:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يوليو 25، 2024

في الغابة/2


  • المفكّر والفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو الذي قضى فترة من حياته في وسط غابة يقول: ذهبت إلى الغابة لأنني كنت أرغب في أن أعيش حياة مدروسة، وأن أواجه فقط الحقائق الأساسية للحياة، وأرى ما إذا كان بمقدوري تَعلُّم ما يجب أن تعلّمني إيّاه الحياة، ولكيلا أكتشف عندما يحين موعد موتي أنني لم أعش. أن تضيع في الغابة في أيّ وقت هي تجربة مدهشة ولا تُنسى."
  • الدخول إلى عالم الفنّان الفرنسي هنري روسو يشبه الدخول إلى أعماق غابة يوحي شكلها بالمتاهة، حيث تتكشّف أنواع القصص والدراما المختلفة من خلف الأغصان والنباتات والأشجار. كان هذا الرسّام يرى العالم كغابة ويعبّر من خياله عن العالم كما يراه. وكان دائما يقول: لا شيء يجلب لي السعادة أكثر من تأمّل الطبيعة ورسمها".
  • دستويفسكي يشير في فقرة من روايته الأشهر "الإخوة كارامازوف" إلى لوحة يصفها بالمذهلة للرسّام إيفان كرامسكوي، تظهر فيها غابة في الشتاء ورجل يقف بمفرده على الطريق بثياب رثّة وحذاءين باليين. ثم يعلّق على اللوحة بقوله: هناك أشخاص كثر يعيشون في هذا العالم، ليسوا بالسيّئين أو الأشرار، لكن لا فائدة منهم أيضا".
  • باولو اوتشيللو رسّام إيطالي عاش في القرن الرابع عشر. وأشهر لوحة له صوّر فيها رحلة صيد في غابة ليلية لعدد من أثرياء فلورنسا مع حاشيتهم وخدمهم. وقد ملأ الرسّام اللوحة بصور لفرسان مع خيول وكلاب. في زمن اوتشيللو، كان الصيد هو الرياضة المفضّلة للعائلات الموسرة. ولطالما ارتبطت طقوسه بالزواج، إذ كانت مطاردة الحيوانات وصيدها هي الصورة المجازية للسعي في طلب المحبوب وخطب ودّه.
  • جيم كوربيت عالم طبيعة إنغليزي قضى سنوات طويلة في الهند في بدايات القرن الماضي وكتب كثيرا عن غابات تلك البلاد وعن جمال وتنوّع حياتها الفطرية. يقول واصفا غابة:
    اللون الأزرق الفولاذي للبِركة المحاطة بأشجار السرخس حيث يرتاح الماء قليلاً قبل أن يتدفّق فوق الصخور والحصى ليأخذ أنفاسه مرّة أخرى في بركة أخرى أكثر جمالا من تلك التي تركها للتوّ، وميض طائر الرفراف الملوّن وهو يكسر سطح الماء ويُسقط وابلا من الماس من أجنحته وهو يرتفع بزقزقة مبهجة بينما سمكة صغيرة فضّية مثبّتة بقوّة في منقاره القرمزي، النداء اللحني الواضح للغزلان المرقّطة إذ تُبلِغ أهل الغابة أن النمر، الذي تظهر آثار أقدامه مبلّلة على الرمال حيث عبَر النهر قبل بضع دقائق، يبحث عن عشائه."
  • "مكتبة المستقبل" مشروع ثقافي عالمي يعتمد على أشجار غابة. وقد تمّ بموجب المشروع تكليف عدد من الروائيين العالميين الأحياء بأن يكتب كلّ منهم مخطوطة رواية، على ألا تُطبع وتُنشر إلا بعد 100 عام من الآن.
    ولهذا الغرض زُرعت 1000 شجرة صنوبر في غابة بأوسلو على أن تُقطع الأشجار بعد 100 عام وتُحوّل إلى ورق تُطبع عليه مخطوطات الكتب التي يُرجّح ألا يكون مؤلّفوها على قيد الحياة في ذلك الوقت.
    ومن الروائيين الذين فرغوا بالفعل من كتابة مخطوطات رواياتهم وسلّموها لأمانة المكتبة كلّ من النرويجي كارل كنوسغارد والتركية اليف شفق والكندية مارغريت ايتوود.
  • الرسّام الروسي إيفان شيشكين من القرن التاسع عشر له لوحة جميلة ولا يخلو اسمها من شاعرية: أمطار في غابة الصنوبر" (فوق). الصورة تثير إحساسا بالألوان الزاهية وبالسماء الأكثر إشراقا. والرسّام يخلق شعورا حقيقيّا بالعالم، حيث الطبيعة ليست طيّبة أو شرّيرة.
    وهو يقودك في السير على طريق، ومن السهل عليك بعدها أن تقتفي خُطاه. كما انه يمنح الناظر انطباعا بأن السماء تمطر. كان شيشكين يُلقّب بـ "شاعر الغابات الملحمية الروسية" لإمساكه بمواسم الغابات وتعبيره عن أمزجة الطبيعة المتغيّرة.


  • غابات السنديان ترتبط بعدد من ثقافات العالم. في أساطير الشمال الأوربّي، السنديان هي الشجرة المقدّسة لإله الرعد الإسكندنافي تور. واليونانيون اعتبروها مقدّسة لأنها شجرة زيوس كبير الآلهة. وتعيش السنديانة لقرون وأحيانا لألف عام. ومن أشهرها تلك التي زرعها الملك الانغليزي جون وعاشت 800 عام وعاصرت حكم 35 ملكا.
    أما أشهر شجرة سنديان على الاطلاق فتقع وسط غابة شيروود بإنغلترا. ويقال إن عمرها ألف عام وأنها نفس الشجرة التي كان يلجأ إليها روبن هود ورجاله الخارجون عن القانون. ومن المعروف أن السنديانة تدعم النظام البيئي وتخدم الكائنات التي تتغذّى عليها.
  • الروائي روبرت لويس ستيفنسون مؤلّف "جزيرة الكنز" يقول: لا تسيطر الغابة على قلوب البشر بسبب جمالها، بل بسبب ذلك الشيء الدقيق؛ تلك النوعية من الهواء المنبعث من الأشجار القديمة، والتي تعمل بشكل رائع على تغيير وتجديد الروح المتعبة."
  • الفنانّة فريدا كالو رسمت نفسها وصراعها مع الألم كثيرا. في إحدى أشهر لوحاتها التي رسمتها بعد عملية جراحية في العمود الفقري إثر حادث سيّارة، صوّرت الفنّانة المكسيكية نفسها بجسد غزالة تعدو في غابة مهجورة وفارغة وجسدها دامٍ ومثقل بالجراح من أثر السهام المنغرسة فيه. والمنظر يُوصل إحساسا بالعزلة واليأس.
  • في هنغاريا ووسط غابات كثيفة وجبال عالية يقوم متنزّه يقال إنه أحد أفضل الأماكن على الأرض للتحديق في النجوم وتصويرها. كما أنه جنّة للطيور النادرة. السماء هناك تصبح في بعض الليالي صافية جدّا، لدرجة أن أجراما سماوية مثل مجرّة المثلّث يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة.
  • الكاتبة ليزا كليباس تُورد وصفا بديعا لغابة حُوّل جزء منها إلى حديقة لقصر ضخم. تقول:
    كانت الغابة المحيطة بالحديقة عميقة وكثيفة، لدرجة أنها تبدو بدائية المظهر، في حين بدت الحديقة التي تبلغ مساحتها 12 فدّانا خلف القصر مثالية للغاية بحيث لا يمكن أن تكون حقيقية.
    وكانت هناك بساتين ومروج وبرَك ونوافير. كانت حديقة ذات أمزجة متعدّدة، تتراوح ما بين الهدوء والصخب الملوّن. حديقة منضبطة، كلّ خصلة من عشبها مجزوزة بدقّة، وزوايا سياج الصناديق مقصوصة لتصبح حادّة مثل السكّين.
    بدون قبّعة أو قفّازات، ومشبعة بإحساس مفاجئ بالتفاؤل، تنفّست أنابيل بعمق من هواء الريف. دارت حول حافّة الحدائق المتدرّجة في الجزء الخلفي من القصر واتبعت درباً مرصوفا بالحصى يقع بين أسرّة مرتفعة من الخشخاش وأزهار الراعي.
    وسرعان ما أصبح الجوّ معطّرا بشذى الزهور، حيث كان الدرب موازيا لجدار حجريّ جافّ مغطّى بأوراق من الأزهار الوردية والكريمية. وأثناء تجوالها البطيء، عبرت أنابيل بستانا من أشجار الكمّثرى القديمة التي نحتتها عقود من الزمن وحوّلتها إلى أشكال رائعة."
  • في منمنمة شرقية ذات تفاصيل وألوان رائعة رُسمت حوالي القرن السادس عشر الميلادي، نرى مشهدا لغابة ليلية تجري على أرضها مسابقة للصيد بين ثلاثة رجال يمتطون الخيل ويهاجمون مجموعة من الأسود والظباء والطيور. ويُرجّح أن هذه اللوحة رُسمت في الأصل لتزيّن غلاف كتاب أو ديوان شعر.
  • هيرسينيا اسم غابة عمرها أكثر من ١١ ألف عام، كانت في الماضي تمتدّ عبر أراضي عدّة دول اوربّية، أهمّها ألمانيا. وقد تحدّث عنها القائد الروماني يوليوس قيصر في أحد كتبه فقال إنها من الاتساع بحيث يحتاج الإنسان لـ ٩ أيّام لقطعها بالعرض.
    كما أشار إلى أنواع من الحيوانات والنباتات الغريبة التي رآها من قُدّر لهم الذهاب إلى هناك. ويتفق قيصر مع كلّ من أرسطو وهيرودوت وبليني الأكبر في أن هذه الغابة التي تردّد اسمها كثيرا في كتب القدماء قد تكون الموطن الأوّل لحيوان اليونيكورن الأسطوري أو حيوان آخر قريب الشبه به.

  • Credits
    poets.org
    jimcorbett.in
    georgiaokeeffe.net

    الأربعاء، يوليو 24، 2024

    في الغابة/1


    حتى مع استمرار تقلّص مساحات الغابات في العالم، يبدو الأدباء والكتّاب والفنّانون ميّالين أكثر فأكثر إلى تصوير الغابات كواحات للخلاص وملاذات للتحرّر من قيود وآفات الحضارة المعاصرة.
    أبطال القصص الخرافية غالبا ما يجدون طريقهم إلى الغابة. هناك يضيعون ثم يجدون أنفسهم، ويكتسبون فكرة عمّا يجب القيام به. والغابة دائما هائلة وغامضة. لا يمكن أن يفرض أحد سلطته عليها على الإطلاق، لكنها تملك القدرة على تغيير الحياة وتغيير المصائر.
    الغابة، هذا الفضاء البرّي يمثّل حدود قدرة الإنسان، وهو مكان يمكن أن يحدث فيه أيّ شيء.
  • في ملحمة غلغامش، يسافر الأبطال إلى غابة الأرز لمحاربة الوحوش. وغابة ميركوود لتولكين، المستمدّة من الأساطير الإسكندنافية، تُعتبر غابة سحرية خطرة للغاية، لدرجة أنه حتى الآلهة كانت حذِرة من دخولها. ودانتي يبدأ رحلته الشعرية الملحمية في غابة معتمة وغامضة، حيث يضلّ طريقه. كان الرومان يعتقدون أن المدخل الى الهاوية المؤدّية الى الجحيم يمرّ عبر غابة.
  • وفي ملحمة فرجيل، يقرّر البطل اينياس الذهاب إلى العالم السفلي ليرى طيف والدته الراحلة. وفي الطريق يقابل عرّافة توافق على مرافقته في الرحلة. ويذهب الاثنان إلى مكان فيه بحيرة عميقة تحيطها غابة مظلمة يُفترض أنها تقود إلى عالم الموتى. الرسّام وليام تيرنر تخيّل ذلك المنظر واستبدل البحيرة الأسطورية ببحيرة حقيقية.
  • أسطورة الرجل الذئب تفترض أن بعض البشر، وبفعل قوى خفيّة وشرّيرة، يتحوّلون في الليل إلى ذئاب تعوي وتتجوّل في الغابات والجبال بحثا عن فرائس. فإذا ما بزغ الفجر تخفّفوا من شخصياتهم الذئبية وعادوا إلى طبيعتهم البشرية.
  • في القصص الخيالية الحديثة، مثل المستذئب ومصّاص الدماء وبياض الثلج وهاري بوتر وغيرها، تكون الغابة محطّة أساسية في رحلة البطل ومكانا للخطر والاحتمال والمغامرة. وأحيانا تُصوّر على أنها حالمة ومصدر للأمل. لكن يمكن أن تكون الغابة أيضا مكانا للوحوش والشياطين الداخلية والقرناء والأشباح التي كثيرا ما تُربط بالجزء البدائي من الانسان.
  • وفي الأساطير الألمانية القديمة، تشكّل الغابة بوّابة مفتوحة على عالم غامض تسكنه مخلوقات غريبة لا تظهر إلا ليلا. لوحة الرسّام كاسبار دافيد فريدريش "رجلان يتأمّلان القمر" تعكس هذه الفكرة تماما. فالقمر يبدو مثل عين تكشف أسرار الغابة الخضراء المظلمة للرجلين اللذين يراقبانها من نقطة عالية وهما مختبئان خلف شجرة.
    الغابات تشكّل حوالي 30 بالمائة من مساحة أراضي ألمانيا. وعبر تاريخهم، كان الألمان يتخيّلون وطنا تغطّيه الغابات من أقصاه إلى أقصاه. وهم يرون في الغابة طبيعة وطنية وأسطورة قومية ومستودعا قويّا للذكريات التاريخية.
  • الفنّان الايطالي ساندرو بوتيتشيللي اختار غابة أسطورية متخيّلة ليضع فيها شخصيات لوحته الأشهر "الربيع" التي رسمها في فلورنسا في القرن الخامس عشر.
    وقد أحصى بعض علماء النبات أكثر من 400 نوع من النباتات في اللوحة، منها حوالي 200 زهرة. ولأنها تتضمّن صور شخصيات مثل فينوس ربّة الجمال والملهمات الثلاث وفلورا ربّة الربيع التي ترتدي ثوبا مشجّرا، فقد شاع انطباع بأن اللوحة صورة مجازية عن الزواج.
  • بابلو نيرودا، شاعر تشيلي، يقول واصفا رحلة له ذات يوم في غابة من غابات بلاده:
    أسفل البراكين وبجوار الجبال المغطّاة بالثلوج ووسط البحيرات الضخمة، تقع الغابة التشيلية العطرة والصامتة والمتشابكة الأشجار.
    أمّة من الطيور ووفرة من أوراق الشجر. تغوص قدماي في الأوراق الميّتة. يفرقع غصين هشّ. ترتفع أشجار الراولي العملاقة بكلّ خشونتها. وعلى ارتفاع شاهق، يمرّ طائر في الغابة الباردة، يرفرف بجناحيه، ويتوقّف في الأغصان التي لا شمس فيها. أنفاس عذبة تداعب وجهي، بينما يختفي قوس قزح اللامع مثل البرق.
    ويضيف: أمُرّ عبر غابة من السرخس أطول منّي بكثير. ومن عيونها الخضراء الباردة، تتساقط ستّون دمعة على وجهي. وفي الأسفل، تنزلق المياه البلّلورية فوق الغرانيت واليشَب، وتمرّ فراشة مشرقة كالليمون، ترقص بين الماء وأشعّة الشمس. وفي الأعلى، تتدلّى نقشات حمراء من أزهار اللاباجيريا مثل قطرات من شرايين الغابة السحرية.
    ثعلب يقطع الصمت مثل وميض ويرسل رعشة عبر الأوراق. صرخات مسموعة بالكاد لبعض الحيوانات الحائرة من بعيد. لكن الصمت هو قانون مملكة النباتات. إن أيّ شخص لم يرَ الغابة التشيلية لا يعرف هذا الكوكب. لقد خرجتُ من هذا المشهد الطبيعي الذي يمتزج فيه الطين بالصمت، لأتجوّل وأغنّي في هذا العالم".


