:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، ديسمبر 31، 2024

حياة بين الأشجار


في رواية "البارون بين الأشجار"، يسرد الروائي الإيطالي ايتالو كالڤينو قصّة كوزيمو دي روندو، الابن الأكبر لدوق منطقة ليغوريا الإيطالية قبل عصر التنوير. كانت هذه المنطقة الواقعة شمال غرب إيطاليا مغطّاة بالغابات زمن حدوث القصّة، أي أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
والقصّة يرويها شقيق كوزيمو الصغير بياجيو الذي يقول: كانت حياة كوزيمو غير عاديّة، بينما حياتي عادية ومتواضعة. ومع ذلك قضينا طفولتنا معاً، كلانا غير مبالٍ بهوس الكبار ويحاول العثور على مسارات لا يسلكها الآخرون".
وعندما يملّ كوزيمو من حياة البذخ والإجراءات المشدّدة التي يفرضها والده، يقرّر التمرّد على كلّ ذلك ويتسلّق شجرة بلّوط كبيرة في حديقتهم ويرفض النزول من هناك. وسرعان ما يدرك كوزيمو أنه لن يضع قدميه على الأرض مرّة أخرى عندما يعلم أن شجرة البلّوط متّصلة بالغابة الكبرى المجاورة. ومن هناك أصبحت المنطقة بأكملها مفتوحة أمامه.
ويصف كالڤينو، وعلى لسان بياجيو، جمال المنطقة وروعة الألوان فيها بقوله:
في تلك الأيّام، أينما ذهبنا، كانت الأوراق والأغصان تفصلنا عن السماء. وكانت أشجار الليمون تنمو بالقرب من الأرض، وأشجار التين بأشكالها الملتوية تمدّ قبابها ذات الأوراق الثقيلة فوق البساتين باتجاه التلال. وكانت هناك أيضا أغصان كرز وسفرجل وخوخ ولوز وكمثرى وبرقوق وتفاح وخرّوب وتوت وجوز."
في شجرة البلّوط يكوّن كوزيمو أصدقاء جددا، ويتعلّم مهارات جديدة ويخلق لنفسه حياة بين الأشجار. وفيها أيضا يتعلّم الصيد، ويبدأ في الاهتمام بالأدب والفلسفة، ويجد طريقة لأخذ الخير وترك الشرّ في عالمه، ويتكيّف مع التقدّم الجديد في الفكر والعلم القادم من عصر التنوير، مع الحفاظ على مسافة بينه وبين أسلوب الحياة القديم الذي يموت بسرعة.
وُلِد إيتالو كالڤينو في هافانا بكوبا عام 1923، لكنه قضى شبابه في سان ريمو بإيطاليا وما حولها، حيث كانت عائلته توزّع وقتها بين مزرعة زهور تجريبية في المدينة ومنزل ريفيّ في التلال تُزرع فيه أصناف من الفاكهة الاستوائية مثل الغريب فروت والأفوكادو. وقد اعترف الكاتب ذات مرّة بتجربة الملل خلال طفولته. لذا من السهل أن نتخيّله بساقيه الفاترتين جالسا في إحدى أشجار والده وهو يقرأ روبرت ستيفنسون أو فرانز كافكا، كسلف حيّ لكوزيمو دي روندو بطل الرواية.
يقول كالڤينو في مقابلة صحفية أجريت معه منذ سنوات: كان والدي عالماً زراعياً، وكانت والدتي عالمة نبات. كانا مهتمّين بشدّة بعالم النباتات والعلوم الطبيعية. لكنهما أدركا في وقت مبكّر جدّاً أنني لا أميل إلى هذا التخصّص".


