي ركّز عليه بليني الأكبر في كتابه.
    وقصّة فتاة كورينث تشبه قصّتي بيغماليون وغالاتيا، حيث تُحوّل إحداهما شخصا إلى عمل فنّي، بينما تُحوّل الأخرى العمل الفنّي إلى إنسان حيّ. وهنا يمكننا أن نرى كيف يعمل الرسم كبديل للحبيب. فهو ليس مجرّد صورة، بل إن جوهره يعيش فيه.


    لكن بعض المؤرّخين يشيرون الى أن أوّل لوحة في التاريخ رسمها بشر بدائيون يُعتقد أنهم من سلالة إنسان النياندرتال في عصور ما قبل التاريخ. وتكشف الحفريات الأثرية التي أُجريت في أوروبّا وأفريقيا وآسيا أن بشرا بدائيين كانوا أوّل الرسّامين والنحّاتين وقد أظهروا من خلال تلك الفنون بعض أنشطة حياتهم اليومية.
    واللوحات الأولى التي اكتشفها علماء الآثار على جدران وأسقف بعض الكهوف هي عبارة عن رسوم تنبض بالحياة وتستخدم أكثر من ثلاثة ألوان وتتضمّن محاكاة للطبيعة بأقصى قدر من الواقعية. ففي كهوف ألتاميرا في إسبانيا، مثلا، توجد لوحة صخرية مثيرة للإعجاب رُسمت لحيوان البايسون أو الجاموس أثناء صيده وباستخدام تقنية الضوء والظلّ.
    وجزء كبير من رسومات الكهوف تصوّر حيوانات ونباتات وأشياءَ أخرى بدرجات متفاوتة من الواقعية. وهناك أيضا تمثيلات رسومية وتجريدية ومشاهد معقّدة. والعديد من علماء الآثار يعتقدون أن تلك الرسوم قد تكون مرتبطة بطقوس الصيد والخصوبة ودرء الخطر وبمحاولات الانسان القديم إيجاد لغة رمزية للأفكار أو المشاعر أو الحياة اليومية.
    ومهما كان الدافع وراء تلك الرسومات، سواءً الرغبة في صنع الفنّ أو في تسجيل الحياة اليومية في ذلك الوقت، فإن الفنّ الصخري المحفوظ منذ آلاف السنين حوّل تلك الكهوف إلى أوّل متاحف للإنسانية.
    وهناك مؤرّخون يعتقدون أن أصل الرسم كما نعرفه اليوم يعود إلى العصر الحجري الحديث، أي الى الألفية العاشرة قبل الميلاد، عندما بدأ الرسم على الصخور يشهد تراجعا بسبب تطوّر الزراعة والمجتمع. وقد ظهر في اليونان القديمة وأتقنه الرومان فيما بعد. ففي حوالي عام 3000 قبل الميلاد، بدأت القرى الصغيرة في الظهور في البرّ الرئيسي لليونان وبدأ هناك تقليد الرسم على التحف الخزفية مثل المزهريات والأواني.
    ومنذ الألفية الثانية قبل الميلاد، نشأ في مدينة كريت مجتمع ملكيّ متحضّر. وفي القصور والمباني الكبيرة، ظهرت أولى علامات اللوحات الجدارية بأسلوب تصويري مختلَط وبتصاميم هندسية، مع أشخاص يمارسون أنشطة مختلفة كالعبادة والألعاب واحتفالات القصور وما الى ذلك.
    وكانت الموادّ المستخدمة في ذلك الوقت عبارة عن مستخلَص من البيض وطلاء يعتمد على الشمع وأصباغ معدنية ونباتية في وسط مائي. اما الألوان المفضّلة فكانت الأبيض والأسود والأصفر والأحمر. وكان الأخضر والبنفسجي أقلّ درجات اللون ثباتا ومن ثمَّ أقلّها استخداما. أما الأزرق فكان باهظ الثمن للغاية ويُستخلص من طحن حجر شبه كريم هو اللازورد.
    منذ عشرينات القرن التاسع عشر، قلّ الحديث كثيرا عن قصّة الخزّاف اليوناني وابنته وخطيبها، ولكنها لم تختفِ تماما. وما تزال القصّة تتردّد حتى اليوم، خاصّة عندما يأتي الحديث عن الفنّانات الإناث اللاتي عانين من التجاهل ولم يلاحظهن أحد أو مُحيت أسماؤهنّ من التاريخ، بسبب السلطة الأبوية والمجتمع الذكوري.