  • الرسّامة الأمريكية جورجيا اوكيف كانت ترى في جبل باديرنال والغابة والبحيرة المحيطة به مصدر إلهام روحي وفنّي لها. كانت تنظر كلّ يوم الى تلك الطبيعة الفخمة من نافذة بيتها في نيومكسيكو وترسمها. وقد قالت عن الجبل مرّة: هذا جبلي، وقد أخبرني الربّ أنني إذا رسمته بما يكفي فسيصبح ملكي". وعندما ماتت، وتنفيذا لوصيّتها، نُثر رمادها فوق الجبل كشهادة على الآصرة الوجدانية والفنّية التي كانت تربطها به.
  • بعض كتب الأدب والقصص الشعبية تورد قصصا عن "أطفال الغابات" الذين يتربّون ويعيشون في كنف حيوان في البرّية (غزالة أو قرد أو ذئبة مثلا). ومع الأيّام يتعلّمون مهارات المشي على أربع والبحث عن غذاء والصراخ كالحيوانات وما إلى ذلك.
    ومن الأمثلة المشهورة على طفل الغابة رومولوس مؤسّس روما الذي يقال انه تربّى وعاش في رعاية ذئبة، وموغلي الذي ابتكر حكايته الكاتب الانغليزي كيبلنغ، وإنكيدو بطل ملحمة غلغامش الذي عاش مع السباع وتطبّع بطباعها إلى أن روّضته امرأة، وحيّ ابن يقظان الذي أرضعته وربّته غزالة، وأخيرا الطفلة التي رعتها نعامة في الصحراء الكبرى وأصبحت تتصرّف مثل قطيع النعام الذي عاشت معه، فتسابقهم وتأكل أكلهم وتعيش مثلما يعيشون.
    ويبدو أن ابتكار مثل هذه القصص وانتشارها يعكس حنين الإنسان إلى حياة أسلافه الذين عاشوا في البراري والغابات منذ أقدم الأزمنة. وهناك سبب آخر يتمثل في أن شخصيات هذه القصص تنجح في عبور الخط الفاصل بين الإنسان والحيوان، بين الطبيعي وغير الطبيعي وبين الحضاري والفطري.
    وربّما هناك عامل آخر هو افتتان الإنسان بالوحش الذي بداخله، وإعجابه بالفكرة القديمة عن "الهمجيّ النبيل" الذي لم تلوّثه الحضارة الحديثة وظلّ محتفظا في داخله بنقاء وطيبة الإنسان الأوّل.
  • في كتب ومخطوطات وقصص القرون الوسطى، راجت في أوربّا حكايات عن كائن سُمّي بمخلوق الغابات. وهو وحش شبيه بالإنسان، يغطّي الشعر كامل جسده. وأحيانا يُشبّه بـ إنكيدو غلغامش، من حيث انه لا يمكن ترويضه إلا على يد امرأة تقيّة.
  • الفنّان البلجيكي رينيه ماغريت رسم لوحة ذات تفاصيل نحتية أسماها "الغابة"، وفيها نرى تمثالا نصفيّا لرجل يستند على قاعدة اسطوانية بنّية اللون، وفي الخلفية ستارة وجدار. لكن ليس في اللوحة ما يدلّ على الاسم، باستثناء أن ملامح وجه التمثال تنبثق عنها فروع شجرة.
  • جون موير داعية البيئة الشهير الذي قضى معظم حياته في الغابات كتب ذات مرّة يقول: في الغابة سيتدفّق سلام الطبيعة إليك كما يتدفق ضوء الشمس إلى الأشجار. وستهبك الرياح نضارتها، والعواصف طاقتها، بينما تتساقط همومك مثل أوراق الخريف."
  • الرسّام الصيني الطاويّ القديم تشنغ تشي رسم 800 لوحة لغابات الخيزران. كان يرى فيها نموذجا لما يمكن أن يفعله الإنسان الحكيم. وكتب على إحدى تلك الصور بيتا من الشعر يقول مخاطبا فيه أشجار الخيزران: لتقفي أمام الجبال بصلابة، ولتقاومي العواصف بشموخ، ولتكوني أكثر قوّة بعد كلّ امتحان".
    كانت رسالة الشاعر موجّهة ظاهريا لتلك الأشجار. لكنه كان طبعا يخاطب الإنسان في كلّ مكان. الفلسفة الطاوية احتفت بهذه الأشجار منذ القدم وتناولت صفاتها الرمزية. فعيدان الخيزران مفرغة من الداخل، لكن ذلك الفراغ هو مصدر قوّتها وبقائها. فهي تنحني بمرونة أمام العواصف، ثم لا تلبث أن تقف من جديد بعد زوال الخطر. ولهذا ينصح الفيلسوف لاو تسو الإنسان بأن يكون مرنا وقويّا كالخيزران.
  • وفي العديد من الثقافات التي تُوصف بالبدائية، تتطلّب التنشئة القبلية قضاء الفرد فترة طويلة بمفرده في الغابات أو الجبال كي يتصالح مع العزلة ويتكيّف مع أخطار الطبيعة وليكتشف من هو حقّا بدل أن يفرض عليه المجتمع من هو وماذا سيكون مستقبلا.
  • الاثنين، يوليو 22، 2024

    أغاني طاغور


    ذات ليلة، رأى أحد مُلّاك الأراضي الهنود في المنام ثلاث عشرة نخلة متساوية الطول، وقد نمت كلّها في مكان ظليل، بينما كانت الشمس تشرق على مكان آخر مليء بالأعشاب الخضراء. وبينما كان الرجل يتأمّل المنطقة المغمورة بضوء الشمس، رأى نخلة جديدة تنمو في الأرض وتتطاول ثم تطرح ثمرا مختلفا أنواعه، بينما أناس كثيرون يتحلّقون حول النخلة ويأخذون من ثمارها العجيبة.
    ولما استيقظ الرجل من حلمه ذهب إلى أحد الكهنة كي يفسّر له الحلم. فقال له: النخلات الـ 13 هي مجموع بناتك وأبنائك، وأمّا النخلة الـ 14 التي نمت في بقعة مشرقة فمولود ستُرزق به قريبا وسيكون له شأن عظيم. ولكن إيّاك أن تضعه في البقعة البعيدة عن النور، أي في نفس مسار الحياة الذي تضع فيه أبناءك الآخرين. ولا تعلّم ابنك القادم الفلاحة وجني المحاصيل كبقيّة أولادك، بل إهتمّ بتعليمه وتثقيفه لأنه سيكون متميّزا كثيرا وسيستفيد من علمه وأدبه خلق كثير. ولا تحدّث أحدا بحلمك هذا مخافة الحسد، كما تعلم".
    وبعد سنوات، أخبر الرجل ابنه رابندرانات طاغور بذلك الحلم بعد أن كبر. وظلّ طاغور يتفاءل بالرقم 14 طوال حياته. وألّف أوّل قصيدة له وهو في سنّ الـ 14. كما كان يحتفظ بقفص فيه 14 طائرا من طيور الزينة. وكان من عادته أن يفتح لها باب القفص كلّ صباح، فتطير وتحلّق في السماء بضع دقائق ثم تعود إليه طائعة.
    كان تأثير رابندرانات طاغور (1861-1941) على عقل الهند وأجيالها الصاعدة المتعاقبة هائلاً. ولم تكن اللغة البنغالية فقط، أي اللغة التي كان يكتب بها، بل إن جميع اللغات الحديثة في الهند آنذاك قد تشكّلت جزئياً من خلال كتاباته.
    ولم تقتصر مسيرته المهنية التي امتدّت لأكثر من 60 عاماً على توثيق نموّه الشخصي وتنوّعه فحسب، بل عكست أيضاً التقلّبات الفنّية والثقافية والسياسية التي شهدتها الهند في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين.
    كانت البيئة الفنّية التي عاش فيها طاغور وجمال الطبيعة والشخصية الوقورة لوالده من بين المؤثّرات الأولى التي شكّلت حساسيّته الشعرية. في كتابه "حياتي" يتذكّر الشاعر بداياته الأولى فيقول: كان أغلب أفراد عائلتي يتمتّعون بموهبة ما، بعضهم كانوا رسّامين وبعضهم شعراء وبعضهم موسيقيين. وكانت الأجواء في منزلنا مشبعة بروح الإبداع".
    وفي نفس الكتاب يتحدّث طاغور عن الطبيعة، مَدرسته المفضّلة، فيقول: كان لديّ إحساس عميق منذ الطفولة بجمال الطبيعة وبالرفقة مع الأشجار والسحب وبالتناغم مع اللمسة الموسيقية لهواء الفصول. وكلّ هذه العناصر كانت تتوق إلى التعبير، وبطبيعة الحال كنت أرغب في منحها تعبيري الخاص".
    في صغره ذهب طاغور مع عائلته الى دالهوزي، وهو منتجع جميل يقع في سفوح جبال الهيمالايا. كان يتجوّل هناك بحريّة من قمّة جبل إلى أخرى، وقد أذهله جمال وعظمة الجبال. وخلال فترة إقامته في تلك البقعة، تولّى والده تعليمه وقرأ معه مختارات من الأدب السنسكريتي والبنغالي والإنغليزي. ويقال إن ذكرى تلك الرحلة الساحرة ظلّت مرافقة لحياة رابندراناث وحافزاً لإعادة تمثيل تلك التجربة النموذجية.
    في ديوانه "أغاني الصباح"، يحتفل طاغور بفرحه باكتشاف العالم من حوله. كان المزاج الجديد نتيجة تجربة صوفية مرّ بها أثناء نظره إلى شروق الشمس ذات يوم. يقول: بينما واصلت النظر، بدا فجأة أن حجابا سقط عن عينيّ ووجدت العالم غارقا في إشراق رائع، مع موجات من الجمال والفرح تتضخّم على كلّ جانب. اخترق هذا الإشراق في لحظة واحدة طيّاتِ الحزن واليأس التي تراكمت على قلبي وغمرته بفيض من النور الكوني".
    كان نشر ديوان "جيتانجالي"، أو قرابين الأغاني، الحدث الأكثر أهميّة في مسيرة طاغور في الكتابة، لأنه بعد ظهوره، فاز بجائزة نوبل في الأدب عام 1913، وهو أوّل تقدير من هذا القبيل لكاتب شرقي. وقد كتب الديوان بعد فترة قصيرة من وفاة زوجته وابنتيه وابنه الأصغر ووالده.
    يقول ابنه راثيندراناث واصفا ما حدث: ظلّ والدي هادئا ولم يزعج سلامه الداخلي أيّ كارثة مهما كانت مؤلمة. لقد منحه فقدُ أقاربه قوّةً خارقة لمقاومة المصائب الأكثر إيلاما والسموّ فوقها". كانت قصائد ذلك الديوان بمثابة بحث الشاعر عن السلام الداخلي وإعادة تأكيد إيمانه من خلال تنقية الذات وخدمة الإنسانية.


    في مقدّمته لديوان جيتانجالي، كتب الشاعر الإنغليزي وليام بتلر ييتس: لقد حملتُ مخطوطة هذه الديوان معي لأيّام، قرأتها في قطارات السكك الحديدية وفي الحافلات وفي المطاعم، وكثيراً ما اضطررت إلى إغلاقها خشية أن يرى شخص غريب كيف أثّرت فيّ". أما الشاعر إيزرا باوند فقد وصف الكتاب بأنه "سلسلة من الأغاني الروحية" وقارنه بجنّة دانتي واعتبره عمل طاغور الأكثر تميّزا.
    تقول إحدى قصائد الديوان:
    أنت! مَن تعبُد في هذه الزاوية المظلمة المنعزلة من المعبد حيث الأبواب مغلقة؟ اترك هذا الهتاف والغناء وقراءة الودع. وافتح عينيك لترى أن إلهك ليس أمامك. إنه هناك حيث يزرع الفلاح الأرض الخشنة وحيث يكسر صانع الطريق الحجارة. إنه معهم في الشمس والمطر وثوبه مغطّى بالتراب. انزع رداءك المقدّس وانزل مثلهم على التربة المغبرّة. اخرجوا من تأمّلاتكم واتركوا أزهاركم وبخوركم جانبا. ما الضرر إذا أصبحت ملابسكم ممزّقة وملطّخة؟ عندما كان الخلق جديدا وأشرقت جميع النجوم في روعتها الأولى، عقدَ الآلهة اجتماعهم في السماء وغنّوا لصورة الكمال وللفرح الخالص".
    ويضيف: مثل سحابة من شهر يوليو معلّقة بثقلها من الأمطار التي لم تهطل بعد، دع عقلي يا إلهي ينحني عند بابك تحيّة لك. دع كلّ أغانيّي تجمع نغماتها المتنوّعة في تيّار واحد وتتدفّق إلى بحر من الصمت تحيّة لك. ومثل قطيع من طيور الحنين التي تحلّق ليلا ونهارا عائدة إلى أعشاشها الجبلية، دع حياتي كلّها تأخذ رحلتها إلى موطنها الأبديّ تحيّة لك."
    في أعقاب الجدل العام الذي بدأ بين المهاتما غاندي وطاغور في عام 1921 بسبب معارضة الشاعر لحركة اللاعنف التي قادها غاندي، عانت شعبية طاغور من انحدار حادّ ووجد نفسه معزولاً علناً بشكل متزايد. لكنه فيما بعد استعاد جزءا مهمّا من شعبيته بعد تأليفه لكلمات النشيد الوطني الهندي، والذي يُعدّ إحدى مساهماته العديدة البارزة.
    ورغم أن طاغور كان شخصية مهمّة في الحركة القومية الهندية وغالبا ما كان ينتقد الحكم الاستعماري البريطاني، إلا أن أيديولوجيته السياسية كانت معقّدة وذات تفاصيل دقيقة ومتفرّعة. لكنه مثل غاندي، كان يقف ضدّ نظام الطبقات الهندي الذي كرّس مفهوم طبقة المنبوذين.
    وفي قصائده وأغانيه ومسرحياته ورواياته وأغانيه، كان دائما يقف في صفّ الفقراء والعاجزين والمضطهدين. كما أراد تحرير العقل البشري من كلّ أنواع الأفكار الشرّيرة والمعتقدات الخاطئة.
    أملى طاغور قصيدته الأخيرة قبل ساعات قليلة من وفاته في السابع من أغسطس عام 1941. ونشرت الصحف الرئيسية في العالم بيانات نعي أشادت به ووصفته بأنه "روح البنغال" و"أعظم أديب في الهند" و"سفير الصداقة بين الشرق والغرب".
    بالإضافة الى الشعر، كان طاغور رسّاما. لكنّه لم يمارس الرسم الا بعد أن تجاوز الستّين من عمره. وقد أدهش الكثيرين بتحوّله المتأخّر إلى الرسم. في ذلك الوقت بدأ يُرفق بعض أشعاره برسومات، بعضها له هو شخصيّا، والبعض الآخر رسم فيها رجالا ونساءً كان يعرفهم.
    وكان هو أوّل رسّام هندي يعرض أعماله في أوروبّا وروسيا وأمريكا. كان أسلوبه في الرسم يتميّز بأشكال حرّة بسيطة ونوعية إيقاعية. وقد رسم الوجه الإنساني بطريقة تذكّر بالقناع أو الشخصية. كانت رسوماته غير مخطّط لها، بل تشكّلت من خلال الصُدف والقرارات الحدسية.
    وبعضها كانت عبارة عن صور لحيوانات وطيور وصفها طاغور بأنها "أضاعت فرصة وجودها دون سبب وجيه" أو "لم تتمكّن من التحليق إلا في أحلامنا". وكان كثيرا ما يستمتع بإسقاط إيماءة بشرية على جسد حيوان أو العكس.
    وفي لوحاته للطبيعة، غالبا ما كان يصورّها مغمورةً بأنوار المساء مع سماء لامعة وأشكال تتوارى في ظلال مشؤومة، ما يثير هالة من الغموض والصمت المزعج. ومن الملاحظ أن طاغور لم يطلق أسماءً على لوحاته، على الأرجح كي يحرّرها من أيّ ارتباط أدبي ويشجّع المتلقّي على استنباط فهمه الخاص لمعانيها.
    من أشهر اقتباسات طاغور وصفُه لتاج محل بأنه "مثل دمعة على وجه الأبدية"، و"عندما أرحل من هنا دعني أقل لك كلمة وداع: إن ما رأيتُه لا يُضاهى"، و"الإيمان هو الطائر الذي يشعر بالضوء عندما يكون الفجر ما يزال مظلماً".
    وأفضل ختام للموضوع قصيدة أخرى لطاغور يقول فيها:
    أنفقتُ الكثير من المال لأرى العالم
    فتجوّلت في العديد من البلدان
    وقطعتُ البحار والمحيطات
    لكن لم أفطن ابداً
    لقطرة الندى المتألّقة
    فوق سنبلة القمح
    أمام عتبة داري."