في جوهرها، تُعدّ رواية "البارون في الأشجار" قصّة إبداعية نقدية تتناول الهويّة الفردية والاستقلالية. فعندما يوشك كوزيمو على الدخول في سنّ المراهقة، يرفض التقاليد ويخطو بدلاً من ذلك إلى فضاء كوني على الأرض يكتشفه بين قمم الأشجار.
وعلى ذلك الارتفاع، يكتشف وريث الدوقية منظومة معقّدة من الأشجار القادرة بطبيعتها على توفير المأوى والممرّ له. وفي أغصان مملكته الشجرية الجديدة، يخطو من شجر البلّوط إلى شجر الدردار، ومن شجر الخرّوب إلى شجر التوت، قبل أن يدخل حديقة جارته أوندريفا مارّا عبر شجرة ماغنوليا. وإذا كان كوزيمو قد دخل الأشجار ليثبت استقلاليته بقوّة، فقد ظلّ بين الأشجار تعبيرا عن رؤيته الثابتة للحب.
في حديقة أوندريفا، كانت الأغصان ممتدّة مثل مخالب حيوانات غريبة، وكانت النباتات على الأرض تتفتّح على هيئة نجوم من الأوراق المتعرّجة مثل جلود الزواحف الخضراء. وكانت أشجار الخيزران الأصفر الريشي تلوّح بحفيف كالورق. ومن أعلى شجرة، كان كوزيمو، في شوقه إلى الاستمتاع إلى أقصى حدّ بالخضرة غير العاديّة لهذه النباتات الغريبة وأضوائها المختلفة وصمتها، يترك رأسه يسقط رأسا على عقب، حتى تصبح الحديقة غابة؛ غابة ليست من هذه الأرض، بل عالم آخر.
أوصاف كالڤينو للأشجار هي من أكثر العناصر التي تسحر قارئ هذا الكتاب. فهو يصف كيف كانت أشجار الزيتون، بسبب أشكالها المتعرّجة، ممرّات مريحة وسهلة لكوزيمو، أشجارا صبورة ذات لحاء خشن ودود يستطيع أن يمرّ أو يتوقّف فوقها، على الرغم من ندرة الأغصان السميكة ورتابة الحركة الناجمة عن أشكالها.
وكوزيمو يعيش حياته كلّها بين الأشجار. وكالڤينو يحاول أن يثْبت مدى طبيعية هذه الحياة. هناك يواصل كوزيمو تعليمه، يراسل الفلاسفة، ويعترف به فولتير ونابليون، وينام ويغتسل ويصطاد، ويقع في حبّ العديد من النساء ويصادق مجرماً ويزوّده بسيل مستمر من موادّ القراءة، ويقاتل القراصنة والجيوش الغازية، ويحْضر جنازة والده، ويحصل في النهاية على لقب "بارون"، كلّ ذلك وهو يمشي على قمم الأشجار "بخطوات قطّة".
ويصل البارون إلى هذه النقطة من الوحدة وهو يعيش بين الأشجار، وهو الذي قضى ليالي يستمع إلى النسغ الذي يجري في خلاياها، والدوائر التي تحدّد السنوات داخل جذوعها، وبقع تَحلُّل الجذور التي تنمو على نحو متزايد بمساعدة رياح الشمال، والطيور النائمة المرتعشة في أعشاشها التي تعيد وضع رؤوسها على ريش أجنحتها الناعم، واليرقات التي تستيقظ والشرنقات التي تتفتّح.
ومن عجيب المفارقات أن كوزيمو يظلّ ثابتا على الأرض. فهو يحتفظ بمسافة بينه وبين الآخرين ويحافظ على هويّته. وفي وقت لا يبدو فيه أيّ شيء مؤكّدا، فإنه يظلّ بين الأشجار.
رواية "البارون بين الأشجار" هي عن الاحتجاج على الروتين وقسوة الحياة، فضلاً عن الاحتفال بالإقصاء الاجتماعي. كما أنها تتحدّث عن التعامل مع الفردية والموازنة بين اتصالك بالعالم الحقيقي واتصالك بنفسك. وهي تعكس الى حدّ ما الماضي غير البعيد للفاشية الإيطالية التي شعر كالفينو أنها حرمته من طفولته. كما أنها تشير إلى أن كلّ شخص لديه نسخته الخاصّة من هروب كوزيمو.
هذه الرواية ليست الكتاب الوحيد الذي استخدم الغابة والأشجار كملاذ من مجتمع مخيف وخانق. ففي كتابه الكلاسيكي "والدن"، يصف المؤلّف الأمريكي هنري ديفيد ثورو كيف أنه ترَكَ الحضارة، تماما مثل "البارون بين الأشجار"، من أجل البحث عن جوهر الحياة في الغابة.

Credits
theconversation.com