    Credits
    tate.org.uk

    الجمعة، نوفمبر 15، 2024

    مفارقة الفراشة


    نحن مثل الفراشات التي ترفرف ليوم واحد وتعتقد أنها ستستمر إلى الأبد.
    كارل سيغان

    ❉ ❉ ❉

    كان "تشوانغ تسي" فيلسوفا معروفا في الصين القديمة. وقد ذهب ذات ليلة لينام وحلُم أنه فراشة تطير من زهرة إلى زهرة. كان متأكّدا تماما أنه فراشة، لدرجة أنه شعر في الحلم بالحرّية وبالنسيم العليل أثناء طيرانه. ولكن عندما استيقظ، تبيّن له أنه ما يزال هو نفسه وأنه كان فقط يحلم. وبعد ذلك طرح "تشوانغ تسي" السؤال التالي على نفسه: هل كنت أنا "تشوانغ تسي" أحلم بأنني فراشة، أم أنني الآن فراشة أحلم بأنني "تشوانغ تسي"؟!
    في الحلم، رأى "تشوانغ تسي" العالم من جديد من خلال عيني فراشة، متحرّرا من القيود البشرية. وبدا الحلم وكأنه حقيقة، ما دفعه إلى ذلك التساؤل الإشكالي عند استيقاظه. هذا الحدث الغريب، أي التحوّل بين انسان وفراشة كان تحدّيا لإدراكه للواقع وإحساسه بذاته، لأنه يطمس الخطوط الفاصلة بين الواقع والوهم ويدفع إلى التأمّل بعمق في الوعي والهويّة.
    فكرة الفراشة كروح هي فكرة عميقة وقديمة. ويبدو أنها تتكرّر بلا نهاية عبر الحضارات. هذه الحشرات الطائرة الرقيقة والحرّة هي أقرب ما يقدّمه العالم الطبيعي لمفهومنا عن الروح البشرية الطليقة وغير المقيّدة. والإغريق القدماء هم الذين صاغوا استخدام الفراشة في الثقافة، من خلال ربطها صراحةً بالروح البشرية. بل إن الكلمة اليونانية للفراشة، أي Psyche ، هي نفسها التي تعني الروح أو النفس.
    ونفهم أن الفراشات التي ترفرف في الأحلام ترمز في العديد من الثقافات وعلى مرّ العصور إلى التحوّل الشخصي العميق. فكّر في التحوّل من اليرقة إلى الجمال المجنّح. هذه الحشرات تمثّل في الأحلام احتضان تغييرات الحياة التي تسمح لذواتنا الحقيقية بالظهور. ورحلتنا عبر الحياة تشبه هذا إلى حدّ كبير. فمع مرورنا بكلّ مرحلة، يصبح الشخص الذي يخرج مختلفا تماما عن الشخص الذي سبقه. وعندما تظهر الفراشات في العقل اللاواعي، يجب النظر إليها كمرشد يشجّعك على نشر أجنحتك.
    وفراشة الفيلسوف "تشوانغ تسي" ترمز إلى الطبيعة السائلة والوهمية للحياة. وكما تخضع الفراشة للتحوّل، فإن رحلتها تصوّر الحدود الضبابية بين حالات الوجود وتدعونا إلى التأمّل في الحجاب الشفّاف الذي يفصل الأحلام عن الواقع. إن من المخيف أحيانا أن نخرج من "شرنقتنا" وننتقل من المعروف إلى المجهول. ولكن عندما نفعل ذلك، يحدث التحوّل وينفتح أمامنا عالم جديد تماما وتستمرّ عملية النموّ.
    وقصّة "تشوانغ تسي" تتجاوز كونها مجرّد سرد لقصّة، فهي تثير تساؤلات عميقة حول الوعي الذاتي وطبيعة الواقع وتدفعنا للتساؤل عن صلابة تصوّراتنا ويقين معرفتنا. كما أنها تستدعي العقل في مغامرة، وترشدنا عبر متاهة الإدراك لكشف الحقائق المنسوجة في أحلامنا وحياتنا اليقِظة.