    Credits
    scotstagore.org

    السبت، يوليو 20، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • الرسّامة الألمانية كاثي كولوفيتز صوّرت في لوحاتها معاناة الناس مع الحروب والظلم والموت. وصورها تمتلئ بالتعاطف مع الفئات الاجتماعية المحرومة، كما يمكن اعتبار تلك الصور محاكمة للأوضاع الاجتماعية والسياسية في ألمانيا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين.
    بعد كارثة الحرب العالمية الأولى، أنتجت كولوفيتز مجموعة من سبع لوحات بعنوان "الحرب". واستخدمت صورا لأمّهات وأرامل وآباء مكلومين فقدوا أقاربهم في الحرب. وركّزت بشكل خاص على حزن الأمّهات بعد أن فقدت، هي أيضا، ابنها في الأشهر الأولى من الحرب.
    في لوحة الأمّهات، وهي جزء من لوحات الحرب، تظهر مجموعة من النساء الثكالى والمفجوعات وهنّ يحتضنّ بعضهنّ بعضا بعد أن فقدن ابناءهنّ في الحرب. الصورة تنقل إحساسا بالفقد واليأس. تعبيرات النساء مؤرّقة وتجسّد مشاعر الأمّهات اللاتي تحمّلن الألم الذي لا يمكن تخيّله لفقدان أبنائهن بسبب ويلات الحرب.
    الأطفال الذين يبرزون من تنانير أمّهاتهم في الصورة هم إشارة ضمنية إلى أن الأمّهات سيقفن معا لمنع أطفالهنّ من السير على طريق الحروب والدمار.
    لوحة "الأمّهات" تّعتبر شهادة على التزام كولوفيتز بتوظيف فنّها كأداة للفت الانتباه إلى التأثير المدمّر للحروب على حياة الناس العاديين، وخاصّة النساء والأمّهات اللاتي غالبا ما يتحمّلن النصيب الأكبر من عواقب ومآسي الحروب.

    ❉ ❉ ❉

  • وقفة العربي ونظراته، في هذه اللوحة من عام 1842، توحي بثقته واعتداده بنفسه في مواجهة النبيل الأوربّي الذي يحدّق فيه وهو متّكئ على أريكة.
    قد يكون العربي هو صاحب هذه القافلة من الجمال. وقد أتى إلى هذا المعسكر ليعرض على أصحابه بعضا من بضاعته.
    ولأن المعسكر منصوب عند سفح جبل يطلّ على دير سان كاترين في صحراء سيناء، والذي تظهر معالمه عن بعد، فمن المرجّح أن الأوربّي الذي يرتدي لباس الشرقيين جاء إلى هنا حاجّاً برفقة بعض عبيده وخدمه.
    الرسّام الإنغليزي جون فريدريك لويس كان من عادته أن ينقل في صوره شموخ العربي وشعوره بالأنفة والكبرياء. وقد استعار للعربيّ في هذه اللوحة نفس ملامح وجيه عربيّ سبق أن رسمه مع مرافقه في لوحة أخرى؛ نفس النظرات الواثقة والمتفرّسة، ونفس اللباس والعباءة المنحسرة عن الكتف، ونفس الخنجر الطويل الذي يطوّق وسطه.
    لماذا هذه اللوحة جميلة ومختلفة؟
    لأن تفاصيلها وشخوصها وألوانها موزّعة بإحكام. وثانيا: لأن موضوعها يمتّ بصلة للقصّة القديمة الجديدة عن حوار أو صراع الثقافات.

    ❉ ❉ ❉

  • من التعبيرات اللغوية الدارجة قولهم: فلان فاز بنصيب الأسد (The lion's share)، أي الحصّة أو النصيب الأكبر من شيء ما. وأصل هذا التعبير قصّة رمزية ذكرها ايسوب الإغريقي في أساطيره عن أسد وذئب وثعلب خرجوا يوما للصيد.
    وبعد أن اصطادوا فريسة، أمر الأسد الذئب بتقسيمها، فوزّعها إلى ثلاثة أجزاء متساوية، ما أغضب الأسد. فوثب على الذئب وهشّم رأسه بضربة من يده. ثم أمر الأسد الثعلب بأن يوزّع الفريسة، فأعطاها كلّها للأسد خوفا من بطشه.
    ثم سأل الأسد الثعلب من أين تعلّم هذه الحكمة، فقال جملته المشهورة: من رأس الذئب الطائر".
    وفي القصّة عبرة، وهي أن الشراكة مع الأقوياء خطرة وأحيانا قاتلة. فالأقوى عادةً يزعم لنفسه حقّا خاصّا، ويمكن أن يكون طمعه مصدر تهديد لشركائه الأضعف.

    ❉ ❉ ❉

  • ❉ ❉ ❉

  • هذه اللوحة الغامضة إسمها "فابيولا"، أي الأسطورة. وقد رسمها إل غريكو عام 1600، وفيها يظهر صبيّ وهو ينفخ في شمعة لإيقادها، وإلى يمينه قرد وعن يساره رجل على وجهه ابتسامة بلهاء أو ربّما ساخرة.
    الأضواء الساطعة والظلال العميقة تضيف غموضا إلى الصورة. لكن المعنى غير واضح. رسالة أخلاقية؟ معنى خاص في ذهن من كلّف الفنّان برسمها؟ دراسة لتأثير الضوء غير الطبيعي على الألوان؟ لا شيء مؤكّد.
    في ذلك الوقت كان إل غريكو قد كرّس صورته في أذهان الناس كرسّام فيلسوف. وكان قد قرأ للتوّ كتاب "التاريخ الطبيعي"، والذي يحكي فيه مؤلّفه قصّة لوحة ضائعة لرسّام قديم حاول فيها الإمساك ببراعة باللمعان العابر لنار متوهّجة.
    وربّما أراد إل غريكو أن يُثبت مقدرته الفنّية في محاكاة ما فعله ذلك الرسّام. وقيل إن المنظر قد يكون ترجمة لمثل إسباني يقول إن النفخ في النار إما أن يؤدّي إلى إشعال الخصومة أو تأجيج الحبّ.

    ❉ ❉ ❉

  • عصور ما قبل التاريخ (prehistory) مصطلح يُطلق أحيانا على الزمن الطويل الذي أعقب بدايات الكون أو تشكّل الأرض. وأحيانا يشير إلى الفترة التي تلت ظهور الحياة على الأرض. وبعض المؤرّخين يحدّدون المصطلح بالفترة ما بين بداية استخدام الإنسان للأدوات الحجرية قبل اكثر من ثلاثة ملايين عام وحتى ابتكار نظم الكتابة التي ظهر أقدمها قبل اكثر من خمسة آلاف عام واستغرق آلاف السنين حتى يتبلور.
    وفكرة أو مصطلح "ما قبل التاريخ" بدأ استخدامه خلال عصر التنوير الأوربّي للإشارة الى المجتمعات البدائية التي وُجدت قبل ظهور السجلات المكتوبة.
    المؤرّخون يعتقدون أن البشر المعاصرين من الناحية التشريحية كانوا موجودين منذ ما بين 200 ألف إلى 300 ألف عام من عمر كوكب الأرض البالغ أربعة مليارات ونصف المليار عام. وعلى الرغم من أن 200 ألف عام هي أقلّ من جزء من عشرين ألف من تاريخ الكوكب، إلا أنها ما تزال فترة طويلة جدّا.
    وأداة المؤرّخين الرئيسية هي ما كتبه الأقدمون. وهذا هو ما يحدّد التاريخ رسميا ويميّزه أحيانا عن علم الآثار والأنثروبولوجيا. مثلا، أقدم السجلات المكتوبة التي اكتشفها علماء الآثار في مصر تعود إلى ما يزيد عن خمسة آلاف عام.
    ومن ثم فإن تاريخ إنشاء تلك السجلات هو التاريخ المقبول حاليا الذي يبدأ فيه التاريخ الرسمي (على عكس "ما قبل التاريخ") في ذلك الجزء من العالم. وبطبيعة الحال، يمكن أن يتمكّن العلماء يوما ما من العثور على سجلات أقدم.
    والمؤرّخون يقولون إنه حتى مع السجلات المكتوبة ينبغي توخّي الحذر، فقد تكون الكتابة بلغة ميّتة لا نعرف عنها اليوم سوى القليل. ولو افترضنا وجود معلومات مكتوبة عن قبيلة غزت قبيلة أخرى، مثلا، فقد نحصل فقط على قصّة متحيّزة وأحادية الجانب عمّا حدث.
    وأحيانا لا تدوّن الروايات إلا بعد أجيال من تناقلها شفهيّا، أي من خلال الكلام، مع قيام كلّ ناقل للقصّة بتغيير التفاصيل بوعي أو بدونه. بل إنه حتى بالنسبة للأحداث التي وقعت بالأمس القريب، يمكن أن يكون لدى من دوّنوها مباشرة تصوّرات مختلفة تماما عمّا حدث وكيف ولماذا حدث.
    وبطبيعة الحال يمكن أن تصبح الأمور أكثر صعوبة بالنسبة إلى عصور ما قبل التاريخ، أو الأحداث التي وقعت قبل وجود السجلات المكتوبة.
    بالمناسبة، بعض العلماء يقدّرون عمر الحياة على الأرض بـ 3500 مليون عام. ويشيرون إلى انه لا توجد حضارة أقدم من عام 12 ألف قبل الميلاد. وإذا وُجدت قبل ذلك التاريخ فستكون من المفصليات ذات الثلاثة فصوص trilobites، وهي كائنات بحرية عمرها 500 مليون سنة وكلّ آثارها اختفت.

    ❉ ❉ ❉

  • شيخ منهمك في قراءة المصحف الشريف وآخر يمسك بالمسبحة ويلهج بالدعاء وثالث يتوضّأ، دراويش، نوافير، أضرحة، مواكب دينية، ارابيسك، زجاج معشّق، خطوط مذهّبة ومصابيح بإطارات خشبية ومعدنية. مثل هذه التفاصيل الإنسانية والزخرفية الشرقية جذبت العديد من الرسّامين الأوربيّين الذين جاءوا في القرن التاسع عشر إلى بلدان المنطقة لاكتشافها.
    وكان من بين هؤلاء الرسّام غوستاف بورنفيند الذي يعتبره البعض أفضل وأشهر فنّان آلماني رسم الشرق. وقد سافر إلى لبنان وسوريا مرارا بمعيّة زوجته وابنه.
    وعندما حلّ الرسّام في دمشق، رغب في رؤية جامعها الأمويّ الكبير. لكن لم يُسمح له بدخوله، فرشا الحرّاس لكي يسمحوا له بالاقتراب من بوّابته. ورسم الناس والمدخل المغطّى بسجّاد مزخرف في منظر مليء بالتفاصيل والألوان البديعة.
    وقد أقام بورنفيند وعائلته في القدس لسنوات واهتمّ بمتابعة ورسم المناسبات الدينية فيها من أعياد ومواكب وطقوس تعبّدية وخلافها. وعَكَس في صوره صروح المدينة المعمارية وبيوتها ومعابدها وشوارعها. وكان ممّا يميّز رسوماته إيلاؤه اهتماما كبيرا بالتفاصيل وكذلك استخدامه البارع للألوان والاضواء.
    كان بورنفيند حلقة في سلسلة من الاستشراقيين الألمان الذين سافروا الى البلدان العربية بدافع من شغفهم بثقافات الشرق ورغبتهم في الاطلاع عليها وتمثيلها صوريّاً. وقد توفّي في مدينة القدس عام ١٩٠٤ بعد ثمان سنوات من اختياره الإقامة الدائمة فيها.

  • Credits
    elgreco.net
    kollwitz.de

    الأربعاء، يوليو 17، 2024

    فريدريش: العالم كروحٍ بدائية


    في الكثير من صور الرسّام الألماني كاسبار دافيد فريدريش (1774-1840)، لا يزيد عدد الأشخاص عن اثنين في الغالب. وهما دائماً يعطيان ظهريهما للناظر، ويبدوان كما لو أنهما يخطوان خارج المكان الذي يقفان فيه، أو يبحثان عن شيء ناءٍ لا يمكن بلوغه، ويتبادلان حديثاً أشبه ما يكون بحديث الأرواح.
    وبالإضافة إلى هذا، هناك الحضور الدائم للقمر وأشجار السنديان، والأفق المنخفض كطريقة لإبراز قرب السماء وسيطرتها.
    كانت الموضوعات المفضّلة لدى فريدريش، والتي ضمّنها في صوره، الأشجار العارية في مناظر الطبيعة الشتائية، والأطلال المغطّاة بأشجار اللبلاب، والسماء فوق بحر البلطيق العاصف، والأشجار المتيبّسة أو الداكنة، والسماء الليلية، وضباب الصباح، والآثار القوطية أو الصخرية، والارتباط الدائم بين البشر والطبيعة.
    لم يكن الرسّام يصوّر الطبيعة فحسب، وإنما أيضا الحالات المزاجية والعواطف والمشاعر التي تستحضرها. ومصداقا لهذا كان دائما يردّد: لا ينبغي للفنّان أن يرسم ما يراه أمامه فقط، بل ما يراه داخل نفسه أيضا".
    الكاتب المسرحي الإيرلندي سامويل بيكيت قال ذات مرّة إن لوحة فريدريش "رجلان يتأمّلان ضوء القمر" (1819) كانت مصدر إلهامه لكتابة مسرحيته العبثية المشهورة "بانتظار غودو". في لوحة فريدريش هذه، ذات الطبيعة الليلية، يقف شخصان خلف شجرة ذات أغصان متيبّسة وهما يتأمّلان القمر ونجمة المساء. وفي مسرحية بيكيت، ينتهي كلّ فصل بمشهد لبطل العمل وهو يحدّق من بعيد في ضوء القمر.
    كان فريدريش يحبّ تضمين أعماله موتيفاتٍ قروسطية. وقد استلهم هذا من صديقه الشاعر غوته الذي خصّص أوّل كتبه للحديث عن جماليات كاثدرائية ستراسبورغ.
    والكثير من لوحاته مثل "راهب على شاطئ البحر" تتحدّث إلى أجيال متعاقبة. وهناك إحساس عالٍ بالدراما في هذه الصورة يجسّده الشخص الوحيد الذي يظهر فيها متأمّلا البحر ومرهِفا سمعه لحركة وصوت الماء التي يتردّد صداها في الأفق المفتوح والممتدّ أمامه.
    كان فريدريش ينظر الى العالم كروح بدائية. وهو في لوحاته ينقل المتلقّي الى الوراء، أي الى الوقت الذي كانت فيه الأرض شابّة. ومناظره الطبيعية لا تهتمّ كثيرا بالمكان. والطبيعة يصوّرها دائما كظاهرة. والكون بالنسبة له عبارة عن وثيقة مليئة بالصور الآمنة والخطرة معاً.
    لوحته "ضباب في وادي إلبا" (1798) لها حساسية الصور الصينية المرسومة على الحرير في إمساكها الصامت بالضباب المتدحرج فوق الجبال. وأغصان الأشجار العارية من أثر الثلج تشبه سرباً من الظباء المستنفرة.
    من أشهر اعمال فريدريش الأخرى تصاويره لأطلال دير إيلدينا الألماني المبني عام 1199. كان هذا الدير قد دُمّر أثناء حرب الـ 30 عاما واستُخدمت حجارته لبناء جامعات ومدارس. وفي عام 1800، كانت هناك نيّة لإزالة أطلاله نهائيا، غير أن رسومات فريدريش للدير أنقذته عندما وجّهت انتباه الناس إلى وضعه فطالبوا بالمحافظة على بقاياه وتأمينها.