    ترى كم مرّة توقّفنا وسألنا أنفسنا ما إذا كان ما نختبره حقيقيّا أم مجرّد إسقاط لأفكارنا؟ حلم الفراشة لـ "تشوانغ تسي" يشجّعنا على التأمّل في أعماق تجاربنا الذاتية وفي الكيفية التي تُشكّل بها حواسّنا وأفكارنا واقعنا، كما يذكّرنا بأن ما يبدو صلباً وحقيقياً قد يكون عابراً مثل حلم.
    في الفلسفات الشرقية أصبح يُشار إلى هذا النوع من الحجج باسم "مفارقة تشوانغ تسي"، التي تشير إلى تحوّل عميق يطمس الحدود بين الواقع والوهم ويحثّنا على التأمّل فيما إذا كانت الحياة نفسها مجرّد رؤية عابرة.
    بعد "تشوانغ تسي" بمئات السنين، ظهرت وجهة نظر في الفلسفة تُعرف باسم الشكّ المعرفي Epistemic Self-Doubt، ومؤدّاها أننا كبشر لا نستطيع معرفة أيّ شيء على وجه اليقين. وقد نوقشت هذه الفرضية كثيرا وفي أزمنة مختلفة من قبل العديد من الأصوات المتشكّكة. وطرح رينيه ديكارت في كتابه "التأمّلات" فكرة مماثلة قال فيها: إذا كنت أعتقد أن أحلامي حقيقية وأنني أعيشها، فكيف يمكنني أن أعرف أن ما أعيشه الآن حقيقي بالفعل وليس مجرّد حلم؟!"
    وقد أراد "تشوانغ تسي" و"ديكارت" من كلامهما أن يوضّحا أن اليقظة والحلم ثنائية زائفة وأنه يصعب التمييز بينهما، فلا يمكن للمرء معرفة ما إذا كان يحلم الآن أم أنه مستيقظ.
    كان الفيلسوف الصينيّ ينظر إلى الموت باعتباره عملية تحوّل طبيعية يجب قبولها، حيث يتخلّى الشخص عن شكل من أشكال الوجود ليأخذ شكلا آخر. كما كان يرى أن الموت قد يكون في الواقع أفضل من الحياة. يقول: كيف أعرف أن حبّ الحياة ليس وهما، وكيف أعرف أنني في كرهي للموت لست مثل الرجل الذي ترك منزله في شبابه ثم نسي طريق العودة؟".
    ثم يقول: إن من يحلم بشرب الخمر قد يبكي عندما يأتي الصباح. ومن يحلم بالبكاء قد يذهب للصيد صباحا. وبينما هو يحلم فإنه لا يعرف أنه حلم، بل قد يحاول في حلمه تفسير الحلم! ولن يعرف إلا بعد أن يستيقظ أنه كان حلما. ويوما ما ستكون هناك صحوة عظيمة عندما نعرف أن كلّ هذا حلم. ومع ذلك فإن الأغبياء يعتقدون أنهم مستيقظون ويفترضون بحماس أنهم يفهمون الأشياء. عندما أقول إنك تحلم، فأنا أحلم أيضا. ستوصف كلماتي بالاحتيال الخادع. لكن بعد عشرة آلاف جيل، قد يظهر حكيم يعرف معناها".
    لقد استيقظ "تشوانغ تسي" من عالم الأحلام، حيث تحوّلَ إلى فراشة رقيقة تحلّق بحريّة عبر سماء الليل. ثم قال لنا إن عالم الأحلام والواقع مترابطان وكلّ منهما يعكس الآخر إلى ما لا نهاية. فهل نحن مثله مجرّد حالمين في سراب كونيّ عظيم؟!