    المعروف أن صور الآثار والأماكن القديمة ترتبط في الوعي الجمعي بمشاعر متباينة كالحزن والحنين والغموض، وأحيانا الخوف. وكثيرا ما تذكّر رؤية الآثار بالمآسي القديمة للإنسانية وبالأفعال البطولية، وما إلى ذلك. وقيمة الآثار البصرية والجمالية تكمن في نقصها، أي عدم تمامها، وفي تفاعلها مع الطبيعة من حولها.
    وفي العصر الرومانسي، أي زمن فريدريش، كانت الأماكن الأثرية ملتقى للأدباء والشعراء والفنّانين. وغالبا ما كانت تُستخدم كخلفية أو كصورة مجازية للأشياء الآيلة للذبول والتلاشي. غير أنها في الوقت نفسه يمكن أن تكون أماكن للتجدّد والتعلّم والإلهام. لكن في عصر النهضة، أي قبل ذلك بقرنين، كانت الأماكن القديمة تُقدّر لجمالها الفطري وباعتبارها رمزا لفناء العالم وشهادة على عجز الإنسان عن حماية ما أوجده.
    في إحدى لوحات فريدريش من عام 1824، يرسم الفنّان سماءً لامعة ومليئة بالرؤى تحتلّ كامل الصورة تقريبا وتغطّي الارض الصغيرة الى أسفل. أحد النقّاد قال يصفها: هذه سماء نوفاليس الفيلسوف، فهي خالية من النجوم لكنها أكثر سطوعا من النهار، بينما تبدو الارض تحتها بلا نشاط او حياة".
    وفي لوحة أخرى مليئة بالرموز وتعكس نظرته التأمّلية للطبيعة، يرسم فريدريش ثلاثة أشخاص، امرأتان ورجل، يرتدون ملابس من القرون الوسطى ويراقبون في ضوء القمر سفينة عائدة من رحلة في ساعة متأخّرة من الليل. قيل أحيانا إن السفينة في اللوحة ترمز لمرور الزمن ونهاية رحلة الإنسان.
    كان فريدريش يرفض دراسة أو تصنيف الظواهر الطبيعية ويتجاهل ما يقوله العلم الحديث عنها، على أساس أن ذلك من شأنه أن يؤثّر سلبا على القيمة الشاعرية لصوره ويقلّل من دوره كشارح للطبيعة.
    ورغم أن أعماله مشبعة بإحساس واضح بالحزن والكآبة، إلا أن هذا الشعور تأمّلي في الأساس، أي أن القبور والجنائز والأطلال الدارسة وغيرها تشير إلى حياة أكثر سلاما بعد الموت. وهذا العزاء بالخلود أو الحياة الأبدية حاضر حتى في أكثر أعمال الرسّام كآبةً وحزناً.
    لوحة فريدريش الأشهر "متجوّل فوق بحر من الضباب" من عام 1817 (فوق)، تصوّر شخصا غامضا يقف فوق صخرة وعرة مراقباً المنظر الطبيعي الذي أمامه ومُعطياً ظهره للناظر. وقد أصبحت هذه اللوحة مألوفة لدرجة أنه أصبح من الصعب أن ندرك مدى ابتكاريّتها وثوريّتها عندما أُنجزت، حيث كانت تخالف كلّ الأنماط التقليدية في الرسم التجسيدي.
    عندما حلّ عام 1820، كان كاسبار فريدريش يعيش حياة عزلة وانفراد وفقر نسبي. وقد أطلق عليه أصدقاؤه من الفنّانين والكتّاب لقب "الفنّان الأكثر عزلة بين المنعزلين".
    وبعد موته بمائة عام، استخدم هتلر والحزب النازي أعماله للترويج لأيديولوجيتهم المتطرّفة، في محاولة لربطه بشعاراتهم القومية. وكانت النتيجة أن شعبية فريدريش سجّلت تراجعا واضحا خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
    في هذا العام، 2024، تحتفل ألمانيا بذكرى مرور 250 على مولد فريدريش. وما يزال الفنّانون في العصر الحاضر يجدون في أعماله إلهاماً على مستويات متعدّدة. واستكشافاته للإنسان وعلاقته بالطبيعة تشكّل نقطة انطلاق للكثير من الفنّانين الذين يراقبون علاقة البشر المضطربة حالياً بالعالم الطبيعي في عصر التغيّر المناخي.

    Credits
    caspardavidfriedrich.org

    الاثنين، يوليو 15، 2024

    في حضرة أبي العلاء


    أوصى أبو العلاء المعرّي بأن يُكتب على شاهد قبره: هذا جناه ابي عليّ وما جنيت على أحد". لكن ألم يكن ابو العلاء شاعرا وحكيما وإنسانا عاقلا وناضجا؟ كيف إذن غاب عن باله ان الانسان مسئول بالكامل عن حياته؟ ولماذا علّق اخفاقاته على والده وبرّأ نفسه؟
    ربّما لم يكن المعرّي يقصد والده بشخصه، وإنما أزمته الوجودية هو بما لها من مظاهر متعدّدة، مثل معاناته في الحياة وتجربته مع فقدان نعمة البصر وفقره ومرضه والفتن والمآسي التي رآها وعاصرها، وأيضا الأذى والتشهير اللذين تعرّض لهما بعد اتهامه بالزندقة بسبب بعض شعره.
    لكن هناك من يرى أن المعرّي لم تكن أزمته الدِّين بل البشر، فقد كشفت له حساسيته المفرطة والصادقة عن عالم البشر مبكّرا. ولمّا لم يستطع أن ينجو منهم أو أن يشفي غليله منهم، اتّجه إلى نفسه يلومها ويؤلمها.
    وهناك من يؤكّد أنه كان يقصد والده الحقيقيّ فعلا لأنه رآه سببا في أزمته الوجودية عندما أتى به إلى هذه الدنيا المرعبة. ومن المعروف أن المعرّي لم يتزوّج فينجب، ولذا قال: وما جنيتُ على أحد".
    الكثير من شعر المعرّي يصحّ وصفه بأنه عابر للأزمنة والثقافات والأديان. ومن ذلك قوله:
    إذا الإنسان كفّ الشرَّ عنّي : فسُقيا في الحياةِ له ورَعيا
    ويدرسُ إن أرادَ كتابَ موسى : ويُضمرُ إن أحبَّ ولاءَ شَعيا
    والمعنى: ليكن دينك أو معتقدك ما تشاء. المهم أن تُسالم الناس وتكفّ أذاك عنهم.
    وأيضا قوله:
    أتتني من الإيمانِ ستّون حجّةً : وما أمسكتْ كفّي بثني عِنانِ
    ولا كان لي دارٌ ولا ربعُ منزلٍ : وما مسّني من ذاك روعُ جَنانِ
    تذكرتُ أني هالكٌ وابنُ هالكٍ : فهانت عليّ الأرضُ والثقلانِ


    في الأبيات السابقة يعلن أبو العلاء انه زاهد في الدنيا ومتاعها عندما يتذكّر أن كلّ شيء فيها محكوم بالفناء في النهاية.
    الفيلسوف الفرنسي باسكال اشتهر بمقولاته عن "حساب الاحتمالات"، وأشهرها الذي يقول فيه إن عاقبة الإيمان أفضل من عاقبة الإنكار. لكن المعرّي سبقه إلى هذه الفكرة بـ 500 عام عندما قال:
    قال المنجّم والطبيب كلاهما : لا يُبعث الأموات قلتُ إليكما
    إن صحّ قولكما فلست بخاسرٍ : أو صحّ قولي فالخَسار عليكما
    يروي الثعالبي انه سمع يوما شخصا يقول: لقيت بمعرّة النعمان شاعرا أعمى يلعب الشطرنج والنرد ويدخل في كلّ فنّ من الجد والهزل، يُكنّى ابا العلاء. وقد سمعته يقول: أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي وأحسن بي إذ وقاني رؤية الثقلاء والبغضاء".
    في حوالي عام ٣٩٨ للهجرة، وأثناء رحلته إلى بغداد، مرّ أبو العلاء بشجرة. فقال له دليله: إخفض رأسك". ففعل. وعندما عاد من تلك الرحلة بعد أكثر من عام ومرّ بذلك المكان خفضَ رأسه من تلقاء نفسه. فلما سُئل عن ذلك قال: هنا شجرة". فقال له من معه: لا يوجد هنا شيء". وعندما تفحّصوا الموضع وجدوا أصل شجرة مجتثّة.
    قيل إن أبا العلاء ذهب آنذاك إلى العراق للتعريف بنفسه ومقابلة مشايخ البلاد وشعرائها. ويبدو انه عاد من هناك قبل الأوان لسبب ما. وقال شعرا يشي بحنينه الى مسقط رأسه:
    فيا برقُ ليس الكرخ داري وإنّما : رماني إليه الدهر منذ ليالِ
    فهل فيك من ماء المعرّة قطرةٌ : تغيثُ به ظمآنَ ليس بِسالِ
    الرحّالة والشاعر الفارسي ناصر خسرو سافر في أرجاء العالم الإسلامي لسبع سنوات في القرن الحادي عشر. وقد توقّف في معرّة النعمان في سوريا، ثم كتب وصفا غريبا عن لقاء له مع المعرّي. يقول:
    وكان بالمعرّة رجل كفيف يُدعى أبا العلاء. وعلمتُ أنه حاكم المدينة ويملك ثروة عظيمة وعبيدا وخدما كثيرين. لكنه سلك طريق الزهد فلبس الصوف ولزم بيته لا يبرحه. وكان قوت يومه نصف رغيف من الشعير لا يأكل غيره أبدا".
    توفّي أبو العلاء المعرّي في ربيع الأوّل سنة ٤٤٩ للهجرة، ووقف على قبره أكثر من ثمانين شاعرا يرثونه، وتُلي القرآن الكريم على مثواه لسبعة أيّام. وكان ممّن أبّنوه شاعر يُدعى أبا الفتح الحسن ابن عبدالله الذي ألقى قصيدة مشهورة يقول فيها:
    العلمُ بعد أبي العلاءِ مُضيّعُ : والأرضُ خاليةُ الجوانبِ بلقعُ
    جادت ثراكَ أبا العلاءِ غمامةٌ : كَنَدى يديكَ ومُزنةٌ لا تُقلِعُ
    ما ضيَّعَ الباكي عليكَ دموعهُ : إِن الدموعَ على سواكَ تُضَيَّعُ
    وأختم بهذه الأبيات للجواهري في مديح المعرّي:
    قم بالمعرّة وامسح خدّها الترِبا : واستوحِ من طوّق الدنيا بما وهبا
    واستوحِ من طبّب الدنيا بحكمته : ومن على جرحها من روحه سكبا
    وسائل الحفرة المرموق جانبها : هل تبتغي مطمعا أو ترتجي طلبا

    الأحد، يوليو 14، 2024

    موت الاسكندر


    عندما حضر الاسكندر المقدوني الموت بالقرب من بابل، فكّر في فتوحاته وأمجاده وفي الثروات التي جمعها خلالها، وأدرك أن كلّ ذلك لا يساوي شيئا طالما أن الموت قدر محتّم على الانسان في النهاية.
    بعد ذلك طلب رؤية أمّه فأُخبر باستحالة ذلك. ثم أوصى بثلاث وصايا: أن يحمله أطبّاؤه وحدهم إلى القبر، وأن يُفرش الممرّ الى القبر بالذهب، وأن تُترك يداه متدليّتين خارج الكفن. ووسط دهشة مساعديه وحاشيته من تلك الوصايا قال: أريد أن يحملني الأطبّاء وحدهم لكي يعرف الناس أن لا طبيب قادر على إنقاذ انسان واحد من الموت.
    وأريد ان يُفرش الطريق الى القبر بالذهب لكي يعرف الناس ان الانسان لا يأخذ معه الى القبر شيئا مهما كدّس من ثروات في حياته وأن صرف الانسان عمره في جمع المال هو مضيعة للوقت والصحّة وراحة البال. وأريد أن تظلّ يداي خارج الكفن لكي يعرف الناس انني أتيت الى هذا العالم بيدين خاويتين وأرحل عنه الآن كما أتيته."
    القصّة أعلاه ليس هناك ما يؤكّد أو ينفي وقوعها. لكن من المؤكّد أن الاسكندر توفّي بالقرب من بابل عام ٣٢٣ قبل الميلاد بعد إصابته بمرض غامض. في لوحة من ديوان الشاعر الآذاري نظامي، يظهر مجموعة من الرجال وهم يحملون كفن القائد اليوناني المغطّى بالحرير بينما وُضعت عمامته عند مستوى رأسه.
    المؤرّخ الروماني بلوتارك يذكر حادثة غريبة قد تفسّر سبب وفاة الإسكندر. فأثناء دخوله الى بابل، رأى في السماء سربا من الغربان التي أظهرت سلوكا غير عادي ثم ماتت بعد ذلك عند قدميه. وسلوك تلك الغربان يذكّر بمرض الطيور وموتها عادةً قبل أسابيع من اكتشاف أوّل حالات إصابة البشر بفايروس يسبّب التهاب الدماغ ومن ثم الموت.
    يقال إن الاسكندر كان يضع تحت مخدّته قبل أن ينام نسخة من ملحمة الإلياذة وخنجرا. كان يداوم على قراءة كتاب هوميروس بحماس وإعجاب بعد أن أهداه إيّاه أستاذه ارسطو. وقد أخذ الكتاب معه في غزواته في بلدان آسيا الصغرى. وكان معجبا كثيرا بشخصية البطل الإغريقي أخيل ولطالما اعتبره مثله الأعلى في الشجاعة.
    كان غزو الاسكندر لبلاد فارس في القرن الخامس قبل الميلاد في جزء منه نوعا من الانتقام لغزو داريوش ملك الفرس لأراضي اليونان. وقد دمّر الاسكندر بيرسيبوليس عاصمة الإخمينيين الفرس بعد ليلة ماجنة. وقيل إن ذلك كان انتقاما منهم لتدميرهم الأكروبوليس الأثيني قبل ذلك بسنوات. ثم دمّر قبر كوروش العظيم، ولم يوفّر حتى معابد الزرادشتيين الذين رأى حكماؤهم في ما حدث كارثة وشؤما.
    وفيما بعد تكرّست في الغرب قصّة خرافية تزعم أن الاسكندر أراد من وراء غزوه جلب الحضارة الى الشرق المتوحّش والمتخلّف. لكن يُشاع أن الاسكندر ندم قبل وفاته على عمليات التخريب التي رافقت حملته العسكرية على بلاد الفرس. وقيل انه لو عاش حياة أطول لأصلح الكثير مما خرّبه جنوده.


    بعض المصادر التاريخية تذكر انه أثناء غزوه لبلاد فارس، كاد الاسكندر أن يظفر بالملك داريوش ويأسره وهو حيّ، لولا أن الأخير تمكّن من الفرار على ظهر حصان. لكن بعد أيّام قُتل داريوش على يد ابن عمّ له. وأرسل القاتل رأس الملك الى الاسكندر كلفتة مجاملة وولاء، وربّما طمعا في مال أو سلطان.
    وقد صُدم القائد اليوناني من تلك الخيانة واستشار بعض حاشيته في امر الرجل فأشاروا عليه بمكافأته. فقال: وكيف نأمنه وقد غدر بأقرب الناس إليه"! ثم أمر بأن يؤتى بالرجل فيُسجن ويُعذّب كأشدّ ما يكون العذاب ثم يُقتل جزاءً له على فعلته.
    الفرس من ناحيتهم تصالحوا مع فاتحهم المقدوني واستوعبوه في نسيج تاريخهم الوطني، تماما كما فعلوا مع غيره من الغزاة. في ملحمة الشاهنامه المكتوبة في القرن العاشر الميلادي، يصوَّر الاسكندر، ليس كقائد أجنبي، وإنما كأمير مولود لأب من بلاد فارس. وتلك طبعا أسطورة.
    كان أرسطو قد حثّ تلميذه الاسكندر المقدوني على أن يكتسب المجد على حساب الشعوب التي تُعتبر أقلّ شأنا من الإغريق. وكان يرى العبودية أمرا طبيعيا. وقد غضب عندما سمع أن الاسكندر بدأ يرتدي الملابس الفارسية ويتصرّف كأهل فارس بعد أن هزم ملكهم واستولى على عاصمتهم. ودبّ الجفاء أكثر بينه وبين الاسكندر بعد أن علم انه و90 من قادة جيشه تزوّجوا من نساء فارسيات. كان أرسطو يؤمن بتفوّق الإغريق ويرى أن البشر ينقسمون إمّا إلى يونانيين أو برابرة.
    بعد إخضاعه للإمبراطورية الفارسية، تحرّك الاسكندر غربا نحو الهند. ثم قرّر لسبب غير معروف العودة الى مسقط رأسه في مقدونيا. لكنه لم يصلها أبدا، فقد توفّي في بابل وعمره لا يتجاوز الـ 32.
    كان موت الإسكندر مفاجئا وصادما، لدرجة أنه عندما وصل خبر موته إلى اليونان، لم يصدّقه الناس على الفور بل اعتبروه شائعة. ولم يكن للإسكندر وريث واضح أو شرعي، لأن ابنه ولد بعد وفاته. وبحسب مؤرّخ يوناني قديم، فإن رفاق الإسكندر سألوه وهو على فراش الموت لمن سيورّث مملكته، فأجاب: للأقوى".
    كان في نيّة الاسكندر قبل وفاته أن يقيم لوالده فيليب ضريحا يكون أضخم من أهرامات مصر. وقد حالت وفاته المبكّرة دون اكمال المشروع. وتقاسم خلفاؤه من القوّاد المال الذي جمعه للضريح، فأنشأوا به جيوشا حاربوا بها بعضهم بعضا للسيطرة على بقيّة تركته. وبعد 40 عاما من الحروب والفوضى، تفكّكت إمبراطوريّته وانقسمت الى أربع دول.