    Credits
    philosophynow.org

    الأربعاء، نوفمبر 13، 2024

    أيّام في حياة دوستويفسكي


    كثيرا ما نميل الى رسم صور ذهنية للكتّاب الذين نقرأ لهم. وأظنّ أن الصورة التي يقدّمها فيلم "26 يوما في حياة دوستويڤسكي" هي أقرب ما تكون لصورة الكاتب كما انطبعت في ذهني عن شخصه وكتاباته. وليس من المبالغة القول إن هذا الفيلم يُعتبر هديّة مثالية للذين يقدّرون الكاتب الروسي الكبير وفنّه.
    المعروف أن سيرة حياة دوستويڤسكي كانت موضوعا للعديد من الأفلام، خاصّة الروسية. لكن ما يميّز هذا الفيلم بالذات أن المخرج، واسمه ألكسندر زاركي، تعمّد فعل شيء مختلف عندما قدّم دوستويڤسكي على سجيّته ودون تضخيم أو توقير مبالغ فيه، لكن بمراعاة واحترام.
    أما أداء الممثّل الذي جسّد شخصية دوستويفسكي، واسمه أناتولي سولونيتسين، فيقصر عنه الوصف بالكلمات، وهو في الحقيقة لم يكن يمثّل بل تقمّص الشخصية بعمق وإتقان.
    أفلام السيرة تتناول عادةً حياة الشخص من ميلاده وحتى وفاته. لكن مخرج هذا الفيلم اختار أن يركّز على تلك الفترة القصيرة المذكورة في عنوان الفيلم، والتي كانت أكثر فترات حياة دوستويڤسكي صعوبةً وقتامةً.
    في ذلك الوقت من عام 1866، كان ما يزال كاتبا غير معروف نسبيّا. وكان على وشك إكمال روايته "المقامر". كما كان مثقلا بالديون التي لم يتمكّن من سدادها. كان أيضا يعاني من الاكتئاب الذي هاجمه بعد فقدان زوجته وموت شقيقه الذي كان مقرّبا منه كثيرا.
    والفيلم يعيد بناء الرواية لإظهار أوجه التشابه بين وقائعها وحياة الكاتب نفسه. فبطل "المقامر" شخص مهووس بالقمار ومستعدّ للمخاطرة بكلّ شيء من أجل علاقة حبّ استغلالية ولإشباع إدمانه القهري للعبة الروليت.
    ودوستويڤسكي المهووس بالمقامرة والذي خسر كلّ أمواله في رحلة إلى كازينو ومنتجع في ألمانيا، يقامر بعمله في عقد يوقّعه مع ناشر محتال. وقد وضع هذا الناشر دوستويڤسكي أمام خيار صعب، فإمّا أن يسلّمه مخطوطة روايته قبل نهاية شهر نوفمبر من ذلك العام أو سيكون من حقّ الناشر أن يحصل على حقوق نشر الرواية بشكل قانوني.
    ودوستويڤسكي لا يستسلم لذلك الشرط التعاقدي المجحف ويرى فيه محاولة ابتزاز واضحة. ويقرّر أن عليه أن يكتب بجدّ ونشاط ليكمل الرواية ويسلّمها قبل الموعد النهائي. ولتسريع وتيرة عمله، يبادر للاستعانة بكاتبة اختزال. ومع مرور الوقت، يكتشف أنه يحتاج إلى صحبة المرأة أكثر من خدماتها الفنّية. وفي الوقت القليل المعطى له، ينجح فعلا في إنهاء الرواية قبل الموعد المحدّد، وتنشأ بينه وبين مساعدته علاقة حبّ، وسرعان ما تصبح زوجته وصديقته المخلصة.


    الممثّل سولونيتسين نجح كثيرا في تقديم شخصية دوستويڤسكي ببراعة متناهية. فهو لا يشبهه بالملامح فقط، بل يجسّد أيضا بعضاً من سمات الكاتب الكبير كما يتخيّلها قرّاء رواياته، أي الشخص العصابي والعاطفي والكئيب والمتواضع والغاضب والساخر والعفوي والعطوف والمتقلّب.. الخ.
    وقد فاز سولونيتسين بجائزة الدبّ الفضّي لأفضل ممثّل من مهرجان برلين السينمائي الدولي الحادي والثلاثين عام 1981 عن لعبه دور دوستويڤسكي. وتَصادفَ ذلك مع مناسبة الذكرى المئوية الأولى لوفاة الكاتب الكبير في فبراير 1881.
    كان أداء سولونيتسين لدور دوستويڤسكي هو دوره ما قبل الأخير قبل وفاته. وقد اشتهر في الغرب بأدواره في العديد من أفلام اندريه تاركوڤسكي، مثل "سولاريس" و"ستوكر" و"المرآة"، بالإضافة الى لعبه الدور الرئيسي في فيلم "أندريه روبليڤ".
    في كتابه "النحت في الزمن"، يذكر تاركوڤسكي أن سولونيتسين هو ممثّله المفضّل ويمتدح قدرته على تنفيذ أفكاره كمخرج بأفضل صورة. كان لدى الاثنين كيمياء مشتركة وشكّلا ثنائيّا فريدا من نوعه، وأنتج تعاونهما بعض أهم روائع السينما الروسية. وكان يشعر بالغيرة عندما يضطرّ ممثّله المفضّل للعمل مع مخرجين آخرين. لكن كلّما فكّر في إخراج فيلم جديد، كان يصرّ على أن يكون سولونيتسين جزءا منه.
    وعندما فكّر تاركوڤسكي في صنع فيلم مقتبس من رواية دوستويڤسكي المشهورة "الأبله"، أبدى سولونيتسين استعداده لإجراء جراحة تجميلية كي يبدو أكثر شبهاً بالكاتب الكبير. وكان يُفترض أن يلعب سولونيتسين الدورين الرئيسيين في كلّ من فيلمي "نوستالجيا" و"التضحية". لكنه توفّي قبل إنتاجهما متأثّرا بسرطان الرئة في عام 1982 عن عمر يناهز 47 عاما. وكان قد أُصيب هو وتاركوفسكي بالمرض بعد تعرّضهما لموادّ كيميائية سامّة في موقع تصوير فيلم "ستوكر".
    الكثير من روايات دوستويڤسكي تحوّلت الى أفلام سينمائية، مثل "الجريمة والعقاب"، و"الاخوة كارامازوف"، و"رسائل من تحت الأرض"، و"الليالي البيضاء"، و"المقامر" وغيرها.
    كما كان لفلسفته وأفكاره الوجودية تأثير كبير على أعمال بعض أبرز صنّاع السينما المعاصرة. ويظهر هذا التأثير بوضوح في أفلام مثل "حافّة السكّين" لإدموند غولدنغ، و"لصوص الدرّاجات" لفيتوريو دي سيكا، و"المترصّد" لأندريه تاركوفسكي، و"الختم السابع" لإنغمار بيرغمان، و"الأبله" لأكيرا كوروساوا وغيرها.