    Credits
    greeka.com

    الجمعة، يوليو 12، 2024

    رويريك والأرض الموعودة/2


    في قرى لاداك، تُصادِفُ نيكولاس رويريك وعائلته ومرافقيه روائح البخور والنعناع البرّي والمريمية والتفّاح والمشمش. وعندما يصعدون إلى قمّة الجبل، يفاجئه وضوح الألوان وضخامة المنظر. "على الجبل دوّت أصوات الطبول والدفوف وشقّ موكب طويل طريقه نحونا على طول منحنيات الطريق، حاملاً الفوانيس الملوّنة والمشاعل، وتوهّج القمر الصاعد وسط النيران الحمراء. كان ذلك وقت حصاد الشعير الذهبي. كانت صفوف من الناس يحملون على ظهورهم حِزما من القمح وهم يغنّون بحرارة وحماس".
    ثم يتحدّث عن شريناغار، مدينة الشمس، التي تعجّ بالسياح: على الطريق توجد العديد من السيّارات. وفي غرفة الطعام في الفندق نرى وجوها لأميركيين. وفي محلّ المجوهرات، توجد لوحتان معلّقتان جنباً إلى جنب، إحداهما لإطلالة على دلهي والأخرى لإطلالة على الكرملين في موسكو".
    ويضيف: بين البلّورات التي نتطلّع إليها لنرى المصير وبين الياقوت في كشمير والفيروز التبتي، توجد أحجار اليشم الصينية الخضراء اللامعة. وكحديقة، تنتشر حدود القفاطين المطرّزة بألوان متعدّدة. وكشالات ثمينة، تنتشر في غرف المتحف تصاميم إيرانية وآسيوية دقيقة." هكذا كانت شريناغار قبل قرن من الزمان.
    ثم يذكر رويريك جيلجيت وتشيترال. الطرق المؤدّية إلى هاتين المدينتين أكثر صعوبة من الطريق إلى لاداك والصخور البنفسجية والأرجوانية والقمم الثلجية الزرقاء. ويتحدّث عن أمسية استمتع فيها بوجبة كشميرية غنيّة من لحم الضأن والتوابل، واستمع حتى منتصف الليل الى الغناء الكشميري والأغاني الفارسية والعربية إلى جانب الأغاني الكشميرية والأوردية. ثم وكالعديد من المسافرين الذين سبقوه، اتّجه رويريك إلى شينجيانغ في الصين وعبَر جبال كاراكوروم القاحلة.
    كان الكاتب مفتونا بالتقاليد الروسية في العصور الوسطى. وقبل سفره الى الهند، ترحّل كثيرا حول الإمبراطورية، مرمّما الآثار وجامعاً التراث الشعبي. وقبل مغامرته لاكتشاف شانغريلا، لجأ إلى الأساطير الروسية، متأمّلا العثور على مدينة كيتيش الأسطورية.
    ويُقال إن كيتيش تقع على بحيرة، وقد بناها أمير روسي في نهاية القرن الثاني عشر، وتشغل مساحة بين الأحلام والواقع. ومثل شانغريلا، كان من المفترض أن تكون كيتيش مكانا للجمال والرقيّ الفنّي. ومثل شانغريلا أيضا، كانت مخفيّة عن أعين المتطفّلين. وقد ابتلعتها مياه البحيرة التي كانت تحميها ذات يوم من غزو التّتار. وقد اعتقدَ رويريك فيما بعد أن كيتيش وشانغريلا يمكن أن يكونا اسمين لنفس المكان، وأن مدخله مخفيّ في مكان ما في جبال الهيمالايا.
    كان عمل رويريك الأكثر شهرة والمخصّص لكيتيش هو لوحة رائعة باللونين الأحمر والبرتقالي. في المقدّمة، تظهر المدينة المفقودة نفسها مع انعكاس قبابها البصلية وشرفاتها المزخرفة في البحيرة البرتقالية. ومن خلال اللعب بالمنظور، ابتكر رويريك حلما لشانغريلا روسية لا يكشف عن نفسه إلا للأشخاص الأقوى ملاحظة.
    بحسب أسطورة تبتية، تحيط الجبال بمملكة شانغريلا التي تشبه زهرة لوتس عملاقة، وتنتشر فيها البحيرات والمروج والبساتين، كما توجد بها قصور ذهبية ذات أسقف من الكريستال. وقد حقّق الملوك الذين يحكمون شانغريلا الثروة، لكنهم يسعون جاهدين لمساعدة الآخرين على الوصول إلى التنوير والخلاص.
    الرهبان الأوائل حدّدوا تلك الأرض في مكان ما في جبال منغوليا أو التبت أو الهيمالايا، ورووا أساطير عن الأرض الموعودة التي غامر عشرات المسافرين لبلوغها ولكنهم لم يعودوا أبدا. وخلال إقامتهم في رحلتهم الأولى، تحوّل رويريك وعائلته إلى شخصيات أسطورية، حيث يُفترض أنهم وصلوا الى "المدينة المتألّقة" وعادوا ليخبروا عنها.
    كانت شانغريلا التي رسمها رويريك تشبه جزيرة كيتيش، حلما ورؤية لجمال ساحر لم يمسسه بشر ولم يكن بوسع سوى قِلّة مختارة من الناس بلوغه. ورغم أنها بعيدة، إلا أنها تغري المسافر، وتبدو عند فحصها عن كثب وكأنها قلاع تنهض في السماء. وتضاء هذه الرؤية السماوية بوميض من ضوء القمر يظهر في سحابة كانعكاس.
    لكن كان من المستحيل معرفة مكان شانغريلا التي رسمها رويريك، لأنه اعتقدَ أنه وجدها وهو يتجوّل بين الجبال. واستنادا إلى أساطير كيتيش و شانغريلا، رسم خرائط لطرقه وسجّل تجاربه في العديد من الكتابات.
    كتب رويريك أن "الطريق إلى شانغريلا هو طريق الوعي في قلب آسيا. ولن تقودك خريطة ماديّة بسيطة إلى مكانها، لكن العقل المنفتح يمكن أن ينجز المهمّة". وكانت لوحاته عبارة عن خرائط من شأنها أن توفّر للمشاهد لمحة سريعة عن شانغريلا، فهي مكان الحكمة الهادئة المصقولة بألوان زاهية وأشكال ملتوية.


    على عكس الرسّامين الآخرين في عصره، نجا رويريك من فخّ الاستشراق. ولم يصوّر الشرق أبدا باعتباره "مكانا آخر". كان يرى الشرق والغرب وجهين لعملة واحدة. وكان افتتانه بأبطال روسيا يعادل اهتمامه بالأبطال والمعلّمين الهنود. وقد رفض التمييز بين الاثنين وسعى بدلاً من ذلك إلى إيجاد صلات.
    وبخلاف معاصريه من الفنّانين الآخرين الذين ينتمون إلى خلفية فنّية خالصة، كان لدى رويريك نهج أكثر علميةً وروحانية تجاه الفنّ الذي كان ينتجه. كان استخدامه للألوان الجريئة مع درجات اللون الأزرق، جنبا إلى جنب مع الخطوط المتناقضة للألوان، يجعل لوحاته الجبلية مميّزة، حيث استخدم المزيد من النغمات الأرضية والجماليات الريفية. ومن خلال لوحاته يمكن للمرء أن يشعر بجوهر الروحانية التي تتضمّن عناصر الوعي الإبداعي.
    في العديد من لوحات رويريك، سترى قوارب أسطورية وكنائس ذات قباب ورعاة وحجّاجا يصعدون التلال وسهولا مزهرة وجبالا قرمزية أو صفراء أو نيلية زاهية تغلّفها سحب وردية خفيفة. هذه هي صورة الشرق كما رآها.
    وفي بعض الأحيان لا تخلو قمم الجبال في لوحاته من شخصيات صغيرة غير مركزية من ذوي القلنسوة أو الفرسان المتربّعين عادةً في المخيال الشرقي. وفي بعض اللوحات الأخرى، وسط الجبال، تتداخل الأديرة في أكوام غير متماثلة من المكعّبات، حيث تشرق الشمس غير المرئية أو تغرب وكأنها داخل اللوحة أو خلفها.
    أما الرهبان واللامات والشامانات والمتجوّلون والمادونات فيظهرون بشكل غير متجانس وسط هذه الجبال العملاقة أو في الكهوف في صورة حالمة بينما رؤوسهم مائلة، وهو وضع الحياة الداخلية المكثفة واليقظة الروحية. أما الجبال فهي البطل الوحيد مع توأمها، أي السحب المهيبة الثلجية والقادرة على كلّ شيء.
    وفي اللوحات سترى أيضا كنائس وصلبانا روسية مألوفة ومناظر طبيعة روسية مميّزة وسهولا خضراء وأنهارا وتلالا وأكواخا رثّة من القصص الخيالية وبحيرات متدحرجة يسكنها عادة رهبان روس يرتدون ثيابا سوداء وشخصيات شعبية وثنية.
    بالنسبة لرويريك، أصبحت جبال الهمالايا وسيلة لاستكشاف اللون النقي، والتوليف بين الإدراك البصري والوعي الروحي. كان ينظر إلى هذه الجبال باعتبارها فضاءً مركّبا مُشبعا بالقداسة والروحانية والأسرار التي لا تُحصى. ووجد في النهاية طريقته الخاصّة في التجريد، وذلك بتحرير المناظر الجبلية من التفاصيل وتجسيدها كوسيلة للتأمّل.
    العديد من مناظر رويريك للطبيعة تجسّد عمق الفضاء الجبلي اللامحدود الذي خلقته قوى الحياة الأكبر. في أحدها يظهر رجل على حصان أبيض وهو يغادر منزله المطلّ على الجبال القريبة. وعلى الرغم من أن شكل الرجل صغير ويستحيل قراءة وجهه، إلا أن لغة جسده واضحة، كأنه يودّع منزله الأصلي الواقع على الطرف الآخر من اللوحة، حيث تقف امرأتان تحملان جرّتي ماء.
    وعند تركيز النظر قليلا، ستلاحظ أن شخصيّتي المرأتين شفّافتان لدرجة أنه يمكن رؤية جدران البئر من خلال شكلهما. وكما غادر رويريك وطنه وبدأ رحلة روحية، فإن هذا المهاتما أو المعلّم المغادر بيته مستعدّ للسفر بعيدا عن الوطن. وهو يُميل رأسه إلى الوراء لينظر إلى الماضي بحنين ويتذكّر منزل طفولته الحبيب مع الشخصيّتين الشبحيتين لأمّه وأخته اللتين تركهما وراءه في روسيا.
    وطوال 30 عاما من حياته، وحتى وفاته، سعى رويريك لتحقيق رؤية مثالية، فأصبح رحّالة لا يستقرّ أبدا ولا يصل أبدا لأنه من غير الممكن الوصول إلى أرض خيالية.
    انغمس رويريك في الحياة الثقافية الهندية وأصبح صديقا لإنديرا غاندي وجواهر لال نهرو والشاعر طاغور واستمرّ في رسم جباله وأساطيره المحبوبة. وعلى مدى 20 عاما، رسم لجبال الهيمالايا وما جاورها مجموعة مذهلة من 7000 لوحة. كما ألّف كتابين إثنوغرافيين عن الجبال والهند. وأصبح وادي كوللو، الواقع وسط قمم جبلية مهيبة مغطّاة بالثلوج، منزله ومكان عمله حتى رحيله.
    وبعد وفاته عام 1947، ووفقا لرغبته، تمّ حرق جثّته ونُثر رمادها في نفس المكان، ثم مُنح لقب قدّيس هندي أو "ماهاريشي".
    وسط المناظر العديدة التي رسمها رويريك لمناطق الهيمالايا، تطلّ علينا أحيانا ملامحه نفسه على هيئة حكيم شرقي عجوز بلحية بيضاء صغيرة وحضور ساحر ومهيب.

    Credits
    roerich.org

    الخميس، يوليو 11، 2024

    رويريك والأرض الموعودة/1


    كان نيكولاس رويريك شخصا متعدّد المواهب والاهتمامات. كان فنّانا وباحثا وعالم آثار ورحّالة ومغامرا وكاتبا وشاعرا ورسّاما وروحانيّا. وكانت صفاته الثلاث الأخيرة هي الغالبة، وهي التي أضفت على أعماله الفنّية بريقا غريبا خاصّا به وحده.
    رُشّح رويريك مرّتين لجائزة نوبل للسلام وأنشأ مدرسة فلسفية للأخلاق الحيّة. لكن الأكثر إثارة للاهتمام من بين أعماله كان بحثه عن الألغاز الخفيّة في العالم، بما في ذلك مدينة شانغريلا الأسطورية. وقيل إنه لم يعثر على مدخل تلك المدينة فحسب، بل عاش أيضا ليروي القصّة من خلال سلسلة واسعة من لوحاته الخيالية.
    ولد رويريك عام 1874 لأب ألماني وأمّ روسية من طبقة مرموقة في سانت بطرسبيرغ. كان منذ صغره محاطا بالكتب وأصدقاء والديه المثقّفين. وكان يقضي أيّامه في التجوال في الهواء الطلق، حيث نما شغفه بالتضاريس المتعرّجة للأرض، فضلاً عن مناظر العصور القديمة. وفي الجامعة درس المحاماة ثم الرسم. لكنه اكتشف أن لديه خططا أهم بكثير.
    وبعد زواجه، ترك روسيا عشيّة ثورة أكتوبر وأخذ زوجته وولديه في جولات عبر أوروبّا والولايات المتحدة وبريطانيا. ثم جعل من الهند موطنه منذ أوائل العشرينيات وحتى وفاته في عام 1947.
    لكن قبل أن يبدأ رحلته الطويلة والدائمة الى الهند، حلّ رويريك وعائلته - الذين أصبحوا بلا جنسية بعد الثورة البلشفية - في مكان لا علاقة له على الإطلاق بالفردوس الاشتراكي الذي تركوه خلفهم وكان من حسن حظّهم أنهم لم يختبروه قط. فقد وصلوا إلى الولايات المتحدة في عام 1920 بدعوة من معهد شيكاغو للفنون. وجاءوا إلى نيويورك لحضور أوّل معرض كبير لرويريك هناك.
    وفي عام 1935، انتقل رويريك إلى الهند، وانغمس في الفولكلور الهندي وأبدع أشهر لوحاته. كان يعتبر الهند مهد الحضارة الإنسانية، وسعى جاهداً لإيجاد روابط بين الثقافة الروسية والهندية. ولم يبتعد قطّ عن حبّه للخطوط المتعرّجة والآفاق الممتدّة التي تُميّز أعماله.
    وقد جعل رويريك الهند موطنه لبقيّة حياته، بعد أن حوَّل اهتماماته الروحية والفنيّة إلى فلسفات وأديان الشرق، فدمج بين الثيوصوفية والبوذية التبتية والأرثوذكسية المسيحية. كان ارتباطه بهذا البلد ارتباطاً دائماً، وكأنه قد استقرّ أخيراً بعد كلّ رحلاته بحثاً عن جمال الحياة؛ ذلك الحلم الذي استحوذ على خياله منذ أيّام طفولته في عزبة والديه خارج سانت بطرسبيرغ.
    ولم يلبث الرجل أن شرع في رحلات واسعة وكثيرة إلى العوالم النائية في آسيا الوسطى وجبال الهيمالايا، حيث تعامَل مع هذه الرحلات الاستكشافية باعتبارها رحلات روحية عميقة، وسعى إلى معرفة حكمة الثقافات القديمة التي كانت تحترم هذه المنطقة بشدّة.
    وخلال رحلتهم الأولى، استقرّ رويريك وعائلته بالقرب من دارجيلنغ، في منزل يتمتّع بإطلالات خلابة على قمّة جبل مقدّس في الهيمالايا، كان قد أعجب به عندما كان طفلاً وحلم بزيارته ورسمِه.
    وبدأ فنّه يتبنّى موضوعات روحية وفلسفية. كانت لوحاته تشعّ بهالة من التصوّف والجوهر الأخروي. وقد درس الممارسات الروحية وعمّق استكشافاته الخاصّة، ما أضفى على إبداعاته تعبيرات منوّمة أصبحت سمة لازمة لأعماله.
    ومن خلال فنّه، نجح رويريك في تجسيد عظمة المناظر الطبيعية التي رآها في جبال الهيمالايا التي تتمتّع بتاريخ طويل من الأهمية الروحية والدينية التي أسَرته كما أسرت الكثيرين غيره. ويتجلّى التأثير العميق لهذه الجبال على روحانيته وحساسياته الفنّية في بعض أعماله الأكثر شهرة.
    ومن أشهر عباراته التي تشي بانجذابه لتلك الجبال قوله: صحيح أن الجبال في كلّ مكان هي جبال، والمياه في كلّ مكان هي مياه، والسماء في كلّ مكان هي سماء، والبشر في كلّ مكان هم بشر. ولكن مع ذلك، إذا جلستَ أمام جبال الألب وحاولت أن تتخيّل جبال الهيمالايا، فسوف تشعر أنه ينقصك شيء لا يمكن تفسيره."