    Credits
    dostoevsky.org
    theseventhart.info

    الاثنين، نوفمبر 11، 2024

    لفافة طويلة زرقاء وخضراء


    "ألف ميل من الأنهار والجبال" هو اسم هذه اللوحة "أو بالأحرى المخطوطة أو اللفافة" المشهورة لمناظر طبيعية رسمها الفنّان الصيني وانغ شيمانغ في أوائل القرن الثاني عشر خلال حكم أسرة سونغ.
    وتُعتبر اللوحة من أفضل وأشهر تُحف الفنّ الصيني نظراً لجاذبيّتها الفريدة وأهميّتها الثقافية الكبيرة. وبفضل حجمها الكبير وضربات فرشاتها المعقّدة ودلالاتها الغنيّة، توفّر اللوحة نظرة معمّقة لطبيعة الصين وثقافتها القديمة.
    والصورة بأكملها مرسومة على هيئة لفافة يدوية طولها أكثر من 17 قدما وتستخدم منظورات وزوايا بصرية متعدّدة لإتاحة رؤية بانورامية لمنظر طبيعي موسّع ومفصّل لجبال وأنهار وغابات وقرى.
    النقّاد يعتبرون هذه اللوحة أحد أعظم الإنجازات في تاريخ رسم المناظر الطبيعية الصينية. وقد أثّرت على أجيال متعدّدة من الفنّانين، واحتُفل بها باعتبارها كنزا وطنيّا للصين. وربّما يكون الأمر الأكثر روعة من اللوحة هو حقيقة أن من أبدعها كان شابّا لم يتجاوز عمره العشرين عاما عندما رسمها. ومن المؤسف أنه توفّي في ظروف غامضة بعد عامين من رسمه لها.
    وتشير دقّة الرسم في اللوحة إلى أن الفنّان نشأ في جنوب الصين، لأن السكّان الأصليين فقط هم من يعرفون تضاريس المنطقة بهذه الدقّة. ويمكن تقسيمها إلى ستّة أقسام، وكلّ منها مرتبط بعنصر طبيعي: البحيرات والقوارب والبيوت الريفية والأجنحة والجسور والشخصيات، لكن التركيز في كلّ قسم ينصبّ دائما على الجبال الشاهقة والمذهلة.
    وكثيرا ما تقارَن اللوحة بالسيمفونية، من حيث أنها مقسّمة إلى مقدّمة وصعود وتطوّر وذروة ثم هبوط فنهاية. والجبال في الصورة تمتدّ لمئات الأميال "في الواقع" وبمستويات عالية ومنخفضة تعكس إحساسا قويّا بالإيقاع والنظام. وبحسب ناقد، تشبه تجربة رؤية هذه الصورة راكبا يسافر في قطار ويراقب المناظر الطبيعية التي تمرّ أمامه من خلال نافذة عربته.
    وبسبب حجم اللوحة الكبير وتفاصيلها الدقيقة، فإنه لا بدّ من رؤيتها عدّة مرّات على مسافات متعدّدة. في البداية يتعيّن النظر اليها من مسافة بعيدة لملاحظة عظمتها الشاملة، ثم النظر اليها من مسافة قريبة لملاحظة سماتها الرائعة، ثم من مسافة متوسّطة لملاحظة تأثيرها العام وفخامتها وتفاصيلها الدقيقة.
    كانت رحلة اللوحة طويلة ومرّت بالعديد من التجارب. فبعد أن أكملها الرسّام وانغ شيمانغ، قدّمها إلى الإمبراطور هوي سونغ من أسرة سونغ، الذي أعجب بها بشدّة ثم أهداها إلى وزيره المفّضل. وفي وقت لاحق، أصبحت اللوحة جزءا من المجموعة الإمبراطورية.
    ويقال إن الإمبراطور نفسه كان رسّاما وخطّاطا ماهرا. وقد اكتشف موهبة الفنّان الصبيّ غير العادية وتولّى شخصيّا تعليمه. وعند بلوغه الثامنة عشرة من عمره، كان قد تعلّم أحدث تقنيات الرسم وبدأ في تطوير أسلوبه الفريد. وعلى مدى ستّة أشهر، كرّس نفسه لرسم هذه المناظر الطبيعية الشاسعة والمترامية الأبعاد والتي لا يزال يُذكر بها حتى اليوم.
    وخلال مسيرته الفنّية القصيرة، نجح شيمانغ في التقاط روح البلاط. في تلك الفترة ونتيجة لمحاصرة الصين من قوى معادية كالمغول في الشمال والنانتشاو في الجنوب، تراجع المجتمع الصيني إلى الداخل وأصبح الفنّ يعكس، أكثر، المشاعر والشواغل الداخلية.