    صُوَر رويريك تجاوزت المشاهد المادّية، ما عكسَ إيمانه بالترابط بين جميع أشكال الحياة وانسجام الخلق الإلهي. وقد قالت شاعرة أمريكية تصف فنّه بعد أن رأت بعض لوحاته في أمريكا: إذا كان الجمال قادراً على إنقاذ العالم كما اعتقدَ دوستويفسكي، فإن هذا الرجل أعاد إشعال نيران معابد العالم القديمة".
    كان رويريك، من خلال فنّه، يستخدم الصواعق ويجمع السحب ويُطلقها، تارةً كرُسُل الصباح السريعين، وتارةً كأفواج المساء المتجهّمة، وأحيانا كأوعية مظلمة مليئة بالمطر، لأنه كان يعرف أسرار السماء. وكان يتبع دائما خطّ ضوئه الخاصّ. ولا يمكن لأيّ رجل أو امرأة أو طفل أن يقف أمام لوحاته ولا يستعيد أصوات البحر اللامتناهي من ورائه ويستمع بالأذن ويرى بالعين الداخلية ويستعيد موجة مدّ من الجمال.
    في لوحة رويريك المشهورة "معركة في السماء" (1912)، يرسم سحبا ملوّنة بضوء أبيض ناصع مع الألوان الأرجواني والزهري والقرمزي، وهي ألوان غير محتملة لحرب عاصفة. وربّما أراد للوحة أن ترمز إلى رؤاه ونبوءاته عن الأحداث القادمة في أوروبّا. وفي رؤية رويريك البدائية للكون، غالبا ما تكون الجبال والسحب والسماء أبطالا في الملاحم الرمزية بينما يلعب البشر أدوارا ثانوية.
    في الهند، اكتشف رويريك جبال الهيمالايا التي أصبح مفتونا بها بلا حدود. في مؤلّفه "راية الشرق" يكتب: هل كان نسراً ذاك الذي اندفع من بين الصخور؟ عبر الوادي، كان السيخ يطلقون النار من الأقواس. وفي أزيز السّهام الطائرة واهتزاز الأوتار وتوتّر الشفاه، وفي حدّة البصر، كان هناك صدى لشيء بعيد ولكنه غامض."
    ثم يكتب عن عالَمين رآهما في الهيمالايا. الأوّل عالم الوديان العميقة والتلال التي ترتفع إلى خطّ السحاب الذي يذوب فيه دخان القرى والأديرة؛ عالم أرضيّ مليء بالتنوّعات حيث تقف شجرة صنوبر مهيبة بجانب شجيرات أخرى مزهرة وحيث كلّ شيء متشابك. ثمّ هناك العالَم الثاني؛ الأسوار الغريبة والمذهلة التي تعلو السحاب، حيث تتلألأ الثلوج فوق الشفق وتنتصب القمم الضبابية الباهرة التي لا يمكن عبورها.
    إن أحدا من قبل لم يرسم تلك الجبال كما رسمها هذا الرجل. كانت صوره تزدحم بالمضامين الروحية والتأمّلية والشاعرية. ومن أشهرها لوحة "جبل الكنوز الخمسة". يقال إن هذا الجبل سُمّي بهذا الاسم لأنه يخبّئ تحت قمّته كمّيات كبيرة من الذهب والياقوت والفيروز والماس والزمرّد.
    وهناك نبوءة تقول إنه سيأتي زمن يعاني فيه العالم من مجاعة رهيبة ومن نقص حادّ في الموارد. ثم سيظهر رجل من المجهول يفتح بوّابة الجبل الضخمة ويُخرج من جوفه تلك الكنوز المخبّأة ويمنحها للعالم.
    وفي بعض كتاباته، يتحدّث رويريك عن الأجراس في معابد الهيمالايا التي تدقّ بقوّة، مذكّرة إيّاه بأسطورة جميلة عن إمبراطور صيني ولاما عظيم. فمن أجل اختبار معرفة اللاما وقدرته على التنبّؤ، صنع الإمبراطور له مقعدا من الكتب المقدّسة وغطّاه بالأقمشة، ثم دعاه للجلوس. ألقى اللاما بعض الصلوات ثم جلس. وسأله الإمبراطور: إذا كانت معرفتك عالمية إلى هذا الحدّ، فكيف يمكنك الجلوس على الكتب المقدّسة؟"
    أجاب اللاما: لا توجد مجلّدات مقدّسة". وذُهل الإمبراطور عندما وجد بدلاً من كتبه المقدّسة أوراقا فارغة فقط. عندها قدّم الإمبراطور لللاما العديد من الهدايا والأجراس ذات الرنين السائل. لكن اللاما أمر بإلقائها في النهر قائلاً: لن أتمكّن من حملها. لكن إن كانت ضرورية لي، فإن الله سيُحضر هذه الهدايا إلى ديري". وفي الواقع، تقول الأسطورة، حملت المياه إليه الأجراس البلّورية الصافية كصفاء مياه النهر.
    ثم يكتب رويريك عن كشمير "المكان الذي مرّت به جحافل المغول، حيث تتقاطع الطرق المؤدّية إلى بامير ولاسا وكوتان، وحيث يقع كهف أمارناث الغامض". وقد استقبلت كشمير رويريك في شهر مارس في مزاج ذكّره بأجواء طقوس الربيع لسترافينسكي، حيث تتوهّج سماء الربيع الزاهية بالنجوم والجبال الزرقاء وتلتمع منحدراتها بمواكب نارية تعلن أغانيها عن نهاية صقيع الشتاء ووصول الربيع.

    الأربعاء، يوليو 10، 2024

    بين دافنشي وميكيل أنجيلو


    هناك أوجه شبه متعدّدة بين كلّ من ليوناردو دافنشي وميكيل انجيلو. فقد اعتُبر الاثنان معلّمَين وممثلين للفنّ الكلاسيكي اليوناني والروماني. كما عملا كفنّانين تجاريَين لدى الكنيسة واستفادا من رعاية رجال الدين ودعمهم لهما. والاثنان أيضا أنتجا فنّاً تحدّى الزمن وعاش مئات السنين وما زال يحظى بتقدير الناس إلى اليوم.
    وقيل أيضا أن فنّ دافنشي يّتسم بالكمال، لكنه لا يثير شعورا في نفس المتلقّي. يكفي مثلا أن تنظر إلى الموناليزا أو العشاء الأخير مرّة أو مرّتين فتُعجب بحرفية الرسّام وجمال الرسم، لكن هذا لا يحرّك فيك أيّ شعور ولا يثير بداخلك أيّ أسئلة.
    وعلى العكس من ذلك، فإن منحوتات ميكيل انجيلو مليئة بالحركة والدراما والقصص المثيرة. ولهذا سيُكتب لفنّه الخلود والبقاء أكثر من دافنشي الذي شغله انهماكه بالعلوم والفلك والهندسة عن إنتاج فنّ حقيقي يحرّك العقل ويحرّض على الأسئلة.
    من ناحية أخرى، كانت شخصيتا الاثنين متعارضتين من عدّة أوجه، فليوناردو كان رجلاً اجتماعيّا يحبّ ارتداء الملابس الأنيقة وحضور مناسبات النبلاء وأعيان المجتمع. لكن ممّا يُعاب عليه تركه العديد من أعماله دون أن يكملها، لأنه كان متعدّد الاهتمامات وكان يحبّ دائما التركيز على أشياء جديدة. أما ميكيل أنجيلو فكان رجلاً مقتصدا وذا شخصية خشنة وغضوبة، ولكن على عكس ليوناردو كان حازما ويتحمّل مجهودا بدنيّا هائلاً لنحت أعماله.
    وتخبرنا روايات السيرة التي كُتبت عنهما أن ليوناردو كان ساحرا وأنيقا، بينما لم يكن لدى ميكيل انجيلو سوى القليل من الوقت للتباهي أو متابعة الموضة. وقد استخدم كلاهما أساليب مختلفة للحصول على عملاء مرموقين. وساعدت الكاريزما الشخصية لليوناردو في عرض أعماله على الرعاة الأثرياء كعائلة ميديتشي القويّة في فلورنسا، بينما كان الرعاة يثقون في اجتهاد ميكيل أنجيلو والتزامه، وهو ما بدا أن ليوناردو كان يفتقر إليه أحيانا.


    كان ميكيل أنجيلو شخصا منعزلاً وميّالا للقتال وقاسيا وفوضويا ولا يثق في الناس بسهولة. وكان دافنشي دائما شخصا هادئا ولبقا ومرتّبا وودودا مع الجميع تقريبا. ويقال إنهما التقيا بضع مرّات، وفي إحداها طلب دافنشي من ميكيل أنجيلو شرحا لجزء من كتاب الكوميديا الإلهية لدانتي، إذ كان الأخير مرجعا معروفا في شرح أعمال الشاعر. وبدلا من الردّ على السؤال، انتقد ميكيل أنجيلو دافنشي على "محاولته الفاشلة" صبّ حصان برونزي تكريما لأهل ميلانو، في إشارة ضمنية الى أن دافنشي خدعهم وسرق أموالهم.
    وقيل أيضا أنه عندما أنتهى ميكيل أنجيلو من نحت تمثال ديفيد أو داود، تشكّلت لجنة لتحديد المكان الذي يجب أن يوضع فيه التمثال. وكان دافنشي عضوا في تلك اللجنة. وقد اقترح وضع التمثال في المكان المخصّص له في البداية، أي في أعلى جدار الكاتدرائية، بينما كان ميكيل أنجيلو يريد وضعه أمام قصر فيكيو. وفي النهاية انتصرت وجهة نظر ميكيل أنجيلو. وقد اقترح دافنشي أيضا أن تُغطّى الأعضاء الخاصّة بالتمثال، وفعلا أُخذ بمقترحه واستمرّ الحال كذلك لفترة قصيرة من الزمن.
    والاختلافات بين الاثنين تمتدّ أيضا الى وجهات نظرهما حول أيّ الأشكال الفنّية يعتبر أعلى من سائر الفنون. ليوناردو كان يعتقد أن الرسم هو أهمّ الأشكال الفنيّة بسبب التنوّع والحريّة التي يمنحهما للفنّان لتمثيل الأشياء، حتى تلك الغير مرئيّة. ونحن نرى تجسيدا لهذه الإمكانية في لوحة الموناليزا، فالاتساع المذهل للمنظر الطبيعي الفانتازي الذي رسمه ليوناردو في خلفية اللوحة لا يمكن أن يكون موجودا إلا في ذهن رسّام عظيم مثله.
    من ناحية أخرى، كان ميكيل أنجيلو يعتبر النحت أبا لجميع الفنون. كان الفنّ بالنسبة له أكثر من مجرّد وسيلة لتحقيق الثروة أو الشهرة، بل هو بوّابة للتعبير عن رؤيته للجمال وتجسيدها. وكان يؤمن بفكرة أفلاطونية مفادها أن إنشاء التمثال يعني التحرّر من الحجر الصلب، أي أن الحجر بالنسبة له هو مادّة أو قناع يحمل الشكل. وكان يرى أن التمثال مكتمل بالفعل داخل كتلة الرخام حتى قبل أن يبدأ النحّات عمله، وأن كلّ ما عليه فعله هو إزالة الموادّ الزائدة عن الحاجة.
    ومن أشهر أقواله: كلّ كتلة من الحجر بداخلها تمثال، ومهمّة النحّات هي اكتشافه. وقوله: يمكن للمنحوتة العظيمة أن تتدحرج إلى أسفل التلّ دون أن تنكسر. وقوله عن تمثال له يصوّر ملاكا صغيرا: رأيت الملاك في الرخام فنحتّه حتى أطلقت سراحه."
    ختاما، كان كلّ من ليوناردو دافنشي وميكيل أنجيلو أستاذين في الفنّ وكانت بينهما أوجه شبه وأوجه اختلاف واضحة في أسلوبهما وفي مجال خبرتهما. لكن ما يزال العالم يحتفل بمساهمات الاثنين وإبداعاتهما المتميّزة في عالم الفنّ حتى يومنا هذا.

    Credits
    leonardoda-vinci.org
    michelangelo.org

    الأحد، يوليو 07، 2024

    انطباعات ملوّنة


    كان اللون يأسرني دائما، وكذلك الكلمات التي تعبّر عن الألوان والشمس التي تجعل الألوان حيّة.
    * اندريه ديرِن، رسّام فرنسي

    الألوان جزء لا يتجزّأ من جماليات أيّ صورة. وأحيانا تكون عنصرا تعبيريّا لا يقلّ أهمية عن الأشكال والخطوط والأشخاص والمنظور الخ. وكلّ له رسّاموه المفضّلون عندما يتعلّق الأمر باللون. شخصيّا تعجبني ألوان ماتيس وكليمت وبونار وكاندنسكي ومونك وفالوتون وشاغال وبولوك وبول كلي وفان غوخ وجولنسكي وروريك وغيرهم ممّن لا تحضرني أسماؤهم الآن.
  • المعروف أن ظاهرتي الشفق القطبي وقوس قزح تتألّف كلّ منهما من سبعة ألوان هي ألوان الطيف المنظور كما تُسمّى. وجميع الألوان الموجودة في هذا العالم، أي ملايين التنويعات والتدرّجات والظلال اللونية، ليست سوى نتيجة لامتزاجات هذه الألوان السبعة مع بعضها البعض.
  • كان الرسّام الروسي التجريدي كاندنسكي يرى في الأزرق لونا روحانيّا، وكلّما كان أثقل أيقظ رغبة الإنسان في الخلود. زميله فرانز مارك كان هو الآخر يؤكّد على تأثير الألوان على المزاج. كان يرى مثلا أن الأزرق لون الذكورة والأصفر لون الأنوثة والأحمر لون العالم المادّي بكلّ ما يختلج به من توتّر وعنف.
  • اللون الأحمر عندما يغمق يصبح بنّيا وعندما يُخفّف بالأبيض لا يعود احمر، بل لونا آخر مختلفا هو الزهريّ، بينما يتلاشى الأصفر عندما يُخفّف. أمّا الأزرق فهو اللون الوحيد الذي يحافظ على شخصيّته في جميع درجاته فيظلّ دائما ازرق.
  • إيف كلاين، الرسّام الفرنسي، يُعزى إليه ابتكار درجة غميقة من اللون الأزرق أصبح يُسمّى بـ (أزرق كلاين العالمي) أو (IKB) كما يُعرف اختصارا. التأثير البصريّ لهذا اللون "كما يتضح من الصورة التي فوق" يأتي من اعتماده القويّ على الفيروزي أو لون البحر الفائق الزرقة.
  • الفنّان الياباني كاتسوشيكا هوكوساي عندما أكمل رسم لوحته الأيقونية "الموجة الكبيرة" عام 1830، كانت اليابان على وشك إنهاء عزلتها الطويلة عن العالم والتي دامت أكثر من مائتي عام. وكان التأثير الأجنبيّ واضحا في اللوحة. فاللون الأزرق المستخدم فيها مستورد من أوربّا. كان يُسمّى الأزرق البروسي (نسبة إلى بروسيا أي ألمانيا القديمة). ومنذ أن ظهر هذا اللون في القرن الثامن عشر، ظلّ مفضّلا بسبب عمقه وديمومته.
  • في لوحته "قماش مائدة أزرق"، يصوّر هنري ماتيس إبريق قهوة وطبق فاكهة. لكن أهم تفصيل في اللوحة هو قماش المائدة وهو عبارة عن قطعة من الحرير الفرنسي تعود إلى ق 19 وتتميّز بلونها الأزرق البديع مع موتيف متكرّر لسلّة أزهار.


  • الشاعر الاسباني رافائيل ألبيرتي معظم أشعاره مستوحاة من الرسم. وفي حديثه عن الأزرق، يشير الشاعر إلى لوحة بيكاسو "المأساة" باعتبارها النموذج الأكمل لاستخدام الأزرق في الفن. كما يذكر لوحة انجيليكو "البشارة" ولوحة "مولد فينوس" لبوتيتشيللي باعتبارهما مثالين آخرين رائعين لاستخدام الألوان الزرقاء.
  • كان بيكاسو يحبّ الأزرق كثيرا ويسمّيه ملك الألوان. وفي مرحلته الزرقاء اختار للوحاته ألوانا زرقاء شاحبة ورسم الطبقة المسحوقة كالشحّاذين والسكارى والمكفوفين. وقد تأثّر بزيارته لسجن النساء في باريس وبموت صديقه المشرّد الذي أطلق النار على نفسه في أحد مقاهي باريس.
  • اللون الزهري يرمز عادةً للعاطفة والحبّ اللامشروط. ولأنه نادر في الطبيعة، فلم يظهر في اللغة إلا في القرن السابع عشر. في اليابان يعتبرونه لون الذكورة ورمزا للحداد على المحاربين الذين يُقتلون في المعارك وهم في ريعان الشباب. وفي الفنّ الغربيّ برز الزهري أكثر للواجهة خلال عصر الباروك، أي في القرن الثامن عشر.
  • أما اللون الأخضر فقد أصبح رمزا للحياة وللموت أيضا منذ أن استخدمه قدماء المصريين في تصويرهم لأوزيريس إلهة الحياة والموت وملكة العالم السفلي والمتحكّمة في انتقال الأرواح من الدنيا إلى العالم الآخر بحسب معتقداتهم. حدث هذا قبل أن يكتشف ليوناردو دافنشي خواصّ وإمكانيات هذا اللون بآلاف السنين.
  • الأصفر هو اللون الأقرب إلى الشمس. وهو لون ذو شخصية مبهجة ومحفّزة. ولا غرابة في أن الصينيين القدامى كانوا يقدّسونه. وكان هو اللون المفضّل لملوكهم أثناء حكم سلالة مينغ. وأحدهم كان يُلقّب بالإمبراطور الأصفر الذي يُعتقَد انه مؤسّس الصين.
  • الأرجواني لون يرتبط عادة بالأنوثة وبالثراء. ولأنه نادر في الطبيعة فإن الكثيرين يعتبرونه لونا مقدّسا. كما أن صبغته مكلّفة جدّا. وهو موجود في الأوركيد واللافندر والليلك. وفي اللغة تُستخدم عبارة "النثر الأرجواني Pink prose" للإشارة إلى المبالغات والأكاذيب الكثيرة والكتابة المغرقة في الخيال.
  • أما التركوازي فهو لون ذو خواصّ مهدّئة. وهو مزيج من الأخضر والأزرق. ولطالما ارتبط بالإبداع والحظّ السعيد والوفاء والاتّزان العاطفي. والتركواز يعني حرفيا "الحجر التركي" لأنه وصل إلى أوربّا من تركيا. لكن أفضل أنواعه يأتي من إيران. أما التركواز كحجر ثمين فمعظمه يأتي اليوم من أمريكا والمكسيك.
  • بعض الحضارات القديمة اعتبرت اللازورد حجرا مقدّسا، لأن له قوى سحرية وغامضة. ومنه يُستخلص الالترامارين، وهو لون نفيس للغاية بسبب جماله ولمعانه الأخّاذ. وأفضل أنواع اللازورد موجودة في جبال أفغانستان منذ أكثر من خمسة آلاف عام. لكن هناك مخزونا منه في بلدان أخرى مثل روسيا وشيلي وباكستان.

  • Credits
    art-matisse.com
    wassilykandinsky.net

    الخميس، يوليو 04، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • كان رينيه ماغريت شغوفا دائما بالتناقضات والمفارقات. في عام 1950، رسم سلسلة من اللوحات اسماها "صور من العصر الحجري" ورسم فيها أشياء عضوية تتحوّل إلى حجارة. كان يجرّب تحويل الطيور وأوراق الشجر إلى حجارة. وظهر هذا واضحا في لوحات مثل "أغنية البنفسج" و"الجرعة السحرية" و"ذاكرة رحلة" و"الخطوات الضائعة" وغيرها.
    لكن بعد ذلك بـ 15 سنة، حوّل الرسّام مَشاهد سلسلة لوحاته "تذكار من رحلة" الى حجارة بالكامل، باستثناء ضوء الشموع الذي بدا حقيقيا.
    فكرة تحوُّل المواد العضوية إلى حجارة هي فكرة موجودة في الطبيعة، فهناك بقايا أشجار في الغابات مرّت، ولأسباب طبيعية وفيزيائية، بتجربة التحجّر على مدى ملايين السنين. وهناك غابات متحجّرة عديدة في الصين والولايات المتحدة.
    وبحسب العلماء، لكي تتحوّل الأشجار المتساقطة في الغابات الى خشب متحجّر، يجب ان تستوفي بعض المتطلّبات، كأن تندفن في بيئة خالية من الاكسجين، ولا بدّ من وجود مياه غنيّة بالمعادن وملامِسة للأشجار واستبدال بنية النبات العضوي بمعادن غير عضوية مثل الكوارتز. ثم وعلى مدى دهور، ترتفع الأرض تدريجيا، وتحت الضغط الشديد تنكسر الأشجار مثل قضبان الزجاج، وبذا تتكوّن غابة حجرية.
    كان ماغريت منشغلا بهذه الظاهرة. ولطالما أثار الحضور الخامل والغامض للحجارة فضوله. وكان يقول: الحجر الذي لا يفكّر يفكّر في المطلق." وكان يتساءل ماذا لو تحوّلت الفاكهة، مثلا، إلى حجارة بدل أن تذوي وتتحلّل، وماذا لو تحوّلت الشموع والنسور والطاولات بل وحتى البشر إلى حجارة أيضا؟
    حالة التحجّر في بعض صور الرسّام لا يبدو أنها نتيجة لعملية طبيعية، بل قد تكون بحسب بعض النقّاد تعبيرا بصريّا عن الكارثة والموت، كما حدث مع مدينة بومبي الايطالية التي تحجّرت بفعل ثورة البركان.
    في إحدى لوحات ماغريت تظهر تفّاحة متحجّرة وسط صخور متهاوية. وقد رأى البعض فيها تعبيرا عن عنف زلزال يُفترض أن يكون قد حدث في بدايات الخليقة. وفي لوحة أخرى يرسم أكواما من الحجارة المكدّسة فوق بعضها مشكّلة أحرف كلمة "الحلم" بالفرنسية. وقيل إن اللوحة قد تكون تعبيرا عن إعجاب الفنّان بمَعلم "ستون هنج" الحجري القديم في إنغلترا.
    المعروف أن الشاعر الأمريكي إدغار آلان بو كان مهتمّا، هو أيضا، بظاهرة التحجّر. وقد أضاف ملاحظات طويلة حول هذا الموضوع في بعض أشعاره.

    ❉ ❉ ❉

  • كنت دائما أستغرب كيف أنجبت هولندا فيلسوفا، وأقصد سبينوزا، إذ المعروف أن الهولنديين أمّة فنّ ورسم وسفن واكتشافات. ثم علمت بأن عائلة سبينوزا من يهود البرتغال الذين هاجروا إلى هولندا هربا من محاكم التفتيش. والغريب أن الرجلّ ظل غير معروف خارج هولندا إلا بعد وفاته بسنوات طوال.
    كان سبينوزا يرى أن العالم مسيّر تماما وأن الوجود الإنساني خال من الإرادة الحرّة الحقيقية. وقال إن من شأن قبول البشر حقيقة أن العالم مسيّر سلفا أن يساعدهم على أن يصبحوا أقرب عقليّا إلى الواقع وأكثر استعدادا لصعوبات الحياة التي لا مناص منها.
    وقبل أشهر قليلة من وفاة سبينوزا عن عمر يناهز الـ 44 عاما، زاره الفيلسوف الشاب لايبنتز، وقضى الاثنان معا عدّة أيّام في مناقشات فلسفية مكثّفة. وأخبر سبينوزا لايبنتز عن غضبه لقيام مثيري شغب قبل أربع سنوات بتعذيب وإعدام جان دي فيت زعيم الجمهورية الهولندية الذي عزّز مناخا من التسامح الديني والانفتاح السياسي خلال العصر الذهبي للبلاد.
    ووقتها علّق سبينوزا لافتة في موقع المذبحة تحمل عبارة "أحقر البرابرة"، وهو أمر كان سيؤدّي بالتأكيد إلى مقتله، لولا أن تدارك الأمر صاحب البيت الذي كان يسكنه، فأزال اللافتة وحبس سبينوزا في منزله خوفا عليه من الموت ذبحاً على أيدي الغوغاء الغاضبين.
    وبسبب آراء سبينوزا التي اعتُبرت متطرّفة، كنَفيهِ صفة القداسة عن التوراة والإنجيل، طردته الجالية اليهودية في أمستردام. ثم هاجمه مجهول بسكّين خارج كنيس المدينة، لكنه نجا. اللوحة فوق تصوّر عددا من الحاخامات وهم يوجّهون نظرات حارقة إلى سبينوزا الذي يمرّ من أمامهم ويقرأ كتابا، بينما يلتقط أحدهم حجرا ليرجمه به.

    ❉ ❉ ❉

  • من أكثر الأزهار التي لها حضور ملحوظ في الأدب والفن زهرة شقائق النعمان التي تُسمّى بالإنغليزية (anemones). وهي زهرة برّية ذات ألوان بنفسجية وحمراء وبيضاء وأرجوانية. ويقال إنها ظهرت على الأرض لأوّل مرّة منذ 130 مليون سنة.
    واكتسبت هذه الأزهار اسمها العربي من اسم النعمان بن المنذر ملك الحيرة، إذ قيل إنها نبتت على قبره بعد مقتله في معركة مع الفرس. وللزهرة تاريخ طويل في الأدب العربي وذُكرت كثيرا في الأشعار القديمة.
    أما الإغريق فقد زعموا أن شقائق النعمان نبتت نتيجة امتزاج دموع أفرودايت بدم حبيبها أدونيس. ولهذا تُسمّى أيضا زهرة أدونيس. في الرسم ظهرت هذه الأزهار في بعض لوحات هنري ماتيس، وأيضا مونيه الذي ضمّنها إحدى لوحاته عن الطبيعة الصامتة.
    والزهرة الثانية التي لها مكانة خاصّة في الأدب والفنّ هي النرجس، أو الدافوديل كما تُسمّى أحيانا (Narcissus/Daffodil). وهي زهرة نرسيس؛ الشابّ الذي وقع في هوى صورته المنعكسة في الماء، بحسب الاسطورة الخالدة. كما أنها إحدى أكثر الأزهار شعبيةً في العالم.
    ألوان النرجس غالبا بيضاء وصفراء او برتقالية. وهي رمز للربيع والحظ الحسن، وأحيانا للموت. وفي بعض الحضارات الشرقية ترمز للنوروز أو السنة الجديدة. وقد ذكرها فرجيل وأوفيد وشكسبير وميلتون في كتاباتهم. كما ذكرها الشاعر وليام ووردزوورث في قصيدته المشهورة "أتجوّل وحيدا مثل غيمة."

    ❉ ❉ ❉

  • ❉ ❉ ❉


  • أثناء حرب استقلال اليونان عن العثمانيين، فرض الأتراك حصارا على مدينة ميسولونغي اليونانية. ومات الكثير من الناس داخل المدينة بسبب المجاعة والأمراض. وعندما حاول بعض المحاصرين الهرب إلى الخارج، فاجأهم الأتراك وقتلوا الكثيرين منهم.
    وكان الرسّام الفرنسي اوجين ديلاكروا، كغيره من المثقّفين الأوربيين، يدعم استقلال اليونان. وقد رسم اللوحة "فوق" كصرخة احتجاج على ذبح آلاف اليونانيين الأبرياء. وفيها يرمز لليونان بامرأة ترتدي الزيّ التقليدي وتقف فوق ركام مبانٍ مدمّرة، وأسفل منها تظهر يد ميّت من بين الأنقاض. وفي الخلفية يظهر رجل ذو بشرة داكنة يرتدي عمامة صفراء ترمز للعدوّ وهو يغرز العلم في الأرض.
    جدير بالذكر أن الشاعر الإنغليزي اللورد بايرون عُرف، هو أيضا، بمناصرته لقضايا التحرّر الوطني في العالم. وقد اعتبره اليونانيون بطلا قوميّا لهم بعد أن وصل إلى أرضهم عام 1809 ليشارك في حرب الاستقلال. وفي ابريل من عام 1824 توفّي هناك بعد إصابته بالملاريا وعمره لا يتجاوز السابعة والثلاثين.
    وقد انتزع اليونانيون قلب بايرون ودفنوه في مدينة ميسولونغي حيث عاش، بينما أرسلوا رفاته إلى انغلترا لتُدفن فيها. ثم أسّسوا متحفا يحمل اسمه ويضمّ أشياءه الشخصية، وشيّدوا له تمثالا يظهر فيه بين ذراعي ملاك، ونقشوا اسمه على مدخل معبد بوسيدون إكراما له. وفي ما بعد ظهر مصطلح (بايروني (Byronic) نسبة الى بايرون ليشير الى أيّ شخص يعتنق الأفكار الرومانسية وتتسم طبيعته بالغرور والسخرية والتشاؤم والغموض.
    المعروف أن اليونان نالت استقلالها بعد عامين من رسم ديلاكروا للوحته، منهيةً أربعة قرون من احتلال العثمانيين لها.

    ❉ ❉ ❉

  • من المصلحات الشائعة في الأدب (البروستيّة Proustian)، نسبة إلى الكاتب الفرنسي مارسيل بروست. وقد ظهر هذا المصطلح لأوّل مرّة عام 1925. ويشير إلى نوع من الكتابة ذات الجمل الطويلة والمعقّدة التي تتناول ذكريات من ماض بعيد عن الطفولة والطعام والنكهة والرائحة، وغالبا ما تصف حياة الطبقة الوسطى والارستقراطية.
    وهناك مصطلح (الكافكوية (Kafkaesque، نسبة إلى الكاتب التشيكي فرانز كافكا. وقد ظهر المصطلح حوالي عام 1946. وهو يشير إلى نوع من الكتابة التي تشبه أسلوب كافكا أو ما يوحي به من حالات تتسم بالكابوسية والغرائبية واللامنطقية وتنعدم فيها قدرة الفرد على فهم ما يحدث أو السيطرة عليه.
    وهناك مصطلح (تشيكوفي (Chekhovian الذي يُستخدم لوصف الأعمال الأدبية أو المسرحيات أو الأفلام التي تشترك في صفات أو موضوعات معيّنة تشبه تلك الموجودة في كتابات الأديب والمسرحي الروسي أنطون تشيكوف.
    وهناك مصطلح (Cartesian) ويعني ديكارتي، نسبة إلى الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي رينيه ديكارت (Descartes)، والذي يشار إلى اسمه أحيانا في المحافل العلمية والفلسفية بـ "ريناتوس كارتيسيوس". تُنسب إلى ديكارت أشياء كثيرة، كالمنطق الديكارتي Caresian logic)) والذات الديكارتية والشكّ الديكارتي ونظام الإحداثيات الديكارتي في الرياضيات. كما تُطلق صفة(Cartesian) على تلاميذ ديكارت وعلى أيّ شخص يتبنّى الأفكار التي قال بها.
    وأخيرا هناك الكيشوتية (Quixotism)، وهو مصطلح مشتقّ من اسم بطل رواية دون كيشوت لسرفانتس. ويشير هذا المصطلح إلى أفكار مثالية فيها نبل فروسي ورومانسي، كما أنها مثيرة للإعجاب ومتهوّرة غالبا وغير قابلة للتطبيق. ومن ذلك كيشوتي (Quixotic)، ومعناها شخص مثالي يتصرّف باستعجال ويتبع الأعراف والمعتقدات حتى لو كانت غبيّة أو غير قابلة للتنفيذ. وعكسه الإنسان الواقعي والحذر والحكيم والعملي وغير العاطفي.