    من الصحيح أيضا القول بأن اللوحة تصوّر التعايش المتناغم بين البشر والطبيعة، وتجسّد بيئة إنسانية مثالية يسودها التكامل بين السماء والبشر كما تعكسه الثقافة الصينية عادة في لوحات المناظر الطبيعّية. وقيل إن اللوحة هي تعبير عن صورة العالَم المسالم. كما أن المناظر الطبيعية الجبلية الممتدّة بلا انتهاء هي تأكيد على هدوء ورزانة العلماء وسبل عيش الناس. أما المياه الصافية والأمواج الزرقاء فرمز للسكينة والسلام.
    وهذه المفاهيم الجمالية تنسجم بشكل سلس مع لوحات الطبيعة الصينية التي تعكس الادراكات والمنظورات البيئية. وتُظهِر اللوحة وحدة الطاويّة والفنّ وتجسّد جوهر الإقامة والترويح عن النفس، ما يسمح للناس بالمشي والنظر المتأمّل والاستمتاع بمحيطهم وخلق بيئة معيشة مثالية.
    والتفكير التأمّلي الذي تثيره اللوحة يتناغم مع الأفكار الطاويّة التي تروّج للسلام والنظام. وبالنسبة للإمبراطور الذي كان ممارسا ومروّجا للطاوية، فإن اللوحة هي أرض طاويّة خيالية بتصويرها لريف مسالم ومزدهر وهادئ.
    الموادّ المستخدمة في اللوحة بسيطة: حبر أسود وأصباغ أرضية على لفافة حرير طويلة. ومع ذلك، فإن بساطة الموادّ المستخدمة تزيد من تعقيد تركيبها. في البداية رسم الفنّان المسوّدة الأولى بالحبر. ولتعزيز تناغم المشهد أضاف اللون الأخضر الحجري المصنوع من الفيروز والملكيت. ثم أضاف اللون الأخضر مرّة أخرى لتعزيز التأثير البصري الثلاثي الأبعاد.
    الألوان الزاهية وضربات الفرشاة الرائعة هي من عناصر جاذبية اللوحة. وهذه التركيبة المتناغمة يُنظر اليها على أنها تمثيل لرفاهية الدولة في الزمن الذي رُسمت فيه. وقد استخدم الفنّان اللونين الأزرق والأخضر الفاتحَين على خلفية صفراء داكنة، وهو أسلوب نموذجي لرسم ما يُعرف بـ "المناظر الطبيعية الخضراء والزرقاء" التي راجت في تلك الفترة.
    ويستخدم هذا النوع من المناظر أصباغا معدنية لإضفاء تأثير زخرفيّ مبالغ فيه بعض الشيء. ورغم أن اللون الأزرق والأخضر هما الغالبان، إلا أن هناك أيضا استخداما لدرجات اللون الأحمر الدقيقة للتأكيد على عمق وعظمة المناظر الطبيعية.
    اللون الأزرق اللازوردي النابض بالحياة يهيمن على قمم الجبال، بينما يغلب اللون الملكيتي الأخضر على الوديان، واللون البنّي الباهت دلالة على الجبال. وهذا الترتيب المشعّ يعزّز اللون على طول المنظر بحيث يصبح التركيز على الضوء والظلّ والملمس بدلاً من الخطوط العريضة والأشكال. وعلى الرغم من مرور قرون على رسم اللوحة، إلا أنها ما تزال تحتفظ بوضوحها وثراء ألوانها وأصباغها النادرة.
    رسم وانغ شيمانغ هذه اللفافة الضخمة عندما كان في الـ 18 من عمره. وكان وقتها يعمل أمينا لمكتبة الإمبراطور. وأنجز هذا الشابّ الموهوب عمله في 6 أشهر أثناء إقامته في العاصمة. ويُعتقد أنه توفّي في سنّ مبكّرة، أي في حوالي العشرين من عمره. وقد جعلته وفاته المبكّرة من الفنّانين العظماء الذين رحلوا قبل أوانهم.
    كانت حياة شيمانغ أقصر من حياة أغلب نظرائه في الغرب الذين ماتوا في سنّ الشباب، مثل جورجيوني (33 عاما) ورافائيل (37 عاما) وكاراڤاجيو (39 عاما). وقد انتشرت أساطير كثيرة حول السبب الحقيقي للوفاة. قيل مثلا انه مات من الإرهاق. وقيل إنه أُعدم لسبب ما بعد أن وشى به البعض بسبب غيرتهم منه.
    ومن الواضح أن الرسّام لم يحظَ بالقدر الكافي من الاحتفاء والاهتمام، والسبب هو أنه لم يبقَ له أيّ عمل معروف آخر حتى اليوم غير هذه اللوحة. وهناك من يقول ان مسيرته الفنّية مجهولة وضائعة، وهي مجرّد خيال لما كان من الممكن أن يكونه.
    في عام 1953، أصبحت لوحة "ألف ميل من الأنهار والجبال"، وما تزال، جزءا من مجموعة متحف قصر بيجين "أو متحف المدينة المحرّمة".

    Credits
    sinocultural.com