  • Credits
    renemagritte.org
    thegreatthinkers.org

    الأحد، يونيو 30، 2024

    خارج السرب


    يقال في الإنغليزية فلان خروف أسود (black sheep)، لوصف الأشخاص الذين لا يتآلفون ولا يتكيّفون بسهولة مع أفكار الأغلبية.
    وقد جرت العادة في العديد من الثقافات على أن يُنظر إلى هؤلاء الأشخاص على أنهم منبوذون أو متمرّدون أو شاذّون أو غريبو الأطوار بسبب عدم تكيّفهم مع بقية المجتمع. وأصل مصطلح "الخروف الأسود" آتٍ من الأغنام التي يكون صوفها أسود بدلاً من اللون الأبيض الشائع أكثر. وهذه الأغنام تكون أكثر بروزا في القطيع، وقيمة صوفها أقلّ لأنه لا يمكن صبغه.
    والأفراد من نوعية الخراف السوداء هم في العادة ميّالون إلى الوحدة ويبدون غير مكترثين ولا يتكلّمون إلا نادرا، وأحيانا يشعرون أنهم تائهون أو منسيّون. ومع ذلك، وعندما تعرفهم أكثر، تجد أن بعضهم لديهم، في شخصيّاتهم وفي أعماق نفوسهم، سحر خاصّ وجاذبية لا تخطئها العين.
    عادة عندما يدرك شخص ما لأوّل مرّة أنه لا يتماشى مع ثقافته، يتشكّل لديه ميل للشعور بالغربة والخوف من وجود خطأ ما فيه. وكثيرا ما يُقال إن الأشخاص الذين لا يتناسبون مع أقرانهم مذنبون لكونهم "مُعادين للمجتمع"، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة في الكثير من الأحيان.
    الأشخاص الذين لا يتوافقون مع الأعراف المجتمعية كثيرا ما يتمتّعون بحياة داخلية غنيّة، وهم في دواخلهم هادئون ومسالمون، وغالبا ما يميلون الى الفنون والشعر والآداب الإنسانية بعامّة. وتجاربهم ووجهات نظرهم كثيرا ما تتكوّن أثناء رحلاتهم المثيرة وغير العادية في معترك الحياة.
    ولو تمعّنت أكثر في مسار حياة بعضهم، ستلاحظ أنهم قد واجهوا الكثير من التحديّات والصعاب وفكّروا في العالم من حولهم من منظور أوسع وعمق ورحابة أكبر. وهذا ما يؤدّي غالبا إلى عمق الشخصية والقدرة على التعاطف مع الآخرين، وهو أمر نادر وثمين للغاية في عالمنا اليوم.
    مثل هذه الشخصيات الفريدة تعلّمنا أن نرى العالم بمنظور مختلف وبطرق جديدة. وهم يذكّروننا بأن هناك جمالا وقوّة في التنوّع والتعدّدية وأن المسار التقليدي والمألوف ليس هو المسار الوحيد ولا الأفضل بالضرورة.
    إن شجاعة هؤلاء الأشخاص في أن يكونوا على طبيعتهم على الرغم من الضغوط التي يتعرّضون لها كي يخضعوا ويمتثلوا ويتكيّفوا مع ما هو سائد، تماما كالآخرين، لهو أمر مُلهِم، لأن احتضان نفسك الحقيقية والتعبير عنها في عالم يحاول غالبا وضع الجميع في صناديق أنيقة وقابلة للتنبّؤ لمّما يتطلّب الكثير من القوّة والإصرار والعزيمة.
    والأفراد من "الخراف السوداء" غالبا ما يتمتّعون بإبداع وابتكار كبيرين. فطريقة تفكيرهم الفردانية والمختلفة يمكن أن تؤدّي إلى أفكار وحلول جديدة لا يفكّر فيها أبدا أولئك الذين يلتزمون بالوضع الراهن بشكل صارم. وهذه الشرارة من الإبداع هي شيء يجب أن نفتخر به ونشجّعه لأنه يدفع بعجلة التقدّم الى الأمام ويُثري ثقافة أيّ مجتمع ويعمّقها.
    وأصالة وصدق هؤلاء يمكن أن يكونا أمرا حيويّا ومنعشا في عالم تشيع فيه التفاعلات السطحية والرتيبة. وهم غالبا ما يتمتّعون بروح الدعابة والنظرة الفريدة اللذين يجعلان الحديث معهم مفيدا ومُجزيا.


    في المجتمعات التي تقدّر الامتثال والتكيّف، من المهم أن نتذكّر قيمة أولئك الذين يسيرون على إيقاع الطبول الخاصّة بهم أو الذين يغرّدون خارج السرب أو يصرخون في البرّية.
    وباحتضان هؤلاء الأشخاص وتقديرهم، فإننا نفتح أنفسنا على عالم من التجارب والأفكار الجديدة. إنهم يُثبتون لنا أن الجمال غالبا ما يكمن فيما هو غير متوقّع وغير تقليدي وغير نمطي، وأن التنوّع في الفكر والوجود أمر يجب الاحتفاء به وليس تجنّبه.
    هناك من يرى أن الامتثال يمثّل مشكلة سلوكية قويّة، سواءً كنّا نفعل ذلك خوفا من التعرّض للأذى لكوننا من الأقلية أو لأسباب نفسية أو اجتماعية أخرى. لكن الشيء المهم حقّا هو أن الأمر لا يتطلّب سوى صوت واحد على الأقل مختلف عن القاعدة للسماح للآخرين بالتحدّث بحرّية أكبر لدعم ما يعتقدون أنه صحيح، حتى لو لم يكن رأيهم هو نفس الرأي الأكثر شيوعا.
    إن من الطبيعي تماما أن ينسجم البشر مع الجموع بطرق غير مدروسة. وما يحدث هو أننا نتدرّب منذ سنّ مبكّرة على التأقلم مع الآخرين وكسب موافقتهم وفعل الأشياء التي نعتقد أنها ستجعلهم يحبّوننا. لكن عندما تتوافق دائما مع الآخرين وتفعل ما يفعلونه لأنهم يفعلونه، يتسلّل الخمول إلى روحك وتصبح مجرّد مظهر خارجي وفراغ داخلي باهت وغير مبالٍ.
    الملايين من الأشخاص في هذا العالم مشغولون بمحاكاة ما علّمته إيّاه ثقافتهم من قيم ومعتقدات وعادات وأحلام، وكلّ ذلك بغرض التكيّف والقبول. وهم لا يفعلون ذلك عن وعي، لكنه خيار اتخذوه دونما تفكير. وغالبا هم يحصلون على هذه القيم من التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي ومن مصادر أخرى.
    الرسّام فان غوخ لم يكن متوافقا أو متماثلا مع المؤسّسة الفنّية في زمانه. ولم تتضمّن لوحاته أيّ نقد أو هجوم على الدين او الأخلاق. وقيل إنه لم يبع لوحة واحدة أثناء حياته، لكن بعد موته أصبح الفنّان الأغلى في العالم لأن هناك من اكتشف متأخّرا أنه كان فنّانا مختلفا وطليعيا، وأنه ارتاد أرضا جديدة لم يسلكها غيره من قبل.
    الفيلسوف الفرنسي غوستاف لو بون له رأي في هذا الموضوع قد يبدو للبعض متطرّفا بعض الشيء. يقول في كتابه سايكولوجية الجماهير (The Crowd: A Study of the Popular Mind): بمجرّد انضمام المرء إلى جماعة، يهبط عدّة درجات في سلّم المدنية. ففي فرديته، يكون إنسانا مثقّف العقل مهذّب الأخلاق، ولكنه في الجماعة يصبح تابعا ساذجا للغريزة.
    ففيه - بحسب لو بون - اندفاع الرجل الفطري وشدّته وعنفه وقسوته وحماسته وشجاعته، وفيه منه سهولة التأثّر بالألفاظ والصور ممّا لا يتأثّر به وهو خارج الجماعة. وفيه أيضا الانقياد إلى فعلِ كلّ ما يخالف منافعه البديهية ويناقض طباعه التي اشتهرت عنه. وبالجملة فإن الانسان في الجماعة اشبه بذرّة غبار تذروها الرياح في أيّ اتجاه".

    Credits
    gutenberg.org
    vangoghexpo.com

    الجمعة، يونيو 28، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • أيّهما أهمّ: مونيه أم رينوار؟
    لنبدأ أوّلا بمونيه. عالمه الصامت من الأضواء والتموّجات المائية وشغفه بالألوان هو علامته الفارقة. وأيضا هناك ضربات فرشاته الوصفية التي تمسك بشخصية الأشياء.
    لكن أعظم إنجازاته هو فهمه العميق للعلاقة بين الضوء واللون والظل. فكرة الماء كما جسّدها مونيه في صوره بما تثيره من مشاعر وذكريات، استلهمها موسيقيّون وشعراء.
    ومناظره التي تعكس حبّه للطبيعة واحتفاءه بالحياة، والتي تذوب فيها الأشياء وتنمحي الهويات، تُشبّه أحيانا بموسيقى ديبوسيه أو شوبان التي تمتلئ بالتدرّجات الصوتية والانفعالية.
    تنظر إلى لوحة من لوحاته فيصعب عليك أن تعرف إلى أين يتّجه الغيم أو متى تهبّ الرياح أو ينزل المطر. ومونيه بهذا المعنى شاعر طبيعة غنائية.
    أما رينوار فهو رسّام متع الحياة البسيطة، كالصحبة الطيّبة والطعام الجيّد والطبيعة الرائعة، كما تعكسها لوحاته عن حفلات القوارب فوق مياه السين.
    عالمه جميل ومغسول بالشمس وباعث على السرور وأحيانا مثير للملل. ومناظره متفائلة ومليئة بالضوء والموسيقى والوجوه النضرة.
    كان رينوار يحتفي بالجمال في البشر والطبيعة. وموضوعه المفضّل هو العيش في اللحظة الراهنة والإمساك بلحظات عابرة تتحوّل بعد حين إلى ذكريات وحنين إلى ماضٍ لن يعود. والرسم عنده كان وسيلة لمنح الإحساس بالسعادة وإظهار الجمال في الطبيعة والحياة.
    كان رينوار يركّز على القيم الزخرفية والمتع البصرية. ومثل مونيه، لم يوظّف فنّه لخدمة السياسة أو الدعاية. وهذا مما يُحسب للإثنين ولا شكّ.
    وعودا على بدء: مونيه أم رينوار أهمّ؟ والجواب مونيه طبعا. فهو مؤسّس مدرسة فنّية كبيرة (أي الانطباعية)، ثم إن أسلوبه هو النموذج الأمثل لهذه المدرسة. كما أن محاكاة أسلوبه والاهتمام بأعماله يزداد ولا ينقص مع مرور السنوات.

    ❉ ❉ ❉

  • (إسم الوردة) رواية نصفها خيال ونصفها الآخر تاريخ. وإن كنت من عشّاق السرد الروائي الممتع أو ممّن يهوون التاريخ، خاصّة تاريخ الكنيسة وصراعات الرهبان الأوائل، فلا تفوّت قراءة هذه الرواية.
    هناك في الرواية سرد للكثير من الأحداث التي قد لا تشدّ القارئ، بل ربّما تُشعره بالملل. وفي هذه الحالة يمكنك تخطّي بعض الصفحات دون أن تشعر أنك أضعت خيط السرد أو فقدت شيئا من روح الكتاب. ومثال ذلك الحوارات المطوّلة والمعلومات المستفيضة بأكثر ممّا ينبغي عن صراعات اللاهوت والمدارس المذهبية المختلفة.
    لم أشغل نفسي كثيرا بالعلامات والرموز التي تمتلئ بها الرواية، ربّما لأنني غير ملمّ بالسيميائية التي كان امبرتو ايكو متعمّقا ومتخصّصا فيها.
    الشخصية التي أعجبتني أكثر من غيرها في الرواية هي شخصية غوليالمو. فبرغم انه رجل دين ويعمل في وسط متشدّد ودوغماتي وميّال للتكفير والإقصاء، إلا انه يظهر كثيرا كشخص متفتّح العقل ومتسامح ومؤمن بالاختلاف، بالإضافة إلى ذكائه وسرعة بديهته.
    وأخيرا لا بدّ من الإشادة بجهد المترجم احمد الصمعي ولغته البديعة والسلسة. هناك ميزة إضافية لقراءة هذه الترجمة تتمثل في أن المترجم نقل الكتاب مباشرةً من الإيطالية إلى العربية.

    ❉ ❉ ❉

  • ❉ ❉ ❉

  • يقدّر العلماء عدد الطيور في العالم بأكثر من 10 آلاف نوع. وتتمتّع هذه المخلوقات الجميلة بقدرة خارقة يتمنّى البشر لو كانوا يتمتّعون بها، وهي القدرة على الطيران. فوق أربعة من أجمل الطيور في العالم.
    الطائر الأوّل يُسمّى الكويتزال، ويعيش في غابات أمريكا الوسطى. وموطنه الأصلي المكسيك وغرب بنما. ويبدو في طيرانه ذا بهاء وجلال بفضل ذيله الطويل وألوانه اللامعة تحت الضوء. ولهذا الطائر الخجول حضور في أساطير الأزتك حيث اعتُبر دائما رمزا للحرّية. ويقال إنه يقتل نفسه عند أسره أو وضعه في قفص. والكويتزال هو الطائر الوطني لغواتيمالا، وتظهر صورته على علم البلاد كما سُمّيت عملتها، أي الكويتزال الغواتيمالي، على اسمه.
    أما الطائر الثاني فيُعرف بالدرّاج المنشد أو دراج واليتش، نسبة لاسم عالم طيور دنمركي. ويغلب عليه اللون الرمادي مع دائرة حمراء حول عينيه وعُرف ريشي. وهو يعيش في أعالي الهمالايا وفي الهند ونيبال وباكستان. والدرّاج المنشد معروف بحذره الشديد من البشر ويُصنف من الطيور المهدّدة بالانقراض.
    والطائر الثالث إسمه "العقعق التايواني الأزرق". وقد أطلق عليه هذا الإسم عالم الطيور الإنغليزي جون غولد عام 1862. وقبل ذلك كان يُسمّى "حورية الجبال الطويلة الذيل"، وهو اسم يبدو أجمل. هذا النوع من الغربان يعيش في الغابات، ولا يوجد سوى في تايوان.
    أما الرابع فاسمه "الكاردينال ذو العُرف الأحمر"، وموطنه الأصلي أمريكا الجنوبية وجزر هاواي. ويُعرف هذا الطائر أيضا بالكاردينال البرازيلي. ويتغذّى غالبا على البذور والنباتات والفاكهة.

    ❉ ❉ ❉

  • من القصص الجميلة والمعبّرة التي تُنسب إلى الهنود الحمر أن شابّا ذهب إلى حكيم القبيلة يوما وقال له: إن في نفسي ذئبين يتصارعان، أحدهما يدعوني للخير والآخر يدعوني للشرّ، فأيّهما برأيك الذي سينتصر في النهاية؟ سكت الحكيم برهة ثم قال: سينتصر الذي تطعمه".
    من الدروس التي تعلمنا إيّاها هذه القصّة الرائعة أن الخير والشرّ مخلوقان مع الإنسان ويتعايشان بداخله جنبا إلى جنب منذ الأزل. وأن الإنسان أُعطي حرّية الاختيار في تغليب الخير أو الشرّ في أفعاله وتصرّفاته. وأن إطعام الذئب الخيّر في داخلنا من شأنه أن يعزّز شعورنا بالمحبّة والتواضع والخيرية والسلام والتراحم والإيثار والتعاطف مع الآخرين الخ.
    عندما تغذّي الذئب الشرّير فإنّما تغذّي المشاعر السلبية بداخلك، كالكراهية والندم والغضب والجشع والإحساس بالذنب والحسد وما الى ذلك. نعم يجب الاعتراف بوجود تلك المشاعر، لكن لا ينبغي أن نجعلها محور اهتمامنا وتفكيرنا.
    الذئب الشرّير هو ناقدك الداخلي، هو الذي يقول لك أنت فاشل وعالة ولا تنفع لشيء، ويحاول أن يحبطك ويوتّرك ويقلّل من احترامك لنفسك.
    هذه القصّة الرمزية الجميلة تقول لك: جوّع الذئب العنيف والمتوحّش بداخلك، لأن قطع الطعام عنه سيجعلك توجّه أفكارك في الوجهة الصحيحة وتستثمر مشاعرك بطريقة صحّية وإيجابية.

    ❉ ❉ ❉

  • لماذا لم تبقَ على الأرض حيوانات ضخمة ومرعبة تقف في وجه الأسود والنمور بعد انقراض الديناصورات، مثل تلك التي كانت تعيش في غابات أمريكا الشمالية قبل عشرين مليون عام؟
    يقول العلماء انه كانت تعيش على الأرض حيوانات ضخمة megafauna ومفترسات عليا apex predators، لكن حالما يصل الإنسان إلى موطنها فإن تلك الحيوانات تنقرض بسرعة.
    لذا يقال إن الإنسان أخطر حيوان على وجه الأرض، خاصّة عندما يعمل ضمن مجموعة ويملك أسلحة وأدوات. صحيح أن التغيّر المناخي له دور مهم، لكن يد الإنسان هي التي قضت على معظم الحيوانات الكبيرة.

  • Credits
    claude-monet.com
    pierre-auguste-renoir.org